موقعة الفيل الشهيرة
ولكن السبب الظاهر لمخالفة الفيل أمر سائسه هو وجود نفيل بن حبيب الخثعمي الذي كان أسيرًا في جيش أبرهة، فعله كان عارفًا بترويض الفيلة، أو تلقن من السائس ألفاظًا مصطلحًا عليها يطيعها الفيل، أو أنه دربه أثناء أسره على طاعة أمره؛ فقد رأينا ذا نفر — الأسير الآخر الذي خالطه عبد المطلب — صديقًا لأنيس سائس الفيل، فلا يبعد أن يكون نفيل الخثعمي قد صادقه لعلة؛ وهي الاستيلاء على إرادة الفيل لبلوغ الأرب المشترك؛ وهو صد هجومه عن الكعبة.
ولما رد الله عن مكة الحبشة وأصابهم ما أصابهم من النقمة، أعظمت العرب قريشًا وقالوا: «الله قاتل عنهم وكفاهم مؤنة عدوهم.» فجعلوا يقولون في ذلك الأشعار قبل نزول السورة الكريمة بأربعين عامًا؛ إذنْ جاءت هذه السورة لتأييد التاريخ وإظهار محبة الله للبيت الحرام حتى قبل البعثة المحمدية، وما زال البيت في أيدي الوثنيين، وكان مثابة للأصنام؛ لأنه رُفع بأمر الله لإحياء كلمة التوحيد، بناه إبراهيم وإسماعيل، وعما قريب يعيدها محمد، ولا يعقل أن الله أهلك جيش أبرهة وأظهر معجزة الفيل على يد نفيل بن حبيب الخثعمي غيرةً على الكعبة التي كانت مخدعًا لهبل وإساف ونائلة! ولكنها كانت في أول أمرها معبدًا لتوحيده بناها نبيان بأمره وسوف تكون بعد أربعين عامًا كعبة المسلمين وقبلتهم، وإذنْ لا بد من إنقاذها وصيانتها والدفاع عنها ولو هلك جيش أبرهة القوي المسيحي على دين عيسى بن مريم وهو دين منزَّل وله كتابه المقدس، وهو بالطبع مفضل على عبادة الأوثان.
كان أبرهة يحارب الوثنية، يريد هدم معبد الأصنام لأن المسيحية خير من الوثنية، فعسى أن يكون سعيه مقبولًا عند الله؛ لأن الأعراب أهملوا ملة إبراهيم وانتحلوا دين عمرو بن لحي الذي جلب لهم الأصنام، ولكن خطة أبرهة فشلت وجيشه تبدد وفيله عصى سائسه وقائده، مع أنهما ضربا رأسه بالطبرزين وأدخلا المحاجن في مراقه، فبزغوه لأن الله أمهل البيت الحرام وحماه ولم يعن عدوًّا على هدمه، ولو كان البيت مخدعًا للأصنام، حتى يظهر الرجل الذي يحطمها ويبطل عبادتها ويبقي على الكعبة ويتخذها قبلة لألوف ممن يتبعون دينه. وكان محمد ﷺ يوشك إذ ذاك أن يولد؛ فقد وُلد في عام الفيل كما هو معروف ومشهور، وهو سنة ٥٧٠ مسيحية، فنشأ وهو يسمع حديث الفيل: كان أبرهة وزير النجاشي على اليمن ومندوبه السامي، فأحب أن يحوِّل العرب عن مكة إلى صنعاء ليعبدوا إله النصارى بدلًا من الأوثان، فبنى في صنعاء تلك الكاتدرائية العظمى (القليس) وظن أنه يحول التجارة عن مكة إلى صنعاء بتحويل العبادة من الكعبة إلى القليس التي أنفق على بنائها الملايين.
وكان مولد محمد ﷺ في هذا العام نفسه، وهو عام الفيل، وتاريخه ٥٧٠م، فحملة الفيل هي «حرب السبعين» في جزيرة العرب التي باء فيها الأحباش واليمنيون بالخسران. وكان عام النهضة بمولد نبي المستقبل، وفوجئ عبد المطلب في هذا العام بكوارثَ عدة؛ منها: موت ولده عبد الله، وهجوم الأحباش على وطنه، وانزعاجه بضياع إبله التي كافح لدى أبرهة في استردادها حتى أعادها إلى قوافل الميرة. وإنك لتُحس في سورة الفيل بروح الوعيد لأعداء نبي المستقبل.
