شخصية محمد بن عبد الله النبي الأمي العربي المبعوث إلى سائر الأمم١
كان محمد
ﷺ وسطًا بين الرجال في القوام، أطول من المربوع وأقصر من المشذب،
كبير الرأس، وكان وجهه أبيض أزهر اللون، حواجبه واضحة سوابغ، بينها بياض ينبت فيه عرق
يمتلئ إذا انفعل، وأنفه أقنى، وكان ذا لحيةٍ كثة يعلوها فم ضليع دون أسنان مفلجة، وكانت
عيناه براقتين تكاد نظراته تخترق نفس من يحادثه، وأجفانه أقرب إلى السعة منها إلى
الضيق، وكان عنقه في صفاء الفضة ونقاء البلور، واسع الصدر بعيد ما بين المنكبين. وقال
الذين رأَوْه وعاشروه إنه كان فخمًا يتلألأ وجهه بنور روحاني يجذب مخاطبه بقوة خفية،
فيميل إليه ثم يخضع له ويطيعه ويحبه. وكان بدنه متماسكًا، ويداه وقدماه جميلة، دقيقة
مع
قوةٍ ورشاقة، وتمتاز كفاه بالطراوة والنعومة وهما صفتا أكف الميسرين لخرق العادات. أما
شعره فكان وسطًا بين الجعد والرجل، وكان يطلق شعر رأسه إلى ما دون أذنيه ويرسل لحيته
على صدره، وكان مجموع هيئته يدل على قوة بدنه من الأدواء والعاهات الموروثة أو المكتسبة
٢ وكان النبي
ﷺ شديد العناية بشخصه، محبًّا للجمال والتجمل، مشغوفًا
بالنظافة وحسن المظهر، ولم يكفَّ يومًا عن أخذ زينته ورعاية هندامه سواء في بيته أم في
الحياة العامة، وكان يتحدث بذلك وينصح به، ويحب مظاهر التنعُّم والرفاهية ولم يتبع
الزهد في مظهره الخارجي أبدًا، بل كان محبًّا للظهور بمظهر الفخامة والعزة والجمال
والشباب والقوة والحسن، ليبدوَ مهيبًا في أعين الرجال، ومحبوبًا في أعين النساء، وكان
يرى من واجب الإنسان أن يحترم شخصه ويبذل جهده في العناية بذاته، وكانت تلك العناية غير
مقصورة على الروح، بل كانت تتناول البدن من شعر الرأس إلى أخمص القدم، فكان يصبغ شعره
بالحناء، كما كان يحسن تصفيفه، وكانت طبيعة شعره تسهل عليه ذلك؛ لأنه كان رجل الشعر،
إن
انفرقت عقيصته فرق، وكان هذا الشعر لا يجاوز شحمة أذنيه إذا هو وفره، ولكنه كان يتقي
الفرق في وسط الرأس لأنه عادة وثنية.
قلنا كان يخضب لحيته بالحناء أيضًا فتبدو شقراء جميلة، وكان يحب التطيب بالعطر ليجمع
بين إعجاب النظر والشم لدى من يراه أو يدنو منه. وكل كتب الحديث والسنة تدل على سلامة
ذوقه ورقة خلقه ونعومة فطرته البشرية، فكان يبغض الروائح الخبيثة ويستعيذ منها، وقد جعل
الاستعاذة منها عند الضرورة الملجئة لشمها، سنة بنص خاص وصيغة بعينها تقال وتتلى. وهذا
في نفسه يدل على شدة بغضه لكل ما هو قبيح وخبيث، وذلك لامتلاء تلك النفس الشريفة
الطاهرة بكل ما هو جميل وعطر حسن وطيب، وقد امتد بغضه للروائح الخبيثة إلى ذم بعض
النبات كالبصل والكراث؛ للأثر السيئ الذي يتركه أكلها في الفم، وكان يكره أن يرى رجلًا
أشعث أغبر منكوت الشعر، زري المظهر قذر الثياب، وكان يبغض أن يرى إنسانًا ذا أسنانٍ
صفراء من أثر الإهمال، فجعل السواك والتخلل سنة واجبة الأداء، وما السواك والخلال إلا
الأداتين الواقيتين من أمراض الأسنان التي أثبت العلم الحديث أنها من أقوى الأسباب
لتدهور صحة الإنسان في المدنية الحديثة. وكتب السنة كالبخاري ومسلم ومسند أحمد بن حنبل
حافلة بنصائح العناية بالفم والأسنان.
