بغضه للأوثان وإعراضه عنها
كان محمد يُعتبر في عهد الجاهلية حر الفكر، معرِضًا عن عبادة الأوثان، وليس في هذا ما يدل على النبوة المقبلة؛ فقد كان كثير من العقلاء والحكماء قد طلَّقوا تلك العبادة من زمن طويل. ويكفي أن يكون الرجل على شيء من صدق النظر وسلامة المنطق ليتحرر من ربقة الوسط سواء كان من العقيدة أم من الخضوع لنظم المجتمع السائدة والسخط على الحاضر والتطلع إلى مستقبلٍ أجملَ وأكثر موافقة للعقل والسعادة، وبدون هذه الشذوذ وذاك السخط لا يكون الرجل عظيمًا ولا تتكون معقولية الزعيم.
وما الراضون بالواقع القانعون بما وجدوا عليه سادتهم وآباءهم إلا قطعانًا من الغنم، لا يُرجى لهم خير ولا تُحفظ لهم كرامة، وقد جرت العادة في تراجم الأنبياء أن يذكر المؤرخون نفورهم من أديانهم (إبراهيم وموسى وعيسى) وأنهم كانوا ثائرين عليها وعلى سدنتها، حتى ولو كانوا أولي قربى، وإنك لترى صورًا مصغرة من هذه الحال في الحضارة العصرية؛ فيخلف رجل الدين ولدًا غير مؤمن، ويلد أحد الملوك أميرًا يميل إلى الحكم الجمهوري أو ينزل عن العرش لسبب تفه. وفي إنجلترا الحديثة يجيء نجل المحافظ حرًّا متطرفًا! وكل هذا محتمل يطاق، وقد يدعو إلى الإعجاب أحيانًا! وقد خالف الإسكندر المقدوني والده في كل شيء من سياسة الجواد الجامح إلى الإعراض عن حياة مقدونيا واليونان ونقل جهوده كلها إلى فتوح في الشرق؛ ليبنيَ مجدًا بعيدًا عن الوطن على أنقاض المجد الذي شاده أبوه لوطنه.
وقد فعل محمد ﷺ أعظم من كل ما فعله هؤلاء الأقدمون في بيئة ضيقة مغلقة متعصبة جاحدة جامدة القلوب قاسية الأفئدة، لا تعرف في باطنها هوادة ولا تريد أن تقتنع بالمنطق السليم، وتودُّ قبل كل شيء أن تحتفظ بسلطتها وسطوتها وشهوتها وثروتها. أين الرجعية الحديثة والمحافظة على التقاليد في عصرنا الحديث، بل في القرون المظلمة من رجعية القرية المكية وتشبُّعها بكل قديم وعتيق؟!
وقد رأينا محمدًا في ضيافة بحيرا يأبى على هذا الراهب الشيخ أن يستحلفه باللات والعزى، وقد تعجَّب لهذه الصراحة من فتًى في أوائل العقد الثاني من عمره، وتعجَّب بها ولكن الخبر صحيح لا شك فيه، فما زال النبي على بغضه لهذه الأصنام حتى حطمها أولًا في قلوب عابديها ثم حطم كيانها الصخري في مخدعها. وتلك قدرة لا تتهيأ إلا لقوة الإرادة والثبات ووحدة القصد والتشبُّع بالفكرة من الصغر، وما وجدنا في سجلات التاريخ عبقريًّا إلا وقد بانت عليه مخايل النجابة وظهرت أدلة تلك العبقرية في أقواله وأفعاله، والحياة الإنسانية من اليفوع إلى الرجولة تكاد لا تكفي لتركيز الفكرة التي تولد مع الطفل حتى تنفيذها. وبغض تلك الأصنام واحتقارها فكرة وُلدت مع محمد كما وُلدت عقيدة التوحيد؛ ولهذا وحده اختاره الله واصطفاه لحمل عبء الرسالة؛ فإن الله أعلم أين يضع أمانته.
