رحيل الرسول مع أبي طالب إلى الشام وبشرى الراهب بحيرا
تهيأ أبو طالب للرحيل إلى الشام في تجارته، فكانت رحلته الأولى منذ كفل محمدًا ﷺ بعد موت جده، وقد شبَّ محمد عن الطوق وأخذ يدرك ألم الفرقة بعد أن ذاقها بوفاة أمه وجدِّه، وتعلق بعمه — وهو أليفه وأنيسه وحاضنه — فرقَّ له قلبُ أبي طالب وقال: واللهِ لأخرجن به معي ولا يفارقني ولا أفارقه أبدًا.
فكان عهدًا مسئولًا وكلمة نافذة حققها الله فلم يفرق بينهما إلا موت أبي طالب.
فلم يكن أبو طالب البادئ بفكرة اصطحاب الطفل المكفول، بل جاءت الصحبة لمحبة الطفل وتعلقه بعمه؛ فقد أمسك بزمام ناقة عمه وقال: يا عم، إلى من تكلني؟! لا أب لي ولا أم!
وكنت سِنُّه إذ ذاك اثنتي عشرة سنة، وهي سن الإدراك وتفتُّق الذهن وظهور العواطف، ولا سيما في البلاد الحارة كجزيرة العرب، وناهيك بنبي المستقبل وقد تفجرت في قلبه ينابيع المحبة والحنان والإشفاق من الوحدة بعد فراق العم الذي صار له أبًا وأمًّا وجدًّا وعمًّا في آنٍ.
فلما رقَّ قلب أبي طالب لابن أخيه — ومن ذا الذي لا يرق قلبه لتلك الكلمات العذبة الجميلة؟! — أردفه وسار به في القافلة.
وترى المؤرخين لا يحرصون على ذكر تفصيل السياحة وما وقع فيها من الحوادث اللاصقة بها، كعدد الأيام التي استغرقتها وتاريخ سفرها وعودتها وشخصيات المسافرين وأصناف متاجرهم وما مروا به من الأماكن؛ لأن هذه كلها في نظر المؤرخين من العرب وكُتَّاب السِّيَر لا قيمة لها بجانب الأساطير والخرافات والقصص التي تدور حول الأديرة والرهبان والأحبار والكهان الذين تنبَّئوا بظهور نبي في بلاد العرب وعرفوا في محمد علامات النبوة، وذكروا حوادث مستقبلة بالدقة كأنهم يقرءونها في كتاب مفتوح، بل ادَّعى بعض هؤلاء المؤرخين أن الراهب نظر في وجه محمد ثم عاد إلى ديره وبيده كتاب يقرأ فيه طالعه عن ماضيه وحاضره ومستقبله، ذاكرًا الأسماء والألقاب والمواطن والواقعات. والفرق في التقدير عظيم بين تدوين الحوادث وبين التمشي مع الخيال!
والأعجب من ذلك أن هؤلاء المؤرخين لا يذكرون أسماء الرهبان ولا أماكنهم بشيء من الدقة أو ما يقرب من الدقة، بل كل صومعة دير، وكل لابس مسوح راهب متعبدٌ ومطلع على الغيب ومتنبِّئ لا يخطئ!
وهؤلاء المؤرخون هم الذين عوَّدونا التدقيق والتحقيق فيما لا يفيد حتى الإغراق، فإذا ذكروا كُتب الرهبان قالوا: «الكتب القديمة» ولم يدوِّنوا اسم كتاب ما عدا الزبور أو ما في حكمه، ولو كان الكتاب القديم هو التوراة أو الإنجيل فلِمَ لَمْ يذكروا نصه؟
ولكن المذكور هو البشرى وحدها «وجهه وجه نبي، وعينه عين نبي، يُبعث لهذه الأمة الأخيرة.» فكان جواب أبي طالب على تلك البشرى المبهمة أو الذي وضعه المؤرخون على لسان أبي طالب أن قال للراهب: سبحان الله! الله أجل مما تقول. أي إنه قادر على أن يصنع من ابن أخي هذا نبيًّا.
ثم التفت إلى الصبي وقال: يا ابن أخي، ألا تسمع ما يقول؟!
محمد: أي عم، لا تنكر لله قدرة.
وحينئذٍ يكون محمد قد سمع من فم راهب صاحب دير وهو في الثانية عشرة من عمره بحضور عمه بشرى بأنه النبي المنتظر للأمة العربية.
وسند الراهب في ذلك الكتب القديمة.