٣
وكان النبي
ﷺ لا يتقيد في ثيابه بنوعٍ خاص؛ فلبس الجبة والطيلسان والقباء كما
لبس المخطط اليمني والمزركش الشامي وتلفع بالصوف وَالْتَحَفَ بالكتان واستعمل اللثام
وغطى رأسه بالعمامة وغيرها وكانت عمامته على ألوان، وتذكر كتب السير والحديث أنه يوم
دخل مكة فاتحًا كان يلبس عمامة سوداء من لون رايته التي كانت تخفق في ذلك اليوم الرهيب.
وتراه لم يتقيد بشكلٍ من اللباس ليعلن للملأ من أمته أنه لا يقيدها بهيئةٍ خاصة، كما
أنه وهو رسول الله
ﷺ إليها وإلى الإنسانية ونبيها وبطلها وزعميها الوطني ورئيسها
القومي وقدوتها في السياسة والاجتماع لم يتخذ ثوبًا خاصًّا ولم يجعل لأتباعه من الصحابة
أو غيرهم ثيابًا خاصة كما اتخذ زعماء الأديان ورؤساء المعتقدات لأنفسهم ثيابًا رسمية
يميزون بها أنفسهم من عامة الشعب.
وكان لا يأنف أن يستعمل كل ما يصلح للحياة من أدوات الأمم الأخرى، سواء أكانت مجاورة
أم مباعدة؛ فهو يرى دين الإسلام صالحًا لكل قومٍ من الأقوام، ولذا يرى تطبيقًا لهذه
القاعدة العالمية أن كل ما تنتجه الأمم ثمرة للمدنيات السابقة أو المعاصرة مما قد
يستفيد منه الإنسان صالح للاستعمال؛ فهو يحب التوفيق بين أذواق الناس في كل ما كان
نافعًا أو جميلًا، ويحب إزالة الفوارق وهدم العقبات التي تعوق الأمم عن الاختلاط المفيد
للحضارة وللحياة الإنسانية في أجمل مظاهرها وبأفسح معانيها، ولذا كان يلبس الثياب
المختلفة الأشكال والألوان الآتية إليه من شتى الجهات بغير قيدٍ ولا شرط، وقد غطى رأسه
حينًا بقلنسوة وحينًا بغطاء يشبه القبعة يقيه من وهج الشمس وحرارتها.
ولو كان في زمانه السعيد اختراعات حديثة وكماليات نافعة كالتلغراف والتليفون والمنطاد
والسيارة، كان — عليه الصلاة والسلام — أول من يبادر إلى استعمالها والانتفاع بها، ولو
كانت الطباعة أو الإذاعة شائعتين لكان اتخذهما وسيلة في نشر رسالته؛ لأن معقوليته تدل
على المرونة وسهولة الانطباع على النماذج الحديثة النافعة واستساغة كل ما يثبت للعقل
الراجح نفعه وامتناع ضرره؛ فلم يكن محمد
ﷺ محافظًا ولا محبًّا للتقاليد ولا
محترمًا لها إلا في حدود خاصة، بل كان مجددًا ومحدثًا أحداثًا نافعة تدل على حسن الذوق
وسلامة الفطرة وعظم العقل وسعة الفكر وحب الخير العام للإنسانية بأسرها.
إنني هنا لا أتعرض لوصف أخلاقه ونفسيته؛ فهذه ترد في أبوابٍ أخرى، ولكنني أقصر بحثي
على شخصه، وأحاول تعليل بعض عاداته وتحليل الظاهر من صفاته الشخصية.
