وصف شخصيته على ألسنة المعاصرين
وإليك وصفًا جاء على لسان امرأة رأته للمرة الأولى وهو في طريق هجرته إلى المدينة مع أبي بكر اسمها أم معبد الخزاعية، وقد وصفته لزوجها الذي عاد إلى الخيمة على أثر انصراف النبي وصاحبيه، قالت: «ظاهر الوضاءة أبلج الوجه حسن الخلق لم تعبه ثجلة ولم تزر به صعلة، وسيم قسيم في عينيه دعج وفي أشفاره وطف وفي صوته صحل، وفي عنقه سطح، أحور أكحل، أزج، أقرن، شديد سواد الشعر، إذا صمت علاه الوقار، وإن تكلم علاه البهاء، أجمل الناس وأبهاهم من بعيد، وأحسنهم وأحلاهم من قريب، حلو المنطق فصل لا نزر ولا هذر، كأن منطقه خرزات نظمن يتحدرن، ربعة، لا تقحمه عين من قصر ولا تشنؤه من طول، غصن بين غصنين فهو أنضر الثلاثة منظرًا وأحسنهم قدًّا، له رفقاء يحفون به، إذا قال سمعوا لقوله، وإذا أمر تبادروا إلى أمره محفود محشود لا عابس ولا مفند.» فقال أبو معبد زوجها: «والله هذا صاحب قريش الذي ذكروا من أمره ما ذكروا.» أقول فإن صحت هذه الرواية الجميلة، فلا يعادل فصاحة المرأة في الوصف إلا فراسة زوجها في الاستدلال، ولا أخالها إلا صادقة. على أنني لم أذكر هذه النبذة إلا استكمالًا لوصف شخصه على لسان امرأةٍ من أهل عصره لم تعرفه من قبل. وسيأتي خبرها بالتفصيل.
وكان أنس بن مالك من أصحاب النبي ﷺ الذين عمروا بعده طويلًا فكان الناس يجتمعون إليه ويقولون له صف لنا رسول الله ﷺ فكان يصفه بقوله: «كان رسول الله ﷺ أبيض مشربًا بحمرة ضخم الرأس، أزج الحاجبين، عظيم العينين، أدعج، أهدب، شثن الكف والقدمين، إذا مشى تكفأ كأنما ينحط من صبب، ويمشي في صعد كأنما يتقلع من صخر، إذا الْتَفَتَ الْتَفَتَ جميعًا، ليس بالجعد القطط ولا السبط، ذا وفرة إلى شحمة أذنيه، ليس بالطويل البائن، ولا القصير المتطامن، له عرف أطيب من المسك الأذفر، لم تلد النساء قبله ولا بعده مثله، بين كتفيه خاتم النبوة كبيضة الحمامة، لا يضحك إلا تبسمًا، في عنفقته شعرات بيض لا تكاد تبين.» ومن الحسن أن نقف لحظة لنقارن بين الوصفين؛ وصف المرأة التي لم تعرفه، والرجل الذي عاشره أعوامًا، لقد بدأت أم معبد فوصفت الرسول ﷺ جملةً ثم وصفته تفصيلًا، فأما الصورة الأولى فقد أجملتها في قولها: رأيت رجلًا أبلج الوجه، حسن الخلق، لم تعبه ثجلة ولم تزر به صعلة، وسيمًا قسيمًا، وأما الصورة الثانية فقد فصلت فيها دقائق جسمه ونظام منطقه ومكانه من صاحبيه، وهذه الطريقة في الوصف تنطبق على طبيعة المرأة.
