رعاية أبي طالب للرسول عليه الصلاة والسلام
لقد كان أبو طالب مرغمًا على البحث عن وسيلة تخرجه من مأزق الفقر؛ فقد كان جاه بني هاشم في عهد عبد المطلب يداني جاه عبد شمس، فكان غنيًّا وجيهًا وكان زعيمًا مسموع الكلمة ومحسودًا من البيت المنافس لبيته على السيادة وهو بيت عبد شمس، الذين عُرفوا بعد ذلك ببني أمية. وكانوا قساة القلوب محبين أنفسهم متكالبين على المال حتى ألهاهم التكاثر وأطغاهم المال، فلا تعثر على أحدهم إلا وله نقيصة خلقية تغطي على ما يجوز أن يكون له من حسنات. وتكفي المقارنة بين أيتامهم وأيتام بني هاشم؛ فقد كان لحرب بن أمية والد أبي سفيان وحامي البراض، ابن أخ مات عنه أبوه هو عتبة بن ربيعة بن عبد شمس فأمسى عتبة يتيمًا في حضانة حرب، فلما وقعت حرب الفجار ضنَّ به حرب وأشفق من خروجه معه إلى ميدان القتال كما خرج محمد بن عبد الله! وكان هذا الإشفاق ممزوجًا بالجبن المأثور عن رجال هذا البيت كما أُثر الفُجر عن نسائهم في الجاهلية! ولكن الولد عتبة خرج بغير إذن عمه فلم يشعر به إلا وهو على بعير بين الصفين. وله خبر طويل وضعه أنصار الأمويين زعموا به أن حرب الفجار انتهت على يديه وأن عتبة هذا توسط في الصلح بين هوازن (قيس قوم البراض) وكنانة وقريش، وأملى شروطه فوضعت حرب الفجار أوزارها تبعًا لهذا الصلح. ولكن على الرغم من ذكاء هذا الولد وإقدامه (إن صحت رواية أنصار الأمويين)، فقد تركه أهله يعاني آلام الفاقة طول حياته ولم يجودوا عليه بشيء من مالهم الذي كدسوه واكتفَوْا بأن يذيعوا عنه عبارة أليمة، وهي «أنه لم يَسُدْ مُمْلِقٌ إلا عتبة بن ربيعة.» وكان أفلس من أبي المزلق، وهو رجل آخر من بني عبد شمس لم يكن يجد مؤنة ليلته، وكذا أبوه وجده وجد جده كلهم يُعرفون بالإفلاس، أليس عجيبًا أن تضم أسرة واحدة هذين النقيضين من ثراء البعض وفاقة البعض ولو شاءوا لأغنَوْهم؟ والأدهى أنهم شهدوا إفلاس أقاربهم جيلًا بعد جيل وصاغرهم عن صاغر ولم تتحرك فيهم نخوة، وعتبة هذا قد ولد هندًا أم معاوية وزوجة أبي سفيان (آكلة الأكباد!) ومات في غزوة بدر مشركًا طبعًا!
فانظر الآن ما صنع بنو هاشم لقرة عين العالم، وسيد البشر الذي وصفه حاسدوه وشانئوه من عبد شمس بأنه يتيم أبي طالب وما بذلوه في سبيله من الحب والحدب والعناية الوالدية والمال فصار نبيًّا. ولو ترك عتبة لفطنته التي ظهرت في التوسط في الصلح لآمن بدين محمد كما آمن حفيده معاوية، مع أن عتبة هذا كان من المرشحين للنبوة في زعم أمية بن أبي الصلت ولكنه تجاوز الأربعين فعدل أمية عن زعمه فيه كما عدل عن زعمه في نفسه!
لقد تغيرت أحوال بني عبد المطلب بعد وفاته تغيرًا محسوسًا، ولو لم يكن أبو طالب على رأسها لهوت من عليائها كما تهوي في كل مجتمع عشيرة نبيلة قليلة المال، ولكن حزمه وشممه وقوة إرادته حفظت كيان الأسرة وأعانت على تعهُّد محمد حتى بُعث.
