الطفولة
نشأ محمد يتيمًا من والديه؛ مات أبوه عبد الله وهو حمل مستكن، وقضت أمه بعد ميلاده ببضع سنين؛ فهل كانت طفولته مرحة، يشعر خلالها بسعادة الأطفال الذين يترعرعون في حجور والديهم ويدرجون ناعمين بعنايتهم وتدليلهم ورعايتهم، وهي لعمرك أثمن وأغلى وأحلى ما يستمتع به الطفل في نشأته الأولى؟
فتح محمد عينيه فلم يجد والدًا يداعبه، ولم يشعر — على الرغم من حنان الجد وحبه — بيد الأب الرءوف يحمله بين يديه، ويتلقى ابتسامته الأولى فيناغيه ويناجيه، وهو ولده من صلبه، من لحمه، ومن دمه، فيرى فيه صورته، ويتبين ملامحه في مرآة نفسه، موقنًا أنه يرى بعينه شخصية غضة بريئة تمتد بها شخصيته ويعيش فيها عمرًا ثانيًا. لم يكن للأعراب علم بالتصوير رغم وجود بعض التصاوير بالكعبة، فيرى الطفل — وقد صار فتًى — صورة أبيه الذي قضى في ريعان الشباب دون أن يراه، فتصير صورة الوالد على مر الزمن طيفًا مبهمًا في ذهن الصبي، فيعلم أنه كان له أب وإن لم يره، وإن حاول تخيله فقد لا يجد في عالم الحقيقة ما يعين الخيال على تخطيط تلك الصورة السابحة في عالم الأبدية إلا هيئة الشيخ الكريم الكفيف المشرف على أبواب الفناء، أو أحد الأعمام وقد يشبه من قرب أو من بعد ذلك الحبيب الذي لم يمهله الموت حتى يرى فلذة كبده. ولعل عمه أبا طالب — وقد بادر لحضانة ابن أخيه بعد وفاة جده، وكان واحدًا من ستة عشر ولدًا وبنتًا — أقرب الناس إلى عبد الله شبهًا؛ لأنه شقيقه، فانكبَّ على الطفل يرعاه ويكفله، ويحميه ويذود عنه، ويخاطر بحياته وراحته وماله (وإن كان قليلًا)، ليكمل تربيته، فيصطحبه في حله وترحاله، ويحرص على إسعاده بأكثرَ مما يحرص على إسعاد أولاده.
بل تراه يغرس حب الطفل محمد في قلوبهم حتى يشبوا، وعلى رأسهم عليٌّ، على مناصرته فيتخذه محمد ابنًا وأخًا ووليًّا ويجعل منه خطيب دعوته، وبطل عقيدته، وقائد حركته الناشئة، ويخاطر عليٌّ بحياته ليكون فداءه في بيته وفراشه، ثم يصبح عليٌّ في مقدمة المهاجرين والمستبسلين في الدفاع عن بيضة الإسلام في مكة والمدينة والمشاهد كلها، وما يزال رافعًا العلم الذي حمله من الساعة الأولى عاملًا بعلمه وقلبه ولسانه وسيفه إلى أن يقع مخضبًا بدماء الغدر والخيانة، وهو رابع الخلفاء — رضي الله عنه.
أما عن آمنة أم الطفل محمد ﷺ فقد كانت فتاة جميلة ومن أشرف العرائس حسبًا، ولم تكن فتاة أقل منها قدرًا أو جمالًا لتطمع أن تكون لعبد الله عروسًا، ويريد الرواة أن يدخلوا في روع الأجيال أن عشرات من خيرة بنات مكة حسنًا ومنبتًا قتلن أنفسهن ليلة الزفاف غيظًا وحسدًا؛ لأن واحدة منهن غير آمنة لم يسعدها الحظ بعبد الله بن عبد المطلب عرسًا! أهي حقيقة تاريخية، أم قصة ظريفة؟! لا ريب أن عبد الله كان جميلًا محبوبًا، كما كانت آمنة حسناء طاهرة.
كان عبد الله أصغر بني أبيه، وكان أحسن فتًى في قومه، وما بلغنا من وصف النبي وجده وأعمامه يقرب إلى أذهاننا صورة والده؛ لأن قوانين الوراثة لا تشذ ولا سيما في البيئة البدوية، وقد يكون أصغر الأولاد وآخر النسل أكثرهم جمالًا وذكاءً وفطنةً، وأغلب الرأي أن عبد الله كان آخر ولد عبد المطلب — كما قدمنا.
