حياة الجاهلية في ضوء البحوث التاريخية والاجتماعية
حياة الأمم كحياة الأفراد، عبارة عن مسابقة شاقة ينال فيها كلٌّ بحسب استعداده وعلى قدر اجتهاده. ومن حيث إننا نتكلم عن الشعوب لا على الأفراد، وعلى الوسائل التي تتوسل بها هذه الشعوب لأجل النهوض من الحضيض الأوهد إلى السنام الأمجد، كان بديهيًّا أن نقول إن رأس وسائل النجاح في هذه المسابقة هو العلم والأخلاق، ليس في ذلك نزاع.
ولا تكون حضارة بغير علمٍ وأخلاق، ولا مدنية بغير أرزاق مضمونة، ومعايش مكفولة في أرضٍ خصيبة، وأن يكون الشعب على نصيبٍ من الذكاء والفطنة ومكارم الأخلاق والاستعداد للتقدم؛ فكان عرب الجاهلية مضرب الأمثال في الجهل والغفلة وسوء الخلق حتى وصلت أخبارهم إلى الملوك، فتحدثوا بها وأثبتوها في سجلاتهم وجبهوا بها أعيان العرب ورؤساء وفودهم في عواصمهم.
قال كسرى مخاطبًا حاجب بن زرارة سيد بني تميم: «إنكم — معشر العرب — غدر، حرصاء على الفساد، فإن أذنت لهم أن يكونوا في حد بلادي حتى يعيشوا ويحيَوْا، أفسدوا البلاد وأغاروا على الرعية وآذوهم» (انظر بلوغ الأرب، ص١٢٣، ج١). وقال كسرى نفسه لغيلان بن سلمة الثقفي الشاعر الجاهلي: «أنت من قومٍ جفاة لا حكمة فيهم، فما غذاؤك؟» قال: «خبز البر!» قال: «هذا العقل من البر لا من اللبن والتمر» (العقد الفريد، ص١٧٥، ج١). وقال كسرى للحارث بن كلدة: «فما تصنع العرب بطبيبٍ مع جهلها وضعف عقولها وسوء أغذيتها؟ ولو عرفت الحلم لم تنسب إلى الجهل!» فلم يعترض الحارث على تلك الصفات، بل قال: «إن كانت العرب كذلك فهي أحوج إلى من يصلح جهلها وضعف عقولها ويقيم عوجها ويسوس أبدانها ويعدل أمشاجها» (بلوغ الأرب، ص٣٢٨، ج٣). فهذه شهادة كسرى أعظم ملوك زمانه، بل من أعظم ملوك العالم في حق عرب الجاهلية، أداها عن خبرة.
وقد كانوا من الفاقة وسوء الحال في معظم أوقاتهم بحيث تتوالى الجدوبة والقحط على القبائل سنواتٍ عدة حتى يكادون يهلكون وإن لم يكن الذنب في ذلك ذنبهم، غير أن الجوع والإملاق كانا يحُولان بينهم وبين المدنية (نقائض جرير والفرزدق، ص٤٦٢، ج١). وكانوا طغاة بغاة جناة سراقًا شواذَّ، يقطعون الطريق ويسطون على الضعفاء ويفتخر أحدهم بالجنايات على أهله والخلاعة والفتك فيسير ذكره في القبائل ويفتخر به (انظر «فتكة البراض» في ابن الأثير، ص٣٦٠، ج١) وكان معظم أدبهم أدبَ معدةٍ (على حد تعبير الأستاذ أحمد أمين)؛ فقد جاء في الأغاني، ص١١٣، ج٩، أن عمة المحلق، وهو لقب عبد العزى بن حنتم بن كلاب بن ربيعة، وكان مفلسًا فقالت له: «يا ابن أخي، هذا الأعشى (ميمون بن قيس أحد الأعلام من شعراء الجاهلية وفحولهم، هلك مشركًا قبل الفتح بعام) قد نزل بمائنا، وقد قراه أهل الماء، والعرب تزعم أنه لم يمدح قومًا إلا رفعهم ولم يهجُ قومًا إلا وضعهم، فانظر ما أقول لك واحتلْ في زق من خمر عند بعض التجار وأرسل إليه بهذه الناقة والزق وبُردي أبيك، فوالله لئن اعتلج الكبد والسنام والخمر في جوفه ونظر إلى عطفيه في البردين ليقولن فيك شعرًا يرفعك به.» فكان كما نصحت العمة إلى ابن أخيها، وقال أعشى قيس في المحلق بن حنتم شعرًا لم يقل قط مثله، وهو الذي فيه:
وسار الشعر وشاع في العرب، فما أتت على المحلق سنة حتى زوج أخواته الثلاث كل واحدة على مائة ناقة فأيسر وشرف (بلوغ الأرب، ص١٦٢، ج٢)، والفضل في يسْره وشرفه وتزويج أخواته يرجع إلى اعتلاج الكبد والسنام والخمر في جوف الأعشى! وشعر أعشى قيس في هذا المعنى من أعف الشعر؛ لأنه أدب معدة، فما بالك بشعر امرئ القيس وطرفة بن العبد؟! وهذا ليس بكثيرٍ على أمة كان القوت الضروري همها الأول، يدركها الجهد وضنك العيش حتى توالت عليها سنون تسع في الجاهلية حطمت كل شيء، فيمكث الرجل سبعًا لا يطعم إلا ما يناله بعيره أو من حشرات الأرض، حتى ليشد على بطنه حجرًا من الجوع (حديث غيلان بن خرشة لزياد في المحاسن والمساوئ، ص٩٩، ج٢).
