تمام الرضاع وحادث الملكين وشق الصدر
ولا نعلم إن كان عبد المطلب تشارط على أجرٍ يدفعه لحليمة أو أن آمنة هي التي كانت تصلها من مالها؟ والأول مرجح لدينا. كذا لا نعرف عن حياة محمد في السنتين الأوليين شيئًا سوى أن حليمة أرضعته عامين ثم فطمته، وكان يشب شبابًا لا يشبه الغلمان، ولم يقطع العامين حتى صار غلامًا غليظًا شديدًا، وربما نطق قبل غيره من الأطفال لشدة ذكائه وقوة بنيته التي ورثها من آبائه وأمهاته، ولعله أيضًا تمكَّن من المشي مبكرًا، وقد يكون مارس ألعاب الأطفال قبل غيره ممن هم في سنه، كعمه حمزة وعمته صفية. وكان بالجملة طفلًا سابق الأوان في النمو والحركة والنطق واللعب والإدراك، وهذا كله راجع إلى أسباب طبيعية، وإلى العناية الربانية العليا، ونترك جانبًا ما رُوي من أنه تكلم بعد تسعة أشهر، أو أنه كان يرمي السهام مع الصبيان لما بلغ عشرة أشهر؛ لأنه ما يزال رضيعًا من ثدي حليمة؛ فقد أتمت رضاعه حولين كاملين، وهو ما نص عليه القرآن بعد ذلك في سورة «البقرة»: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ.
وفي ختام العامين عادت به حليمة إلى مكة أحرص ما تكون على مكثه في بيتها لِمَا رأته من الخير والبركة، وهو جائز عند العرب المفطورين على الطيرة والفأل، فقالت لأمه: «حبذا لو تركتِ ابني عندي حتى يغلظ!» ودعمت حجتها في استبقائه بالخوف عليه من وباء مكة ووخمها وقيظها، فترددت الأم ثم وافقت على عودته إلى البادية لِمَا رأته من حسن صحته وكمال نموه.
ونحن لا نتعرض لهذه القصة لتعدد الروايات بشأنها، ونعتقد أن مثلها كمثل بقية القصص التي تصف خوارق العادات والإرهاصات، وقد نُسبت إليه وعمره سنتان وقالوا أربع سنين، وقالوا ست سنين. وهذه الحادثة زعم المدعو مرغليوث أنها نوبة صرع أصابت محمدًا ﷺ وحماه الله من كيد الكائدين وحسد الحاسدين حتى في القرن العشرين؛ حيث كذَّب مرغليوث نفسه، في ص٤٦ من كتابه «حياة محمد» تكذيبًا صريحًا، ونفى عن النبي العلة التي نسبها إليه اختلاقًا.
أما أبو كبشة، فعندما رأى انتقاع وجه الصبي قال: «أخشى يا حليمة أن يكون هذا الغلام قد أصيب فألحقيه بأهله قبل أن يظهر به ذلك.» أي يستفحل مرضه، وعلَّل الإصابة بأنها حسد من جماعة من جيرانه لِمَا يرونه من جمال الولد وصحته وعظيم بركته، ويظهر أن محمدًا ﷺ لم ينزع لما جرى له؛ فإن حليمة وزوجها وجداه قاعدًا على ذروة الجبل شاخصًا ببصره يتبسم ويضحك.
ونحن نقطع بأن دوارًا أصابه حوالي الخامسة أو السادسة.
لأنه صادف يوم خروجه مع أخوته في الرضاع يرعون غنمًا، وقد ذهب معهم برغبته، وكان يخرج ويعود مسرورًا، وكان قبلُ لا يخالط الأطفال، بل ينظر إليهم يلعبون فيتجنبهم، فكان في خروجه مع إخوته من الرضاع — وهم ضمرة وأنيسة والشيماء — ما يسليه ويصرفه عن العزلة والانفراد وما يصحبهما من كآبة وغم.
ومن أنواع اللعب التي تسلَّى بها محمد ﷺ في صغره لعبة العظْمة البيضاء؛ وهي أن يجاء بعظمة شاهقة البياض ثم يرمى بها في الظلام إلى أعظم بعد في الطاقة، فمن يبصر بها — على بعدها — يكن رئيس الجماعة.