ولم تقتصر البشرى على ذلك الراهب المجهول، بل جاءت على لسان بحيرا الشهير الذي كان ثالث ثلاثة هم خير أهل الأرض، ولعل المؤرخين وصفوه بذلك بعد الإسلام؛ لأنه بشر بمحمد ﷺ.
والثلاثة هم رباب بن البراء، وبحيرا الراهب، والثالث المنتظر يعني محمدًا.
وفي القصة الطريفة أن بحيرا أدب مأدبة للركْب الذي كان فيه أبو طالب وابن أخيه، ولم يكن ليولم لهم إلا إكرامًا لمحمد، ولكن العرب تقدموا ليأكلوا وليمة القسيس، وتركوا محمدًا تحت شجرة، فعاتبهم بحيرا لتخلف بعضهم، وهو يقصد محمدًا، فانبرى له واحد منهم وقال: يا بحيرا، ما تخلف عن طعامك أحد ينبغي أن يأتيَك إلا غلام، وهو أحدث القوم سنًّا.
وهذه عادة العرب؛ أنهم لا يثقلون على مُضيفهم بحشد الجماعة حول القصاع، ولكن محمدًا كان المقصود بالمأدبة، فقال بحيرا: لا تفعلوا! فليحضر هذا الغلام معكم، فما أقبح أن تحضروا ويتخلف رجل واحد مع أني أراه من أنفسكم. فعاب عليهم قسوتهم في حرمان الطفل، ولم يكن أبو طالب ليقدمه، فقال المعترض: هو والله أوسطنا نسبًا وهو ابن أخي هذا الرجل (مشيرًا إلى أبي طالب) وهو من ولد عبد المطلب.
ومعنى هذا أن أبا طالب كان يسمع هذا الحوار صامتًا.
فقال رجل من قريش، ولم نعرف اسمه، وقد فطن إلى ما في ترْك الطفل بعيدًا عن الطعام من القسوة: واللات والعزى إنه كان للؤمًا منَّا أن يتخلف ابن عبد الله بن عبد المطلب عن طعام من بيننا!
ثم قام إليه فاحتضنه وجاء به.
وخلا بحيرا بمحمد بعد الغداء وحادثه وفحصه وناقشه وسأله عن أمور كثيرة، ثم قابل أبا طالب وقال له: سيكون لابن أخيك شأن عظيم نجده في كتبنا، فأسرع به إلى بلده؛ فإن اليهود إذا رأَوْه وعرفوه قتلوه.
فعمل أبو طالب بنصيحة الراهب وبعث بمحمد مع بعض غلمانه إلى مكة.
وقيل إن الراهب زوده بكعك وزيت هدية ومئونة للطريق.
وقد اعتبر بعض المؤرخين قصة بحيرا تاريخًا، وقالوا إن اسمه جرجس، وإنه وصف خاتم النبوة بأنه قطعة لحم مثل التفاحة في أسفل من غضروف كتفه. وعده الذهبي في تجريد الصحابة صحابيًّا؛ لأنه رأى النبي وأكرمه وآمن به قبل النبوة.
•••
غير أن الذي يهمنا في تلك السياحة الأولى ومحمد في الثانية عشرة من عمره أنه وقف على ما تبطن الأرض وتظهر من أنواع الأقاليم المتغيرة وطبائعها المختلفة وأحوال العالم المتحولة بين الماضي والحاضر.
ففي الطريق من مكة إلى الشام منازل وديار كانت لأمم بادت وفنيت، كانت على الأرض زينة لها وجمالًا، فزادوها حسنًا بعمرانهم، وتفانَوْا في فنون حضارتها، وتسابقوا في إتقان مظاهر مدنيتها، فأقبلت الدنيا واتخذت زينتها كاملة، وغرتهم حوادث الدهر في إقبال ونعيم وعز مقيم ففسقوا وضلوا، وحادوا عن السنن التي تحيا بها الشعوب فتحوَّلت عنها النعمة، وزال المجد وتضعضعت القوة واضمحلت، وسادها الأجنبي والدخيل وظلم فيهم بقدر ما كانوا يظلمون أنفسهم، ثم زالوا من الوجود جميعًا وأصبحوا كأن لم يكونوا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا.
وفي مثل تلك السياحة ورؤية أرض الشام بين وادي الأردن وبصرى، ثم بين بصرى وغوطة دمشق وضفاف البحر الميت والأراضي الخصبة المزدانة بأشجار الرمان والصفصاف وأغراس الأزهار، وبساتين الورد والرياحين، والقافلة تمر بالمدن والقرى الزاهرة.