وما انفك الرواة مؤيدين ما زعموا من أن عبد الله بعد أن دخل بعروسه خرج من عندها فأتى المرأة التي عرضت عليه، وقد زعموا أنهما اثنتان لا واحدة، ولم يذكروا من هي أو من هما، فأعرضت عنه، فسألها: ما لك لا تعرضين عليَّ اليوم ما عرضتِ عليَّ بالأمس؟! فأنكرته وسألته: من أنت؟! فأجابها في خجل وتعجب وهو لا يصدق عينيه وأذنيه: أنا عبد الله بن عبد المطلب، مَن رغبتِ فيه أمس!
– ما أنت هو! لقد رأيت بين عينيك نورًا ما أراه الآن! ماذا صنعت بعدي حتى فقدت ذلك النور الذي بهرني؟
فقال لها: تزوجت بآمنة بنت وهب. فلحقتها غيرة شديدة وقالت: ما أنا بصاحبة ريبة، ولكن رأيت في وجهك نورًا فأردت أن يكون فيَّ، وأبى الله إلا أن يجعله حيث أراد، فاذهب فأخبرها (أي أخبر عروسك) أنها حملت بخير أهل الأرض!
وإذنْ يكون هذا خير تفسير للمراودة وعرض البائنة وطلب الدخول فور الساعة التي نطق بها لسان إحدى النسورة (قتيلة أو رقية أو الكاهنة فاطمة الخثعمية) فالمقصود بالخبر ذكر البشرى على لسان المرأة الطموح، وليس هذا من التاريخ في شيء؛ لأنه لم يقع في وقته المقول به، ولكنه بشرى رويت بعد ظهور النبوة.
عندما بلغ عبد المطلب وعبد الله دار أهل العروس خطبها من عمها وهيب الذي كفلها بعد وفاة أبيها وهب، فتم الزواج وكان الزفاف الذي أثمر تلك الثمرة المباركة في ضيعة قريبة من مكة «شعب أبي طالب عند الجمرة الوسطى» كان يملكها أبو طالب شقيق الزوج، وكان يسكنها في غير أيام مِنًى، وهو المكان الذي نفت إليه قريش بني هاشم وبني المطلب وحصرتهم بعد ظهور الدعوة المحمدية في حلف مشهور كتبوه وعلقوا صحيفته على الكعبة، وسيأتي الكلام عليه. ويظهر أن أصهار عبد الله كانوا يقيمون بجوار تلك الشعب، فأقام العروسان فيها ثلاثة أيام، وفي أثنائها حملت آمنة بولدها الوحيد محمد ﷺ. وقيل كانت إقامتها في دار الزفاف ثلاثة أشهر، وهي الفترة المعروفة بشهر العسل.
وحين تزوج عبد الله من آمنة كان أبوه يطيق الزواج، فخطب لنفسه «هالة» بنت وهيب عم آمنة وتزوج الرجل وولده في يوم واحد وأولما وابتنيا بهما؛ أي دخلا بالعروسين، فولدت هالة لعبد المطلب صفية وحمزة عم النبي وابن خالته وقرينه في سنه وبطل حروبه في بدر وأحد. وبسبب اغتياله سُميت هند أم معاوية آكلة الأكباد.
وأراد المؤرخون أن يعللوا زواج عبد المطلب وولده في يوم واحد ومن بيت واحد، فرووا أن ذا يزن صاحب اليمن وأحد أحبار اليهود قالا لعبد المطلب: «نرى الملك والنبوة في بني زهرة فتزوج منهم.» وهكذا ترى خطوات عبد المطلب وعبد الله ومحمد ﷺ في طفولته مصحوبة ببشرى أو خبر من الكهان أو الحزَّاء أو المنجمين بأنه سوف يولد في مكة من صلب عبد المطلب ولد يكون له شأن عظيم في النبوة والملك (انظر فصل التبشير به).
