الكلام في نسب محمد عليه الصلاة والسلام
اهتم العرب بالنسب اهتمامًا ينفي التساهل في نسب النبي ﷺ نقلًا عن أوثق المراجع العربية القديمة المعتمدة عند علماء المشرقيات، كالكامل لأبي العباس بن المبرد وابن إسحاق وكتب الحديث والسنة الصحيحة.
وقال ابن خلدون في المقدمة، ص٧٨، مؤيدًا نظريتنا: «إن الصريح من النسب يوجد للعرب المقيمين في القفر لِمَا اختصوا به من كد العيش وشظف الأحوال؛ فصار لهم إلفًا وعادةً وربيت أجيالهم فيه حتى تمكنت خلقًا وجبلةً فلا ينزع إليهم أحد من الأمم أن يساهمهم في حالهم؛ فيؤمَن عليهم لأجل ذلك من اختلاط أنسابهم وفسادها، ولا تزال بنوهم محفوظة صريحة، واعتبر ذلك في مضر من قريش وكنانة وثقيف وبني أسد وهذيل ومن جاورهم من خزاعة. كانت أنسابهم صريحة محفوظة لم يدخلها اختلاط ولا عُرف فيهم شوب.» ا.ﻫ. من مقدمة ابن خلدون، ص٧٨.
قال المبرد: حدثني علي بن القاسم عن أبي قلابة الجرمي قال: «حججنا مرةً مع أبي جزء بن عمرو بن سعيد، قال وكنا في ذراه وهو إذ ذاك بهي وضي، فجلسنا في المسجد الحرام إلى أقوامٍ من بني الحارث بن كعب لم نرَ أفصح منهم، فرأَوْا هيئة أبي جزء وإعظامنا إياه مع جماله فقال قائل منهم له: أمن بيت الخليفة أنت؟ قال: لا ولكن رجل من العرب. قال: ممن الرجل؟ قال: رجل من مضر. قال: أعرض ثوب الملبس! من أيها عافاك الله؟! قال رجل من قيس. قال: أين يراد بك؟! صر إلى فصيلتك التي تئويك. قال: رجل من بني سعد بن قيس. قال: اللهم غفرًا! من أيها عافاك الله؟! قال: رجل من بني يعمر. قال: من أيها؟! قال: رجل من باهلة. قال: قم عنا! قال أبو قلابة: فأقبلت على الحارثي فقلت: أتعرف من هذا؟ قال: ذكر أنه باهلي! فقلت: هذا أمير ابن أمير ابن أمير ابن أمير. قال: حتى عددت خمسة ثم قلت: هذا أبو جزء أمير ابن عمرو وكان أميرًا ابن سعد وكان أميرًا ابن أسلم وكان أميرًا ابن قتيبة وكان أميرًا. فقال الحارثي: الأمير أعظم أم الخليفة؟ فقلت: بل الخليفة. قال: فالخليفة أعظم أم النبي ﷺ؟! قلت: بل النبي. قال: والله لو عددت له في النبوة أضعاف ما عددت له في الإمارة ثم كان باهليًّا ما عبأ الله به شيئًا. قال: فكادت نفس أبي جزء تخرج! فقلت: انهض بنا فإن هؤلاء أسوأ الناس آدابًا!»
المثل الذي استشهد به الحارثي في سطر ١٢ وهو «أعرض ثوب الملبس» أي أبدى غير ما يراد منه، ص٢٥، ج٢، الكامل للمبرد.
وعند ظهور النبي — عليه الصلاة والسلام — كان أقوى الأسباط وأشهرها وأعظمها نفوذًا بني مخزوم (الذين صاهرهم عبد المطلب بعد حفر زمزم) وكان بنو عبد شمس أرقى الأسباط وأكثرها تمايزًا وأقربها إلى المجد الطارف والتليد، بمثابة الأرستقراطية القرشية الوارثة للشرف عن الآباء والأجداد، وكانت بنو أمية أظهر أسرة في بني عبد شمس، ولأبي سفيان بن حرب كلمة مسموعة وإرادة نافذة في شئون العشيرة كلها، وكان عبد المطلب وابنه أبو طالب وحفيده محمد من بني هاشم، وهم من قبل بني أمية أصحاب الحول والطول في مكة، ولكن قعد بهم الدهر وقلت أموالهم وتحوَّلت عنهم الدنيا هنيهة قبل الإقبال الذي ادَّخرته لهم الأقدار على يد شبلهم المختار محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم.