غير بحيرا ومدوِّني حديثه وقسمه، لدينا أم أيمن وهي الجارية الأمينة التي حضرت مولده وخدمته ووالدته طفلًا وصبيًّا، وصحبتها في زيارة يثرب وشهدت وفاة والدته ودفنتها وعاشرته في بيت أبي طالب وقامت على خدمته في بيت خديجة وفي بيوت زوجاته بعد وفاة أم المؤمنين، وقد نقل عنها المؤرخون وأصحاب الحديث واعتبروها ثقة. قالت: «كانت بوانة صنمًا تحضره قريش وتعظمه وتنسك له وتحلق عنده وتعكف عنده يومًا إلى الليل في كل سنة، فكان أبو طالب يحضر مع قومه ويكلم رسول الله (بحسب ما صار إليه) أن يحضر ذلك العيد معه فيأبى ذلك، حتى رأيت أبا طالب غضب عليه، ورأيت عماته غضبن عليه يومئذٍ أشد الغضب، وجعلن يقلن إنَّا لنخاف عليك مما تصنع من اجتناب آلهتنا! ما تريد يا محمد أن تحضر لقومك عيدًا ولا تكثر لهم جمعًا! فلم يزالوا به حتى ذهب فغاب عنهم ثم رجع مرعوبًا فزعًا فقلن ما دهاك؟! قال إني كلما دنوت من صنم منها تمثَّل لي رجل أبيض طويل يصيح بي: «وراءك يا محمد لا تمسسه!» فما عاد إلى عيد حتى تنبَّأ.»
ونحن نروي خبر أم أيمن بغير تحفُّظ؛ فإن هذا الرجل الأبيض الطويل أو خياله وراءه لا يتركه كلما همَّ بأمر يعطل خطة الرسالة أو ينقص استعداده لها حتى ولو كان الدافع له خارجًا عن إرادته؛ فإنه ذهب هذه المرة إلى بوانة وأخواتها مدفوعًا برغبة إرضاء أقاربه وعلى رأسهم أبو طالب أحب الناس إليه. ولم يكن هؤلاء الأهل ليعتبوا عليه، إلا إذا كان في سنٍّ تقضي عليه بمشاركتهم في عبادتهم وأعيادهم.
على أننا لا يذهب بنا الظن بعيدًا في تقدير عقيدة أبي طالب، هل كان متشددًا حقًّا في عبادة الأصنام حتى يغضب على محمد غضبًا شديدًا ويلومه على كفره بها والنفور منها؟! ما نظن ذلك كما زعموا. لو كان أبو طالب شديد الشغف بتلك الأصنام، لتخلى عن محمد بعد البعثة ورعايته، وعُذره واضح في عقيدته وموافقة قريش في حملتها على ابن أخيه، ولكنه على النقيض عاداهم لأجله، وضحَّى بكل شيء في سبيله، وقبل النفي والتهديد بالقتل والمقاطعة الاقتصادية والاجتماعية وإعلان الحصار عليه وعلى عشيرته بسبب مناصرته، ولم يكن كل هذا تمسكًا برابطة القرابة والكفالة، بل كان بعضه — بلا ريب — لضعف إيمان أبي طالب بهذه الأوثان الملونة المزوقة التي كانت لا تعقل ولا تنطق. إنما دفَع أبا طالب إلى الحدة والغضب في غياب محمدٍ قولُهم: إنك لا تكثر لقومك جمعًا، ولا تحضر لهم عيدًا؟! ثم إلحاح النساء من عماته وذوي رَحِمه؛ فالدافع لأبي طالب كان اجتماعيًّا وعائليًّا إن هؤلاء الناس في مكة كانوا يحبون الكثرة؛ لأن العزوة كانت مظهرًا كريمًا، فلا يكون الرجل وحده لئلا يُستهان به ويحقر شأنه، والنساء دائمًا شغوفات بالأعيان والحفلات في كل عصر ومصر، تهمهن الزينة والحفلات والمآدب التي تقام في الأعياد. ولقد عددن محمدًا نَفورًا من المجتمع فأردن تأليف قلبه ولا سبيل إلى ذلك خير من مناسك الأوثان، ولكن هذا لا ينفي شدة تعلق قريش بأصنامهم ما عدا شيئًا من التحلل يُسمح به لأسرة النبي؛ فقد كانت أسرة ممتازة ولا يمكن أن يخلوَ أبو طالب — وهو زعيمها في عصره — من شرارةٍ من نار السخط عليها، وهي التي تعاظمت حتى حملته على سلوك خطة تخالف قريشًا وتؤلبهم عليه وعلى عشيرته ناسين فضل تلك العشيرة في اندحار أبرهة وفي حرب الفجار.
