عفته عليه الصلاة والسلام
كان محمد في تلك الفترة شابًّا جميلًا ناضجًا ناضرًا، قوي البدن قد لوحته الشمس وأكسبته الحرب ليونة في العضل وحدة في البصر ونشاطًا في الحركة. وكان شعره الأسود الجميل ينحدر على أذنيه وقد نمت لحيته واستدارت، وما زال ذلك العرق النابض يبدو في جبينه كلما احتد، وتملأ الحمرة وجنتيه إذا أدركه الحياء من شيء.
وما زال هذا الحياء ملازمه منذ يفوعه؛ فكان يعتقد أن الله يراه ويسمعه ويغار عليه كل هنة ولا يؤخر عتابه، شأنه سبحانه مع من كتب له العصمة والنزاهة؛ فقد قال: «رأيتني في غلمان من قريش تنقل الحجارة لبعض ما يلعب به الغلمان كلنا قد تعرَّى وأخذ إزاره وجعله على رقبته يحمل عليها الحجارة فإني لأقبل معهم كذلك وأدبر إذ لكمني لاكم ما أراها لكمة وجيعة، ثم قال: شد عليك إزارك! فأخذته فشددته عليَّ ثم جعلت أحمل الحجارة على رقبتني وإزاري عليَّ من بين أصحابي.» طبعًا يقول كتَّاب السيرة إن اللاكم من الملائكة. ولكن نقول إنها من الضمير. لقد نسي محمد ثم تذكر أن لا ينبغي أن يكون كغيره من الغلمان عاري البدن، وقد تجسم الخجل من الله في خياله حتى أحس كأن وخزه لكمة شديدة. وفي مرة أخرى أخذ تأنيب الضمير صورة إنسان يلبس البياض وينهاه قائلًا له: «استتر» فما رؤي بدنه من يومئذٍ.
وقد كان هذا النهي عن التعري بدعًا في بلدة كمكة وقبيلة كقريش تعيشان عيشة إباحية، ولئن كان أهل أثينا وإسبرطة قد ألفوا التعريَ والتساميَ في تجميل البدن وتقويته، فقد كانت عبادة الجسد لونًا من العبادة عندهم صحبتهم في حلهم وترحالهم، في هياكلهم وفي حروبهم، حتى إن الإسكندر وأصحابه خلعوا ثيابهم وطافوا عراة حول عمود في قبر آخيل بمدينة طروادة، وكانت هذه عادة التكريم لمدافن الأبطال (بلوطارخوس، حياة الإسكندر). وكان هذا القائد يخلع ثيابه كلما سمحت له فرصة الاستحمام في نهر بحضرة قواده وجنوده (نهر سيندوس). ولم يكن صونه ﷺ من التعري كل ما تعهدته به العناية في بلدٍ كان يطوف أهله بكعبتهم عراة وهي ما زالت مخدع الأوثان حتى النساء منهم. وفي بعض السير أن حضرة النبي نهى عن التعري وكشف العورة قبل أن يُبعث بخمس سنين (١٣٦، ج١، علي بن برهان) ولم يكن ستر البدن مظهر العفة الوحيد في خلقه، فقد حكى علي بن أبي طالب بسند صحيح أنه قال:
ما هممت بقبيح مما همَّ به أهل الجاهلية ويفعلونه إلا مرتين من الدهر، كلتاهما عصمني الله عز وجل منها؛ قلت لفتًى كان معي من قريش بأعلى مكة في غنم لأهله يرعاها (ولم يقف الرواة على اسم هذا الفتى) أبصر لي غنمي حتى أسمر هذه الليلة بمكة كما يسمر الفتيان. قال نعم. فخرجت، فلما جئت أدنى دار من دور مكة سمعت غناءً وصوت دفوف ومزامير فقلت ما هذا؟ فقالوا فلان قد تزوج بفلانة. فلهوت بذلك الصوت حتى غلبتني عيناني فنمت، فما أيقظني إلا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبي فقال ما فعلت؟ فأخبرته ثم فعلت الليلة الأخرى مثل ذلك.
لا بد أن الفتى القرشي الذي وَكَلَ إليه محمد رعيَ غنمه أثناء سمره المزمع ضحك غداة الليلة الأولى حتى استلقى لبساطة محمد وسلامة قلبه، ولعله أقنعه بإعادة الكَرَّة والتجربة فلم يملك محمد مخالفته؛ فقد ظن الفتى القرشي أن السهر والسمر بمكة من متمِّمات الرجولة! ولكن العين الساهرة هي التي عقدت أجفان رسول المستقبل بالكرى مرة ثانية فاقتنع بأن باب هذا اللون من المسرات مغلق أمامه وإن كان مفتوحًا لغيره على مصراعيه.
ولكنه لم يفطن إلى الغاية العليا إلا عندما حدَّث عليًّا بهذا الخبر الذي يلقي شعاعًا هاديًا على حياة البادية والحاضرة؛ فهؤلاء الفتيان بأعلى مكة الذين كانوا يرعَوْن غنم أهلهم كانوا يعرفون مكة معرفة جيدة ويسلكون سبلها، وقد ينغمس بعضهم في حمأتها، إلا من عصم ربك كما كان شأن محمد ﷺ.
إن محمدًا قال: «عصمني ربي.» وهذا قبل البعثة بعشرين عامًا أو أقل، ولا منافاة بين هذا القول وبين يقظة الضمير؛ فإن الضمير إذا تيقظ أغمض العين التي تقود بعض أقدام الشباب إلى الحتوف، فكأن عصمة الله لمحمد قبل بعثته كانت كمعجزة يوسف حين رأى برهان ربه، ولا محل للمقارنة بين العصمة والمعجزة؛ فإن الفتنة واحدة ولا تتفاوت إلا بالمقدار.