يتيمًا وعائلًا …
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىٰ (سورة الضحى).
من الآيات البينات في سورة «الضحى» التي ذهب بعض المفسرين ومؤرخي النبي ﷺ إلى أنها نزلت في حقه؛ لأنها بصيغة الخطاب للمفرد، ولأنها ذات دلالتين على حاله؛ وهما: اليتم، والعيلة، وذهب البعض إلى أنها نوع من الخطاب إلى مجموع الناس؛ لأنها تشمل غير النهي عن قهر اليتيم ونهر السائل، وتأمر بالتحدث بنعمة الله، وهذا الأمر وتلك النواهي غير مقصورة على شخص محمد، دع عنك أن الضلال لم يكن في وقتٍ من الأوقات من صفات النبي ﷺ في الإيمان أو الأخلاق أو المعرفة. أما عن اليتم وإيواء الله نبيه وصيانته من متاعبه ومذلته، فمما لا ريب فيه أن محمدًا كان يتيمًا، ولكن يتمه لم يكن موضع إذلال ولم يجئ مصادفةً، بل كان مقصودًا، وقد كُتب عليه ثلاث مرات أو أربعًا؛ الأولى: عند ولادته ونشأته لا يرى والدًا، ثم ماتت أمه وهو في السادسة، ومات جده وهو في الثامنة، ومات أبو طالب بعد البعثة؛ فشعر النبي ﷺ باليتم من جديد، وسُمي عام موته عام الحزن، كان هذا اليتم الثلاثي أو الرباعي مقصودًا؛ لأن الله أراد أن يثبت لمحمد ولبني الإنسان جميعًا أن عنايته بمرسليه أقوى وأفضل من عناية الآباء والأمهات، وأن الذي يتعهده بها لم يعد في حاجة إلى الأهل والمال. وقد كان كل الأنبياء أيتامًا، ولم يكن منهم يتيمًا جعله الله في حكم اليتيم، كإبراهيم وإسماعيل ويوسف وعيسى وموسى؛ فإذنْ لم يكن اليتم نقمة ولا نكبة ولا بلاءً، بل كان نعمة على الذين يختارهم الله لنفسه، ليجعل منهم مرشدين وهداةً وأعلامًا للإنسانية. وعندي أن قوله سبحانه وتعالى: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ قد تنصبُّ مباشرةً على نعمة اليتم الذي صحبته عناية الله، ونعمة الهداية بعد الحيرة، ونعمة الغنى بعد العيلة. قال المفسرون: إنها نعمة القرآن، ونعمة السيادة والملك على العرب، ونعمة الزعامة. وقالوا: إنها نعمة الاطمئنان الذي نزلت بسببه هذه السورة: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ * وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَىٰ * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ.
فقال سبحانه وتعالى: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ، وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا، يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ، وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ، فَذَٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ، فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ، فِي يَتَامَى النِّسَاءِ، وَأَن تَقُومُوا لِلْيَتَامَىٰ بِالْقِسْطِ، وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ، وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَىٰ، وَآتُوا الْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ، وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ، وَابْتَلُوا الْيَتَامَىٰ، يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ.
أما قوله سبحانه وتعالى: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ وهي آية طالما رددها المبشرون وطبلوا ورقصوا وزمروا، وتمنطقوا للكذب في تفسيرها وشمروا؛ فقد ظنوها في ضلال عماهم غاية الاعتراف بذم الرسول والقدح فيه بنص من القرآن؛ فتراهم يسارعون للإيمان بها وتصديقها — لأنها في زعمهم تنطبق على هواهم — مسارعتهم للكفر بغيرها من الآيات. ومرجع ذلك تعصبهم وجهلهم وتجاهلهم وسوء نيتهم وخداعهم وانخداعهم وتضليلهم في معنى لفظ «ضالًّا»، أيُعقل أن يتخذ الله لنشر دينه رسولًا ضالًّا؟! وهل يرسَل الضالُّ رحمةً للعالمين؟! وهل يأتمن الله على رسالته رجلًا يشوبه الضلال؟! وهل يتمكن الضال من هداية غيره؟! كل هذه الأسئلة لم تخطر للمبشرين ببال، وقد أعمتْهم كلمةُ «ضالًّا» عن كل هدًى، وما لهم لا يصدقون بقية القرآن ويجزِّئون ما لا يقبل التجزئة من الأدلة على صحة الرسالة؟! ويضربون مثلًا أبديًّا لمن قال لا تقربوا الصلاة، وخرس عن قوله: «وأنتم سكارى» لقد صدق رسول الله ﷺ حين قال: «الساكت عن الحق شيطان أخرس.» وما هؤلاء البائسون سوى شياطين أخرسهم الله عن الحق وأضلهم ضلالًا مبينًا، لقد حار المفسرون، وما كان أن يحاروا، لأنهم تعلقوا بأحد معاني الضلال، ولم ينظروا في سائر معانيه، وهم الذي يلعبون بالألفاظ، ويَلجَئُون إلى كل تعليل ويحتالون على المعاني. تراهم في هذه الكلمة دون سواها فتحوا بابًا واسع النطاق للمبشرين والمضللين، وكان تغليق الأبواب ميسورًا بأن يقولوا إن الضلال في هذه الآية ليس هو الكفر، وليس احتجاب النور عن القلب، وليس عبادة الأوثان، بل حيرة الفكر البشري في العثور على السبيل التي يسلكها الرسول لإبلاغ رسالته وهو في بداية أمره؛ فقد نزلت سورة «الضحى» في مكة عقيب فترة انقطاع الوحي وحزن النبي ﷺ وشعوره بالألم والخوف من الحرمان من نعمة اتصال الرب بعبده ورسوله، فهداه الله إلى النبوة وطمأنه وبشره بشرى الحبيب الموالي، ولم ينذر إنذار الغاضب القالي، وجدَه بين أهل الضلال فعصمه من ضلالهم، وهداه للإيمان، وإلى إرشاد أهل الضلال، ووجده أميًّا فهداه إلى العلم بما لم تُحِطْ به الأوائلُ والأواخر، وكشف له عن أسرار الكون والحياة الأولى والآخرة. قال سبحانه وتعالى: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ (سورة النساء).