ولم يكن أبو طالب منفردًا بهذه الحرية في شباب محمد؛ فقد روت عائشة — رضي الله عنها: «عن رسول الله قال: سمعت زيد بن عمرو بن نفيل يعيب كل ما ذُبح لغير الله؛ فكان يقول لقريش: الشاة خلقها الله وأنزل لها من السماء الماء وأنبت لها من الأرض الكلأ ثم تذبحونها على غير اسم الله. قال النبي ﷺ فما ذقت شيئًا ذُبح على النصب حتى أكرمني الله برسالته.» ا.ﻫ. الحديث.
وإذنْ يكون ما زعمه ابن الكلبي في كتاب الأصنام (ص٢٥) من أن النبي في زمن الفترة السابقة للوحي ضحَّى بشاة لأحد الأوثان موضوعًا، ما لم يكن حدث قبل حديث زيد بن عمرو بن نفيل. وقبل هذا الحديث رأينا نفوره منها على لسان بحيرا وأم أيمن. ويروي بعض المؤرخين أن محمدًا سمع هذا القول من زيد عندما قدم الرسول قبل الرسالة إلى زيد سُفرة فيها شاة ذُبحت لغير الله فأبى أن يأكل منها. وأخذ الإمام السهيلي ينفس على زيد هذه النعمة في حسن النية ومنطق واضح وغيرة على الرسول محمودة قال: «كيف وفق الله عز وجل زيدًا إلى ترك ما ذُبح على النُّصُب، ورسوله كان أولى بهذه الفضيلة في الجاهلية لما ثبت من عصمة الله له!»
على هذا القدر كانت المحافظة على كرامة الأوثان وعلى نفسية عابديها، وفي هذا ما يفسر شدة الاضطهاد التي لقيها المسلمون بعد الدعوة، ويعلل خطة الحذر التي اتخذها الرسول وأتباعه من كتمان أمرهم في بيت خديجة ثم في بيت الأرقم؛ فقد أضرت الصراحة بزيد بن عمرو، ولم يستعن في قضاء حاجته بالكتمان، وفي هذا الدليل على استمساك قريش بعقيدتهم الوثنية وعلى أنهم لم يكونوا على كثير أو قليل من الاستعداد للتوحيد. وما أربعة نفر من المرتابين في الأصنام بالعدد الكبير الذي يدل على تأهُّب قريش للرسالة المحمدية، لم تفلح رقابة البوليس في مطوحة زيد طويلًا؛ فقد تغفل حراسه «وخالف شروط المراقبة» وخرج يطلب الحنيفية ويسأل الأحبار والرهبان، نفس حائرة وقلب مشغول لحرٍّ طريد، حتى بلغ الموصل والشام وأراد العود إلى مكة فعدَوْا عليه وقتلوه! ودُفن بمكان يقال له ميفعة، ولم يدرك البعثة، ولكن أدركها ولده سعيد بن زيد بن عمرو، وأسلم وكان من أصحاب النبي للصداقة القديمة التي كانت بينه وبين أبيه. وسيرة زيد في كتب الحديث والسيرة عطرة؛ لأنه كان من الرواد وإن لم ينعم بعقيدة الإسلام كاملة. وصار ابن عمه عمر من أعظم الصحابة ومن أكبر الخلفاء الراشدين إن لم يكن أكبرهم بعد أبي بكر. لو اطلع الخطاب وولده على الغيب ما اختارا الواقع، بل إذنْ لخالفاه وتريثا في اضطهاد ابن عمهما!
