البحث العلمي في نسب أجداد محمد ﷺ وآبائه وأمهاته على طريقة النقد الحديث
يعد البحث في نسب النبي بحثًا علميًّا من أدق البحوث وأصعبها؛ لأن الأنساب عند العرب كانت محفوظة في صدور أصحابها ولم تكن مدونة في سجل، وهي بلا شك صادقة مائة في المائة؛ لأنها كانت موضع الفخر، وشارة الشرف وعلامة الحسب ورابطة الدم؛ فالنسب المحفوظ في شهادة الميلاد أو تذكرة الشخصية ووثيقة الجنسية، وتلك لعمرك ثلاث أوراق لا يملك رجل في العصور الحديثة أن يستغنيَ عنها، وهي في الجماعات الفطرية كان طلبها أشد، فكان الحاكم والمحكوم والصديق والعدو والجار القريب والبعيد يبتدر كلَّ من يلقاه بسؤال لا مناص منه: «من الرجل، وإلى من ينتسب؟» وكان وراء هذا السؤال في كثير من الأحوال النجاة أو الهلاك، الخير أو الشر، الحب أو البغض، الزواج أو العزوبة، المال أو الفقر، وإذن كانت الأنساب من أهم ما عُنِيَ العرب بحفظه وروايته في الجاهلية والإسلام، ولم يكن حفظ الأنساب مقصورًا على اختصاصيين في القبائل يوصفون بالنسابين لانقطاعهم لحفظ أنساب الأبناء والآباء والأجداد والأمهات والخئولة والأعمام، بل كان بعض الأشراف والزعماء يحفظون الأنساب ويروونها ويُرجع إليهم فيها، ومن هؤلاء العظماء الذين اشتُهروا بحفظ الأنساب سيدنا أبو بكر الصديق عليه رضوان الله (ابن الأثير وطبقات ابن سعد وسيرة ابن هشام والأغاني والكامل).
علمنا أن بعض كُتَّاب الإفرنج؛ ولا سيما الإنجليز منهم أمثال سبرنجر وموير ومرغليوث متعصبون على الإسلام ونبيه محمد؛ فاتخذوا البحث العلمي وسيلة لإشباع عداوتهم، وبعضهم على كثير من العلم بآداب العرب وتاريخهم، ولكن يسيئون استعمال بعض النصوص جهلًا منهم بمعانيها، أو رغبةً في الانفراد بشذوذ الفكرة، وبعضهم بلا ريب يخدع القارئ ويتغفله فيكذب متعمِّدًا غير محتشم، وغير حاسب حسابًا لما يؤاخذ به على تكذيب المصادر التي تناولها.
ومن هؤلاء المخادعين مرغليوث الإنجليزي الذي ألَّف وصنَّف كثيرًا في تاريخ الإسلام والعرب، وكاد كتابه «محمد» يفتن فريقًا كبيرًا من أذكياء شبابنا الذين لم يقفوا على تاريخ نبيهم إلا من صفحات كتابه، فحاول هذا المغالط في مواضعَ شتى أن ينال من شخص النبي ﷺ نيلًا بغير حق؛ فغمز ولمز وهمز وراوغ وزاغ وناوش وأخفى أكثر ما يعلم ليقول بعض ما لا يعلم.
ومن تلك المغامز ما سرى إلى ليون كايتاني المؤلف الإيطالي ومن قبله موير الإنجليزي، فادَّعوا أن كثيرًا من نسب النبي موضوع بعد الإسلام، وأن ابن عمه عبد الله بن عباس وضع كثيرًا من الأعلام والحوادث التي لم يكن لها مرجع في التاريخ، وأن شجرة الأنساب أو أنهار الأنساب لم تكن في حياة النبي ﷺ بل وُضعت في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب عندما طالب المحاربون القدماء في العراق بتقدير العطاء بحسب الوقائع التي شهدوها، وكان واجبًا أن يثبت طالب العطاء (المعاش أو المكافأة) أنه مسلم وأنه منسوب إلى بطن أو فخذ من قريش وأنه جاهد في الإسلام؛ فاضطُر النسابون إلى وضع «الأشجار والأنهار والسلاسل» النَّسَبية التي تضمن العطاء للمجاهدين. وقد يكون هذا حدث أو لم يحدث.