أما حياتهم العقلية وحالتهم الروحية فكانت أدهى وأضل سبيلًا؛ لأن عمدتهم في أعمالهم وتوجيه وجودهم كانت على الكهان والكواهن كطريفة الكاهنة في أرض سبأ (المسعودي، ص٣٤٤، ج١) وعفيراء في اليمن (الأغاني، ص٢١، ج١٠) وكاهنة بني سعد في الشام وهي التي أفتت بفداء عبد الله بن عبد المطلب بمائة ناقة (ابن هشام، ص١٠٣، ج١) وسطيح الأشهر (الطبري، ص١٣١، ج٢)، وكانوا يؤمنون بالسحر الأسود وتقمص أرواح البشر في الحيوان والحشرات والعظايا (الأغاني، ص١٢٥، ج٤) وسواحر الحبشة اللواتي جعلن من عمارة بن الوليد المخزومي كائنًا وحشيًّا يرد الماء مع الوحوش ويهرب إن وجد ريح الإنس ويعتقد أنه يموت إذا لمسه البشر! وكان شعره قد غطى على كل شيء منه (الأغاني، ص٥٦، ج٩)، وهو الشاب الذي قدمته قريش ثمنًا لمحمد ﷺ.
لقد كان فيهم طبيب واحد هو الحارث بن كلدة، وهو طبيب العرب في عصره، ولكنه وُلد بالطائف، وهي أخصب بقعة في الحجاز، يأكل أهلها القمح والفواكه ويرون الماء والخضرة، وكان ميسورًا؛ فقد سافر إلى فارس فتعلم الطب وعرف الداء والدواء وسافر إلى اليمن فتعلم الموسيقا، وكان طبه محصورًا في الحمية والكي بالنار وتدبير الطعام والشراب واختيار النساء (العقد الفريد، ص٣٤١، ج٤)، وكان لهم واعظ واحد ولكنه لم يكن مشركًا ولا حجازيًّا، بل كان أسقفًا في نجران (ومن هنا اسم قس)؛ فهو مسيحي، وقد وصفه بعض كُتاب العرب بأنه خطيب العرب قاطبةً والمضروب به المثل في البلاغة والحكمة والموعظة الحسنة، وقد يغشى المحافل العامة ومواسم الأسواق ليعظ فيها على طريقة المبشرين في هذا الزمان في «الموالد»، وقد اتخذ من ناقته الحمراء منبرًا! وسمعه النبي ﷺ قبل البعثة يخطب بعكاظ فلم يحفظ شيئًا من خطبته. وكلام الرجل نوع من أسجاع الكهان لا أكثر ولا أقل، ولم يؤثَر عنه شيء غير خطبة عكاظ؛ لأنها شرفت باستماع النبي لها، مع أن قسًّا هذا عُمِّرَ طويلًا ومات قُبيل البعثة. وكان هذا الرجل مبالغًا في ذكر مصادر تعليمه؛ فقد زعموا أن ملك الروم بعث إليه فسأله عمن حملت الحكمة؟ قال: عن عدة من الفلاسفة (المحاسن والمساوئ، ص٣٥١) ولم يذكر اسم واحد منهم وهو لم يتلقَّ شيئًا إلا عن الإنجيل الذي استساغ حكمته والكهان الذين انطبع في نفسه أسلوبهم، أما ما نسب إليه من الشعر وجوامع الكلم فموضوع ومختلق، ولا سيما ما نُسب إليه من الكلام في زجر الطير كقوله: «نحن معاشر العرب مولعون بزجر الطير.» لأن المولعين بزجر الطير كانوا أهل الوثنية من الحجازيين. وكانت معقوليتهم المحدودة توهمهم بأن الغراب أصدق الطير زجرًا لورود ذكره في الأساطير القديمة قبل القرآن في قصة قابيل وهابيل، فإن التاريخ الديني يحدِّثنا بأن قابيل قتل أخاه هابيل بسبب الغيرة؛ فهو أول من اقترف جريمة هووية، وما عَرَف كيف يواري جثة أخيه فحمله في جراب على ظهره وظل مضطربًا حائرًا قلق النفس ملتاع الفؤاد، وفاحت رائحة الجثة وناء قابيل بحملها، فهبطت رحمة الله