وعندما تتوارى المدن الآهلة بالسكان، الحافلة بأسباب العمران وراء كثبان الرمال وتتغلغل الإبل بأحمالها في الصحراء، تبدو مناظر جديدة تأخذ باللب وتستهوي عقول الناظرين؛ فمن جمال الطبيعة إلى آثار التاريخ إلى حياة الحضارة.
ما أعظم العبرة وما أجمل الموعظة!
وقد كان فيما أُنزل عليه ﷺ بعد أن صار نبيًّا قوله تعالى: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ ۖ فَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ.
أليست هذه البلاد شرق الأردن وفلسطين التي ورد ذكرها في التوراة والإنجيل؟ وتلك المدن المتحضرة بأراضي بني عذرة؛ حيث تتراءى للمسافر تلك المعاني المرحة الوادعة التي تفجرت فيها ينابيع الشعر والخيال تارةً، وطورًا انبعثت منها أنوار الحكمة الإلهية على ألسنة الأنبياء والمرسلين؟
ثم تعرض لأبي طالب وابن أخيه وقافلتهما أشجار النخيل وكروم الأعناب في وادي القرى، وقد امتدت أمامهم الضواحي الفينانة والغياض الناضرة والرياض المثمرة والواحات الحالمة والبساتين النائمة في أحضان حياض الماء المتدفق والأنهار المنهمرة.
وتمر القافلة بمن فيها وفي مقدمتهم أبو طالب وابن أخيه، بالصوامع والأديرة المنتشرة في رءوس الجبال وعلى سفوحها المخضلة، فيلقى رجالها الأعراب في الرهبان والمنعزلين لعبادة الديَّان نفوسًا كريمة يطمئن إليها العربي الظاعن في تنقله بين الصحراء المقحلة والحواضر الآهلة.
لم تكن القصص التي ينصت إليها الطفل مقصورة على تاريخ الأمم السالفة، أو حروب الشعوب المعاصرة، بل كان عمه وأبناء عمه يصفون له غارة الأحباش وحملة الفيل.
غير أن هذا الدور من الطفولة لم يكن مقصورًا على سماع القصص والتلهِّي بالسياحة في كنف أبي طالب؛ فقد رعى محمد الغنم وهو صغير مع إخوته في الرضاع، وحتى بعد عودته وحضانة عمه لم يخلص من هذه الوظيفة اللازمة لمثله في سنِّه؛ فكان يجتاز البادية ويصعد في الجبال ثم يعود إلى مسكنه في المساء. وأية غرابة في هذه الوظيفة اللازمة لمثله؟! فقد عاش موسى وعيسى أمدًا يرعيان الغنم في البادية وكانا من أزهد الناس في الدنيا. إن حياة الراعي ليست بدعًا في الصحراء، ولكن لا بد منها للأنبياء والمرسلين. وقد عاش النبيون إبراهيم ويعقوب وأيوب وغيرهم بين الرعاة في شوامخ الجبال أو في بطون الوديان، وقد أرادت العناية أن يرعَوُا الغنم والأنعام، حتى إذا تم نضجهم وتفتحت مواهبهم أهَّلَتْهم لرعاية الإنسان، فالنبي قائد على كل حال، والقائد راع ومسئول عن رعيته وقيادته، فلا بد أن يمارسها من درجاتها الأولى حتى الوصول إلى القمة. وما زال شيوخ العرب في غير قريش الضالة المضللة يتسامرون بأخبار هؤلاء الأنبياء القادة الذين ساروا بالشعوب إلى الأغراض النبيلة السامية حتى بلغوا صميم الحياة المبدعة المنشئة، فلم يلقَوْا عقبة أو فارقًا أو فاصلًا أو حاجزًا بين حياتهم الخاصة وبين تلك الحياة الكبرى التي تخترق العالم؛ لأنهم متصلون بعناصر الحياة والطبيعة.
منذ سمع محمد وهو صغير اسم اللات والعزى ويغوث ومناة وغيرها وهو يتساءل عنها في غيظ ونفور قيل إن وجهه امتُقع حين أقسم عليه بحيرا ببعضها. وهكذا قيل عن إبراهيم، ولكن إبراهيم اعتدى عليها وحطمها؛ لأن أباه كان سادنها وصانعها، أما أبو طالب فلم يكن على شيء من الاتصال بمخدع الآلهة أو ذلك «البانتيون» العقيم. ولكن لعل محمدًا سأل عمه فيما سأله: أتؤمن بهذه الحجارة يا عماه؟! ولعل أبا طالب بُهت من هذا السؤال بعد الذي رآه من نفور الصبي منها.