دع عنك أن حياة النبي كانت حياة عامة في المساجد والأسواق وميادين الحرب، ولم تكن حياة دير ولا صومعة، وليس فيها خفاء ولا غموض، بل كانت مفتوحة لنور النهار والهواء الطلق، فلم يكن مثل تلك الحياة ليقوم على الدجل أو اصطناع الأجداد وانتحال الآباء مما ليس هو بحاجةٍ إليه، فما ادَّعى مُلكًا ولا ميراثًا يؤهل إليهما النسب والحسب، ولم يلتمس طوال حياته مالًا ولا سؤددًا.
أما عبد الله بن عباس فقالوا فيه ما قالوا ونسبوا أنه كان إذا ذكر عدنان وأراد النساب أن يصعد وراءه يقول: «هنا يبدأ كذب النسابين» (صبح الأعشى للقلقشندي، وأخبار مكة للأزرقي)، كما سبق للنبي ﷺ أنه قال: «لا ترفعوني فوق عدنان» (طبقات ابن سعد، ج١، والإصابة لابن حجر، والمواهب اللدنية للقسطلاني).
وإذنْ تكون دعوى انتحال النسب على غير أساس، وإذا ضربنا صفحًا عن افتراض سوء النية عند هؤلاء المؤرخين الإفرنج؛ فكيف نعلل صدور هذه التهمة عنهم وفيهم من ينتسب إلى العلم والعلماء؟! والجواب على هذا السؤال سهل وتعليله واضح من تاريخ آدابهم وأديانهم.
إن تاريخ القوم حاشد بالأساطير والخرافات والخزعبلات والميثولوجيا؛ فهذه بلاد اليونان لا يخلو سطر واحد من تاريخها الديني والقومي من أسطورة أو خرافة أو أعلام موضوعة وحوادث مخترعة، ووقائع مبتدعة، فالأرباب — وهم خليط من الجن والإنس والكواكب والوحوش — يسكنون جبل أولمب ويتعاشقون ويتباغضون ويتحاربون ويتنازعون السلطة ويختلطون بالبشر ويخطفون نساءهم ويسبون حريمهم للزواج والتناسل. وأبطال هؤلاء القوم غارقون في الخيال من قمة رءوسهم إلى أخماص أقدامهم.
ونظرة واحدة في ديوان الإلياذة أو الأوديسة كافية لإقناع القارئ، وكذلك الرومان لا يقلون خرافةً عن أساتذتهم اليونان؛ فمدينتهم أسسها روميولوس وريموس بعد أن تغذيا بلبان ذئبة كما أن تيزيو أسس أثنيا وهو يصارع الوحش والجن ويواقع بنات الغاب وعرائس البحر … إلخ. وآلهة الرومان وتاريخ الرومان وأبطال الرومان مستنبطة مما سبق العصور الثابتة في التاريخ من الأساطير والقصص الموضوعة، ولكل شعبٍ من الشعوب الأوروبية مثيولوجيا قائمة بذاتها، حتى إن الشعب الألماني والشعب الإنجليزي — وهما حديثا عهدٍ بالنسبة لليونان والرومان — لهما مثيولوجياتهما يتلقنها الأطفال في المهد وفي البيت قبل المواظبة على المدرسة؛ فقد وضع الشقيقان الألمانيان جريمة وبعض كتاب الإنجليز في قصصهم أكوامًا مكدسة من الخرافات والأساطير للأطفال. وعاب بعض المؤلفين الإفرنج على العرب والمسلمين أنهم فقراء في المثيولوجيا؛ أي ينقصهم مجد الكذب على التاريخ! بل إن الأدب العربي لا يعرف المثيولوجيا؛ فالمستشرقون إذنْ مشبعون بالأساطير، فلا يتخيلون أن أمة تنبت في يومٍ وليلة كما نبتت الأمة الإسلامية من قلب جزيرة العرب فجأةً وارتجالًا، ولم يكن موضع للطعن في الإسلام بعد أن طعنوا على نبيه ووصفوه بالشعوذة والدجل والخداع (صنعوا كما صنعت قريش قبل إيمانها) فلما خجلوا أمام الحقائق الباهرة، طعنوا في نسبه وفي بناء الكعبة وفي شرف محتده وفي شرف قريش كلها وجاراهم بعض المصريين كما فعل مؤلف كتاب «في الشعر الجاهلي» في مواطن عدة من كتابه تلميحًا وتصريحًا؛ فطعونهم هينة فاترة لا تجدر بها العناية ولا تزعزع ثقة المسلمين بنبيهم، لم يكن محمد بحاجةٍ إلى علو الحسب والنسب، ولا كثرة المال.