ووصف أنس بن مالك من رسول الله لونه، وبعض وجهه، وامتلاء كفيه وقدميه، ومشيته، وشعر رأسه، وطول قامته، وريح جسمه، ولم يتخذ له نظامًا خاصًّا؛ فهو يصف وجهه، ثم يعود فيصف شعر رأسه، ثم ينثني إلى طوله؛ فأم معبد أشمل منه وصفًا وأحسن نظامًا، ثم انظر إلى ما وصفت به قامة النبي ﷺ تَرَها تقول: ربعة لا تشنؤه من طول ولا تقتحمه العين من قصر، غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظرًا وأحسنهم قدًّا. ويقول أنس: ليس بالطويل البائن، ولا القصير المتطامن. فهي أبلغ وأوفى بما فصلت من الوصف، وما وصفت من عيوب الطول والقصر، وما مثلت به النبي بين صاحبيه وقد انفردت عن صاحبها بوصف منطق النبي وصفًا ساحرًا أخاذًا حين قالت: «حلو المنطق، فصل لا نزر ولا هذر، كأن منطقه خرزات نظم تتحدرن.» على أن أسلوبها كله يكاد يكون قصيدة مختارة بما حوت من حسن نسق وصفاء ديباجة وحلاوة إيقاع.
كان محمد من أفصح أهل الأرض في كل عصرٍ وبقعة، وكان بلا ريب أفصح العرب في كل زمانٍ ومكان، ووصفه معاصروه بأنه كان عذب الكلام سريع الأداء حلو المنطق يأخذ حديثه بالقلوب، وقد شهد بذلك أعداؤه قبل أحبابه، وإذا أردنا أن نتخيله متكلمًا لرأينا وسمعنا رجلًا ينطق بكلامٍ مفصلٍ مبين يستطيع السامع أن يعد كلماته؛ لأنه ليس مسرعًا ولا متقطعًا تتخلله فترات السكوت. قالت عائشة لبعض محدثيها بعد وفاته تصف حديثه: «ما كان رسول الله يسرد سردكم هذا، ولكن كان يتكلم بكلامٍ يبينه ويفصله فيحفظه من يسمعه.» وكان كثيرًا ما يعيد الكلام ثلاثًا ليُنقل عنه، ولم يكن محمد ﷺ يخفي عاطفته أو انفعاله، فإذا كره شيئًا ظهر في وجهه، وكان يعجب ويضحك مما يُضحَك ويُتعجَّب من مثله ويُستغرب وقوعه أو يُستندر، وكانت طبيعته الهادئة لا تسمح له بالصخب ولا القهقهة، بل كان معظم ضحكه ابتسامة تُظهر نواجذه وكان بفطرته حزينًا؛ لأن الأنبياء أكثر الخلق همومًا وأعظم شعورًا بصنوف البلاء التي تنتاب الإنسانية، وليس من دأب المتصلين بالعوالم العلوية أن يستخفوا بالحياة فيفرحوا لها وما زالت «الميلانكولي» من خصائص النفوس المتميزة وحتى بعض الحكماء ممن لم يكونوا أنبياء أذاقتهم الطبيعة لباس الحزن والشعور بتفاهة السرور والإشفاق على الناس من الاندفاع في الفرح؛ فيؤثَر عن أحدهم أنه قال: «اضحكوا لأبكيَ عنكم.» أي إنه لحكمته يكفل نصيبهم في الحزن، كأن الأحزان فرض كفيل يُعفى منه المجموع إذا قام البعض بعبئه، ولا يقوم به إلا الأعقل والأحكم والأصبر، وترى روح الحزن والجد والوقار سارية في حياة النبي ﷺ لأنه لم يكن يرى حياة الدنيا مهزلة ولا فرصة لانتهاب اللذات ولا مسرحًا للأفراح، بل كان يراها حياة جهدٍ وكسب يؤدي الإنسان عنها حسابًا دقيقًا وعسيرًا، وكلُّ من يدنو من الحقيقة في إدراك الحياة يقل فرحه بها؛ إذ يتفهم بالتدريج أنها دار امتحانٍ واختبار، وهذا يفسر لنا ما ورد في القرآن الكريم من أن الله لا يحب الفرحين، ولا يقصد به أن كل فرحٍ مبغوض، وإنما يراد بهم الطائشون والمستهترون والذين يلهون بأنفسهم عن سواهم ويفرحون بما يصيبهم من مسرات هذه الدنيا دون أن يشاركوا أبناء جنسهم نصيبهم من الشر والبلاء.