وفي تلك السفرة الأولى رأى الفتى القرشيُّ نبيُّ المستقبل بلادَ الشام وقراها ومزارعها ومصانعها، وأنظمتها العامة والخاصة، ورأى كيف يعمل الناس جميعًا ليعيش نفر منهم بعرق جبينه وكدح يمينه، ويتمتع آخرون بثمار الأرض ونفائس ما تعمله الأيدي وهم في دورهم قابعون، وكيف يعمل هذا لذاك في المجتمع ليتم نظامه ويحفظ قوامه، وكيف أن الظلم متغلغل في الحياة تغلغل السقم في البدن، وأن ظاهر الوجود المتحضر رحمة وباطنه نقمة، يخفي الفساد والإرهاق ويعلن الحنان والمحبة، وقد تمكَّن الدهاة من سادة البشر من إتقان الطلاء والتفنن في الصباغة بالألوان الزاهية، فإذا ما سقط الطلاء أو انجلى عن وجه الحقيقة المختفي وراءه تكشفت عن دمامة وعن شر عميق.
وقد كان القليل كافيًا لتنوير الصبر، الذي اختاره الله لرسالته، فكان من ذوي العقول التي تكفيها الإشارة، وتقنع بالمثال، ولا تحتاج إلى التكرير والإعادة.
وفي تلك السياحة تدرَّب محمد على أساليب التجارة واطلع على أصناف البضاعة وضروب الأدوات والمواعين التي يتبادلها التجار، وكيف ينقل كل تاجر من بلده ما لا يكون في غيره ثم يحمل إلى بلده ما ليس فيه، وكيف ينتفع التجار والوسطاء من عمليات التبادل، وما يكون لهم من الفضل في خدمة الإنسانية وترقية الحضارة.
وقد امتلأ ذهن محمد في هذه السياحة التجارية من صنوف المعارف وأنواع التجارب، وفي درسٍ كهذا من فوائد التربية العملية ما ليس في ألف درس من التربية الكتابية أو النظرية، كما أفاد من معاني الطبيعة وجمال الخلق لدى مرور القافلة بالأراضي المعشوشبة بين أشجار الرمان الدانية القطوف كثمار من الذهب اللامع في وهج الشمس، وأشجار الصفصاف وأغراس الورد والسهول إذ ذاك في بهاء ونضارة، والقرى في زهاء وازدهار. فما أعظم الفرق بينها وبين رمال الصحراء المحرقة ووديانها الجافة! وكان محمد في طفولته يرى الكعبة والأصنام ويجلس في ظل بيت الله مشمولًا بحنان جده ورحمته، ولعله أدرك معانيَ هذه العبادة الوثنية، ولعل قلبه السليم قد نفَّره منها، وبغَّض إليه الطواف بها. ولعله نظر إليها نظرة عجب واستغراب، ورنا نحوها بعين الاستنكار، فلما كانت سياحته الأولى مع عمه إلى ربوع الشام مرت قافلتهم على البِيَعِ والصوامع والكنائس والأديرة؛ حيث يُعبد الله على طرائق تخالف طريقة أهل مكة، وحيث ينقطع جماعة من الرجال عن المزاحمة في هذا الحطام الزائل، متوجهة نفوسهم إلى الوطن الأسمى الذي يليق بالروح التي تشعر وهي في البدن أنها غريبة عن ذلك الهيكل الجثماني، غير متطلعة نفوسهم، وغير ممتدة أيديهم إلى شيء من هذه الدنيا وما فيها، إلا إلى ما يقي البدن من جوع وعري فيشبعون بأقل الطعام ويكتسون بأبسط الثياب وينفقون على عيشتهم أبخس الأثمان، وهذا نوع من الرجال لم يَرَهُ محمد الناشئ في بيئته التي كانت بيئة تجارة ونضال وحرب وعبادة أصنام ومباهاة بالأنساب، واستقسام بالأزلام ومعاقرة للخمر ومسامرة وغناء وقمار، واحتكام إلى القوة ومفاخرة بالشعر، واعتزاز بالآثام وحرية مطلقة في الشراب والطعام وتطاحن على المال واكتناز كل مرتخص وغالٍ. وإن كان محمد قد رأى بحيرا حقًّا فقد رأى رجلًا تجرد عن زخرف الدنيا وراح يلتمس سعادة الروح بتعذيب الجسد، أو على الأقل بحرمانه من معظم ما يشتهي، ورأى منه كرمًا يشبه كرم العرب؛ فقد زعموا أن بحيرا صنع في هذه المرة طعامًا لقريش وقال في دعوتهم إليه: ما أحب أن يتخلف عنه صغير وكبير، عبد وحر!
