نشأة عبد المطلب وزواجه وحفر زمزم
لم يتذوق عبد المطلب — الذي نشأ يتيمًا — عطف الوالد، ولم تتفرغ أمه لتغذيته بحنوها بحكم النظم الاجتماعية وأحكام الأسرة التي ذكرناها؛ فكان في أشد الحاجة إلى العطف والحب، ولم تكن امرأة عمه المطلب قد أولته كل ما يحتاج إليه الطفل من حنان الأم وشفقتها وحلاوة العشرة والمودة، فلما وُفق لسمراء وبنى بها حظي منها بما كان يشتهي من رقة الجانب ولين العريكة إلى جمال الأنوثة البدوية الطاهرة؛ فوجد فيها عِشرةً وعنايةً ووُدًّا، فسكن إليها لينعم بالمودة والرحمة اللتين جعلهما القرآن الكريم بعد ذلك خلتين كريمتين من خلال الزواج، يلجأ إليهما فيلقى الأمن والاطمئنان والنعمة والراحة، وكان يرتوي من حديثها وحبها كما ينقع العطشان ظمأه من عين ماء صافية عذبة فيُطفئ غلته ويثلج صدره، وأراد الله أن تُرزق هذه الأسرة السعيدة بولد مبارك هو الحارث، ففرحا به لأنه وُلد ذكرًا فلن يُوءَد، كما تُوءَد البنات، ولن تحرم عليها عشرته وحبه في نهاية العقد الأول من عمره، وإن هي زينته وألبسته أجمل الحلل فلن تكون تلك الزينة ليتلقاها قبر يلقى فيه حتفه حيًّا بعد أن يحفر بمرأًى منه ومسمع كسُنة الجاهلية! وفرح به عبد المطلب؛ لأن الولد الذكر ينفع أهله في البادية والحضر، ويشد أزرهم ويذود عنهم، ويعمل في سبيلهم ويربح المال فيغدقه عليهم ويجلب الخير إليهم، ويحفظ ذكراهم ويتحدث عن مآثرهم ومفاخرهم، ويصل حبلهم بالأجيال المقبلة ببيت يؤسسه ودارٍ يبتنيها وبئر يحفرها وشجرة يزرعها وإبل يضحي بها في المناسك والأعياد وتجارة يروح بها ويغدو وأولاد يُرزقهم وينبتهم نباتًا حسنًا، يتمون سيرته، وينشرون ذكره؛ حيًّا وميتًا.
كان عبد المطلب على نصيب من مكارم الأخلاق، يكره القتل ولو كان واقعًا على غريب، حتى إنه ترك منادمة صديقه حرب بن أمية — وكان لا يصبر على فراقه — لأنه قتل يهوديًّا. ولكنه لم يتركه حتى أخذ منه مائة ناقة، دفعها دية لابن عم اليهودي حفظًا لجواره، فجعل من نفسه وليًّا لدم القتيل حتى أصاب التعويض المدني من أعز أصدقائه فنصَّب نفسه خادمًا عامًّا، وكان يكره الزنا ويحرمه ويبغض الخمر ويحرمها، ولعله من استقامة خلقه لا إرهاصًا. وقيل إنه رفض في آخر أيامه عبادة الأصنام وكان هذا شأن بعض حكماء العرب وعقلائهم، ولا يخفى أن عبد المطلب مات وحفيده الأعظم محمد بن عبد الله في كفالته وعمره ثماني سنين، فلا شك في أنه مات على دين آبائه كما مات ولده أبو طالب وابنه عبد الله وكَنَّتُه آمنة، وفي حقهم نزلت الآية الكريمة: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَىٰ (سورة التوبة)؛ ردًّا على استئذان النبي.
وكان أول من خضب شعره من العرب، واقتدى به حفيده، ولكنه ﷺ كان يخضب بالحناء لا بالسواد.