ولم أتمهل عند هذه الخواطر الخاطئة من الجهة العلمية اكتراثًا بها بعد أن ثبت لي بالبحث خطؤها، إلا أن بعض الباحثين في مصر، وهم ممن ألمُّوا إلمامة صغيرة بما كتبه الإفرنج، ولا سيما عن التشكيك في تاريخ إبراهيم وبناء الكعبة، أخذوا منه صورة خادعة ووسيلة لتضليل الشبان والبسطاء؛ فزفوا إليهم تلك النظرية كفتحٍ جديد وكشفٍ حديث وصلوا إليه بدرسهم، في حين أنها وعشرات مثلها راقدة راكدة في بطون الكتب القديمة لم يُعْنَ بها أحد من أفذاذ الباحثين المحدثين؛ فإن شخصية إبراهيم تمثل الزعامة السامية، وترشدنا إلى لون الحياة في الصحراء التي خضعت لها القبائل الرُّحَّلُ، التي تعتمد في حياة الرعاة على الخصب والماء. ولا يوجد في الأرض ولا في السماء ما يعوق مثل هذا «الشيخ الوالد» أن يؤسس معبدًا أو أن يُرزق ولدًا من جارية أو محظية أو زوجة شرعية، فينزح بها إلى الحجاز فينمو الطفل ويترعرع كما نشأ وترعرع ألوف الأطفال في حضانة أمهاتهم فصاروا بعد الرشد أبطالًا، ثم يصاهر الابن النجيب قبيلة عربية فيُرزق منها نسلًا ينتهي بولدٍ اسمه محمد! ليس في هذه الهجرة ولا في هذا النزوح وذلك النزول بعين ماء أمر خارق للعادة أو مخالف للعقل مثل هاتيك الخوارق التي صحبت حياة موسى وعيسى — عليهما السلام. والعقل الذي يستسيغ ميلاد سيدنا عيسى ابن مريم — عليهما الصلاة والسلام — بغير علاقة جنسية، ويصدق أن بكرًا بتولًا مشهورة بالفضل والصلاح من أشرف البيوتات وأبعدها عن الدنس والرجس وأعف الوالدين وأطهرهم تلد غلامًا زكيًّا يصير نصفه إلهًا ونصفه الآخر إنسانًا ثم يُصلب فلا يموت بل يرفع إلى السماء؛ ذلك العقل الأوروبي الذي يمثله موير وسبرنجر وكايتاني (الكاثوليكي الروماني)، إن هذا العقل الأوروبي المسيحي يؤمن بهذه المعجزة كما نؤمن نحن بها ثم يجادل في حوادث تاريخية طبيعية ليس فيها خوارق للعادات يجعلنا نظن أن ما أورده بعض المؤرخين كان نتيجة حقدٍ وبغض دفين نشآ عن خلة الغلو المتركز في طبيعتهم، فأولدت التعصب الذميم باسم العلم والنقد، وكلاهما من هذا التعصب بريء، وإنما دفعهم إليه ما اشتُهر عنهم من المغالاة في دينهم ثم إلى الانتقاص من أديان سواهم، وما أبلغ نظم القرآن وأحكم أسلوب آياته في زجر أصحاب هذا الغلو؛ إذ يقول الله وهو أصدق القائلين: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ ۚ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ، وقال تعالى: مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ۖ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ (سورتا النساء والمائدة).