فإن الله حمى الكعبة لا حبًّا في الأصنام، وقد كانت النصرانية التي يمثلها أبرهة، والكاتدرائية التي بناها أبرهة ليعبد فيها، أحب إلى الله من هبل وشركائه؛ لأن دين المسيح دين منزل ولم يكن مضى عليه أكثر من خمسة قرون، ولم يرسل الله نبيًّا بين عيسى ومحمد؛ فما زال دين عيسى قائمًا حتى يظهر التوحيد على يد محمد، وليظهر شدة غضبه على أعداء النبي من قريش التي اختار أن يصطفي من بينها خاتم أنبيائه، وإذنْ فهذه السورة تتوعد قريشًا وتمتن عليهم وتنذرهم بالويل والثبور؛ لأن الله لم يصبر على أبرهة الذي أراد السوء بالكعبة؛ وهي بيت من حجارة؛ فكيف يصبر على قريش يكيدون لمحمد وهو نبيه ورسوله؟! فهذه السورة للإنذار والوعيد والعبرة لا للتاريخ والوصف. وفي قوة نظمها وإيجازها دليل على ذلك.
وقد هلك جيش أبرهة لما وقع من الارتباك في صفوفه، ثم انتشار الجدري والحصبة والحميات بسبب المستنقعات والعفونة والقمامات المتراكمة لاجتماع الجنود في أماكن تعوزها وسائل العناية الصحية، وفي مجمع الأمثال للميداني «تبدد بلحمك الطير»، وفي الشعر العربي للنابغة الذبياني في وصف ممدوحه:
وقول أبي الطيب في وصف جنود سيف الدولة:
ولم تكن تلك الحادثة الأولى من نوعها في حماية أحد بيوت العبادة؛ فقد دفع إله اليهود ياهوفا عن معبدهم في أورشليم جيشًا عرمرمًا قوامه ١٨٥ ألفًا، كان يقوده سناخرب الذي ولد عام ٧٠٥ق.م وهلك سنة ٦٨١ق.م، وهو ملك آشور وأحد أعداء اليهود الألداء (انظر صفحات ٥٠٤–٥٠٩ من كتاب تاريخ أمم الشرق القديمة لجاستون ماسبرو طبع فرنسا).
وفي سفر الملوك الثاني من التوراة (إصحاح ١٩: نبذة ٣٣–٣٥): لذلك هكذا قال الرب عن ملك آشور: لا يدخل هذه المدينة (أورشليم) ولا يرمي هناك سهمًا، ولا يتقدم عليها بترس، ولا يقيم عليها مترسه، في الطريق الذي جاء فيه يرجع، وإلى هذه المدينة لا يدخل! يقول الرب: وأحامي عن هذه المدينة؛ لأخلصها من أجل نفسي ومن أجل داود عبدي.
وكان في تلك الليلة أن ملاك الرب خرج وضرب من جيش آشور مائة ألف وخمسة وثمانين ألفًا، ولما بكروا صباحًا إذا هم جميعًا جثث ميتة، فانصرف سنخريب ملك آشور وذهب راجعًا وأقام في نينوى، وفيما هو ساجد في بيت نسروخ إلهه ضربه أدرملك وشر آصر ابناه بالسيف ونجوا إلى أرض أراراط وملك آسر حدون ابنه عوضًا عنه.
ويحب المؤرخون أن يُظهروا عبد المطلب بمظهر الرياسة على الوفود التي تقصد إلى اليمن بعد هزيمة أبرهة لتهنئة سيف بن ذي يزن، ومنهم أمية بن عبد شمس (وهو لم يظهر في وفد قريش لأبرهة بأبواب مكة) وخويلد بن أسد وغيرهما من وجوه قريش، فلما دخلوا على سيف وهو غارق في مظاهر الترف والرفاه والأبهة لم يكن عبد المطلب معروفًا عنده ولم يقدمه بين يديه أحد، فقال له: «إن كنت ممن يتكلم بين أيدي الملوك فقد أذنا لك.» فتكلم بخطبة طويلة، ورد عليه الملك سيف بخطبة مثلها.
هذان مظهران من مظاهر عبد المطلب في الحياة العامة بعد حفره بئر زمزم وشروعه في ذبح ولده عبد الله وفاءً بنذره، وإقامته الحق في المطالبة بدم جاره اليهودي.
ولحكمة ظاهرة دافع الله عن هيكله في بيت المقدس ورد سنخريب ملك آشور الوثني على أعقابه بعد أن أهلك مائتي ألف جندي بضربة ملك من السماء في سواد ليلة، ولحكمة أخرى أهلك جيش أبرهة — وهو مسيحي — ليحمي بيتًا آخر تعبد فيه الأوثان منذ دهور وكانت فيه كلمة التوحيد، وعما قليل تعود إليه على لسان نبي جديد هو محمد بن عبد الله من آمنة بنت وهب!