صورة إنسانية للوالدين والولد
كان عبد الله — لا ريب — من أجمل شبان قريش، وإن المرء ليحزن لأن هذا الشاب الجميل المحبب، قضى نحبه في نصف العقد الثالث، وهو في شرخ الصبى وريعان الشباب، ولمَّا يتمتع بشيء من طيبات الحياة سوى زفافه إلى عروسه وقضاء شهرَين قصيرَي المدى سريعَي الخُطى في عشرتها؛ فقد سار إليها في ربيع سنة ٥٧٠م، وبعد الدخول بفترة يسيرة مرت كحلم ليلة الصيف الجميل سافر إلى غزة في تجارة له، ولدى عودته مرض في الطريق وتخلَّف عن القافلة في المدينة عند أخواله من بني النجار، فبقي طريح الفراش في بيتهم شهرًا قضى في ختامه، مَبكيًّا على جماله وشبابه وحسن خلقه، بعيدًا عن أهله وعروسه التي لم توشك أن تسعد بمعاشرته، وكانت القافلة قد بلغت مكة، وعلم عبد المطلب من زعيمها أن ابنه عبد الله تخلَّف عن السير لمرضه؛ فبعث إليه بالحارث ولده الأكبر، ولكن عبد الله قضى قبل وصول أخيه ودُفن في بيت «تابعة» في حي بني عدي بالمدينة، مات وولده محمد لا يزال حملًا مستكنًّا في أحشاء أمه آمنة، فلما بلغها نعيه نال منها الحزن الشديد، ولم تَطِبْ لها الحياة بعده، وأدركتها المنية وهي تزور قبره بعد بضع سنين من وفاته.
وقد قضت تلك السنين الست في البكاء والحداد عليه، وكانت مدة الحمل لا أمل لها إلا في رؤية المولود المنتظر وهي تعلم أنه سيولد يتيمًا، وسوف يرى نور الدنيا ولا يرى وجه أبيه، وما أقسى هذه الفِكَرِ الطاحنة في نفس عروس لم تتمتع بالحياة!
أكرم عبد المطلب مثوى امرأة ابنه المتوفَّى، وأحسن إليها بقدر ما أساء الدهر إليهما معًا بخطف زوجها وولده، وهما أحوج ما يكونان إلى حنانه وعطفه، ومواساته إياها في أشهر الحمل ولدى الوضع والرضاع، وأباه في شيخوخته وضعف بصره، ولا شك في أن حزن الأم يؤثر دائمًا على الجنين، وليست صدمة الترمل على عروس بهيِّنة، وقد بكت آمنة زوجها الذي أحبته وتعلقت به أشهرًا أضعاف ما قضته مسرورة بقربه. والطفل الذي تلده الأم الحزينة يميل إلى الحزن بفطرته، في مزاجه البُعد عن اللهو، وهو أبدًا حساس دقيق الشعور، سريع التأثر، رقيق العاطفة، ينظر إلى الحياة من جانبها الجدي، ويعطف بقلبه على كلِّ من تقتضي حاله الشفقة والحنان، وقد كانت هذه صفات محمد ﷺ في جميع أطوار حياته، حتى قيل إنه لم يضحك إلا تبسمًا، وكان إذا فرح غض طرفه. وقد أوصى باليتيم والمسكين والسائل والمحروم والمظلوم، وأمر بالصدقة والإحسان والعفو في أكثر الأحوال، وما نهر خادمًا ولا مولًى ولا رقيقًا ولا أسيرًا، وما ضرب بيده شيئًا قط، ولا تأفف من إنسان. وعلى الرغم من أنه وُلد يتيمًا من أبيه، وفُجع في أمه في السادسة من عمره، وفي جده الحنون في الثامنة أو التاسعة من عمره، فقد أوصى اللهُ بالوالدين أجمل وصية وأحسنها وأكرمها.
وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (سورة الإسراء).
