الشباب
شاء الله أن يُقبض عبد الله بن عبد المطلب والد الرسول وهو جنين، وآمنة بنت وهب أمه وهو في الخامسة من عمره فوُلد يتيمًا، وكان كلاهما قوي البنية شديد الأسر معافًى من الأمراض التي يرثها الأبناء؛ فجاء قوي البدن عظيم الاحتمال، وقد أفاد من الأعوام التي قضاها في الخلاء رضيعًا وفطيمًا، ومن تلك الأخرى التي صرفها في قمم الجبال راعيًا، ومن الأسفار التي تنقَّل فيها في أطراف مكة؛ فقد بلغ أحيانًا قرابة جدة جنوبًا وحدود الشام شمالًا، تارةً في صحبة عمه أبي طالب، وطورًا يتبعه ميسرة خادم خديجة الأمين. وكانت حياة مكة وبطحائها وعيشة الصحراء والأسفار في فيافيها ومفاوزها ونشأة الفتى؛ كفيلة جميعها بتعوده الصبر على الشدائد؛ فهي أشبه بحياة الرواد التي يتدرب عليها شبان هذا الزمان جاءت بمناسباتها، دع عنك الحروب التي مارسها يانعًا، فشب مفتول العضل ظاهر القدرة على المقاومة صالحًا للصراع والدفاع عن شخصه إذا هوجم، ثابت القدم إذا دعا الأمر للوقوف حيال عدو، يستطيع دفع الجوع والظمأ بالقليل من القوت والماء، وقد لازمته هذه الخلال طوال حياته فلم يهن ولم يشعر بضعف العزيمة ولم ينهكه الجهاد ولم تفتَّ في عضده الشدائد، اللهم إلا في يوم ثقيف ويوم أُحد، وإنهما ليومان لهما شأنهما في تكوينه وتقويته. وإن حديثنا عن تمام صحته وكمال نموه وقوته يعد زيادة لا تنفع إلا البادئ في درس سيرته؛ لأن الدليل المحسوس قد قام عليها بتاريخ حياته، فلم تكن مشوبة بعلة أو داء ولم يحتجْ إلى علاج أو تمريض إلا في الأسبوع الأخير من عمره، ولكن ضرورة السرد وسياق الترجمة يقتضيان مساس الموضوع. وقد جاءت شهادة على لسان محمد نفسه وهو في صغره؛ إذ قال لمن أشار على حليمة بعرضه على طبيب أو كاهن: يا هذا، ما بي مما تذكر شيء، إن أعضائي سليمة وفؤادي صحيح ليس به قلبة يقلب بها إلى من ينظر فيها. وقد قامت أدلة طبية وعلمية وتاريخية على كذب ما زعمه مرغليوث من نسبة الصرع إلى الرسول، وإن كانت قوة الرجل في الحياة الجنسية دليلًا على حيويته؛ فقد ثبتت له هذه القوة بما تم له من البناء بأمهات المؤمنين وبما شهدت به جاريته أم أيمن (طبقات ابن سعد) من أنه كان يقوم بحقوق أهله بين النوم والتهجد، وما كان يغزو غزوة طويلة أو يسافر سفرًا يقتضيه أيامًا إلا معه بعض أزواجه، وليس هذا شأن رجل عليل أو ضعيف. وقد دخل محمد في حضانة جده منذ ولادته؛ لأن آمنة لزمت بيت زوجها الذي وُلد فيه ولدها ولم تغادره إلى دور أهلها في بني زهرة وكانوا من خيار القوم، وكانت لها أخت في بيت عبد المطلب هي التي ولدت له حمزة. وهذا البيت الذي ما يزال بمكة؛ فهو مكان ارتفع عن الطريق بنحوٍ من مترٍ ونصف متر، ويُنزَل إليه بسلم من الحجر يوصل إلى باب يُفتح إلى الشمال ويُدخل منه إلى فناءٍ يبلغ طوله نحوًا من اثني عشر مترًا في ستة أمتار عرضًا، وفي جداره الأيمن (الغربي) باب يُدخل منه إلى قبةٍ في وسطها (بميل إلى الحائط الغربي) مقصورة من الخشب داخلها رخامة مقعرة الجوف لتعيين مولد الرسول، وهذه القبة والفناء الذي خارجها لا تزيد مساحتهما عن ثمانين مترًا مربعًا، وهما يكونان الدار التي وُلد فيها الرسول في شرق مكة، وقد وُلد النبي وارثًا لها، فلما كبر وهبها لعقيل بن أبي طالب فباعها ولده لمحمد بن يوسف الثقفي أخي الحجاج، فلما بنى داره المشهورة بدار ابن يوسف — وكان بجوارها — أدخلها فيها إلى أن اشترتها الخيزران أم الرشيد والهادي العباسيَّين ففصلتها وأعادتها إلى ما كانت عليه وجعلتها مسجدًا ومزارًا.
