حرب الفجار
في السنة الأولى من مولده ﷺ صُدت مهاجمة الأحباش ورُدت حملتهم عن مكة وكعبتها.
ولم تكن قبيلة قريش لتنجو من خوض غمارها، ولم يكن أهل مكة ليدفعوا عن أنفسهم عار المذلة، أو معرة الغدر دون أن يصطلوا بنارها.
وكان محمد قد ترعرع ونما واستهل العام التاسع عشر، فشهد تلك الحرب التي دامت خمسة أيام: يوم نخلة، ويوم سمطة، ويوم العبلاء، ويوم عكاظ، ويوم الحريرة.
وقد شهد محمد الأيام الأربعة الأخيرة من هذه الحرب وفاته اليوم الأول. ولم يشهدها من بني هاشم غير أبي طالب والزبير وحمزة والعباس وهما من أولاد عبد المطلب.
وكان محمد يساهم في الحرب فيناول عمه وأهله النبال. وكان حمزة أكثر انهماكًا في الحرب وإن كانت سنهما واحدة؛ فقد وُلدا معًا في سنة ٥٧٠ ميلاديًّا. وقال محمد بعد ذلك: «ما سرني أني لم أشهده، إنهم تعدَّوْا على قومي، عرضوا عليهم أن يدفعوا إليهم البراض صاحبهم فأبَوْا.» وقد سُرَّ محمد بمشاركته وقومه في تلك المعركة الجاهلية، كما سُرَّ بعد ذلك بحلف الفضول، وفي كلٍّ منهما مظهر جميل لعبد الله بن جدعان.
فلما أعد النعمان لطيمته في تلك السنة (٥٨٩م)، كان البراض قد وجد طريقه إلى القصر وصار من جلساء الملك بما له من الجرأة والفجر وقوة الإرادة في الشر، فقال الملك: من يجيز هذه اللطيمة ويحميها؟ أجاب البراض: أنا أجيزها على بني كنانة، قال الملك: إنما أريد رجلًا يجيزها على أهل نجد، فانبرى عروة الرحال بن عتبة بن جعفر بن كلاب — وهو حينئذٍ رجل هوازن — وقال: أنا أجيزها أَبَيْتَ اللَّعْنَ!
فغضب البراض ولحقه الغيظ ورأى في كلام عروة تعرضًا له واستخفافًا بشأنه ومصادرةً له في رزقه وربحه وقطعًا لعلاقته بالملك، وتفويتًا للفرصة التي كان يرقبها ويرجو من ورائها أن يستردَّ اعتباره وكرامته. فلما تجمعت لديه كل تلك الدواعي قال لعروة: أتجيزها يا عروة؟! قال: نعم، وعلى الناس جميعًا! أفكلب خليع يجيزها؟!
فكلَّف النعمان عروة بإجازة اللطيمة فتبعه البراض واقتفى أثره، وعروة يراه ولا يخشاه، وكان البراض العربيد الغادر المجرم العائد الذي جمع بين الخلاعة والفتك يتربص بعروة الدوائر وينتظر الفرصة لينتهزها ليقضيَ على الرجل الذي تعرض له واختطف رزقه وربحه وكرامته. ولكن عروة كان يسخر من متابعة البراض إياه، ولا يكترث له ولا يحتاط بحرس أو غيره، حتى إذا كان بين ظهري غطفان إلى جانب فدك بأرض يقال لها أواره، قريب من وادي تيماء، نام عروة في ظل شجرة، ووجد البراض غفلته فقتله وهرب باللطيمة.
إن الذي وقع بعد الجريمة والفرار يهم تاريخ النبوة المحمدية؛ لأنه يُلقي أشعة هادية على معقولية العرب وحيلتهم ومبادئهم وتقاليدهم ومدى اتساع أفكارهم وأفعالهم، وكانت هذه الواقعات وما سبقها وصحبها وتلاها مجالًا للسياسة والحرب، وقد فهمها النبي ووقف عليها وكان له فيها رأي ومشاركة قبل بلوغ العشرين، في ذلك الشباب الحافل بالحوادث. وكانت حرب الفجار التي دارت رحاها بين القبائل ميدانًا للدرس والاعتبار. إن الرجل الذي وصفه عروة الرحال بالكلب الخليع، كان خليعًا حقًّا، ولكنه لم يكن على كل حال كلبًا، كان غادرًا؛ إذ قتل عروة نائمًا غير محترس، وكان طريدًا شريدًا عربيدًا، ولكنه لم يكن كلبًا.