ويزعم بعض مؤرخي الإفرنج أن هاشمًا ووالده لم يكن لهم قبل الإسلام شيء من هذه الشهرة ولم يتطلعوا يومًا إلى المكانة التي شغلتها بنو أمية، وأن هذه المفاخر انتحلت لبني هاشم بعد أن طلب بنو العباس الخلافة، فنشر أنصارهم دعاية لجدهم هاشم ليكون في صف بني أمية سلطةً وشأوًا. ولا نعرض لرد هذا الزعم؛ لأنهم قالوا به على أنه ظن فلم يجزموا بصحته، ولأن بعضهم يدأب على التقليل من شأن النبي ﷺ وقرابته، بيد أنهم عندما يعرضون لما وقع بين النبي وكبار قريش في السلم والحرب قبل الدعوة وبعدها يرون الأحاديث والواقعات فتدل على أن هؤلاء الزعماء الجاهليين يعاملون محمدًا معاملة الند للند ويواجهونه بالحرمة والتبجيل والتوقير، ولا يغيب عن الذاكرة أن أوائل الصحابة الذين التفوا حوله أمثال أبي بكر وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان ومعاوية بن أبي سفيان كانوا من سادة قريش وأخص الخواص ولباب القوم، فلو قل محمد عنهم مكانةً أو رفعةً في النسب والحسب لَمَا أعاروه ودعوته ما أعاروا من الالتفات والاهتمام، ولكن مما لا ريب فيه أن محمدًا وإن كان من أخلص الشرفاء في قريش أصلًا وأطيبهم أرومةً وأعلاهم نسبًا وحسبًا، كان فقيرًا بحسب ثروة أغنيائهم؛ لأن الدهر يتَّمه جنينًا، وكان جده وعمه من ذوي الأسر الكثيرة العدد فلم يَرِثْ عن أبيه وأمه شيئًا يُذكر، ولم يتعلم صناعةً تنفعه، ولم يؤسس تجارة تغنيه، وإذنْ كان محمدًا ذا شرف عظيم في بيئته، ولكنه كان فقيرًا في المال، وهكذا كان الأنبياء جميعًا؛ موسى، ويوسف، وعيسى، ويونس، وعلى هذه الحال معظم عظماء العالم يزينهم شرف رفيع ويشد أزرهم عقل راجح وخلق عظيم ويعوزهم المال.
رحل أبو سفيان إلى بيزنطة وهو صخر بن حرب بن أمية رئيس المشركين يوم الأحزاب ويوم أحد، وأشدهم بغضًا للنبي ﷺ وعنادًا في الشرك؛ لأنه لم يسلم إلا يوم فتح مكة (سنة ٨ﻫ) فسأله هرقل إمبراطور دولة الرومان الشرقية عن نسب النبي ﷺ.
قال هرقل يسأل أبا سفيان عن محمد: كيف نسبه فيكم؟
قلت (أبو سفيان يتحدث): محض، وهو أوسطنا نسبًا (أي خيرنا وأفضلنا نسبًا؛ لأن كلمة الوسط تعني الأفضل كواسطة العقد).
قال هرقل: أخبرني هل كان أحد من أهل بيته يقول ما يقول فهو يتشبه به؟ قلت: لا. قال: هل كان له فيكم مُلك فسلبتموه إياه فجاء بهذا الحديث لتردوا عليه ملكه؟ قلت: لا. فقال هرقل: سألتك عن نسبه فيكم فزعمت أنه محض من أوسطكم نسبًا، فكذلك يأخذ الله النبي، لا يأخذه إلا من أوسط قومه نسبًا (الأغاني، ص٣٤٥، ج٦).