ولا شك عندنا في أن أسرة النبي كانت أشرف قريش وأشرف أهل مكة نسبًا وحسبًا وأطهرهم سيرةً وأعراقًا وإن لم تكن أكثرهم مالًا وجاهًا، ولكن لم تكن تقل عن بني أمية وجاهة، وإن كانت بيوت بني هاشم لم يبقَ لها كبير أثر حيال دار أبي سفيان البارزة بروز الطغيان في شوارع مكة إلى يومنا هذا! إلا أن معظم مال بني أمية أو بني عبد شمس لم يصل إليهم عن طريق الشرف والتجارة، بل عن طرق أخرى يفطن إليها القارئ من مراجعة تاريخهم، وقد يصور بعض المؤرخين أسرة بني هاشم في صورة أسرة قعد بها الدهر وقلَّ مالها واحتفظت بتراث المجد القديم، وأنها كانت مهيبة الجانب بسبب ماضيها على حد إكرام أعزة قومٍ ذلوا بضياع المال واحتفظوا بكرم الأصل وطيب الأرومة وعراقة الجدود، وأن محمدًا وُلد في الوقت الذي آذنت فيه شمسهم بمغيبٍ فرفع من شأنهم وأعلى من مكانتهم بعد انخفاضها … فهذه صورة آثمة خاطئة؛ لأن أسرة بني هاشم وإن اشتملت على أبطال وعظماء وفحول، وإن أنجبت رجالًا لهم مكانتهم، فإنها لم تتكالب يومًا على المال ولم تسعَ إلى الإكثار منه في مجموعها وإن شذ بعض أفرادها كأبي لهب والعباس؛ فقد ثبت أن أبا لهب كان ذا مال بنص القرآن مَا أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ وثبت أن العباس كان من أغنى أغنياء قريش بالربا (خطبة الوداع)، وثبت أن عبد المطلب نفسه كان تاجرًا غنيًّا ذا زعامة في الندوة وفي المسجد وفي السياسة الخارجية، وكان رجل أسفار تصل به رحلته إلى اليمن تارةً وإلى الشام طورًا.
ولم يعشْ عبد الله أبو محمد عُمْرًا كافيًا ليرى الناس قدرته على كسب المال، غير أن هذه الأسرة لم تكن مفطورة على تكديس المال وتكوينه كما كانت تفعل بنو أمية أولاد عبد شمس أو أولاد الزرقاء، وقد جرت في عروقهم دماء تحفزهم على الخطف والنهب والسلب، ولم تتجه نفس أحدهم إلى الخير المحض أو المجد المجرد لا في جاهلية ولا في إسلام. كانت أسرة بني أمية ترى النجاح في المال وترى المال في كل سبيل ولا تأنف أن تناله بأي طريق، ولعل التجارة لم تكن إلا الوسيلة الظاهرة أو الستار الذي أخفت وراءه الوسائل الأخرى. كان أبو سفيان هذا من نوع الرجال الذين عُرفوا في القرون المظلمة باسم «الكونديتوري»؛ أي الذين يقودون الأشداء من شرار القوم ويحمون المجرمين (انظر واقعة البراض التي سببت حرب الفجار ص…) كان في جاهليته لونًا من مشايخ العصابات المسلحة الذين عُرفوا في الولايات المتحدة في العصر الحديث باسم «البوص»؛ أي رئيس العصابة أو المنسر أو «جانجستر»، ولسنا أبدًا مبالغين في الوصف؛ لأنه أسلم فيما بعد، ونحب أن نسجل جهاده، ولكن التاريخ يقتضي قول الحق، وكان الغدر من صفاتهم، وسببًا لتعيير بعض خلفائهم بجدتهم الزرقاء.