لقد طلب البراض إلى حرب بن أمية أن يحميَه وأن لا يفضحه ففعل، فلم يجحد البراض هذا الجميل، فكان أول فعله بعد القتل والسرقة أن بعث برسول مأجور أجرًا غاليًا إلى حرب بن أمية وعبد الله بن جدعان وهشام والوليد ابنَي المغيرة ليخبرهم أنه قتل عروة، وهو يحذر هؤلاء السادة من قريش لئلا يسبق الخبر إلى قيس وهم أهل عروة الرحال فيكتموه حتى يقتلوا واحدًا من هؤلاء السادة القرشيين؛ لأن حرب بن أمية ما زال حاميًا للبراض ومجيره. وقد أحسن البراض اختيار الرسول فهو بشر بن حارم؛ لأنه من قريش ويغار على قومه ولا سيما العظماء منهم. فلما قبض القلائص وهي أجره الغالي على اللحاق بالعظماء لتحذيرهم قبل أن يفتك بهم أهل عروة سأل البراض: وما يؤمنك أن تكون أنت ذلك القتيل؟!
وهنا يتجلى العربيد في ثوبٍ من الفطنة والتواضع ويدل على أنه من الذكاء بحيث يعرف قدر نفسه، قال يرد على سؤال بشر بن حارم: إن هوازن لا ترضى أن تقتل بسيدها (يعني عروة الرحال) رجلًا خليعًا طريدًا من بني ضمرة. إن ولاء البراض لقريش، ومبادرته إلى تحذيرهم لدفع السوء عنهم ومعرفته قدر نفسه وأن هوازن يخطئونه قصدًا؛ ليصيبوا رأسًا كبيرًا؛ لدليل على أنه لم يكن كلبًا كما سبه عروة الرحال. وقد شهد حديث البراض وبشر شاهد من قريش هو الحيس بن يزيد أحد بني الحارث بن عبد مناف بن كنانة، وهو يومئذٍ سيد الأحابيش، فأخبراه الخبر ثم ارتحلوا وكتموا النبأ على اتفاق منهم.
كل هذه الحوادث كانت تُحاك بين القبائل، ومحمد ﷺ في أواخر العقد الثاني، وهي تعطي صورة جيدة من حياة ذلك الشعب الغارق في الغزو والقتل والثأر، والسلب والحيلة والحرب. وقد اتخذ كل رجل منهم إلهه هواه، ووضع لنفسه قانونًا يسير بمقتضاه، ويُرغم الآخرين على اتباعه، لا يرعى من الحقوق إلا ما كان فيه نفعه، أو يرى فيه عدلًا ينطبق على دخيلة نفسه … نفوس طليقة لا يقيدها إلا الشهوة والصالح الخاص، وأعمار مهددة لا يحددها إلا الأحقاد، وأخلاق مفككة لا يردها إلى روابط المجتمع سوى الخوف من الفضيحة بين الأمم.
ينتقل بنا سير الحوادث إلى مسرح آخر بعد انفصال الفرسان الثلاثة: البراض وبشر بن حارم والحيس بن يزيد.
ولكن حربًا كان ينتظر الحرب فعلًا، ولعله لم يُطلع عبد الله بن جدعان على حقيقة الأمر، وفي ظني أن عبد الله لو علم ورأى الخطر ما تردد في رد الوديعة وقد صرَّح بذلك وأتبع التصريح بالصياح في الناس: «من كان له قِبلي سلاح فليأتِ وليأخذه!» فأخذ الناس أسلحتهم وسار الفرسان الثلاثة من قريش راجعين إلى مكة من عكاظ، وكان قيامها فيما بين النخلة والطائف عشرة أميال، وبها نخل وأموال لثقيف.
ولم يَفُتْ فرسان قريش الثلاثة (حرب وعبد الله وهشام) أن يبعثوا إلى أبي براء — وهو أول من يهمه الطلب بدم عروة الرحال — رسالة غامضة جاء فيها: إنه قد كانت بعد خروجنا حرب وقد خفنا تفاقم الأمر، فلا تنكروا خروجنا.
