أميته وصفاته النفسية في صغره
لم يتعلم محمد ﷺ في طفولته شيئًا من القراءة؛ فكان على التحقيق أميًّا، وإن كانت القراءة والكتابة شائعتين لعهده في مكة نفسها، وقد حذقهما عدد من أقاربه وأنداده ومعاصريه، وحتى جده عبد المطلب كان يكتب الصكوك التي تحفظ ديونه على التجار في الحجاز وغيرها، ولا بد أن يكون اليتم وحده سبب ذلك الحرمان من التعليم مقترنًا إلى مشيئة الله في بعثته أميًّا، فإنه قضى خمس سنين من عمره في حضانة مرضعته السعدية، وسنة في حراسة أمه آمنة، ولمَّا تُوفِّي جده وكَفَلَهُ عمه كَلَّفَهُ برعي الغنم ولم يتخذ له معلمًا، ولم يكن للنبي ﷺ أُذن للشعر، فلم يحفظ الأوزان، ولم يروِ شيئًا من أخبار العرب، حتى خطبة قس بن ساعدة التي سمعها في سوق عكاظ لم يحفظها ولم يستطع إعادتها في كهولته، وكان بلا ريب يكره الشعر والنثر المسجوع، ويبغض أن ينطق بأساليب الكهان السخيفة، وكان أعظم همه أن لا يصير شاعرًا ذا جِنة ولا كاهنًا: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ (سورة يس آية ٦٩).
وفي سورة الحاقة: وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ.
وفي سورة التكوير: وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ * وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ * وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ.
وبذلك نُفيت عنه ﷺ الكهانة كما نُفيت الشاعرية التي تلازم أصحابها الجن، وكما نُفي علمه بالقراءة والكتابة بنص مبين: وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ (سورة العنكبوت).
وعلى الرغم من أميته ومخالطة معاصريه ومواطنيه من البدو والحضر، كان طليقًا من أوهامهم وهواجسهم، معاديًا كل خرافة؛ فقد أمر أمته بعدم الطيرة؛ فلا فأل ولا شؤم، ونهى بأمر ربه عن الموبقات والمنكر وأمر بمكارم الأخلاق.
فكيف خلص هذا الصبي من تأثير محيطه؟ وقد رأينا أعقل عقلاء هذه الأمة الجاهلية يستشيرون الأصنام ويضربون بالقداح، ويفزعون إلى الكهان والعرافين في الصغيرة والكبيرة، ولم يُعلم عن محمد ﷺ أنه لجأ إلى أحدهم أو ضحى بضحية لآلهتهم. لا ريب كان عقله أعظم من تصور حلول القدرة الربانية في تلك الأحجار المشوهة! وتراه — وقد ثبتت حقائق العالم في ذهنه منذ الساعة الأولى — يرد كسوف الشمس إلى أسبابه الطبيعية ولا يجاري قومه في أنها كسفت حزنًا على موت ابنه إبراهيم! ولم يؤمن بالحسد إلا بأمر القرآن؛ لأن بعض حوادثه كانت شائعة في زمنه وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ.
وما زالت بعض الأمم الأوروبية الحديثة تعتقد بالحسد (كتاب رينيه بازان عن سياحته في إيطاليا)، ويمكن تعليل الحسد بنظرية الرغبات المكبوتة على مذهب بعض علماء النفس (سيجموند فرويد)، وعلى الرغم من سكونه وهدوء طبعه وحبه العزلة وفراره من عشرة الناس في طفولته وشبابه، فقد وهبه الله نعمة كبرى؛ وهي معرفة الرجال والقدرة على وزن أقدارهم؛ فلم يخطئ مرة واحدة.
قال مرغليوث (٢٣): «لقد حَبَتْهُ الطبيعةُ موهبة يُحسد عليها (كذا) وهي حسن تقديره الرجال، وأحكامُه بالغريزة على الشعوب والجماعات والأفراد لم تخطئ مطلقًا.» فما أعظم هذه الشهادة وأقيمها على لسان هذا الرجل «وخير الفضل ما شهدت به الأعداء.» فإن عداوة مرغليوث للحق وتعمده الاختلاق والتشويه أمران لا شك فيهما.
وعلى الرغم من بساطة شأنه في صغره؛ فقد شب مرموقًا بعين العناية ينتظر منه كلُّ من حوله أمورًا ذات شأن، ولا عجب في ذلك؛ فإن رجلًا انطوت نفسه على العبقرية التي تجلت في كهولته وشيخوخته، لا بد أن تشع من شخصه أنوار تأخذ بالأبصار، وأن تبدوَ عليه مخايل النجابة وحسن الاستعداد في صباه: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (سورة الانشراح).
فقد تميزت نفسه بالقناعة والتواضع والإقدام على التضحية لخير العالمين، لا لخير نفسه، ولم يستطع أحد من ألد خصومه أن يوجِّه إليه شيئًا مما نقرأ في القرآن الكريم: فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (سورة المؤمنون).