وليس عجيبًا أن ينشأ هؤلاء القوم على اعتبار المال أصل النجاح وأداته ومظهره وغايته، وأن يبرروا كل خطة في سبيل الوصول إليه، وأن تلازمهم تلك الصفة وما يتبعها من حب الشهوات والاستبداد والقسوة والإفراط في التماس السيادة، كما فعلت عائلة مديتشي أو بورجيا في عصر الظلمات، وكما تفعل عائلات كثيرة في هذا الزمان، ولكن العجيب حقًّا أن تعيش بجوارهم وترتبط بأواصر النسب معهم أسرة أخرى فتُخرج الأبطال والكرماء والشهداء والأحرار والمنافحين عن الحق والخير ولا تتأثر بأخلاقهم ولا تغرق في خلالهم ولا تندفع في تقليدهم؛ وهي أسرة بني هاشم التي أنجبت عبد المطلب وأبا طالب والعباس وضمرة، وعلى رأس الجميع، بل على رأس قريش ومكة والعرب والعالمين محمد بن عبد الله ﷺ؛ هذا هو الغريب حقًّا. وكما كان رجال بني هاشم شجعانًا فضلاء بررة أنقياء مهيئين للملك والسيادة فلا يعترفون لأنفسهم بشيء منهما، كانت لهم نساء عُرفن بالكمال والجلال والفضيلة، على نقيض إناث بني أمية ونسوتهم اللواتي تركن صحائف سوداء، كالزرقاء التي ذكرناها، وهند بنت عتبة وزوجة أبي سفيان. وكان النساء لا تقل عن الرجال في القسوة والطغيان والجموح وارتياد كل أمر مريب، والطمع في الملك والمال واقتناص الثروة من أي سبيل.
فكان من طبيعة الأشياء أن تنشأ عداوة في قلب الأمويين على الهاشميين في الجاهلية وبعد الجاهلية، في الجاهلية لأنهم يرَوْن لبني هاشم أمجادًا ليست لهم على قوتهم ومالهم، وفي الإسلام لظهور النبي في هذا البيت الذي يحسدونه ويحقدون عليه ويهابونه ويخشَوْن مجاهرته بالعداء، وإن كان أبو سفيان قد نجح في التجميع والحشد والتحريض لمحاربة الرسول من فجر الرسالة إلى فتح مكة وأشرك أهله ونساءه في الكيد له ولمن يمت إليه بصلة متواريًا خلف المصلحة العامة؛ وهي الوثنية المكية والأرستقراطية المالية؛ ولذا لا نعجب إذا كان من بين أغراض محمد القضاء على عظمة الأفراد المستمدة من الأنساب، وكذلك نَبْوُه عن ألقاب التعظيم والتفخيم التي كان يتقرب إليه بها بعض المسلمين مخلصين وبعضهم متملقين أو متزلفين، فيوقف كلًّا منهم عند حده؛ فقد أسكت رجلًا قال له: «أنت سيدنا وابن سيدنا» (المسند، ج٣، ص٢٤١). وقوله عن نفسه لرجل تهيَّبه: «أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد.» هذا لأن قلبه كان مفعمًا بهيبة الله وحبه والخضوع له، وكذلك لأن طبيعته الإنسانية السامية كانت تأبى الكبرياء ولا تطمع في إذلال الناس أو الظهور أمامهم بمظهر العظمة الكاذبة ولم يكن بحاجة إليها (انظر رسالة الجاحظ في بني أمية).