إبقاءً على آدم وولديه، ولا بد أن يكون الدرس الذي يتلقاه القاتل قاسيًا، وما هو بأهلٍ للوحي ولا الإلهام، بل لا بد أن يكون تلميذًا للغراب، بل لغرابٍ قاتل، يتضاءل فهمه أمام حنكة ذلك الطير الأسود والنوحي المنبوذ، فبعث الله غرابين فاقتتلا حتى قتل أحدهما عدوه ثم حفر له بمنقاره قبرًا ووارى جثته تحت التراب، فتحركت إنسانية قابيل وقال يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب؟! والمدهش في أمر عرب الجاهلية أنهم لم يتخذوا منذرًا ولا بشيرًا من الطير غير الغراب الأسحم، فمنهم من يقتل حية ويعثر على كنز بفضل الغراب (نهاية الأرب، ص١٤٠، ج٣).
ومنهم من يعلم نبأ زواج مخطوبته من غراب يفحص التراب بوجهه (الأغاني، ص٣٤، ج٩)!
ولم نذكر هذين البيتين إلا لأنهما من شعر كُثَيِّر المسكين مفتون عزة، فلما يئس منها وكان عاشقًا معدمًا أحب ثيبًا من خزاعة اسمها أم الحويرث فضحكت عليه! ومن أعظم البلاء أن هذه المعتقدات تأصلت في نفوس العرب وتغلغلت في وجدانهم حتى أدركتهم في الإسلام فلم يعرفوا كيف الخلاص منها (ديوان الحماسة، ص٣١، ج١) وقيل إن غرابًا بشَّر بموت الحجاج (الفرج بعد الشدة، ص١١٤، ج١). ولم يكن الزجر خاصًّا بالطير إنما هو لون منه، وأصل الزجر العيافة والتكهن، والزاجر بمثابة المنجم والساحر والمنبئ بالغيب والمتحدث عن المستقبل (المحاسن والمساوئ، ص٣٤٩).
وكانت نفوسهم مشربة بالشر مولعة بالإجرام؛ فمنهم غربانهم وهم صعاليك سود الوجوه اشتُهروا بالقتل وسفك الدماء (ورد ذكرهم في الكلام على عنترة) ومنهم قطاع الطرق (أهل الكنيف، ص٦٧، كتاب الشهاب الراصد) ومنهم مشهورو العدائين والسراق (تأبط شرًّا وأمثاله) ومنهم خاطفو النساء بغير حرب، والخطف غير السبي؛ فإنه لما مات ليث بن مالك أخذت بنو عبس فرسه وسلبه ثم مالوا إلى خبائه فأخذوا أهله وسلبوا امرأته خماعة بنت عوف بن محلم، وكان الذي أصابها شقيان، هما عمرو بن قارب، وذؤاب بن أسماء، وكانت حياة النساء معرة على الأخلاق؛ لأنها ما زالت تستمتع بحقوق الحضانة وسلطان الأم (ماترياركا) حتى مع أفضل الرجال كما حدث لحاتم طيء مع زوجه ماوية؛ فقد لبثت عنده زمنًا ورُزقت منه أولادًا كبارًا، ولكنها كانت امرأةً لعوبًا فاحتال عليها ابن عم حاتم وأغراها فلم يزل بها حتى طلقت حاتمًا. جاء في ذيل الأمالي للقالي (ص١٥٣) ما نصه — وهو يؤيد نظرية الحضانة والأمومة: وكان النساء أو بعضهن يطلقن الرجال في الجاهلية، وكان طلاقهن أنهن يحولن أبواب بيوتهن، إن كان الباب إلى المشرق جعلته إلى المغرب، وإن كان الباب قبل اليمن جعلته قبل الشام! فإذا رأى ذلك الرجل علم أنها قد طلقته فلم يأتِها!
وما زال هذا الحق في الإسلام إلى يومنا هذا، فالمرأة الغنية أو القوية أو الفاجرة تحتفظ بعصمتها؛ أي حق تطليق زوجها متى شاءت. وفي الغالب أن اللواتي يطلقن أزواجهن في هذا العصر يغيرن باب الخباء قبل الطلاق بزمنٍ طويل دون أن يلحظ الزوج المنكوب!