ورفع له القناع عن أسرار النفوس وخفايا الأفئدة ومكر الرجال وحيل النساء. لقد كان صعود محمد ﷺ إلى غار حراء أساسه الحيرة التي يبعثها الاستعداد للنبوة، فكان يخلو في طلب ما يتوجه به إلى ربه ويتشرع به حتى هداه الله إلى الإسلام. أما غير ذلك فمستحيل عليه؛ فلم تكن له ضلالة معصية، وتاريخه ناصع البياض، حتى إنه لم يستطع أن يسمر ليلة واحدة في مكة؛ تلك المدينة الفاسقة في شركها وجاهليها وعبثها، كما كان يسمر غيره من الشبان، ولو أراد ذلك ما استطاع إليه سبيلًا؛ فهدايته جمة الوسائل والأسباب كالبراهين التي أقامها والحجج التي نقض بها مزاعم خصومه، وهداه إلى الهجرة وسلوك الشعب في طريق الفرار من مكة إلى المدينة، ولولا تلك الهجرة ما ظهر الإسلام. فإذا كان أعلم الناس في بلده يقصد إلى مكان فيه فلا يهتدي إليه فقد ضل الطريق، وقد يهديه إليه طفل أو من كان أقل منه علمًا، ولا يضره هذا ولا يقلل من فضله ولا يلصق به صفة الضلال إلى الأبد، وفي القرآن: فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ وليس معناه دوام البقاء على الضلال، وقد يكون الضلال بمعنى التعلق بعاطفة؛ فأبناء يعقوب يقولون عندما قال: إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ ۖ لَوْلَا أَن تُفَنِّدُونِ * قَالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (سورة يوسف).
أي تعلُّقه بحب يوسفَ ولدِه المفقود، ولكن يعقوب لم يكن في ضلال بل كان على حق، فبِالله لِمَ لَمْ يرَ المبشرون واحدًا من هذه المعاني؟ لقد وجد الله محمدًا ﷺ متحيرًا في بيان ما أنزل إليه فهداه لبيانه بدليل قوله: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (سورة النحل).
قد يكون الضلال بمعنى الحيرة وعدم الاهتداء إلى الطريق والخطأ بغير قصد والنسيان. أما الضلال عن الإيمان بعد نزول الوحي فلا، وقبل ذلك فلا يهمنا فتيلًا، إلا من قبيل التكريم لشخص النبي ﷺ بحسب ما سيكون؛ ولذا ترانا نفهم قول الله: مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ (سورة الشورى).
أما محمد ﷺ فقد حاز ما علَّمه الله شيئًا فشيئًا حتى استقر عنده علم الحقيقة والشريعة، إما بوحي من الله وإما بإذن أن يشرع ويحكم بما أراه الله من رأي. ولم يمت حتى استتم على الجميع وتقررت المعارف لديه على التحقيق ورفع الشك والريب وانتفاء الجهل؛ لأنه لا يصح منه الجهل في شيء من تفاصيل العقيدة والشريعة والحقيقة التي أمره الله بالدعوة إليها؛ إذ لا تصح دعوته إلى ما لا يعلمه، فكيف لمن كانت هذه بعض عصمته وبعض مواهبه وعلومه ونزاهته أن يوصف بالضلال بالمعنى الذي يريده أعداء الحق وبعض ضعفاء العقول من الأصدقاء الجاهلين.
أما قوله: وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىٰ، فتقول بعض معاجم اللغة إن العيلة والعالة بمعنى الفاقة، والعائل بمعنى الفقير، ومثله: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فيكون المعنى: «ووجدك فقيرًا فأغنى.»