قلنا لم يكن عبد المطلب فقيرًا وهو رأس أسرة بني هاشم، ومن أدلتنا على ذلك سند مخطوط على تاجر من صنعاء يقر فيه بدَين لعبد المطلب قيمته ألف درهم فضة، والسند بخط عبد المطلب نفسه، وهو خط يشبه كتابة النساء، مما يدل على رقة جانبه ولين عريكته، وقد عُثر على هذا السند في بيت مال المأمون العباسي في سنة ٨١٢ م (انظر كتاب القرابة والزواج عند العرب، تأليف روبرتسون سميث، ص٦٠)، وإذنْ لا يكون الرجل الذي يقرض دراهم الفضة بالألوف خارج وطنه بالمعوز أو الفقير. ولا يُعقل أن جدًّا حنونًا كهذا الجد الكريم يشعر حفيده الأعز بألم اليتم أو مرارة الحاجة. أما زعامة عبد المطلب وتمثيله لقومه فقد ثبتت بنيابته عنهم في مفاوضة أبرهة الأشرم، وبانفراده بمجلس الصدارة والشرف في المسجد وفي دار الندوة. ولم يكن الثراء مقصورًا على عبد المطلب، بل كان ولده العباس من السراة المقرضين، وله أموال طائلة في الطائف لبني ثقيف، وليس صحيحًا أن مال عبد المطلب عاد عليه من وظيفة السقاية؛ فإن نبلاء العرب لا يبيعون الماء؛ فقد كان أبوه هاشم تاجرًا كبيرًا تمتد به أسفاره إلى أطراف الجزيرة العربية، وقد تزوج في أحد أسفاره بسلمى مطلقة أحيحة أحد ملوك العرب، فورث عنه ابنه (شيبة الحمد) ثروته وتجارته وأضاف إليها تجارة في العطارة من بلاد اليمن، فلما كثر ماله جارى أهل زمنه في عقد القروض. وكان أبو طالب الذي كفل محمدًا بعد جده بزازًا وعطارًا يبيع الطيب ويشتريه، واشتغل الزبير بن عبد المطلب بحركة النقل وهي في مكة من أهم مصادر الربح بالنظر إلى موضعها الجغرافي، وما تزال أعظم الأرزاق تعود عليها في المواسم كلها. وكان حمزة صيادًا ماهرًا ومقاتلًا، ومات عبد الله والد محمد أثناء رحلة إلى المدينة في تجارة، وقد دُفن بها في بيت بني النجار أخواله.
فهذه أسرة نامية ناجحة عاملة رابحة غارقة في النعمة موفورة الكرامة طويلة النجاد رفيعة العماد، لا تعرف الخنا ولا تركن إلى الغدر ولا تؤاخي قُطَّاع الطريق ولا تتعهد بتوريد القتلة ولا تحمي المهربين، ولا تلجأ إلى كهان اليمن للاستفتاء في عفة نسوتها لتثبت تلك العفة بحيلة مكشوفة! ولا تؤجر الجناة لاغتيال الأبطال في ميادين القتال، ولا تعد نساؤها رجالها بالوصل والعناق وفرش النمارق إذا هم أمعنوا في إهراق الدماء، وتتوعدهم بالفراق والشقاق إن هم أعطَوْا أقفيتهم لأسياف الأعداء.
هكذا كان موقف الأسرتين عند ميلاد محمد. وليس بعجيب أن نتخيل ميل إحداهما للرجعية والمحافظة على القديم المجدي والركون إلى الدعة كشأن الأسر الغنية في البلاد المتعفنة، والدفاع عن نظام الطبقات وبغض المساواة والتعلق بالملذات التي يضمنها المال والأهواء، والأخرى للتقدم والحرية والإخاء. وكل ما يقال عن فقر بني هاشم واصطناع الأمجاد لهم بعد ظهور الإسلام كذب ونفاق وعداء، صنع كثيرًا منه بنو أمية في دولتهم البائدة التي لم تعمر قرنًا كاملًا بعد أن ملأت العالم الإسلامي بالويلات، ولم يكد عبثها وخبثها ينتهي في الجاهلية بإسلام جرثومتَي الشر أبي سفيان وهند (رضي الله عنهما؛ لأنهما أسلما فيما بعد!) حتى بدءوا في لون جديد من العبث والخبث منذ ولاية سيدنا عثمان — رضي الله عنه — أو على الدقة من النصف الثاني من إمارته بعد سقوط خاتم النبي من خنصره في بئر أريس في السنة السادسة من خلافته، ونحن لا نتعلق بالطيرة لسقوط خاتم أو سوار، ولكن الذي بذله عثمان من الجهود الجبارة لاسترداد الخاتم يدل على شعوره الباطن بأن عهدًا قديمًا قد ذهب بذهابه وآخر جديدًا بدأ، لم يكتفِ بنو أمية بجهر العداء لمحمد ﷺ بعد رسالته، بل حرَّضوا