وسواء أعاد محمد على جناح السرعة في حراسة العبيد، تبعًا لنصيحة الراهب الذي حذَّرهم عليه من اليهود، أم عاد مع عمه بالطريق المألوفة بعد أن أتم العم وأنجز تجارته؛ فقد عاد إلى مكة فتًى جديدًا وقد امتلأ ذهنه بالمناظر والآثار والأخبار، وترددت في نفسه آمال لم يكن يعرفها، وملكت عليه قلبَه عواطفُ جميلة وجهت نظره نحو آفاق جديدة في الوجود؛ الجمال والحكمة والكفاح، الخير والمجد والحياة!
•••
وإننا لنتصور شخصية محمد في ذلك العهد عهد الطفولة. لقد كان طفلًا جميلًا ذكيًّا، أميل إلى النحافة منه إلى البدانة، ذا عينين براقتين ولفتة يقظة، كأن روحه الأسمى يطل من وراء أجفانه التي كانت أقرب إلى الضيق منها إلى السعة، وله شعر مستفيض على كتفيه، تشع من شخصه تيارات قوية، وتخفيها للاحتفاظ بها وداعة نادرة حتى ليأنس إليه كلُّ من يراه، وكان أميل إلى الصمت منه إلى الكلام، فلا ينطق إلا إذا فاضت عواطفه بما لا يستطيع كتمانه، كعاطفة الحب الشديد الذي كان يكنه لعمه عبد المطلب؛ ألم ترَ كيف تعلق به لما أراد المضي إلى الشام وخرج أهله إلى وداعه وأقبل على الصغير العزيز يضمه إلى صدره، فابتسم الطفل وهو يحتبس دموعه الغالية ويقول له: يا عم، إلى من تكلني؟! لا أب لي ولا أم! كان أبو طالب رقيق القلب كبير النفس فوق رابطة الدم؛ ولذا كان كلما احتضن الطفل محمدًا، اغرورقت عيناه بالدموع ولا سيما إذا حدَّق في ملامحه فيرى في صورته شمس حياة جديدة، ويلمح في نضرة جبينه وبريق عينيه نضرة جبينه في فتوته وصورة والده عبد المطلب، وفي نغمات ضحكه مرح شبابه الذي ودَّعه. لقد كان يُتْم محمد روعة في قلب ذلك الكهل الجليل. لقد جعل النبي العربي أجرًا للوالد البار الذي ينهض في سواد الليل يتفقد أولاده في نومهم فينشر الغطاء على هذا ويعدل من فراش ذاك، وإن هذا الأجر ليربى على غيره؛ فقد كان أبو طالب يغادر فراشه والكرى العميق يطوي في سكونه أحلام بنيه فيدلف إلى حجرة الطفل في كثير من الرفق والتؤدة حتى إذا ألفاه نائمًا راح يرسل نظراته إلى وجهه وجسمه الصغير وهو يذوب حنانًا وعطفًا، ثم يعود إلى مرقده وكل خطوة يخطوها تنم عن حدب وحب وإكبار حيال تلك الوداعة الراقدة التي تُظل جبينه والنور الرباني الذي يملأ وجهه. ولم يكن أبو طالب هو البادئ بذلك الحب، بل ورثه عن والده عبد المطلب الذي كان شديد الكلف بحفيده يرعاه في المسجد ويخدمه في الدار ويناغيه في السوق ويداعبه في الطريق وهو يحمله، وقد أتقن الجد فن الأبوة الجميل الكامل.
ولعل جمال محمد ﷺ في طفولته كان من أعظم أسباب حمايته؛ فقد كان أهل الخير يتعلقون به وأهل الشر يهابونه، وقد صحبته تلك النعمة طوال الحياة وقد نمت حتى صار تعلق الناس به جلالًا ورهبةً يمازجهما التقدير والحب، فما كانت أعذب نظراته طفلًا وأقواها رجلًا وأعمقها كهلًا! صباحةً وسماحةً وصفاءً وعذوبةً؛ تلك كانت صفات محمد صغيرًا عندما اصطحبه عمه أبو طالب إلى الشام.