ويظهر أن أبا الحارث (كنية عبد المطلب) كان يحب الطيب والتجمل، وقد أورثهما حفيده الأعظم؛ ففي القصص عن شبابه أنه نام ليلة في الحجر وانتبه مكحولًا مدهونًا قد كسي حلة البهاء والجمال، تفوح منه رائحة المسك الأذفر، وأن السماء أذنت له بالزواج، وكان يتقرب به في الاستسقاء فيستجاب! كل ذلك تشريفًا له؛ لأنه يحمل في صلبه نور النبي ﷺ وقد يعلل هذا بأنه إرهاص، ونحن نعتقد أن المعجز لا يتقدم على الدعوة بل يكون مقارنًا لها، ولكن هذه الحسنات الظاهرة أضيفت بعدُ ونسبت إلى الجد وإن لم يضف منها لعبد الله نفسه وهو الوالد، أو لأبي طالب وهو العم الحاضن؛ وفضلهما في ميلاد النبي وكفالته لا يقل عن فضل جده عبد المطلب.
يزعم بعض كتاب السير والناقلون عنهم نقلًا أعمى ممن حشدوا الغث إلى السمين، وجمعوا الروايات بغير تمحيص، أن عبد المطلب كان يرى الأشباح والأخيلة فتتمثل له الأصوات بمطالب ورغبات، وإن خفت وطأة الهاتف تواترت عليه الرؤى في ظلام الليل وهو في غيابة النوم، حتى كان يفزع إلى امرأته فيروي لها بعض ما رأت عين خياله فتشير إليه بتقديم القرابين للأوثان! فيأتيه صوت يقول له: «احفر طيبة! احفر زمزم!» فيقول: وما زمزم؟ فيعود الصوت قائلًا له على أسلوب الكهان: «لا تنزح ولا تذم، تسقي الحجيج الأعظم، وهي بين الفرث والدم، عند نقرة الغراب الأعصم.» ويقصد من ذلك إلى أن الأمر بحفر بئر زمزم جاء إلى عبد المطلب بالإلهام، وهذا في نظرنا اصطناع منكر؛ لأن السقاية كانت من الوظائف التي انتهت إليه بحكم مركزه الاجتماعي بعد عمه المطلب ووالده هاشم وجده عبد مناف، ولا بد أن دعته فطنته دون سواها إلى حفر البئر، وهي بئر تاريخية حفرها إبراهيم وإسماعيل وأوحى إليه شعوره وإقدامه هذا العمل النافع؛ فالحاجة تفتق الحيلة، وقد ظن أن إعادة حفر البئر في حضن الكعبة تسهل نقل الماء للحجيج، وكان موضع البئر حتمًا معلومًا، ولعل وصف المكان متوارث في العشيرة، فأعاد عبد المطلب حفرها.
فلما حُفرت وُجِدَتْ بِقَاعِهَا تحفٌ مطمورة، منها سيوف وحلي من ذهب ودروع وأدوات حرب، ولكن من كانت لهم السقاية قبل عبد المطلب لم يفكروا فيها، أما الذي غمر الكنز في بئر زمزم وطمرها فهو عمرو بن الحارث الجرهمي لما أحدث قومه بالكعبة الحوادث وقيض لهم من أخرجهم من مكة، فعمد عمرو هذا إلى النفائس فجعلها في زمزم وبالغ في طمِّها ليكشف عنها بعد ذلك، وفرَّ إلى اليمن بقومه فلم تزل زمزم من ذلك العهد مجهولة إلى أن رُفعت عنها الحُجب وشرع عبد المطلب في حفرها للمصلحة العامة لا بأمر الهاتف.
وكان عبد المطلب قليلًا بنفسه، وما لديه من يعينه على حفر البئر سوى ولده الحارث، وهو غلام في عنفوان الفتوة لا يتحمل أعباء الحفر بالفأس والجرف بالمسحاة والنقل بالمكتل في وهج الشمس في ساحة المسجد، ولكن الوالد والولد تحملا هذه المشقة أيامًا طوالًا إلى أن عثرا على الذهب والسلاح، فلما شاع الأمر أقبلت قريش وقالوا: «هذا كنز! هذه غنيمة! وإنما هي لقريش لأنها وُجدت مدفونة في مسجدنا، وكل ما وُجد في الحرم فهو لقريش.» شنشنة نعرفها من أخزم وغريزة في السلب والنهب والسطو على كل مال ونشب، واشتدت الخصومة بين هشام بن مغيرة وحرب بن أمية ورفع عبد المطلب صوته بأن الكنز للأرباب؛ فرفعوا أمرهم لسادن الكعبة، فاستقسموا بالأزلام ثلاثًا فخرج القداح للكعبة ثلاثًا؛ فعلقت الصفائح والأسياف على الكعبة، ولكن كان بين العرب شُطَّار وملحدون ممن يهزءون بالأصنام في سبيل الذهب كما يوجد الآن ألوفٌ ممن يسرقون ذخائر الكنائس وأعلاق المعابد وتماثيل الآلهة وصناديق النذور في المساجد! فتآمرت تلك العصابة من لصوص الظلام وانتهزت فرصة الليل والناس نيام فجردت الكعبة مما علق عليها من ذهب وأسياف ودروع وصفائح وكذبت الأزلام وأربابها؛ لأن الذهب والسلاح كانا من نصيب اللصوص لا من نصيب الكعبة ولا من نصيب قريش.
