أخطاء بعض كُتاب السيرة النبوية من مؤرخي العرب
ومن أجل هذا حاولنا في هذا الكتاب أن نتنكب الطرائق التي سلكها الأقدمون الذين أشرنا إليهم ممن تشرفوا بالتأليف في سيرة الرسول ﷺ كعروة بن الزبير (٢٣–٩٤ﻫ) وإبان بن عثمان (٢٢–١٠٥ﻫ) وابن إسحاق وابن هشام بعد أن ثبت لنا كثرة الأكاذيب والخرافات التي وُضعت كذبًا على أخبار الرسول ﷺ وتسرب بعضها إلى المؤرخين. ولم يكن وضع علوم الحديث — وهي ألوان من النقد العلمي النظري — سوى الوسيلة الوحيدة لوضع حد لاستمرار تلك الأكاذيب. ولعل الفضل الأكبر في التعديل والتجريح وفي تقويم الاعوجاج يرجع إلى أصحاب الكتب الستة الصحيحة.
لم يستطع مؤلفو سيرة الرسول ﷺ أن يفرقوا بين رواية الحديث وبين ترجمة النبي — عليه الصلاة والسلام — لأنهم نسوا أو تناسوا أن وظيفة كاتب السيرة هي وظيفة الواصف المحلل الذي يتغلغل بعد الماديات إلى المعنويات من خلق ومعقولية ومشاعر ومواهب نفسية، ويجب أن يكون الوصف من دقة الحس ويقظة العقل وحسن التقدير لما يهم وما لا يهم، ولطف الذوق على الإبانة بحيث يستطيع أن يصف لك الشخص الموصوف كأنك تراه، وما كان أسهل هذا العمل على الأتقياء الذين أسعدهم الله بمعاصرة الرسول ﷺ؛ فقد رأوه وعاشروه ودرسوه وخبروه ومحصوه، وما كانوا يتركون له لحظة يعيشها بمفرده إلا فرصة عبادته ونومه، وكان من السهل أن تجتمع في أذهانهم صورة كاملة متناسقة لهذا الإنسان الكامل، تؤلف وحدة يستطيعون إبرازها بأقلامهم فيشركون غيرهم في رؤية ما رأوا، وهم الذين اهتموا بتدوين آيات القرآن وحفظها وأسباب نزولها وحفظ الحديث ووصف المغازي وأسماء أبطالها وشهدائها وذكر أعدائهم. ولكن المعاصرين لم يغفلوا شيئًا من هذا — وهم الصحابة — وقد أحصيناهم في أحد فصول الكتاب، وقام به بعض التابعين من عهد الدولة الأموية فنازلًا، ولكنهم تصيدوا ما سمعوا دون أن يمتحنوه بوسائل الامتحان؛ فاقتصرت سيرهم على وصف الرسول ﷺ وذكر الحقائق الخارجية والواقعات التي حدثت للرسول من غير أن يصحبها الكتاب بشيء من أفكاره ومشاعره، فهذه السير لم تكن إلا ثبتًا للحقائق مشوبة بالاستطراد والأساطير والخرافات والتكرار، أما تحليل الحقائق وإبداء الرأي والدلالة على مواضع العبقرية المحمدية، وبحث أسباب العظمة ونتائجها، وثروة المواهب التي غمره الله بها وخطط سياسته ووسائل خروجه من المآزق واتقاء المواقف الحرجة، وسبل تسلطه العقلي على نفوس الرجال حتى يسلس له قيادهم من أكبر كبير كعمر بن الخطاب وعمرو بن العاص وخالد بن الوليد إلى أصغر صغير كعبد الله بن مسعود وأبي هريرة؛ فلا شيء من هذا قط.
ولذا نرى هؤلاء المؤلفين قد قصروا في أهم ركن من أركان السيرة، دع عنك أنهم لم يسلكوا طرائق البحث العلمي؛ فقد وضعوا فيها الأساطير والخرافات بجانب الحقائق من غير تمحيص، حتى لكأنهم فقدوا ملكة النقد وسلَّموا بكل ما رُوي لهم، وهو أمر لم يفعلوه في تقييد السنة، كأن أقوال النبي ﷺ وأفعاله أهم في نظرهم من تاريخ حياته! ودع عنك أن هؤلاء المؤرخين للرسول ﷺ يُكثرون من حشد النقائض والمخالفات، ثم يتركونها على عواهنها دون أن يبذلوا جهدًا في تحقيقها والخروج منها بنتيجة يرتضونها أو يرتضيها قراؤهم. هل كان هذا التأليف مقصورًا على التبرك والتطلع إلى الثواب والجزاء؟ أم كان المقصود به إلى غمر الأوراق بأنهار من المداد؟ وإلا فكيف تسرب الضعف إلى ملكة النقد عندهم فلم يحذقوا امتحان الواقعات والأقوال وتخليص جيدها من رديئها؟ نعم، إننا نعثر في كتاب الشفاء للقاضي عياض الأندلسي على محاولات محمودة في الفحص والنقد وحسن التعليل والتسليم بأن ما لا يقبله العقل لا يقابل بالترحيب عنده، ولكنه واحد من عشرات سبقوه ولحقوه ولم يهتدوا إلى طريقته. نعم، إن علم الاجتماع وعلم النفس وعلم اللغات المقارن لم تكن علمت لابن إسحاق وابن هشام والقسطلاني والعسقلاني وابن قيم الجوزية، ولم تكن الأذهان تفتحت كتفتحها في عصر ابن خلدون. ولكن كان عندهم القرآن والحديث وكانت عندهم شخصية محمد ﷺ ماثلة أمامهم؛ فأي عذر لهم بعد ذلك؟! إن بعض الإفرنج المنصفين الذين لم يدركوا عصر الرسول ﷺ فُتنوا بسيرته بعد وفاته باثني عشر قرنًا؛ فجمعوا أخباره وحوادثه وقصصه وحروبه وأخلاقه وأقواله، وامتحنوها بكل ما أُبدع من وسائل الامتحان. ولا أكون مبالغًا قيد أنملة إذا قلت إنهم خدموا الرسالة المحمدية بأبلغَ من كثير من كُتَّاب العربية! ولا أكون منصفًا إذا لم أذكر منهم وشنجتون أرفنج الأمريكي وتوماس كارليل الإنجليزي وجولد زيهر النمساوي وبارتلميه سانتهيلر الفرنسي وجريمه الألماني ونولدكه الهولندي ومونتيه السويسري وبوله الدانمركي، وهم في الحق كثرة بالنسبة إلى المتجاهلين المضللين أمثال مرغليوث وسبرنجر وموير.
فقد تابع بعضهم الكتابة على هذه الخطة، متمشين مع القارئ في الرقي الفكري حتى إذا شاركهم المطالعة والدرس فكأنه لقي الرسول — عليه الصلاة والسلام — وعاشره وحدَّثه واستقصى أخباره.