وكانوا أسوأ ما يحكمهم الملوك المستبدون كالنعمان بن المنذر الذي جعل لنفسه يوم نعيم ويوم بؤس ليظهر طغيانه وجبروته ويتصرف في عباد الله تصرف الخالق في مخلوقاته فيسعد ويشقي ويحيي ويميت.
حتى قال: «والله لو سنح لي في هذا اليوم القابوس (وهو ابنه) لم أجد بدًّا من قتله» (أمثال الميداني، ص٤٦، ج١). فلا يجد من يحاسبه ولا من يردعه أو يزعه، فإذا خاف الرادع أو الوازع من هجاء شاعر أو سوء سمعة (لا من ضمير أو دين وعفة) احتال وغدر، كما وقع من عمرو بن هند الذي آل إليه الملك بعد قتل أبيه وقد ولي إمارة الحيرة من سنة ٥٦٣–٥٧٨م، في غدره بالمتلمس وابن أخته طرفة بن العبد، وقد صار حديث «صحيفة المتلمس» مثلًا كصفحة من كتاب ماكيافلي، وقد ذهب ضحيتها طرفة بن العبد وهو ما زال في مقتبل العمر وميعة الشباب تغريه الآمال وتزجيه المطامع (بلوغ الأرب، ص٣٧٤، ج٣). وقد يحسد الملك أحد رعيته كما نفس النعمان على سعد بن مالك فصاحته وذرب لسانه فأمر وصيفه بلطمه ثلاثًا، وإنما أراد أن يتعدى في القول فيقتله فهو يحرض فردًا من الخاضعين لظلمه على جريمة العيب في ذاته الملكية فيعاقبه بالقتل على جنايةٍ هو الفاعل الأصيل فيها! فكان يستفزه ليبطش به (الأمثال، ص٣٣، ج١). وهذا قليل من كثيرٍ من معرات هذه الأمة الجاهلية.
ومن الحق أيضًا ومن النصفة أن نقول إن أفرادًا منهم كانوا أوفياء كالسموأل، وكرامًا كحاتم، وأهل حلمٍ وحكمة كالأحنف، وفصحاء كقس بن ساعدة الإيادي، ولكنهم على كل حالٍ أفراد يعدون على الأصابع، وما وصلنا من أخبارهم مضاف إليه ومضاعف، ومعروف أن السموأل كان يهوديًّا أخذته نعرة الوفاء لينال صيتًا؛ لأن الغدر والنفاق والكفر بالأرباب والنعم وقتل الأنبياء كانت صفات موروثة في العرب وفي الكثرة الغالبة من يهود.
وعندما تعلم أن حاجب بن زرارة رهن قوسه لأنه كفل قومه أن لا يعيثوا في أرض الفرس فسادًا ثم وفى للمرتهن، فأي عجبٍ في ذلك ولم يكن حاجب بن زرارة إلا واحدًا بين ألفٍ خانوا وغدروا وحنثوا ونكصوا على أعقابهم، وقد تجد دخلاء من أصل فارسي يعبدون النار ويحتقرون العرب ويتملقونهم بالمديح؛ فهذا عبد الله بن المقفع يسأل عن أعقل الأمم (!) فيقول منافقًا متزلفًا: «أصحاب إبلٍ وغنم وسكان شعرٍ وأدم، يجود أحدهم بقوته ويتفضل بمجهوده ويشارك في ميسوره ومعسوره، ويصف الشيء بعقله فيكون قدوة، ويفعله فيصير حجة، ويحسن ما شاء فيحسن ويقبح ما شاء فيقبح، أدبتهم أنفسهم ورفعتهم هممهم وأعلتهم قلوبهم وألسنتهم فلم يزل حباء الله فيهم وحباؤهم في أنفسهم (أسواق الذهب، ص٤٠٠).»
فهذا الرجل قال في المربد وهو مألف الأشراف ونادي الأرستقراطية، وهو الذي فتح الحديث أمام شبيب بن شيبة أحد بلغاء العرب وجليس الملوك ومعه أخدان وأشباه، قال: فلما سمعنا منه هذا ضحكنا جميعًا، فقال عبد الله أما إني ما أردت موافقتكم، ولكن إذ فاتني حظي من النسبة فلا يفوتني حظي من المعرفة (!).
وقال عن الفرس، وهم شعبه وأمته وقومه وأهل ملته ونحلته: «إنهم ملكوا كثيرًا من الأرض ووجدوا عظيمًا من الملك وغلبوا على كثير من الخلق ولبث فيهم عقد الأمر فما استنبطوا شيئًا بعقولهم ولا ابتدعوا باقي حكم لأنفسهم!»