لقد دحضنا بكل قوتنا نظرية كايتاني وموير وسبرنجر الخاصة بنسب النبي ﷺ ونشير إلى إعجابنا بالمؤلَّفَين اللذين وضعهما روبرتسون سميث أستاذ العلوم العربية بجامعة كمبردج، وهما «القرابة والزواج في بلاد العرب الأقدمين» و«تاريخ ديانات الساميين» فعالج ما أورده في الكتابين بأقصى ما يمكن من الحذق والنصفة، ودلل على نظرياته بما ينطق بعلمه وفضله مُقصيًا التعصب الذميم، ومؤْثرًا الحق ما استطاع. تقوم نظرية روبرتسون سميث في كتابه «الزواج والقرابة في العرب القدماء» على مبدأ سيادة الأمومة، وهو ما يسميه العرب الكفالة. وتعدد الأزواج للمرأة العربية على التعاقب. وغن انتساب الأبناء إلى الآباء يرجع إلى زمنٍ قريب قبل النبي ﷺ بمائةٍ وخمسين عامًا وإلى وجود نظام «الطوطم» ونحن لا نعارض الرأي الأول بل نؤيده لما وجدناه من أدلةٍ تدعمه في التاريخ العربي والأدب العربي مما لا يقبل الشك. والرأي يدل على أن محمدًا ﷺ ظهر بعد انقضاء فترة عهد الأمومة والحضانة أو عصر سيادة المرأة، وأن عصره كان عصر إصلاحٍ جديد وتطور اجتماعي ذي شأنٍ خاص جعلا بلاد العرب تسبق الأمم الحديثة؛ فوضعت الأساس للنظم الجديدة التي تقدمت الحضارة العالمية، ومن صحة نظريات روبرتسون سميث إلى الطعن في نسب النبي ﷺ مسافة بعيدة قربها التعصب وبغض بعض الأوروبيين لكل ما هو عربي وإسلامي ومحمدي. ونحن نصارح كل قارئ بأننا من أنصار نظرية «الحضانة» في بلاد العرب في العصور الخالية السابقة على التاريخ الإسلامي، كما أثبتنا أثره في زواج سلمى بنت عامر من هاشم بن عبد مناف وهما والدا عبد المطلب جد النبي ﷺ، وهو نسب صحيح صريح لم يدخله اختلاط ولا عُرف فيه شوب.
ولكن هذا جزء غارق في ظلام التاريخ، بهذا تعترف التواريخ العربية لابن دريد والطبري وابن خلدون (ابن خلدون، ج٢، ص٢٩٨)، وتذكر تلك التواريخ أن بختنصر ملك بابل بعد أن جاء فلسطين لتشتيت شمل اليهود طاردهم في جزيرة العرب وبلغ مكة، فانبرى له عدنان على رأس بعض قبائل الحجاز وحاول وقف غارته، ولكن بختنصر فاز عليه وهزمه في موقعة «حضور» وأن عدنان قضى بعد عودة بختنصر إلى بابل، وقد يكون بين عدنان وبين محمد — عليه الصلاة والسلام — أربعون أو خمسون جيلًا بحسبان الجيل من ثلاثين إلى ثلاث وثلاثين سنة؛ أي عشرة قرون أو أحد عشر قرنًا، وإذنْ نشأت في الحجاز فكرة وطنية ضد المغير الأجنبي وتجسدت الفكرة في الجد الأعلى لمحمد جيشًا يقوده عدنان بأمل النصر وطرد العدو الأجنبي، فكانت عاقبته ما أمله الزعيم العربي من ارتداد المهاجم بغضًا في الصحراء وخوف الفناء على جيشه، ومثل هذا ما حدث لنابوليون في روسيا.
وكان لعدنان ولدان، هما معد وعك. ومعد كان لا شك شخصًا تاريخيًّا، وقد وُجد اسمه منقوشًا على قبر امرئ القيس بن عمرو. ونص هذه الوثيقة الحجرية بلهجة اليمن الجنوبية «تي نفش امرئ القيس بن عمرو ذو أسر التاج وهرب معد وكله … إلخ» وتفسيره باللغة العربية بلهجة قريش الشمالية: «هذا قبر امرئ القيس بن عمرو الذي أخد التاج وهزم معدًا ومن معه.»