وكان خروجهم من عكاظ غريبًا … فلما كان آخر النهار نعي عروة إلى أبي براء وأن الذي اغتاله البراض، فقال: خدعني حرب وابن جدعان!
وقد أخطأ في نسب الخديعة لابن جدعان حقًّا؛ لأنه لولا عبد الله بن جدعان ما وصل سلاح هوازن إلى أيديهم.
وركب أبو براء فيمن حضر عكاظ من هوازن في أثر حرب وعبد الله، وهشام والوليد ابنَي المغيرة وغيرهم، فأدركوهم بنخلة فاقتتلوا (وقد سُمي هذا اليوم الأول بيوم نخلة، وهو الذي لم يشهده النبي لأن نبأ المعركة لم يصل إلى مكة) حتى دخلت قريش الحرم وجنَّ عليهم الليل فكفوا.
لم يكن يوم نخلة مناوشة أو ملاحقة، بل كان معركة حامية بين جيشين، جيش قريش وجيش هوازن، وكان حرب بن أمية في القلب، وابن جدعان وهشام بن المغيرة على الجناحين (المجنبتين) عن قريش، وكانت راية قصي بن كلاب التي يقال لها العقاب مع حرب بن أمية (حامل العلم)، أما هوازن فقد كان قادتهم ملاعب الأسنة عامر بن مالك وكدام بن عمير والصمة بن الحارث (والد الشاعر الجاهلي المشهور) فلما بلغ القتال سواد الليل ودخول قريش نطاق الحرم، نادى الأدرم بن شعيب أحد بني عامر من فريق قيس وهوازن: «يا معشر قريش، ميعاد ما بيننا هذه الليلة من العام المقبل!»
ثم كان اليوم الثاني من حرب الفجار وهو يوم سمطة، وتجمعت كنانة وقريش بأسرها وبنو عبد مناة والأحابيش، وأعطت قريش رءوس القبائل أسلحة تامة وأداة كاملة، وكان على بني هاشم وعبد المطلب الزبير بن عبد المطلب وأخوه أبو طالب وعبد يزيد بن هشام ومعهم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب وهو ابن سبع عشرة سنة، وعلى عبد شمس حرب بن أمية ومعه أخوه، وعلى بني تيم ابن مرة وعبد الله بن جدعان.
وقد سبقت هوازن قريشًا فنزلت سمطة من عكاظ بخيلها ورجلها ودارت رحى القتال من أول النهار إلى آخره.
وكان محمد بن عبد الله لا يصير في فئة إلا هُزم من يحاذيها، فرمقه زعيما قريش حرب بن أمية وعبد الله بن جدعان وكانا يعرفانه ويعلمان شرفه ونسبه وشجاعة جده ووالده وأعمامه، وقد بهرهما إقدامه وحسن حظه وعلو نجمه وصعود سعده فقالا: ألا ترَوْن إلى هذا الغلام، ما يحمل على فئة إلا انهزمت (الأغاني، ج١٩، ص٨٧)، وكان هذا المظهر الأول لمحمد ﷺ في ميدان الوغى، وكان كلُّ من جاوره يربح وينتصر.
وها هي نبوءة الراهب بحيرا بدأت تتحقق بعد خمس سنين أو ستٍّ من تاريخ التصريح بها.
وتوالت أيام الفجار إلى تمامها يوم الحريرة حتى عرض عتبة بن ربيعة الصلح على قريش بشروط حسنة مشرفة لها فقبلتها. ولم يشهد حرب الفجار من بني هاشم غير أسرة النبي وأقاربه الأقربين أبي طالب والزبير وحمزة والعباس ابنَي عبد المطلب.
وكانت نظرية الرسول في هذه الحرب أن الحق في جانب قريش؛ لأن هوازن وقيسًا تعدَّوْا على قومه وعرضوا عليهم أن يدفعوا إليهم البراض صاحبهم فأبَوْا، فإلى هذا المدى كانت غاية الجوار والحماية والمحالفة ولو بغير إخاء والانتساب إلى الزعماء، وقد تحمل حرب بن أمية تبعة حربٍ دامت خمس سنين بعداء متصل بين القبائل؛ لأنه أبى أن يخلع البراض فقتل من أهله ومن قريش أخوه أبو سفيان بن أمية، كما قتل العوام بن خويلد وحزام بن خويلد (وهما أخوا خديجة بنت خويلد أول أزواج الرسول) ومعمر بن حبيب، وجرح حرب نفسه جرحًا شديدًا.