وينسب إلى آمنة أنها رأت أثناء حملها رؤًى كثيرة وسمعت بشريات متعددة في المنام، ويروى أن أحد الملائكة بشرها — كما بُشرت العذراء مريم — بأنها تحمل خير البرية وسيد العالمين، ويأمرها صوت آخر أو هاتف بأن تكتم أمرها وأن تسميه محمدًا، وكانت آمنة منذ حملت انتقل إلى وجهها من عبد الله ذلك الكوكب الدري أو ذلك النور الذي بهر أبصار الكاهنة فاطمة الخثعمية أو سواها من النساء حتى عرضت نفسها على عبد الله مقابل مائة بعير، لتتلقى منه ذلك النور، وتلد له ذلك الولد العجيب، ولعل المؤرخين لا يعلمون أن الطبيعة تخلع على بعض الحوامل مسحة من الجمال الروحاني، وهذا أمر مشاهد من قديم، وهو تفسير قولهم: إن نور عبد الله انتقل إلى آمنة، أما البشرى فلا نسلم بها جملةً ولا نردُّها جملةً، ونميل إلى الاعتقاد بأن طفلًا صار شأنه ما صار إليه شأن محمد ﷺ من النبوة والعظمة في سائر ناحيات الحياة، لا بد أن يصحب حمله وولادته وطفولته شعور أمه بالسرور والتفاؤل. ولما كانت حالة الحمل تكليفًا للبِنية الأنثوية فوق طاقتها، يصحبها الوحم فتحس بمشقة شديدة ويعتريها دوار، وضعف وخمود متقطع واشتهاء ما لا يخطر على البال؛ فيضطرب الجهاز العصبي، ولا يبعد — والحال هذه — أن ترى أحلامًا جلية تجعلها في شبه حالة الوسيط الصالح للتنويم فتستبين أمورًا، قد تكون مستورة عن سواها، كما يجوز أن تتوهم ذلك كله أو بعضه. ومما يؤيد هذا الرأي قول آمنة: «أتاني آتٍ وأنا بين النائمة واليقظانة فقال: هل شعرت بأنك قد حملت بسيد هذه الأمة ونبيها؟ وأمهلني حتى دنت ولادتي فأتاني وقال: «قولي إذا ولدتِه: أعيذه بالواحد من شر كل حاسد، ثم سميه محمدًا؛ فإن اسمه في التوراة والإنجيل أحمد».» وفي كلام آخر أنه لم يبقَ سرير لملك من ملوك الدنيا إلا أصبح منكوسًا وهذه كناية جميلة بحسب ما سيكون.
وقيل أيضًا إنه وُلد عند وجود المشتري؛ وهو دليل السعد والمجد. وإن سنة ولادته كانت سنة الفتح والخير؛ لأن قريشًا كان قبل ذلك في جدب وضيق فاخضرت الأرض وحملت الأشجار وأتاهم الرغد من كل جانب، وهاتان حقيقتان ماديتان يجب فحصهما؛ الأولى من اختصاص الفلكيين، وإن صحت تكون من قبيل التنجيم والطوالع وتعيين حظ كل مولود بالكوكب الذي يولد في دورته! وليس هذا من بحثنا في شيء، وإن اعتقدنا أن محمدًا ﷺ كان أسعد الناس حظًّا، وأكثرهم نجاحًا وتوفيقًا.
ولما وُلد محمد — عليه الصلاة والسلام — قال جده عبد المطلب: «وُلد لي الليلة مع الصبح مولود.» وما روي من تدلي النجوم فضعفه ابن دحية لاقتضائه أن الولادة ليلًا، وولادته كانت نهارًا.
وقد وُلد في الدار التي كانت لابن عمه عقيل بن أبي طالب، وما زالت بيد أولاده بعد وفاته إلى أن باعوها لمحمد بن يوسف أخي الحجاج، فأدخلها في داره وسماها البيضاء؛ لأنها بُنيت بالجص ثم طُليت به، وجاء في بعض السير أن محمد بن يوسف اشتراها بمائة ألف دينار، وهذا غريب لأن الدار التي تركها عبد الله بن عبد المطلب، قومت بعشرين دينارًا، وتلك الدار التي وُلد بها محمد ﷺ عند الصفا بنتها زبيدة زوجة الرشيد مسجدًا عام حجها، وقد تكون الدار — وهي مسقط رأس النبي ﷺ — بلغت هذه القيمة تقديرًا لمكانتها وشرفها.
ومما يؤسف له كثيرًا وينعى على قوم في هذا الزمان لا يحترمون أعظم ذكرى في العالم ولا يدركون قيمة أكرم الآثار، وقد حققوا مكايد الأغيار بأن خربوا هذه الدار وهدموها في سنة ١٣٤٥ﻫ؛ بدعوى أن بقاءها من الوثنية! وفي هذا الجرم الغاشم دليل على عقولهم ونفوسهم وتقدير التاريخ المحمدي في نظرهم، فما أشبه العرب في القرن العشرين بقبائل الفندال في القرن الرابع وما قبله! ومهما طالت أعمارهم فسوف تبقى تلك الكبيرة وصمة في جبينهم أبد الدهر!
أما القابلة التي وُلد محمد ﷺ على يديها فاسمها الشفاء، قالت: «لما ولدت آمنة رسول الله ﷺ وقع على يدي.» وحضنته أم أيمن فكانت مربيته الأولى فأرضعته أمه آمنة بضعة أيام ثم أرضعته ثويبة جارية عمه أبي لهب، وهو من صار بعد البعثة أبغض الناس إلى الله ورسوله.