أما عبيد الله بن جحش فأدرك البعثة وأسلم وهاجر إلى الحبشة، فكان في الصفوف الأولى من أبطال الإسلام، ولكن كان ضعيف الخلق فخضع لتأثير القسس والنساء ورجال البلاط عند النجاشي، وكان حديث العهد بدين التوحيد فاستهوته قوة الأحباش وخشي على نفسه عاقبة النفي وظن الهجرة ضعفًا للمسلمين لن يفارقهم فتنصَّر! وكنا لا نسخط عليه لو وقف عند ذلك؛ فدين المسيح في زمنه أرقى بكثير من الوثنية في كل زمن، ولو انتحله في وطنه ما أضر به شيئًا، ولو أنه سكت عن المسلمين، فلا لوم عليه، ولن يُنسى أن إسلامه سبب هجرته وهجرته سبب نصرانيته. فلو اعتقد أنها خير من الإسلام فقد كان للإسلام فضل توسله ووصوله وكفى! ولكن عبيد الله بن جحش كان ابن عمة الرسول؛ أميمة. وكان قرشيًّا، وكل قرشي مشاغب ومعاند، وكثير منهم سخفاء وسفهاء، وما عهدُنا بأبي لهب ببعيد، ماذا يصنع عبيد الله بن جحش الذي تفوق على أبيه، لم يقنع بالارتداد، معتزًّا بسطوة الملك الأسمر؛ فكان يمر على المسلمين من المهاجرين وهم رفاقه بالأمس في الهجرة وهم ما زالوا ضعافًا، وقد ظن نفسه قويًّا لحماية الأحباش. ولعل القساوسة اتخذوه آلة ليجذب بقية الجالية العربية المسلمة إلى دينهم بنوعٍ قديمٍ من التبشير، فكان عبيد الله يقول لهم: «فتحنا وصأصأتم!» أي فتحنا أعيننا على الحق والنور المسيحي وأنتم تلتمسون البصر ولم تبصروا! وكان هذا الكلام جميلًا وقريبًا من الصواب لو أن دين الإسلام أقدم عهدًا من المسيحية؛ لأن النور يفترض فيه أن يأتيَ مع الجديد، ولو أنه تنصَّر في وطنه قبل أن يسلموا هم. وكان أجدر به أن يقوله للوثنيين في مكة؛ لأنهم ما زالوا في ظلام دامس! وهناك كانت تفيده الشطارة وطول اللسان وتعيير قوم من أهله بدينهم الذي كان بالأمس دينه وترك وطنه وملة آبائه في سبيله؛ فإنه بلا شك هاجر أول ما هاجر في سبيل الإسلام.
ولم يطل عمره في الحبشة فمات بعد قليل، ولعل للنبيذ والتسرِّي يدًا في تقصير أجله!
أما عثمان بن الحويرث فمات على الحق؛ لأنه لم يدرك البعثة وقدم على قيصر ملك الروم وتنصر عنده، والمسيحية إذ ذاك أحد الدينين المنزَّلين.
أما ورقة بن نوفل فمطوحته من اختصاص السماء لا من اختصاص الأرض، وسيأتي الكلام عليه عند حديث زفاف خديجة بنت خويلد إلى حضرة الرسول ﷺ.
نحن لا نحقد على عبيد الله بن جحش ولا نقلل من قدر المسيحية؛ فقد وُلد الرفق يوم مولد عيسى على حد قول أحد الشعراء وإن كان الرفق والحنان والرحمة خلالًا ملازمة للرحمن وهو لم يولد ولم يلد، وقد بجلنا صاحبها عثمان بن الحويرث لأنه اعتنقها في إبانها، ولكن لنظهر لونًا من ألوان العقلية المكية التي لم يكن كل أهلها مستهترين ولا مضحين بأنفسهم وعقولهم في الشرك والشهوات؛ فهؤلاء سادة أربعة من قريش وغيرهم نفر آخرون أقلقهم التفكير في السماء وفي الأرض وفي الحق والباطل والخير والشر والإيمان والكفر، واستطاعوا أن ينتزعوا أنفسهم من براثن البيئة الخانقة التي كانت محصورة في دار الندوة والأخذ بالثأر ووأد البنات وترقت إلى حلف الفضول، كما كان فيها رجال كثيرون حرَّموا الخمر على أنفسهم قبل الإسلام، ولعلهم حرَّموها بعدما شربوها كما فعل حكماء اليونان والهند والمصريين.
وفي كتاب الخصائص الصغرى للسيوطي: «حرمت عليه الخمر من قبل أن يُبعث قبل أن تُحرم على الناس بعشرين سنة.» وكان محمد ﷺ قبل بعثته يضع الأوثان والخمر والشعر في مكان واحد من البغض (حديثه لخديجة).