على أنني لا أحيد عن رأيي في أن حياة النبي ﷺ في طفولته وشبابه وكهولته كانت بطبيعتها قليلة الأفراح، أما بكاؤه فكان كثيرًا ولم يكن بنشيج أو رفع صوت، وقد بالغ المؤرخون في الدقة فعددوا المرات التي بكى فيها وذكروا في مقدمتها بكاءه عند وفاة ابنه إبراهيم، فرَوَوْا أنه قال: «تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يُرضي ربنا، وإنَّا بك يا إبراهيم لمحزونون.» وبكى لما شاهد إحدى بناته ونفسها تفيض، وبكى لما شيع جنازة جده عبد المطلب، وبكى لما قُتل عمه حمزة في معركة أُحد، وبكى عندما سمع ابن مسعود يتلو آية من سورة «النساء» خاصة بشهادته على أمته: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَؤُلَاءِ شَهِيدًا.
وكان يبكي أحيانًا في صلاة الليل، ولكن هذا الإحصاء ليس كاملًا، فلا ريب عندنا في أنه بكى عند موت خديجة؛ فقد كانت أعز الناس عليه وأحبهم، وبكى لوفاة عمه أبي طالب، وقد ماتا في عامٍ واحد وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين، وكيف لا يبكي خديجة وقد عاشرها خمسًا وعشرين سنة ورُزق منها كلَّ ذريته ما عدا إبراهيم، وجادت له بمالها وروحها وكانت له وزير صدق على الإسلام يسكن إليها ويشكو لها بثه، ويثق بها ويستشيرها، وكيف لا يبكي عمه الهمام الكريم الذي كفله وكان له عضدًا وحرزًا في أمره ومنعة وناصرًا على قومه حتى إنه قال: «ما نالت مني قريش شيئًا أكرهه حتى مات أبو طالب.»
وإذنْ لا يملك المؤرخون أن يحصروا المرات التي بكى فيها النبي ﷺ؛ لأنها في حياة رجل مثله لا يمكن أن تُعد، ولكنهم عددوا ما وصل إلى علمهم عن طريق الرواية الصحيحة في بعض الحوادث العامة، وقد تذكر بعض الحوادث بمناسبات، وإنما يفهم من استقراء تلك الحوادث أن محمدًا ﷺ لم يكن بَكَّاءً ولا قريب الدموع ولم يعرف البكاء لخورٍ أو ضعف ولم يكن «هستيري» المزاج. وأذكر أنني قرأت أنه بكى لما رأى أهل قريش يأسرون بعض المسلمين، فتأثر ودمعت عيناه وبكى معه أبو بكر وحدث أثناء ذلك حادث طريف دل على صراحة عمر بن الخطاب صراحةً لا مثيل لها إلا لدى العظماء أمثاله؛ فإنه لما رأى النبي ﷺ وأبا بكر يبكيان في شأن أسرى بدر، فقال — وقد عز عليه أن يبقى جامد العين: «أخبرني ما يبكيك يا رسول الله، فإن وجدتُ بكاءً بكيت وإلا تباكيت …»، ص٤٧، ج١، من زاد المعاد لابن قيم الجوزية، ومثل هذه ما رواه أبو هريرة في الإصابة، ج١.
كان محمد ﷺ صادقًا حازمًا إذا قال أو فعل، وكان عازمًا صارمًا إذا همَّ أو مضى، وكان صابرًا إذا أتته الشدائد، وكان أبيًّا إذا سيم الضيم، عصيًّا إذا دُعي إلى الخسف والظلم، عزيزًا إذا أُريدَ على الهوان، وكان عادلًا إذا حكم وحكيمًا إذا تصرف أو قضى، جمع الله له عقلًا وافرًا وخلقًا رضيًّا ويدًا كريمة ونفسًا عفيفة وأنفًا حميًّا وضميرًا نقيًّا وصدرًا رحبًا وحلمًا واسعًا.