ولكن العثور على الذهب وفقده، وخلو يد عبد المطلب وابنه من المسجد والنضار والدروع والأسياف والغزالة الذهبية الدقيقة الصنع التي كانت مطمورة في بئر زمزم أو طوى إسماعيل لم تقلل من همة عبد المطلب ولم تفت في عضده؛ لأنه لم يكن يبحث عن ذهب وسلاح، ولكن عما هو أغلى من الذهب في نظر كل عربي يسكن ذلك الوادي الجاف المجدب، ألا وهو الماء، لأجل هذه الغاية السامية نُسب إلى عبد المطلب أنه قال:
وإن يكن هذا الشعر منسوبًا إلى عبد المطلب إلا أن عليه مسحة المناسك في تركيبه وألفاظه «كالتلبية والسعي» و«ثبت اليقين» و«صادق الإيمان»، ولكنه يصور نفسية عبد المطلب؛ إذ كان يحفر البئر، وقد أشرك بِكْرَهُ الوحيد في عنائه وتعبه، وقد وصف الولد بأنه «جذلان، لا يحفل بما يعاني» وفي الحق أنها مبالغة؛ لأن الولد لم يكن على صغر سنه ليشعر بما يشعر به أبوه من الدوافع ولا يُحس إلا ألم التعب والجوع والعمل المستمر في وهج الشمس وشدة حرها، وهو قيظ يذيب مخ الضب ويفتت الحجر الصلد، ولم يكن كل الجهد الذي صُرف في العثور على الذهب إلا مضيعًا بعد السرقة.
وكان عبد المطلب بمعزل عن هذه المعركة التي نشبت بين اللصوص والأوثان، كما كان لا يحفل بما يعاني في سبيل غايته، وما زال كذلك بعد سرقة الكنز وضيعته وحرمانه الثروة التي عثر عليها حتى وجد الماء بفضل جهده وجهد ولده. وقد أحس عبد المطلب ضعفه وقلة أهله وإن تظاهر بنو عبد المطلب بمعونته وشد أزره في بعض المواطن، وقد حاولت قريش أن تضع يدها على البئر كما حاولت وضع يدها على الكنز فأبى عبد المطلب، واحتج وأقسم لئن منحته الأرباب من الولد عشرةً ذكورًا يشدون أزره ويغنونه عن الناس ليضحين بواحد منهم، أما هذا الماء الذي لقي في سبيله ما لقي فلن يكون لأحد غير الحجيج يستقون منه حتى يتفرقوا، ومن تلك اللحظة تحركت في نفس عبد المطلب رغبة جديدة، هي الإكثار من النسل، ولم تكن سمراء العامرية عاقرًا، ولكنها كانت ضنينة فلم تلد له إلا الحارث الذي أعانه على إحراز المجد في إسالة ماء زمزم. ولكن عبد المطلب أصبح وهو يريد مجدًا أعظم ويبغي فخرًا أكبر وقد رأى بعينه تكاثر الأسرة بالأسباط والأولاد والأحفاد، فسعى إلى عمر بن عائذ المخزومي فخطب إليه ابنته فاطمة فبنى بها ورزقه الله منها ما شاء من الأولاد، ومنهم عبد الله أبو محمد رسول الله ﷺ فكبرت أسرة عبد المطلب منذ صار له من الأولاد الحارث والزبير وحجل وضرار والمقوم وأبو لهب والعباس وحمزة وأبو طالب وعبد الله، ومن البنات صفية وبرة وعاتكة وأم حكيم وأحيحة وأروى، وكانوا جميعًا أقوياء البنية طوال القامة كأبيهم، وروى الجاحظ في إحدى رسائله (في تفضيل السود على البيض) أنهم كانوا جميعًا سمر الوجوه.