هذا الرجل الذي لا يرفقنا به إلا مصرعه في مقتبل العمر وترجمته كليلة ودمنة نشأ من أبناء الفرس بالبصرة، وكان أبوه مجوسيًّا، وبقي عبد الله نفسه أكثر أيامه على دين المجوسية ثم أسلم في آخر أيامه (تُوفِّي سنة ١٤٢ﻫ، وعمره ست وثلاثون سنة، وهو سن النوابغ). أيعقل أن ينتقص قومه إلى هذا الحد؟ فينكر عليهم علومهم وآدابهم وهو بها جد عليم وفنونهم الرفيعة وسيادتهم المحكمة وتدبيرهم الواسع ولا سيما قبل الإسلام، وكان منهم من غزا آسيا وأفريقيا وبعض أوروبا، وكانت دولتهم نموذجًا احتذاه العرب في سائر شئونهم.
وهو في مديحه المنثور لم يذكر رأس الخير وسيد العرب والعجم بكلمة، بل اكتفى بقوله: «حتى رفع لهم حباؤهم الفخر وبلغ بهم أشرف الذكر وختم لهم بملكهم الدنيا على الدهر!» زمزه يا عبد الله، ألم يملك الروم والفرس هذه الدنيا قبل العرب؟! لقد كذبت على التاريخ وعلى الحق وعلى نفسك ومستمعيك الكرام!
وتجد في غير أسواق الذهب على لسان رجل من الطائف «أن للعرب أنفسًا سخية وقلوبًا جرية ولغةً فصيحة وألسنًا بليغة وأنسابًا صحيحة وأحسابًا شريفة.» فيسمع كسرى هذا القول باسمًا؛ لأنه قد كوَّن فكره فيهم قبل أن يسأل الرجل، إنما دعاه للسمر، وليصف له محاسن النساء (بلوغ الأرب، ص٣٢٧، ج٣) فيضحك كسرى حتى تختلج كتفاه، وهو أعلم بأخلاق عرب الجاهلية من مادحيهم.
كان فيهم كرام كحاتم ومعن بن زائدة، ولكن هذا الأخير لم يَجُدْ قط بعُشر ماله، وقد بزه في الكرم عبد أسود تبعه ليعتقله وهو هارب من وجه الملك، فحاول معن رشوته بجوهر قيمته ألف دينار فقال له العبد: «أنا والله رجل فقير ورزقي عشرون درهمًا وهذا الجوهر قيمته ألف دينار وقد وهبته لك ووهبتك لنفسك ولجودك المأثور بين الناس، ولتعلم أن في الدنيا من هو أجود منك؛ فلا تعجبك نفسك ولتحقر بعد هذا كل شيء تفعله ولا تتوقف عن مكرمة.» ثم رمى بالعقد إليه وخلى خطام الجمل وانصرف (نهاية الأرب، ص٢١١، ج٣). ولم يَأْتِ هذا العبد بخير مما فعل حوذي مع فيكتور هيجو وهو هارب من وجه نابوليون الثالث سنة ١٨٥١ (انظر ص٤، تاريخ جريمة تأليف فيكتور هيجو) فقد خفف لحيته وأخفى وجهه بقبعة سميكة وتزيى بزي عامل وركب عربة إلى محطة الحديد وكان نابوليون وضع لرأسه ثمنًا مائة ألف فرنك، فلما بلغ ترجل ودفع للحوذي الفقير أجره مضاعفًا فأباه وقال: «مثلي على فقره، لا يقبل من موسيو هيجو أجرًا على نقله!» فأسقط في يد الشاعر الثائر، ولكن الحوذي حياه وحث خيله على السير. فإذا كان الأسود قد أخجل معنًا حتى قال: «والله فضحتني! ولسفك دمي أهون عليَّ مما فعلت! فخذ ما دفعته إليك فإني عنه في غنًى. فضحك ثم قال: أردت أن تكذبني في مقامي هذا! فوالله لا آخذه ولا آخذ لمعروفٍ ثمنًا أبدًا. ومضى» فقد والله بزهما الحوذي الفرنسي وهو على شفا الجوع وبين يديه جائزة تغنيه وأحفاده، ولكن وطنيته ومروءته وشرف نفسه أبت عليه الخيانة في سبيل المال الذي رصده الإمبراطور المغتصب ثمنًا لرأس الشاعر الثائر ودمه. وهذه قصة صحيحة بسند تاريخي، وقصة معن رواية أدبية حبذا لو صدق راويها!