نشأة عبد المطلب جد النبي وحفظ تراث الأجداد
كان حفظ الأنساب وصون تراث الأجداد من حسنات العرب، وكان نسب محمد بن عبد الله
ﷺ أشرف الأنساب وأطهرها، وأسماها وأظهرها في قبيلة قريش؛ فهو محمد بن عبد الله
بن عبد المطلب، واسمه شيبة الحمد بن هاشم، واسمه «عمرو» بن عبد مناف بن قصي، وقيل إنه
مجمع قبيلة قريش في حظيرة ابن حكيم الملقب بكلاب، وينتهي هذا النسب الجليل الفاخر
بعدنان وإسماعيل. والذي نراه أن نقصر النسب التاريخي على بني عبد مناف، وهم عشيرته
الأقربون كما أفصح عن ذلك قولًا وفعلًا عندما نزلت عليه آية: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (سورة الشعراء)؛ لأن قصيًّا قد يدخل
في التاريخ التمجيدي ما دام قد نُسب إليه تجميع قبيلته في موطنها، في حين أننا قد نعتقد
أن جمع القبيلة والاستقرار بها في وادي مكة يرجع إلى زمن أبعد بكثير من عهد قصي إلى معد
بن عدنان. أما بعد ذلك فهي أسماء أعجمية منها ما يوافق العربي في الاشتقاق والتصريف
ومنها ما يخالفه، والنسابون يختلفون فيما فوق عدنان اختلافًا كثيرًا.
قال ابن هشام: «واسم عبد مناف المغيرة، ومناف اسم صنم أضيف لفظ عبد إليه كما يقولون:
عبد يغوث وعبد العزى.
وقصي اسمه مريد، ولؤي تصغير لأي وهو الثور الوحشي، والفهر الحجر على مقدار ملء الكف؛
يذكَّر ويؤنَّث، والنضر الذهب الأحمر، وإلياس مختلف فيه (ولعله ضد الرجاء) قال رؤبة بن
العجاج: «أمهتي خندف وإلياس أبي»، ومضر الأبيض من اللبن الماضر وهو الحامض، ونزار من
القلة، ومعد من تمعد إذا اشتد، تمعدد أي أبعد في الذهاب، وعدنان مأخوذ من عدن إذا أقام
ومنه جنات عدن أي جنات إقامة وخلود.»
١
وفي هذا النسب العالي مسألتان تلفتان النظر من ناحية البحوث الحديثة في علوم
الاجتماع؛ الأولى: اسم القبيلة نفسه وهو «قريش»؛ فقد علله كتاب العرب بخبر غريب، وهو
أن
فهرًا جد القبيلة مسمى قريشًا؛ لأنه كان مع غيره في سفينة ببحر فارس؛ إذ خرجت عليهم
دابة عظيمة يقال لها «قريش»
٢ فخافها أهل السفينة على أنفسهم فأخرج فهرًا سهمًا من كنانته ورماها به
فأثبتها، ثم قربت السفينة منها فأمسكها وقطع رأسها وحملها معه إلى مكة فسُمي باسمها
قريشًا.
ومن الظاهر الذي لا يحتاج إلى دليل أن هذا الخبر رواية يُقصد بها إلى وصف جد القبيلة
بالشجاعة في خوض غمار البحار ومحاربة الوحوش في البر والبحر والتغلب عليها، واتخاذ هذه
الدابة العظيمة شعارًا للقبيلة، الثانية أن والد قصي الذي قيل إنه جمع القبيلة في وادي
مكة
٣ كان اسمه «حكيم» ولُقب بكلاب، وفسَّره بعض كُتاب العرب بمعنى المجاهرة
بالعداوة والمناصبة ظنًّا منهم أن في اللقب نقيصة، والثابت من بحوث علماء المشرقيات أن
بعض الأفراد في القبائل الفطرية في سائر أنحاء العالم كانوا ينتسبون إلى الجماد والنبات
والطير والحيوان، للدلالة على اتحاد الدم والنسب فيما بينهم، وهو ما يسمى بمذهب «الطوطم»،
٤ ولا تزال بعض الأسماء عند الإفرنج مثل ليون وولف إلى يومنا هذا، ومعناهما
الأسد والذئب، فبنو كلب وبنو كلاب ونمير وبنو أسد وثعلبة وبنو ثور وجحش … إلخ، كلها
أسماء أشخاص وبطون من القبائل التي أثبتت وحدة نسبها باتخاذ اسم حيوان ارتضته عَلمًا
عليها (راجع ابن خلكان والمقريزي ولب اللباب)؛ فقد ذكر ابن خلكان ثلاث بطون تحمل اسم
ثور، وجاء في لب اللباب أن حمامة كان بطنًا من بني أزد كما كانت حدأة بطنًا من مراد
(ص٧٧) وقال بعض المستشرقين إن هذه القبائل كانت تعبد تلك الحيوانات وتقدسها. وقال
الزمخشري في تفسير قوله تعالى:
وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ
آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ
وَنَسْرًا (آية ٢٣ سورة نوح): إن بعض قبائل العرب عبدت يغوث في شكل أسد.
ونضيف إلى ذلك أن ودًّا كان يُعبد في صورة رجل، وسواعًا في صورة امرأة، ويعوق في صورة
حصان، ونَسْرًا في صورة الطير المعروف، وكانت عبادة تلك الأصنام في أشكالها المختلفة
شائعة في قبائل كلب وهمدان ومذحج ومراد وحمير، ومعظمها كما ترى يمانية في جنوب الجزيرة،
وعبدوا إساف ونائلة، وهما رجل وامرأة زعموا أنهما بُغتا متلبسين بجريرة الزنا حول
الكعبة.
وقد سمَّوْا أولادهم عبد يغوث وعبيد يغوث وعبد الأسد،
٥ وهما سيان ما دام الأسد كان يمثل يغوث، وكانوا يتسمَّوْن بأسماء الأشجار
(ابن دريد، ص٣٢٨) كذات أنواط التي عبدوها، وبأسماء الطيور كعقاب ونسر وغراب وصقر — ابن
قتيبة «أدب الكاتب».
ولم يُعرف الانتساب إلى أسماك البحر إلا في حالتين «قريش» و«عنبر» اسم قبيلة (الكامل،
للمبرد، ص٢٦٤)، وكره النبي أن يسمى رجل باسم حباب وهو اسم الحية أو الشيطان (الدميري،
ج١، ص٥٤) كما كان يكره اسم غراب ويغيره،
٦ ولعله كان معبودًا في بعض القبائل، وإذنْ تكون قبيلة قريش قد اتخذت لنفسها
اسمَ وحشٍ بحريٍّ كما أن في بنيها من انتحلوا أسماء النبات والطير والحيوان للدلالة على
وحدة الدم بين أفراد الجماعة التي اتخذت أحد هذه المدلولات شعارًا، وبقيت هذه العادة
بعد الإسلام ولم تَزُلْ زوالًا تامًّا، بل تخلف منها ما لا يشير إلى عبادة الحيوان أو
الطير أو تقديسه، وما زالت في أنحاء العالم أثرًا تاريخيًّا لطور اجتماعي مرت به
القبائل الفطرية التي انتقلت إلى المدنية فصارت أُممًا متحضرة وشعوبًا ذات معتقدات
منزَّلة ومدنيات دينية.