ثم امتحنه بالأحداث والخطوب، فلم تلن قناته ولا فلت شباته ولا صدعت صفاته ولا صرفته عما رسم الله له من طريق، ثم رمى به الأحداث والخطوب والأعداء من كل ملة ونحلة وجنس فلم تثبت له وإنما ولت عنه نافرة وانهزمت أمامه ممعنةً في الفرار، وليست الخطوب التي تعترض نبيًّا عظيمًا مثله شرًّا كلها وليست الآلاء التي تتاح للأبطال خيرًا كلها؛ فهذه النعمة السابغة التي أتمها الله على رسوله لم تغره بالأشر والبطر ولم تزين له الكسل والفتور، كما أن الأحداث والخطوب التي امتحنه الله بها عوَّدته احتمال المكروه والصبر للنوائب والتفوق في مصارعة البلاء، ولم تفل له حدًّا ولم تضعف له عزمًا ولم تجعل لليأس سبيلًا إلى نفسه العظيمة، أجمع قومه قبل البعثة على حبه وإكباره وسمَّوْه الصادق الأمين؛ لأنه كان زعيم صفوتهم وقائد خلاصتهم إلى مثلها الأعلى من الحرية والكرامة ومن العزة والاستقلال.
إن الله لم يخلق محمدًا ولم يبعثه لجيلٍ بعينه ولا لشعبٍ بعينه، وإنما خلقه وبعثه للأجيال جميعًا وللشعوب جميعًا. يعرف الناس مولد النبي ونشأته ودعوته وهجرته ولكنهم لن يعرفوا آخر أمره إذا عرفوا موته؛ لأن هذا الموت لا يختم حياة الأنبياء، ولعله يبدؤها أو يبدأ خير أجزائها وأعظمها غناءً؛ لأن الموت يزيل منها العناصر الفانية ويُبقي منها العناصر التي لا تقبل الفناء، وهي الخلود والهدى والمثل العليا.
وقد تختلف الخطوب على الإسلام والشرق العربي وقد تلم بهما الأحداث، وقد يصيبهما الخير والشر ويتناوبهما النعيم والبؤس، ولكنهما والعالم أجمع سيذكرون دائمًا أن هذا النبي العظيم البطل قد فتح لهما باب الحياة العزيزة الكريمة، وعلمهما كيف يبتغيان لها الوسائل ويسلكان إليها الطريق ويصبران في سبيلها لما يفرض عليهما من تضحية وما يلم بهما من آلام وما يبلغانه من مجد!
لقد كانت عظمة محمد ﷺ في صبره الذي لم يكن يعرف ضيقًا بالحوادث ولا إشفاقًا منها ولا حرجًا بالأعداء مهما عظمت شوكتهم وتكاثر حشدهم واجتمعت كلمتهم، وفي مضائه الذي لم يكن يعرف وقوفًا عن السعي ولا التواءً عن قصد السبيل، وفي حلمه الذي لم يكن يعرف بطشًا بالجاهل حين يقدر على البطش، وفي عدله الذي لم يكن يعرف هوادةً في الحق حين يأبى الحق الهوادة على طلابه، وفي عقله الذي لم يكن يعرف كلالًا حين يجب التفكير، وفي فطنته التي لم تكن تعيا بحل مشكلة ولا تفتر عن تخليص معضلة ولا تعجز عن النفاذ إلى أعماق ما يعترضها من الأمور.
ليذكر المسلمون والشرقيون محمدًا ﷺ؛ فإنهم لا يحسنون بذلك إلى محمد ﷺ بقدر ما يحسنون بذلك إلى أنفسهم، وما أشد حاجة المسلمين في كل يوم وفي هذه الأيام خاصةً إلى أن يذكروا محمدًا ﷺ ويطيلوا النظر في سيرته؛ ليعرفوا كيف يكون الصبر حين تلم الخطوب، وكيف يكون الجهاد حين يتألب العدو، وكيف يكون البلاء حين يطالب الإيمان ذويه بأن يبذلوا ما يملكون من قوةٍ وجهد ومن مالٍ وروح ليحتفظوا به وليحفظوا عليه قوته وكرامته، وليبلغوا به ما يريدون من سعادةٍ وهناء في الدنيا والآخرة.