وما زالت قصة اجتياح البابليين لجزيرة العرب بسبب مطاردتهم اليهود تتردد في صفحات أعلام المؤرخين العرب كالطبري وخميس وابن خلدون. وتبدأ الإرهاصات فيقول بعض هؤلاء المؤرخين إن الله أراد أن يحيط معدًا بعنايته لأنه كان وقت هزيمة والده عدنان في مستهل العقد الثاني من عمره فيرسل اثنين من أنبياء بني إسرائيل — أرميا وبرخيا — لينقلاه إلى حران في العراق ليكون بمأمن من أخطار الغارة، ثم يعيدانه محفوفًا بالعناية إلى مكة، وقد ذكر هذه القصة لفيف من قدماء المؤرخين ونقلها عنهم الإفرنج كنوعٍ من الأساطير العربية أو كلونٍ من القصص الذي تنضح به المعقولية الشرقية، ولا سيما في الأمور الدينية، وهي لا تخرج عن النص الآتي: «لما سلَّط الله بختنصر على العرب أمر الله — تعالى — أرمياء أن يحمل معه معد بن عدنان على البراق كي لا تصيبه النقمة.» وقال: «فإني سأُخرج من صلبه نبيًّا كريمًا أختم به الرسل.» ففعل أرمياء ذلك واحتمله معه إلى أرض الشام فنشأ مع بني إسرائيل ثم عاد بعد أن هدأت الفتن؛ أي بموت بختنصر.
وفي رأينا أن قصة الغارة البابلية لجزيرة العرب في عهد عدنان وإن تمكن من التاريخ الصحيح فإنها على الأقل تحدث في الوقت المذكور في كتب المؤرخين؛ أي في عهد عدنان؛ لأن بختنصر أغار على فلسطين في سنة ٦٠٦ قبل المسيح، وبين محمد ﷺ وعدنان عشرون جدًّا على حساب كايتاني ومن معه، فإذا قدرنا لكل جيل ثلاثًا وثلاثين كتقديرهم لنتج من ذلك ٦٦٠ سنة وهو عهد يقارب عهد رسالة المسيح؛ فكأن عدنان كان من أهل القرن المسيحي الأول، وبختنصر من أهل القرن السابع قبل المسيح؛ فبينهما ستمائة عامٍ على الأقل. وتفسير هذا التناقض العجيب هو أن قصة غارة بختنصر أو البابليين على الجزيرة العربية لها أثر تاريخي في ذهن رواة العرب لحوادث وقعت قبل ذلك بكثير؛ لأن ملوكًا كثيرين من بابل أغاروا على الجزيرة قبل بختنصر وبعده وأثناء الهجرات التي تماوجت جموعها بين الجزيرة والعراق على مدى أجيالٍ طويلة.
وليس في حياة نزار ومضر وإلياس ما يستحق الذكر سوى تعديل تسمية أولاد إلياس، وهم: مدركة وطابخة وقامعة، بقصة إبل كان يسوقها مدركة للمرعى فجفلت وذعرت لرؤية أرنب بري وهامت على وجهها فأدركها مدركة لشدة عدْوه وقوة ساقيه، وتمكَّن الولد الثاني من الأرنب فذبحه وطبخه، ولزم الثالث خيمته؛ فسُمي كلٌّ منهم باسمٍ يتفق والحال التي كان عليها؛ فمدركة للذي سبق، وطابخة للذي طهى، وقامعة للذي أقام! ونحن نروي هذه القصة تسليةً للقارئ ولنا وتصويرًا للحياة البدوية، أما النضر فهو رأس قبيلة قريش التي اختلف المؤرخون في تفسير معناها اللغوي، والأرجح أن بني النضر بن كنانة أحرزوا هذا اللقب لمشابهتهم «للقرش» أو لحبهم للقرش، وهو الحوت البحري الذي يلتهم كل شيء في البحر، وكذلك كانت قريش يلتهمون كل شيء في البر لقوة بأسهم وشدة سواعدهم واتساع مطامعهم وتغلبهم على جميع القبائل، إلى غير هذه من المعاني، ونجدها مسطورة في الطبري والقاموس وتاج العروس والأزرقي (طبع مكة جديد سنة ١٩٣٤ الجزء الأول) وابن خلدون وخميس … إلخ.
لم تكن مكة قبل قصي سوى معبد بدوي قائم في الصحراء؛ أي لم يكن في المكان الذي أُطلق عليه اسم مكة سوى الهيكل أو الكعبة أو بانتيون (مخدع) هاتيكم الآلهة الصخرية التي جلبها العرب من الشرق والغرب ليجلبوا إليهم الحجيج من كل حدب. ولا شك عند المؤرخين في تسلسل قصي من أصلاب عدنان المنحدر من نسل إسماعيل وإبراهيم (شرح سيرة ابن هشام بأمر غليوم الثاني طبع ألمانيا).