إن هذه الأم الرءوم لم تتمتع بعِشرة ولدها إلا عامًا واحدًا، وهو العام السادس من عمره قضاه في حضانتها. وقد أرادت أن تزور المدينة بحجة زيارة خئولة أبيه، والحقيقة أنها أرادت أن تزور قبر زوجها الحبيب عبد الله فسافرت من مكة وفي خدمتها أم أيمن الحبشية جارية عبد الله التي تركها بعد وفاته — واسمها الآخر بركة — وكان عبد الله بن عبد المطلب لم يترك سوى خمس من الإبل وقطيع من الماعز ودار ثمنها عشرون دينارًا وتلك الجارية الحبشية. وهذه التركة لم تكن بالقليلة في زمنه، ولا سيما أن أباه ما زال حيًّا.
نقول: خرجت آمنة من مكة في ركبها الصغير وقطعت المسافة بين مكة والمدينة إلى أن نزلت بحي بني عدي، وهو الذي لجأ إليه عبد الله مريضًا، وهناك تذوَّق الطفل محمد حياة اللهو واللعب لفترة قصيرة مع صغار الحي من بني خئولة أبيه، فآنسوه حينًا أطفالُ بني سعد وإخوته في الرضاع ممن كانوا يلاعبونه وهو في حضانة حليمة، ولم يحفظ لنا التاريخ اسمًا من أسمائهم سوى طفلة تدعى أينسة أو أنيسة (؟) فكان يشاركهم في مطاردة الطير على سطح الدار، وهي نوع من محاولة الصيد وتسلية بريئة بالرماية لا تؤذي ولكنها تجلب السرور للأطفال، وفي تلك الفسحة التي دامت بضعة أسابيع تعلَّم محمد السباحة في بئر هناك، ولعلها بِركة صغيرة ذات ماء آسن، وإن كانت الغاية الظاهرة من تلك السفرة زيارة أخوال أبيه كما قدمنا، إلا أن الأم كانت تقصد إلى زيارة قبر قرينها المحبوب، وهو مدفون بدار تابعة، فطالما خرجت إليه وبكت وعادت مثقلة بالهم والحزن والأسى. ولكن محمدًا لم يكن في حداثة سنه ونعومة أظفاره من الإدراك بحيث يشاركها حزنها على أبيه، ولعلها لم تخبره قط بموته ولم تصحبه يومًا في زيارة القبر؛ فإنه لما كبر وعاد إلى المدينة مهاجرًا بعد هذه الزيارة القصيرة بسبعٍ وأربعين سنة، تذكر كل ما رآه في طفولته، ونظر إلى الدور والجدران التي بقيت على حالها وتعرف عليها وصار يتنقل بين تلك الذكريات التي ما زالت قائمة في قلبه الحي ويقول: «ها هنا لعبت مع أولد خالي، وها هنا تعلمت السباحة، وهنا كانت تقيم أمي معي.» فلو أنه زار قبر أبيه في طفولته لم يكن لينساه مطلقًا وكان يذكره؛ لأن محمدًا لم يكن من ذوي النفوس التي تنسى مثل هذه الذكريات الفاجعة.
هل أحسنت آمنة بإخفائها تلك الحقيقة المريرة عن ولدها الطفل، وبخاصةٍ لأنه لم يرَ أباه قط؟ هل أشفقتْ عليه من الحزن وهو بعدُ لم يدرك جمال البنوة، ولم يشعر بالحاجة إلى عطف والد لم يرَه؟ لقد كان حزن آمنة شديدًا؛ فإن إقامتها في المدينة لم تتعدَّ شهرًا واحدًا، ولكن حزنها على زوجها كان فاجعًا فلم تكد تبرح المدينة في صحبة ولدها وجاريتها حتى شعرت بالضعف والمرض، أشبه الأشياء بالحنين إلى الحبيب، ذلك الحنين الذي حرَّك قلبها فتجشمت لأجله مشقة السفر من مكة إلى المدينة على ظهور الإبل، مرضت في نصف الطريق واشتد عليها المرض، وهناك في الأبواء في منتصف الطريق بين المدينة ومكة لقيت هي الأخرى حتفها كأن تلك البقعة تكفلت بمواراة جثة الوالد والوالدة. لقد كانت سفرة محزنة، وإن كانت فكرتها مباركة، فما أعظم البلاء الذي يصيب طفلًا في السادسة من عمره عندما يرى أمه تمرض ثم تموت أمامه وكانت بالأمس تحنو عليه وتداعبه. ماتت أمه التي كانت تعطف عليه وتحبه وتضمه إلى صدرها وترى فيه أملها الأوحد بعد وفاة بعلها الذي لم تهنأ بعِشرته، في تلك الصحراء الجافة المجدبة بين سقيا ورابغ.
