هجوم أهل اليمن والحبشة على الكعبة عام الفيل
عندما التفت أهل اليمن والجنوب إلى مكة، بدءوا بالارتحال والهجرة إليها، وفكر بعضهم في الاستيلاء عليها جلبًا لمنافع الكعبة التي يؤمها العرب من كل فج، واختلفت خطط التبابعة؛ فبعضهم يقصد إلى هدم الكعبة فتصده القبائل المحيطة بالحرم — خزاعة أو قريش — ويدنو بعضهم من الكعبة فيعظمها؛ ليستولي عليها بالحيلة.
ونقل قوم من هذيل من بني لحيان إلى تبع أن بمكة بيتًا تعظمه العرب جميعًا وتفد إليه، وتنحر عنده وتحجه وتعتمره، وأن قريشًا تليه؛ فقد حازت شرفه وذكره وأنت أولى «أن يكون ذلك البيت وشرفه وذكره لك، فلو سرت إليه وخربته وبنيت عندك بيتًا ثم صرفت الحاج إليه كنت أحق به منهم.»
وسواء أكان الجاسوس الهذلي اللحياني رسم هذه الخطة لعداوة بين قومه وبين أهل مكة، أم جلبًا للمنفعة على يد تبع، أم كانت صياغة القصاصين والرواة، فإنها تثبت أن سيادة قريش على مكة والكعبة وإثراء المقيمين بجوار الحرم قد أثارت غيرة العرب وحدهم حتى حدثتهم أنفسهم بالقضاء على البيت العتيق، وقنعوا باستحالة مزاحمته وهو قائم؛ ففكروا في هدمه وبناء بيت في الجنوب يحلُّ محله، ويسلب قداسته، وهو القليس (كاتدرائية).
فحاول تبع الهدم فلم يتمكن، وتأثر بقدسية البيت العتيق فكساه ونحر عنده. والمؤرخون يعللون الانقلاب بظهور عواصف وهبوب رياح على المعسكر التبعي فتشاءم الرجل وخشي العاقبة، وقد تكون هذه العاصفة مصادفة ولكنها كفت المكيين المشركين القتال، ولعل هذا التبع عجز عن الحرب لبعد جيشه عن عاصمة ملكه، فحاول أن يتودد إلى أهل البيت بالحيلة والإحسان فكسا البيت، وجعل له بابًا يغلق بضبة فارسية، ولما لم ينل من الحملة غايته صب جام غضبه على جواسيسه الهذليين فقتلهم، وعاد أدراجه إلى اليمن، وكان هذه هي المحاولة الأخيرة قبل واقعة الفيل.
أما بطل حملة الفيل فأبرهة الأشرم، وكان قزمًا مشوهًا، حازم الرأس واسع الحيلة، وقد اغتال أحد أقيال الحبشة أرياط، فتوعده النجاشي وأقسم أن يطأ أرض اليمن ويجز رأس أبرهة، فلما خشي الهلاك من النجاشي أرسل أبرهة إليه تراب اليمن ليدوس عليه وشعر رأسه ليتخيل أنه جزه، وكتب إليه: «أيها الملك إنما كان أرياط عبدك وأنا عبدك اختلفنا في أمرك وكلنا طاعته لك، إلا أني كنت أقوى على أمر الحبشة منه وأضبط وأسوس، وقد حلقت رأسي كله حين بلغني قسم الملك، وبعثت به إليه مع جراب من تراب أرضي ليضعه تحت قدميه فيبر بذلك قسمه.» فرضي النجاشي عنه وكتب إليه: «اثبت بأرض اليمن حتى يأتيك أمري.»
فقد أظهر «الخازانو» — وهو أحد الحكام في البلاد التي كانت خاضعة للإمبراطورية المصرية — عبوديته في ألفاظ ومعانٍ ليست مألوفة لأبناء العصور الحديثة؛ فقال وإن كان بأسلوب الرسالة الأشرمية: «أنا خازانو مدينة … خادمك وتراب قدميك والأرض التي تدوسها وخشب المقعد الذي تجلس عليه وكرسي قدميك وحافر جيادك، إنني أتمرغ سبع مرات بطنًا لظهر في تراب قدمَي الملك مولاي وشمس السماء.»
وهذا الخازانو من الجنس السامي، وملك مصر في عهد الأسرة الثامنة عشرة من الجنس السامي، وأبرهة الأشرم والنجاشي كلاهما من الجنس السامي، وهذا الأسلوب من التذلل المنطوي على الحيلة والمطمع في رِضَى الملوك والسادة لا يصدر إلا من أمثال هؤلاء العبيد، وقد يكون أحدهم أقوى من الأسد وأخبث من الثعلب!
كانت الكعبة مقدسة عند العرب كافة، فدعا رجل يقال له ذو نفر سائرَ العرب إلى حرب أبرهة ومجاهدته عن البيت الحرام؛ لأنه في خطر يوجب الاستنفار العام، فهزمه أبرهة. ولما بلغ أبرهة أرض خثعم عرض له نفيل بن حبيب الخثعمي في جيش من قبائل خثعم شهران وناهس وغيرهما، فهزمهم أبرهة وأسر زعيمهم ثم أعفاه وخلى سبيله، ولما دنا جيش أبرهة من الطائف خرج إليه مسعود بن معتب في رجال من ثقيف فلم يحاربوه وقدموا له فرائض الطاعة وقالوا له: «أيها الملك، نحن عبيدك سامعون لك مطيعون.»
فعسكر أبرهة بالمغمس على مسيرة ثلاثة أيام من مكة، وبعث برجل من الحبشة يقال له الأسود بن مقصود مستطلعًا في كوكبة من الفرسان، فساق إليه أموال أهل تهامة من قريش وغيرهم، فأصاب الحبشي فيما غنم مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم.
وكان أهل مكة كأهل الطايف لا يقدرون على القتال بعد أن ألفوا الراحة وتعودوا الربح بالتجارة، فأحبوا السلم حتى ولو هوجموا في عقر دارهم، وتدل رخاوتهم على حالهم قبل الإسلام بأربعين عامًا، ثم ما صاروا إليه من الشجاعة والإقدام والرغبة في القتال والغزو بعد ظهور الإسلام بعشرين عامًا، ويدحض قول من قال إن قريشًا كانت على أتم استعداد للمجد والسؤدد، فجاء الإسلام متوِّجًا ومتممًا.
فإن قريشًا وخزاعة وكنانة وهذيلًا هموا بقتال أبرهة (كذا هموا!) ثم عرفوا أنه لا طاقة لهم به فتركوا ذلك … أما أعراب الصحراء الذين استنفرهم ذو نفر وقبائل خثعم شهران وناهس، فقد حاربوا أبرهة حتى هُزموا، ولكن أهل الحرم نفسه وأهل مكة وهم أحق الناس بالذود عن البيت العتيق رضوا بالقعود فكانوا «دعاة التردد والهزيمة» وإن جمَّلْنا خنوع الطائف على منافسة مكة لينفردوا بالتجارة والنقل والحاج، فبم نعلل خضوع أهل مكة وهم أصحاب الشأن وحراس البيت العتيق الذي يراد هدمه؟!
وصلت مكة والطائف وغيرهما من المدن العربية إلى الحضيض الخلقي بسبب الترف والدعة وخنوثة ساداتهم وحب الحياة وخشية الموت والمخاطرة في القتال فليصنع أبرهة ما يشاء، دأب كل جماعة شاخت في الترف وتراخت أوصالها فتمسي طعامًا سائغًا للقوي الجائع. وقد جعل المؤرخون عبد المطلب لسان حال الجماعة المكية في الكارثة.