في هذه السن الصغيرة الناعمة يقول المؤرخون إن الله أنعم على الراهب بحيرا بلقائه وسماع صوته ودعوته إلى طعامه. وإن كان هذا حقًّا فقد كان حظًّا لبحيرا عظيمًا. قيل إن حديثًا دار بين النبي الناشئ والراهب المسيحي الراحل، ونحن لا نستبعد حدوث الحوار؛ فقد كان محمد من أفصح خلق الله، كما دلت واقعات المستقبل، والطفل والد الرجل! ولم يكن به ما يعوقه عن إدراك السؤال وسرعة الجواب. قيل إن بحيرا أقسم عليه باللات والعزى إلا ما أخبره عما يسأله عنه، لا لأن بحيرا يؤمن بهذين الوثنين الآفنين الآفلين، ولكن لظنه أن محمدًا يؤمن بهما، فحدجه الطفل طويلًا وقال له هادئًا: لا تسألني باللات والعزى؛ فوالله ما أبغضت شيئًا قط بُغضَهما. يحدثنا ابن إسحاق بهذا وهو خبر غريب، فلم يكن محمد في حداثة سنه ليدرك الفرق بين الوثنية والتوحيد، وإن كان اسم الله معروفًا له وهو الذي نسب والده إلى عبوديته. وكان هذا الجواب جديرًا بأن يلفت نظر الراهب ويقنعه بصدق فراسته، أو ما جاء في الكتب القديمة عن نبي التوحيد، ولعل محمدًا لو كان مميزًا لا ينطق بهذا في حضرة عمه وبقية الركب من أهل قريش، وكلهم يمجدون اللات والعزى ويعبدونها. ولعل بحيرا سأل الطفل عن أشياء من حاله ونومه ويقظته ومولده، ثم قال لأبي طالب: إن ابن أخيك هذا يكون نبيًّا. فدهش العم وسأل الراهب: وما النبي يا بحيرا؟!
فقال: هو الذي يوحى إليه من السماء فينبئ به أهل الأرض. فذُعر أبو طالب وهو الذي قال له أبوه عبد المطلب وهو يوصيه بالطفل خيرًا: إن لابن أخيك هذا شأنًا. لم يُذعر أبو طالب وحسب، بل أخذته رعدة، وكأن هذا الهاشمي النبيل قد حدث له في لمحة عين ما يحدث أحيانًا في التاريخ عندما يشرف العقل بدهشة وحماسة على حقيقة باهرة، فيكشف له عن سير الحوادث المقبلة ليرى أن ما يشهده بداية لحوادث كبرى سينشر الدهر ما انطوى منها في ثنايا الوجود، ولعل هذه الرعدة هي التي درعت نفس أبي طالب في مستقبل الأيام حيال هجمات قريش على ابن أخيه، فحرص عليه وأمسك عليه بالنواجذ واستهان بالفقر والنفي والموت في سبيله إلى أن أدركته الوفاة. ولعل هذه الرعدة هي التي أورثها عليًّا أبوه فصار أشد تعلقًا بابن عمه منه بوالديه وأحب الناس إليه، وهي التي ربطت بين قلبَي العم وابن أخيه حتى وُصف عام وفاة العم ووفاة خديجة بعام الحزن. ولو علم أبو طالب في تلك اللحظة أن محمدًا لن يكون نبيًّا وحسب، بل نبي ورسول ومبشر ونذير ورحمة للعالمين، فلشدَّ ما كانت تكون رعدته! وإن بعض هذا لكافٍ باقتناعه بعظم شأن الطفل. ولعل بحيرا حاول تقريب الأمر إلى ذهن محدثه القرشي فقال له: إنه سيكون عظيمًا في إحسانه إلى الناس، قويًّا في جلب الخير ومكافحة الشر، داعيًا إلى دين ليس بالجديد وليس بالقديم، ولكنه ينطوي على عقيدة تصقل الأذهان والنفوس فلا تضيء إلا لفهم الحقيقة والفضيلة والصدق والوفاء والأمانة وعفة الرجال وصون النساء وإقامة العدل والقضاء على الوثنية التي غمرت العقول بظلماتها، ويكون من أتباعه من يحملون القيثارة التي تطرب أنغامها الإنسانية الفاضلة في المستقبل بعد أن يكونوا قد حملوا السيف الذي يطهر الأرض من أدرانها. ولكن هذه البشرى لم تكن لتطمئن أبا طالب ما دام أبو طالب لا يضمن حياته ليوفر له سعادته ويصحبه إلى ظهوره. ولكن بحيرا الذي قرأ التوراة والإنجيل وكتبًا أخرى يصفونها بأنها كتب الحكمة القديمة، كان يعلم علم اليقين أن الأنبياء الذين تقدَّموا محمدًا عاشوا أيتامًا أو في حكم اليتيم. ولكن العالم على رحبه وامتداده ما لبث أن أصبح أسرة لهؤلاء الذين مشَوْا في الظلام حينًا ليطلوا على النور، ولكنْ أبو طالب لم يكن من قرَّاء الأسفار ولم يَعْنِهِ يومًا زبور داود ولا إنجيل يوحنا ولا نبوءات بني إسرائيل، ليرى ويقنع بأن الأنبياء والمرسلين لا يلقَوْن في طريقهم تلك العقبات التي تفصل بين تكوينهم الإلهي وبين القوة الروحية التي تخترق الكون؛ فهم مثال الانسجام حيال الطبيعة كأنهم جزءٌ منها، وكأن الطبيعة بعض مشاعرهم وإدراكهم؛ فقد انطوى فيهم العالم الأكبر منذ مولدهم إلى آخر يوم في وجودهم الأرضي.
