كفالة أبي طالب للرسول عليه الصلاة والسلام
كان أبو طالب نبيهًا شهمًا نبيلًا صادق المروءة، ماضيَ العزيمة منتصرًا لمبادئ العدل، محبًّا للنصفة، وقد كلف نفسه أقصى ما يستطيع في كفالة ابن أخيه وحمايته والسهر على تربيته والعناية بعافيته وتهذيبه حتى أنبته نباتًا حسنًا. وله الفضل الأكبر في تعهده بعد جده عبد المطلب؛ لأنه وَلِيَ أمره في الثامنة من عمره، ولم يفرِّق بينهما إلا وفاته قبيل الهجرة بقليل، وقد قضى وخديجة في عام واحد سُمي لاجتماع المصابَين بعام الحزن.
ولقد كان في استعداد ذلك العم الكريم لكفالة رسول المستقبل من مظاهر العناية الربانية به، عُني أبو طالب أول ما عُني بتربيته الجسدية؛ فجاءت قوته البدنية وصحته البشرية وسلامة بدنه — عليه الصلاة والسلام — لا نظير لها؛ فصار على صورة من الجمال لم يشهد الناس مثلها، ولا يكون الجمال إلا بتمام العافية واعتدال المزاج والتكوين السوي نتيجة لتربية جثمانية فائقة، أهم مظاهرها حسن التغذية، وعيشة الخلاء والمرح في أحضان الطبيعة، والمران على فنون الحرب وركوب الخيل والسباحة، وقد أتقنها محمد جميعًا وتفوَّق فيها على أقرانه؛ فكان يصارع أقوى معاصريه فيصرعهم (القاضي عياض).
بَيْدَ أن أبا طالب كان فقيرًا وكان عائلًا ولكنه كان نبيلًا وكان محترمًا وزعيمًا في بلده، وكل ما وفَّره العم من وسائل العيشة الراضية لابن أخيه لم تكن لتكلفه شيئًا استثنائيًّا؛ لأن حياة الجماعة كانت تقتضيها وتسهلها وتمهد السبيل إليها.
وقد علمنا أن الخير والبركة كانا يصحبان الرسول ﷺ في طفولته وفتوته وشبابه، فلم يعرف الضيق إلا نادرًا وباختياره، ولكن مشقة الكفالة انحصرت في الخصومة الشديدة التي بدأ بها طغاة قريش وأوغادها، وعلى رأسهم بنو أمية لعداوتهم الكامنة لبني هاشم.
نشَّأ أبو طالب محمدًا على تربية عقلية جديرة بالإعجاب، أهم عنصر فيها الغرائز الطيبة التي ورثها النبي عن آبائه وأجداده والمُثل العليا التي تلقَّاها بالخبرة والمعاشرة عن عمه النبيل أبي طالب، والترقي في مدارج العمل.
نشأ محمد على يد ذلك المربي العظيم أبي طالب الذي سخرته العناية مهذِّبًا وكفيلًا، فكان أبلغ مثال للمهذب والكفيل، وأشرف نموذج للعم الكريم، فأعان الطبيعة على عملها الذي أراده الله بمحمد؛ فجاء أحسن الناس خَلقًا وخُلقًا، وأذكاهم عقلًا وأطيبهم نفسًا وأزكاهم قلبًا، وأصدقهم طبعًا وفؤادًا ولسانًا؛ فكان كريمًا رحيمًا شجاعًا سديد الرأي بعيد النظر شديد الإقدام، لين الجانب سريع العفو أمينًا في القول والفعل، كامل التكوين في غير كبرياء، واسع الآمال في غير طمع، واسع الخيال دون طيش، صادق العزم بلا رعونة، ثابت الجنان في الملمات، مالكًا زمام نفسه وعواطفه، لا تستخفه الشهوات ولا تشغل لبه الصغائر، ولا يجد الشر إلى نفسه سبيلًا؛ فصار بحقٍّ وعاءً مستعدًّا لتلقي الحكمة الإلهية والوحي الرباني والقيام بأعباء الرسالة.