أفراد أسرته عليه وضموهم إلى حزبهم وحوَّلوا قلوبهم عنه؛ فكان عمه أبو لهب الذي نزل في حقه قرآن من أقسى النذر له ولزوجته من أفرح الناس به عند مولده، فأعتق جاريته ثويبة التي بشَّرته بميلاده، وكافأها لأنها أرضعت ابن أخيه اليتيم بضعة أيام، ولا شك عندنا في أن محمدًا عاش سعيدًا في كفالة جده وعمه؛ فقد دامت الأولى ثمانية أعوام والثانية إلى عام الحزن الذي مات فيه أبو طالب وخديجة بعد الرسالة ببضع سنين، وإن كانت كفالة العم قد انتهت عند بلوغ الرشد ولكنها استمرت إلى أن زوَّجه من خديجة، ولكنه لم يهمل في العطف عليه والولاء له؛ لأن محمدًا ﷺ احتضن عليًّا وجعله من أفراد أسرة خديجة لقاءَ جميلِ عمه. أما رعي الغنم الذي نُسب إلى الرسول فلا غبار عليه، وإن كان المؤرخون يستنبطون له أعذارًا واهية كقولهم: إن الأنبياء كلهم رعَوُا الغنم ليتدرَّبوا على رعاية الأمم، ويتمثلون بموسى وشعيب … إلخ، ونسوا أن بيئة الصحراء تقتضي هذا العمل، وهي خير ما ينشغل به فتًى في مقتبل العمر؛ ففيه صحة ونشاط وربح ويقظة، وقد صحب محمد إخوته في الرضاع في بني سعد أثناء رعيهم، ورعاها لعمه أبي طالب في ضواحي مكة، ولم يختصه عمه بالرعي ليُتْمه أو فقره؛ فقد كان ابنه جعفر يرعى غنم أبيه في بدر (الواقدي، ص٧٣).
وما زال محمد حتى بعد رسالته يشفق على الإبل والغنم ويعالج مرضاها ويتعهد ضعافها فيما يرد عليه منها من زكاة المسلمين (الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، ج١، ص٥٢٥)، وأثناء رعيه الغنم حذق ألوان حياة البداوة إجمالًا وتفصيلًا، فيدهش أصحابه وهو ذلك الحضري المولود في مكة مدينة الملاهي والتجارة وسكنى المنازل والقصور والمباهاة بالمال والقيان وشرب الخمور. ولكن محمدًا كان بمعزل عن هذه الناحيات من الحياة، وقد أبى عليه ربه وخلقه أن ينغمس فيها أو يتذوقها.
ولم يكن في شيء من هذه المظاهر الفطرية ما ينبئ بفاقة أو فقر أو اضطرار للعمل لكسب الرزق؛ لأنه ما كان يعمل إلا ما يعمله أترابه من أولاد الأعيان أو المتوسطين والفقراء، فإن فوارق الحياة لا تظهر في المراهقة، ولكن محمدًا رأى فوَعى وحفظ، وغيره رأى ولم يَعِ ولم يحفظ، ومحمد ﷺ عندما شب وكبر وصار رسول الله لم يأنف أن يعمل ما فيه تخفيف آلام الحيوان، وغيره أنف واستكبر، وما هذا الحنان على الحيوان إلا شعاعًا من نور الحب الإلهي الذي ألقاه الله على قلبه. ومن هذا القبيل حب محمد الخيل وتضميرها وشهود سباقها والمراهنة عليها والفرح بسبق خيله فرحًا لا ينقص الكرامة، وقد قال فيها حديثه الشريف: «الخير معقود بنواصي الخيل إلى يوم القيامة.» وقد لعبت الخيل في حروبه لعبًا كان يومًا له ويومًا عليه، فإنها أتاحت الغلبة لفرسان خالد بن الوليد في أُحد (انظر عن حبه الخيل المسند، ج٥، ص٢٧، والواقدي، ٤٠٢ و١٨٤). كانت الخيل المسوَّمة التي ورد ذكرها في القرآن في ملك كثير من كبار مكة، وقد اتخذوها للزينة والحرب؛ لأن في الإبل غناءً عند الرحيل؛ فكانت الجياد تحفًا تُقتنى، يباهي بها أصحابها ويدخرونها لأيام الوغى، يشترونها من نجد التي اشتُهرت من قديم الزمان بكرام الخيل، ويفتن من قديمٍ شعراءُ الجاهلية في وصفها والتحدُّث بمحامدها (معلقة امرئ القيس). لم يكن محمد صيادًا فيحتاج إلى عِشرة الكلب، ولكنه لم يكره أن يقتنيَه من يحتاج إليه في صيد أو حراسة أو تنبيه لقدوم ضيف أو عابر سبيل قد يكون في حاجة إلى القِرى، ولكنه أحب القطة وأشفق عليها وسمح لها أن تنام على قميصه واختار أن يقصه من أطرافه على أن يقلق راحتها في نومها وأنذر من يحبسها ويجيعها بعذاب النار.