وقد تمر بذهن بحيرا مرور البرق صور إبراهيم ويوسف وموسى وعيسى، وقد عاشوا في بداية أمرهم مروعين مضطهدين، ثم ما لبثوا أن انسجموا وانتصروا بقوة الحب والنور.
لقد كان نصيب بعض الأنبياء من الفوز والغلبة ضئيلًا، فلم يسودوا حتى شعوبهم، ومنهم من فتكوا به وقتلوه، أو أرغموه على الفرار من بيته بليل، لا ليعود أبدًا، إلا هذا الفتى الساهم الحالم الوادع المتواضع المطيع؛ فسوف يدين له العرب ويملك الروم والعجم.
قيل إن بحيرا حذر أبا طالب من اليهود. ولكنه تحذير مبهم غامض ولا شأن له في ذهن أبي طالب في تلك اللحظة؛ فلم يكن في مكة يهود ولم يكن لليهود في العالم دولة، وإن كانوا ذوي قوة وبأس وسلطان في يثرب وفي صنعاء، ولكن أنَّى لواحد من هؤلاء الأعداء البعيدين أن يصل إلى مكة أو إلى بيت أبي طالب لينال من ابن أخيه الذي لا يزال طفلًا؟ ومن منهم يصل إلى رؤية خاتم النبوة بين منكبيه وهو الذي رآه بحيرا أثناء فحصه ومحادثته؟ إن أبا طالب يحمي ابن أخيه الذي يعيش تحت كنفه وفي ظلال رعايته وفي قدرته أن يردَّ عنه عادية اليهود بسيفه، كما يردُّ عنه عادية قريش، ولكن ذلك كله كان في حنايا المستقبل البعيد، سوف تمضي ثلاثون أو أربعون سنة كاملة قبل أن يصير هذا الإنذار حقيقةً واقعة.
ولِمَ لا يكون بحيرا صادقًا؟ ولِمَ لا يشغل باله بما ثبت في التوراة والإنجيل من التبشير بنبي جديد يظهر في جزيرة العرب بالتلميح تارةً وبالتصريح مرات متعددة؟ ولِمَ لا يرى بحيرا في الطفل تلك العلامات الواضحة التي تتفق ووصف الرسول المرتقب؟ ألم يكن العالم كله متطلعًا إلى نور الآفاق المبعوث لإقامة الحق وإتمام مكارم الأخلاق، ما عدا قبيلة قريش وقرية مكة اللتين أسدل القدر على بصرهما وبصيرتهما غشاوة سمكها كالحجارة والأخشاب التي يعبدونها؟!
وها هو أبو طالب يرجع بذاكرته إلى عشرة أعوام؛ ليلة أن وُلد ذلك الصغير، ألم تفرح به العشيرة كلها حتى غلب فرحهم به حزنهم على أبيه؟ حتى أبي لهب الأحول الأحمر الأعرج «عدو الشمس» وعدو الله ورسوله — وإن يكن عمه — فقد خرج ليلة مولده وأعتق جاريته ثويبة التي بشَّرته بمحمد وسمح لها بإرضاعه أيامًا إلى أن يفيض لبن أمه.