وقد تهمنا هذه الحرب بعض الشيء بأنها إحدى الحروب الثابتة التاريخ في الجاهلية، وفيها الكثير من مشاكل القانون الدولي والقبلي والجرائم السياسية التي تؤدي إلى قطع العلائق بين القبائل، ثم إلى الحرب، وتصف لنا طرائق الهدنة وبداية المفاوضات للصلح ونظام الرهائن وأثر صلة الأرحام في الحرب والسلم.
وإن جريمة البراض الشهيرة في التاريخ العربي لتهمنا؛ لأنها سببت عن طريق غير مباشرة حضور الرسول تلك الحرب الأولى، التي أُعجب فيها حرب بن أمية بمهارته وحسن حظه. ولو أشرفت نفس حرب على المستقبل لرأى الحروب الدامية التي سوف يفوز فيها هذا الذي سماه «غلامًا» على أولاده وأحفاده وجميع عشيرته، لقد حارب محمد في صف بني أمية هو وعمومته من بني هاشم وما زال ينصرهم ويصفهم بأنهم قومه، إلى أن تغير محور الحوادث وصار أبو سفيان بن حرب هذا يؤلب عليه القبائل والأمم والملوك.
•••
لقد تدرب محمد بن عبد الله في معارك الفجار على طرق الحرب ووسائلها، وكان وجوده في فئة سببًا لانتصارها وانهزام من يحاذيها، كما أقر بذلك حرب بن أمية في حديثه لعبد الله بن جدعان يوم السمطة — وهو الثاني من أيام تلك الحرب — فكان النصر حليفه دائمًا، وكان يحارب في صفوف عبد شمس أعداء عشيرته الألداء من قديم الزمان. وفي الأخبار أن سنه كان تسع عشرة سنة أو سبع عشرة سنة، وعلى كل حال فهي سن النضج الحربي واستهلال الرجولة الكاملة التي كان يدرج في النمو إليها بعقله وجسمه وخلقه؛ فمن اليتم والرضاع إلى سياحته في كفالة أمه إلى قبر أبيه في تلك المدينة التي سوف يحكمها ويملكها وينشر منها أنوار شريعته، ثم حضانة جده الكفيف بطل المفاوضة مع أصحاب الفيل، فكفالة عمه فالتنقل بين البادية والحاضرة في رحلته إلى الشام ولقاء الراهب بحيرا، فحرب الفجار التي أبلى فيها بلاءً حسنًا.
- الفجار الأول: حدثت وعمر النبي عشر سنين، وسببها أن بدر بن معشر الغفاري — وهو شخص سخيف متنطع — كان يجلس في سوق عكاظ ويمد رجله ويفتخر على الناس، ففي يوم فعل هذه الفعلة وقال: «أنا أعز العرب فمن يزعم أنه أعز مني فليضربها بالسيف.» فتضايق رجل من كبرياء هذا الجلف ووثب وضربه بالسيف فاقتتلوا!
- الفجار الثاني: كانت امرأة من بني عامر في سوق عكاظ، فتعرض لها ولد من قريش من بني كنانة وجنى عليها بفعل فاضح، فاستغاثت المرأة بآل عامر واستغاث الولد ببني كنانة فاقتتلوا.
- الفجار الثالث: كان لرجل من بني عامر دَين على رجل من بني كنانة فمطله
فتخاصما واقتتل الحيان!
وفي هذه الحرب تدخَّل عبد الله بن جدعان ووضع حدًّا للقتال بأن دفع دَين الكناني، وهذه المعارك لم يحضرها النبي، وكانت أسبابها تافهة ما عدا المعركة الثانية؛ لأنها خاصة بالعرض والاعتداء على امرأة.
- الفجار الرابع: واسمه فجار البراض، وسببه قتل البراض لعروة الرحال في الشهر الحرام. وقد دامت تلك المعركة خمسة أيام حضرها محمد ﷺ على التفصيل المبين بالمتن.