ولعل محمدًا وهو مقبل على الحياة العظمى فاجأ عمَّه أبا طالب جالسًا في شرفة داره مطلًّا على مكة في إحدى الليالي المظلمة، وقد أخذت أنوار جديدة تتأهب لتغمر تلك الظلمة، ولكنها لم تكن من تلك الأنوار المتلألئة في قصور عبد شمس وعبد الله بن جدعان وغيرهما من سراة القرية وسادتها، وقد كانت مكة على صغر شأنها بين قرى الأرض أشبه البلاد بمدن أمريكا الحديثة من حيث أخلاق ساكنيها وأعمالهم وأذواقهم، ولعل مرارة الحياة وقسوتها كانت في مكة أشد وأقسى، وقد كان للمكيين في أواخر القرن السادس الميلادي قواعد عرفية تقوم مقام القوانين؛ فقد رأينا عبد الله بن جدعان يستبين غدر حرب بن أمية وهو صديقه وشريكه وينهره ويقول له: «والله لو أعلم أنه لا يبقى منها سيف إلا ضربت به ولا رمح إلا طعنت به ما أمسكت منها شيئًا.» ثم يعين قريشًا بمائة درع ومائة رمح ومائة سيف ليستعينوا بها في محاربة قيس، ويتولى قيادة أحد الجناحين، وهو يعلم أن الذي جلب تلك الكارثة على قريش هو حرب بن أمية بحمايته ذلك الشقي الخليع البراض بن قيس الذي عاث في الأرض فسادًا وتقتيلًا وسلبًا، حتى لطائم الملوك لا يتركها، فهذا الوفاء من ابن جدعان لا يقل عن وفاء السموأل مع امرئ القيس وإن كان السموأل فضَّل أن يرى مصرع ولده على أن يرى مصرع الأخلاق في شخصه. إلا أن عبد الله وفَّى وأدَّى الأماناتِ إلى أهلها وبذل سلاحه وماله وساهم في الحرب بشخصه ورجاله، ولكن هؤلاء الأفراد كانوا يعدون على الأصابع، أما الكثرة الغالبة من المكيين فقد كانوا على أخلاقٍ لا تُرضي، وعلى رغم المظاهر اللينة الهينة، ومناعم اللقاء بالبشر والوداع بالتحية، كانت البواطن مملوءة بالأحقاد والضغائن والمطامع الأشعبية والجشع في سبيل المال والانغماس في الشهوات. ولعل أبا طالب — وهو فرع تلك الدوحة الهاشمية المبادرة للفضائل — فكَّر وهو جالس في شرفة داره في تلك النقائض التي كان بها جد عليم، وتلك العصبية العمياء التي كانت سلاحًا ذا حدين تنفع مرة وتضر مرات، وحماية الأوغاد والأشرار والسفاحين شوكة من أشواك تلك الزرعة المريرة.
ولكن تلك الحماية التي يهبها عاهل من عواهل البلدة في ساعة سكر أو ورطة أو تواطؤ للانتقام أو تأميل في استخدام المجرم المحمي؛ قد تجلب حربًا ضروسًا وتؤدي إلى القتل وسفك الدماء. ولكن بني هاشم كانوا أبعد الناس عن هذه المخزيات قانعين بشرفهم ونجدتهم وقليل مالهم وجهادهم في سبيل وطنهم وقومهم، حتى قال محمد بعد النبوة لمن سأله عن حرب الفجار: «إنهم تعدَّوْا على قومي؛ عرضوا عليهم أن يدفعوا إليهم البراض صاحبهم فأبَوْا!» فناصر قومه الذين سوف يخذلونه ويضطهدونه ويعذِّبون أتباعه ويتآمرون على قتله!
ولم يكن في تلك الفترة من حياته يفكر في نبوة أو وحي أو هداية للعالم يوم كان بعد ذلك بعشرين عامًا، يرسل إلى صميم الليل نفثات صدره الحرَّى ويصلي إلى ربه ضارعًا ويدعو الله لأن تتعرف قريش إلى الحق، فلا تمنعها كبرياؤها الاستشراق بذلك النور.