أخذ أبو طالب يذكر ذلك اليوم الذي وُلد فيه محمد وكانت مكة كلها، بل جزيرة العرب، مذعورة مروَّعة لغارة الأحباش الذين تجمعوا بجيوشهم لهدم الكعبة، وكيف هرع سادة قريش إلى بيت الله ضارعين متوسلين وأبرهة يقود جحافله وفيله، ثم كانت هزيمته وارتداده وهلاك جيشه، فكان نصرًا مؤزرًا وإن يكن سلبيًّا لم تهرق فيه دماء العرب غير ما أهريق من دماء الجواسيس الذين قادوا أبرهة إلى المدينة المقدسة. وصادف ذلك مولد محمد؛ فهو بشرى النصر، وبداية الظهور، وعلامة صادقة لحماية البيت إلى آخر الدهر. وإذنْ لم تخطئ الكتب القديمة ولا حكمة المتنبئين التي دلت بحيرا وكشفت له القناع عن المستقبل؛ فهذا النصر الذي أدركته قريش يوم مولده أو حواليه أقطع في الإثبات من كل شيء؛ ففيه أخذ نجم هذا الطفل يتألق في آفاق جزيرة العرب. هذه بشرى أوضح وأقوى من كل ما عداها من البشريات، ولا تزال في ذهن أبي طالب ماثلة، ولم يمت أبوه عبد المطلب الذي قام بواجبه في مفاوضة أبرهة إلا منذ عامين، وزادت مكانة محمد في عين عمه رفعةً؛ فقد كان أبو طالب يرعاه للماضي وللذكرى؛ أما الآن فهو يرعاه للمستقبل وللمجد. عواطف رحيمة جياشة لا يشوبها الطمع في خيرٍ أو الخوف من شرٍّ، وإننا لنراه بعين الذهن وقد أقبل على الطفل يضمه إلى صدره ويُقبِّله، ويروي ابن عساكر في تاريخه (ج١، ص٢٥٣) أنه سأل محمدًا: ألا تسمع يا ابن أخي ما يقول «الراهب»؟! فأجاب الطفل: أي عم، لا تنكر لله قدرته!
•••
أما بحيرا ذلك الراهب الصالح فلعله كان يتحرق على ذبول حياته وهبوب ريح الفناء على شيخوخته التي أذنت بالمغيب؛ فلن يدرك نبوة هذا الفتى ولن يستمتع بالخير والنعمة اللذين يفيآن على أول من اكتشفه وبشَّر به حقًّا وهو يراه أمامه لحمًا ودمًا، كما يتحرق بعد ذلك بثلاثين عامًا ورقة بن نوفل عندما رآه وسمع روايته في رؤية الملك فقال له: هذا هو الناموس الذي نزل على موسى، ليتني أدركه فأكون من تابعيه! أما قولهم إن بحيرا آمن به وبرسالته فليس في حدود المنطق أن يكون قد وقع، وإن يكن قد قيل، فمن الأزهار التي تزين مأدبة التاريخ وهي كثيرة ومختلفة ألوانها وعطورها!
لم تكن سياحة محمد في طفولته إلى ربوع الشام في كنف عمه أبي طالب الأولى والأخيرة. وسوف يشد رحاله مرة أخرى في رجولته الناضجة إلى تلك المدائن؛ ليستمتع مرة أخرى بجمالها وآثارها؛ ولذا تراه لما توارت أشباح المدن المتحضرة وراء الرمال وتوغلت القوافل في صحراء الجزيرة ظلت عيناه ناظرتين إلى الأفق، فتتبعته نظرات عمه الحنون، وتذكر بشرى الراهب فأدرك في لمحة عين بفطنته الأصيلة الموروثة عن آبائه وأجداده النبلاء من بني هاشم أن الصحراء بدأت تنتعش وأن روحًا علويًّا قدسيًّا أخذ يشرق في نواحيها منذ وُلد هذا الطفل العظيم ووطئت رمالَها أقدامُه.
ولم تكن روح محمد وإدراكه بأقل من روح إبراهيم وموسى؛ فصدف عن عبادة الأصنام في طفولته وفتوته وصباه كما صدف هذان النبيان، وجفا مخادعها فلم يدنُ منها ولم يستمدها قوة ولم يُعِرْها احترامًا، ولم يُخدع بها ولم يستدرجه شيء من عبادة قومه إياها شبانًا وشيبًا، رجالًا ونساءً. ولم يكن محمد في صباه وفتوته بحاجة إلى البحث عن الحقيقة في أعماق نفسه، حتى إذا تراءت له اطمأن إليها ورأى في حلاوتها ونورها سلام نفسه وسلام العالم؛ لأن هذا البحث بعيد عن مثله، أو مخالف لطبيعته وتكوين فطرته، بل لأن هذه الحقيقة سوف توحى إليه كاملة في موعد محدد، وهذا الوحي مربوط بوقته، فلا يستعجله أحد ولا تستقدمه الحوادث.
غير أن شيئًا واحدًا كان محتومًا وأن يَنْصَب لأجل تمامه شخص ممتاز لا يستهان بقوته وخلقه ونفوذه كأبي طالب، وهذا الأمر المحتوم، أن تَسْلم طفولته ﷺ وفتوته وشبابه من خبائث الجاهلية ومفاتن الشرور في القرية المكية، لتظل نفسه على صفائها وطهارتها ونقائها ونضارتها إلى أن تستتم نضجها فتخرج من عزلتها إلى العالم حاملة إليه دين العصر الحديث وفضائله ومبادئه.