ولكننا نحتج بإعجاز القرآن الكريم وإحكام نظمه، ولو شاء الله أن يقول وجدك فقيرًا لقالها، ولكن اختيار لفظ العائل مقصود إليه بالتخصيص. والعائل في رأينا صاحب العيلة؛ لأن عيال الرجل هم من يعول، وأعال الرجل: كثرت عياله. قال الرازي والأخفش: المعيل هو ذو العيال. ولكن هذه المادة لا تُذكر دون صلة وثيقة بالمرأة والأولاد، والميزان يعول إذا نقص وجار كالرجل ينقص ماله بالعيال وتجور عليه الحاجة، وعال أمره اشتد وتفاقم وغلبه وثقل عليه وأهمه، ومرجع هذا علاقته بالعيلة. وعال اليتيم: كفله وقام به، وعَوِّلْ عليَّ بما شئت أي احمل عليَّ ما أحببت. والتعييل مأخوذ من العيال، وعيال الرجل هو الذي سكن معه وتجب نفقته عليه، كغلامه وامرأته وولده الصغير، فإن كان المعنى عائلًا ذا عيلة فليس بمعنى الفقر الناشئ من كثرة الأولاد؛ لأن محمدًا ﷺ كان طوال حياته في يسر ورخاء وسعة من الرزق وإن لم يكن من أصحاب الألوف المؤلفة، وكانت زوجته خديجة من أغنى نساء قريش قبل الزواج وبعده، وكان صديقه وخليله أبو بكر من أرباب الملايين، فوضع ثروته تحت أقدامه إلى الدرهم الأخير من ماله، وكذلك كان عثمان وعبد الرحمن بن عوف، وقد مات الأول وهو أمير المؤمنين والثاني وهو من أغنى الأغنياء، وقد عرض أبو جهل وأبو سفيان على محمد ﷺ المال والملك والسيادة فأباها، ولم يشعر محمد ﷺ في وقتٍ من الأوقات بحاجة مُلِحَّةٍ، وكان طوال حياته يهب المال ويقسمه ويتصدق به ويؤلِّف به القلوب، ويغني أصحابه وأتباعه والمجاهدين من المهاجرين والأنصار، وليست هذه صفات الفقير المحتاج. فإن كان النبي ﷺ عائلًا، فلعل عيلته كانت جمهرة المسلمين الذين حمل همومهم ودبر شئونهم؛ كالأرِقَّاء الذين أذلهم المشركون وعذبوهم، والأسرى الذين سجنوهم وقتلوهم، والضعفاء الذين اضطهدوهم حتى أخرجوهم من ديارهم فهاجروا بأمر النبي ﷺ إلى الحبشة أولًا ثم إلى المدينة، فكان — عليه السلام — رئيسهم ووالدهم وزعيمهم وقائدهم ومرشدهم، وقد أثقلته همومهم وشغلته محنتهم، فأغناه الله في تحريرهم وافتدائهم وإيوائهم والعناية بهم والعمل على إنقاذهم، كما فعل في خلاص بلال والاقتران بأم حبيبة.
ثم أغناه الله بالأنصار الذين بايعوه ودعَوْه إلى مدينتهم، والتفُّوا حوله وحاربوا دونه وسوَّدوه عليهم وسلموه زمامهم، وحشدوا له جيوشًا حارب بها وأعدوا له سلاحًا وعتادًا وخيلًا وجنودًا خاضوا بها غمار المواقع، وأطاعوه في ازدراء عير قريش — وقيمته خمسون ألف دينار — ليتمكنوا من محاربة جيش قريش والتغلب عليه في بدر وهو الغنى الحق، هذا إن كان الخطاب في الآية موجهًا إلى محمد ﷺ بذاته، وفي رأينا أنه موجَّه إلى العالمين، وليس في هذا مخالفة للنص ولا خروج على المعنى؛ فقد جاء في السورة وصية باليتيم ونهي عن قهره، وهو ترشيح لتوجيه الخطاب إلى محمد ﷺ ولكن ما القول في النهي عن نهر السائل، فإن كان الله نهى محمدًا عن نهر اليتيم لأنه شب يتيمًا، فهل نهاه عن نهر السائلين؛ لأنه كان سائلًا أيضًا؟ وهل كان أسيرًا حتى أوصاه الله بالأسرى؟ وهل شهد محمد ﷺ والديه وعاشرهما ونَعِم بعنايتهما وشعر بحنانهما حتى أوصى الله بالوالدين إحسانًا في آيةٍ تُعد من أمهات القرآن ومن أجمل آياته وأحكم نظمه،؟! أستغفره سبحانه، لا تفضيل بين آياته، وليس العبد بأغير على النبي من ربه، فلم نرد بهذا القول دفاعًا عن محمد ﷺ في أمرٍ أراد الله نسبته إليه، ولكننا نعتقد بأننا في جانب الحق ما دام أعداء الله ورسوله يتمسكون بنقيضه.