كان وجهه مستطيلًا لا مستديرًا، وهو من النوع السامي الذي تنطبع بطابعه وجوه الكثيرين
من أهل جزيرة العرب، لا سيما أهل الحجاز الذي هو المقر الأول للمنحدرين من نسل إسماعيل.
وكانت مشيته تدل على شيءٍ كثير من قوة الخلق والثقة بالنفس وكمال الصحة وسلامة القلب،
فقالوا إنه كان إذا زال، زال قالعًا، يخطو تكفيًا، ويمشي هونًا، ذريع المشية إذا مشى
كأنما ينحط من صبب، وإذا الْتَفَتَ الْتَفَتَ بجميع جسمه، ليس في أعضائه — معاذ الله
—
ليونة الخبثاء والمنافقين، وإنك إلى اليوم إذا عرفت رجلًا مخلصًا صادقًا سليم الفطرة
كبير النفس ترى فيه بعض صفات النبي
ﷺ البدنية. وكان — عليه السلام — خافض الطرف،
نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جل نظره الملاحظة للاعتبار والخبرة
والموعظة.
ومن الصفات المعنوية الخاصة بشخصه الجثماني أنه كان جريء القلب، واسع الصدر، صادق
اللهجة، لين العريكة، من يراه بديهةً يهابه، ومن يخالطه يحبه بإجماع معاصريه ومعاشريه
ومؤرخيه.
ولكن هذا الحلم والكرم وذلك التسامح واللين وغيرها من الخلال الكريمة لم تمنعه من
أن
يحذر الناس ويحترس منهم من غير أن يطويَ عن أحد منهم بشره ولا كرمه، وكان لا يوطن
الأماكن، أي لا يتخذ لنفسه مكانًا معينًا في المجلس لا يجلس في سواه، وينهى عن هذه
العادة الوثنية التي تُشعر بالجبروت والكبرياء والطغيان، وكان إذا انتهى إلى مجلس، قعد
حيث ينتهي به المجلس، وكان مجلسُه مجلسَ علمٍ وحلمٍ وعدلٍ وحياءٍ وصبرٍ وأمانةٍ وصدق،
وكان على كثرة أعماله وجلال رسالته وكبر شأن واجبه دائمَ البشر سهل الخلق لين الجانب
لا
يعيب الناس ولا يمدحهم، ولكنه كان يحبذ الحسن ويقبح القبيح ولا يذم أحدًا ولا يعير
إنسانًا ولا يطلب عورة لمخلوق. ويُرى مما تقدم أنه كان ذا نزعة ديمقراطية، حتى في إبان
عظمته القومية التي ظهرت من عهد النبوة؛ فكان يضحك مما يضحك منه جلساؤه، ويتعجب مما
يتعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في منطقه ومسألته، وكان لا يقبل الثناء ولا يقطع
على أحد حديثه، وكان يكره أن ترتفع الأصوات في مجلسه أو يتزاحم اثنان على الاستئثار
بالكلام، وكذلك كان يبغض أن يزعج في خلوته بغير استئذان. والعجيب في أمره أنه كان يطبع
أصحابه بطابع أخلاقه الكريمة، ويهذبهم بالمثال والقدوة الحسنة؛ فترى الرجال الذين فتحوا
العالم في عشرين عامًا بعد موته كانوا كلهم أقرب المقربين إليه، فكأنه أفرغهم في قالب،
وألهبهم بنارٍ مقدسة، وكان منهم عظماء الدنيا لعهدهم في العلم والقضاء والتشريع والحكم
والحرب والتمدين والاقتصاد والسياسة. وفي الحق أنه لا توجد ثورة اجتماعية أو سياسية
حملت في ثناياها جزءًا من العظمة والقوة التي انطوت عليها الثورة الإسلامية؛ لأن الرجال
الذين أتموا أعمال محمد
ﷺ في السياسة والحرب والتشريع كانوا كلهم على وتيرةٍ
واحدة، وكلهم محمديون عريقون صميمون يمثلون فكرته ويعملون على تنفيذها.
٤