وأرسلت الأم إلى جده عبد المطلب، وكان يطوف بالكعبة فجاء إليها فقالت له: يا أبا الحارث، وُلد لك مع هذا الصبح مولود.
وكانت عيلتها مؤلفة من زوجها وبنيها عبد الله وأنيسة والشيماء (كبشة) التي كُني أبوها باسمها، وهم إخوة النبي ﷺ في الرضاع، وكان يكرم الأحياء منهم ويصلهم ويلقاهم مرحِّبًا فرحًا، وكان عطفه عليهم عظيمًا، فيقول للرجل والدي، ولحليمة أمي. ودعوه أحيانًا بابن أبي كبشة نسبةً إلى أبيه في الرضاع، ورُوي أنه كان جالسًا على ثوب فأقبل أبو كبشة أبوه من الرضاع فوضع له بعض ثوبه فقعد عليه، ثم أقبلت أمه من الرضاع فوضع لها شق ثوبه من الجانب الآخر فجلست عليه، ثم أقبل أخوه من الرضاع فقام محمد ﷺ فجلس بين يديه ليكون أخوه هو وأبواه جميعًا على الثوب.
ويزعم مرغليوث أن بعض أعداء النبي ﷺ كانوا يعيرونه بابن «أبي كبشة»، ولكن مرغليوث لا يدلنا على موضع التعيير من هذه النسبة، ثم يزعم أن أحد أجداد النبي ﷺ من قريش يُكنى بهذه الكنية، وذكر مرغليوث أن الزمخشري والبيضاوي أشارا إلى ذلك في تفسير الآية الخمسين من السورة الثالثة والخمسين وهي سورة النجم، والآية الخمسون منها: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَىٰ (سورة النجم).
ولم نرَ بين هذه الآية وكيد مرغليوث رابطة إلا بإشارة خبيثة، وهي أن أبا كبشة كان صابئًا يعبد النجوم؛ وهي بدعة في الجاهلية، فلما جاء محمد ﷺ بالتوحيد شبه بجده. أما حليمة فكانت امرأة فقيرة من بني سعد فخرجت هي وعشر نساء يطلبن الرضعاء في مكة، وكانت من عادة العرب أن يلتمسوا للأولاد مرضعات في غير قبيلتهم ليكون ذلك أنجب للولد وأفصح. وهذه العادة متبعة الآن في بلاد أوروبا؛ حيث ينبت الأطفال في الريف مبعدين عن أجواء المدن وزحمتها وأوزارها وأوبائها؛ سواء في ذلك الأغنياء والفقراء منهم.
وهذه الرواية تجعل الفضل في أخذ الرضيع لغريزة المنافسة عند حليمة وعاطفة الاستبشار في قلب زوجها، أما عبد المطلب فبمعزل عن الواقعة، وليس هذا طبيعيًّا! ولعل ما رواه القاضي عياض في الشفاء أقرب إلى ما وقع؛ فقد قالت حليمة: استقبلني عبد المطلب فقال: من أنت؟
– أنا امرأة من بني سعد.
– ما اسمك؟
– حليمة. فقال: بخٍ بخٍ، سعد وحلم، خصلتان فيهما خير الدهر وعز الأبد! يا حليمة، إن عندي غلامًا يتيمًا، وقد عرضته على نساء بني سعد فأبين أن يقبلنه، وقلن: «ما عند اليتيم من الخير؟! إنما نلتمس الكرامة من الآباء.» فهل لك أن ترضعيه فعسى أن تسعدي به؟
– ألا تذرني حتى أشاور صاحبي؟ فوافق أبو كبشة؛ فعادت حليمة إلى عبد المطلب فوجدته في انتظارها، فقالت له: هلم الصبي. فتهلل وجه الجد فرحًا وأدخلها بيت آمنة، فرحبت بها وأدخلتها الغرفة التي فيها الطفل محمد ﷺ، فإذا هو مدرج في ثوب صوف أبيض وتحته حريرة خضراء، راقد على ظهره يغط، فأشفقت أن توقظه من نومه لحسنه، فوضعت يدها على ظهره فتبسم ضاحكًا وفتح عينيه إليها، فقبَّلته بين عينيه وأخذته، وما حملها في الحقيقة على أخذه إلا أنها لم تجد غيره رضيعًا؛ فما أعظم «ورقة البخت» التي سحبتها ساعة أن قبلته وحملته بين يديها! وتروى قصص جميلة عن امتلاء ثدي حليمة باللبن لمحمد وأخيه في الرضاع ضمرة وامتلاء ضرع غنمها وخصب أرضها وما حل ببيتها من البركة بسبب هذا الرضيع وأن زوجها قال لها: «والله يا حليمة لقد أخذت نسمة مباركة!»