يريد بعض مؤرخي النبي ﷺ من العرب أن يقنعونا بأن ملائكة في صورة رجال جاءوا يحملون أوانيَ من فضة وجوهر وشفرة ليشقوا بها جسم محمد ﷺ من الصدر إلى العانة ليطهروا قلبه، ونحن نأبى التصديق، لا لأنه مستحيل الوقوع، بل لأن الله — سبحانه — قادر على تطهير قلب نبيه بلا عملية جراحية تُعمل على أيدي الملائكة في ظرف حرج بصورة مزعجة، ولأن ينفوا انفراد محمد برواية ما جرى جعلوا أخاه من الرضاع ضمرة يقول لأمه وهو يعدو فزعًا وجبينه يرشح باكيًا: «يا أبت، ويا أماه، الحقا أخي محمدًا، فما تلحقانه إلا ميتًا!» ويصف الأطفال الإبريق بأنه من فضة والطشت من زمرد. ولعل أطفال حليمة أو محمدًا لم يريا في بيداء بني سعد وفي هذه السن شيئًا من الفضة أو الزمرد حتى يصفوهما بالدقة، وأنَّى لهم رؤية المعادن النفيسة والجواهر في البادية وهم يرعون الغنم؟!
ولم تستطع حليمة الاحتفاظ بالطفل خوفًا على حياته، أو حذرًا من كارثة متوهمة؛ فكانت مضطربة حزينة لفراقه، خجلى من رواية ما أصابه من الدوار أو الإغماء بسبب ضعف طارئ أو فقر دم بعد أربع سنين من فطامه، ولعل التغذية في البادية لم تكن كافية، ولعله من حرارة الشمس، أو من برد أصابه، وهذه طوارئ بشرية.
ويرجح ظن ضعفه قول أبي كبشة لزوجته: «رديه على أمه لتعالجه.» فلو أن أبا كبشة صدق رواية الملائكة والإبريق والطشت والعملية الجراحية، ما خشي على الطفل خطرًا من حالته، ولم يرَ أحد من أهل الحي الملائكة أو الأواني أو السلاح سوى الأطفال الصغار، وهم لا يصلحون للشهادة التاريخية!
حار أهل الحي في حالته فقال بعض المتهوسين أو المتطفلين على الطب: «إن هذا الغلام قد أصابه لمم — أي طرف من الجنون أو طائف من الجن — فانطلقوا به إلى كاهن حتى ينظر إليه ويداويه.» فأفحمه محمد ﷺ برده: «يا هذا، ما بي مما تذكر شيء؛ إن أعضائي سليمة، وفؤادي صحيح، ليس به قلبة يقلب بها إلى من ينظر فيها!»
عملت حليمة بنصح زوجها وحملت الطفل إلى مكة لترده إلى أمه، غير أن اضطراب حليمة وحزنها قد أعقباها ذهولًا، فلما شارفت على مكة تفقدت الطفل فلم تجده، وذهبت إلى جده وأخبرته بأنها أضلته ولا تدري أين هو! فقام عبد المطلب يبحث عنه ويقول:
فوجدوه عند وادي تهامة عند الشجرة اليمنى، والطفل قائم تحتها يجذب غصنًا من أغصانها؛ أي إنه كان يلهو ويلعب. وآمنة لا تدري من أمره شيئًا، فلما دخلت عليها حليمة قالت لها: ما أقدمك يا ظئر، ولقد كنتِ حريصة عليه وعلى مكثه عندك؟!
– لقد بلغ والله، وقضيت الذي عليَّ، وتخوَّفت عليه الأحداث فأديته إليكِ كما تحبين.
– ما هذا شأنك، فاصدقيني خبرك. فروت لها حليمة قصة الإغماء وما إليها. ولا نعلم أثر تلك الرواية في ذهن والدته.
وقد زارت حليمة محمدًا بعد ذلك مرتين؛ الأولى: بعد زواجه من خديجة، تشكو إليه ضيق العيش فكلم لها خديجة فأعطتها عشرين رأسًا من غنم وبكرات من الإبل. والمرة الثانية: بعد موقعة حنين فبسط لها رداءه. وفي ذلك اليوم رفع ثوبها ووضع يده على صدرها ولمس بيده الكريمتين ثدييها الكريمين اللذين أرضعاه، وهذا الخبر رواه موير الإنجليزي في ترجمته الكبرى للنبي، ولا نرى به بأسًا. وقد أُخذت الشيماء — أخته في الرضاع — من جملة السبي من هوازن فقالت للمسلمين: أنا أخت صاحبكم. فلما قدموا بها على رسول الله ﷺ سألها: وما علامة ذلك؟ قالت: عضة عضضتنيها في ظهري وأنا متوركتك (أي حاملته على ظهرها) فعرف العلامة فقام لها وبسط لها رداءه وأجلسها ودمعت عيناه.