طفل صغير لم يرَ الموت ولم يعرفه، يرى أعز الناس عليه تفارق الحياة وتنقطع عن الحركة والنطق إلى الأبد! وليس بجانبه من يواسيه غير تلك الحبشية أم أيمن، وما هي بالجدة ولا الخالة ولا العمة التي تحل محل الأم لتعوض بعض الشيء من حنانها، لقد حرَصتْ عليه أمه فلم تفاتحه في موت أبيه، ولم تشأ أن تُدخل الحزن على قلبه، فها هي الأقدار بقسوتها تفتح الباب الذي أغلقته الأم بحنانها، وتضع نبي المستقبل للمرة الأولى وجهًا لوجه حيال الموت القاسي الذي لا يرحم ولا يمهل ولا ينتظر، تجلَّت آية: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ في أقوى مظاهرها؛ فالموت قد أدرك البقية الباقية من الحنان والرحمة الإنسانية في الطريق. وقد دُفنت آمنة في الأبواء حيث ماتت وتركت ولدها العزيز على الرغم منها، أمانة غالية بين يدي تلك الجارية الحبشية المباركة، التي لم تهن ولم تضعف فحملت الصغير وواصلت به السير إلى مكة. هذه سياحته الأولى، تحمل صدمة شديدة تلقَّاها الطفل في مستهل الحياة، فإن كان قد تأثر جنينًا في أحشاء أمه بحزنها، فلشدَّ ما تأثر الآن برؤية وفاتها بعينه، فأدرك أقسى حقائق الوجود وأشدها غضاضة على النفس، ولكن محمدًا ﷺ لم يكن مخلوقًا للضعف والهزيمة، ولم يكن قلبه الكبير الحي موضعًا لليأس والاستسلام للألم، بل كان مخلوقًا للصبر والكفاح والمقاومة ولقاء الشدائد والصبر عليها، ولعل ما يؤثر في الأطفال تأثيرًا سيئًا كان يُكسبه مناعة وعزمًا، قد يدركه الحزن لدى موت الأحباب والأعزة، فيقول: «إن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع.» ولكنه كان مهيئًا ليعتقد اعتقادًا وثيقًا بأن القلب ليس مَقَرًّا للفرح وحده ولا للحزن وحده، بل إن القلب والفؤاد إنما هُيِّئَا للإيمان، كما أعدهما الله للعقيدة الثابتة، والعزيمة التي لا تتزعزع، والإرادة التي لا تضعف، وجعلهما مظهر الحق الذي لا يتغير ولا يتبدل.
الأبواء مكان أقرب إلى المدينة منه إلى مكة، وهو وادٍ منخفض تحل فيه السيول. وقيل تتبوَّؤه أي تعلوه وتغمره؛ لأنه محاط بجبال من الشرق والغرب، وأظن اشتقاق الأبواء من التبوُّؤ منتحل؛ فهو اسم، والأسماء لا تعلل. ولما مرَّ النبي في عمرة الحديبية بالأبواء قال: «إن الله أذن لمحمد ﷺ في زيارة قبر أمه.» فأتاه وأصلحه وبكى عنده وبكى المسلمون لبكائه. ولكن الله لم يأذن له في الاستغفار لها مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا … الآية.