وقد أهَّلته حياة البداوة والعزلة في قمم الجبال أو على سفوحها وركوب الخيل وأعمال الفروسية للحرب، فاشترك في حرب الفجار (وقد وصفناها بالتفصيل في موضعها، في الكتاب الرابع، فصل: حرب الفجار). وسبب هذه الحروب انحراف حرب والد أبي سفيان عن جادة الحق والشرف؛ بأن نشر لواءه ومد فرشه وغطاءه للبراض قاطع الطريق ليقاسمه ثمار نهبه وسلبه، ولو كان في ذلك معاداة الملوك.
وقد ينفعنا أن نعلم تاريخ هذه الحرب وهو الربع الأخير من القرن السادس المسيحي ٥٨٤–٥٨٨م، وأن النبي حضرها في أواخر العقد الثاني، وقد أسهبنا في وصف هذه الحروب، لا لأنها دلت على لؤم حرب وبني أمية وتورطهم في الإجرام الذي يؤدي إلى القتال وإهراق الدماء، ولا لأن محمدًا ساهم فيها بإعداد السهام لعمه الزبير بن عبد المطلب، ولكن أولًا: لأن محمدًا كان أثناءها يقظًا إلى العبرة والموعظة ونتائج الأعمال؛ فقد آثر طوال حياته أن يحل المعضلات بالمسالمة والمصالحة إن تمكَّن؛ تفضيلًا منه للسلم على الحرب وويلاتها كما وقع في صلح الحديبية. وهذه النزعة إلى السلم التي تردد ذكرها في القرآن الكريم وتكرر صداها في الآيات البينات والأحاديث الشريفة تقضي قضاءً مبرمًا على تهمة الإسلام باللجوء إلى السيف والرمح لقطع دابر أعدائه، وكانت حجة من حجج المبشرين أن محمدًا دعا للإسلام بالسيف، وأن عيسى دعا إلى دينه بالسلام. وقد شهد بتلك النزعة السلمية المحمدية ألد خصومه الأستاذ مرغليوث؛ حيث يقول: «وقد رأى محمد ضرورة التسوية في كل المعضلات بطريقة ناجعة سريعة أقل ضررًا وأكثر ثمرة من الحرب، وثبت على هذا المبدأ الذي أفاده من مشاهدة حرب الفجار.»
وثانيًا: أن محمدًا لم ينظر إلى الحرب على أنها لعبة تُلعب على أمد طويل كأنواع الرياضة، بل يحب أن تعتبر الحرب واقعة اضطرارية ذات نتيجة حاسمة في تاريخ البشر. وقد كانت حروبه كلها على هذه الوتيرة، وكان في أهمها مدافعًا لا مهاجمًا (أُحد والأحزاب) وحتى في الحرب الدفاعية التي قام بها، كان خصومه — سواء منتصرون أم منهزمون — يتوعدونه بحرب أخرى في العام المقبل (كما فعل أبو سفيان في بدر وأُحد) ولكنه لم يستعد مطلقًا لحرب انتقام؛ بل خرج إلى أُحد نفسها مرغمًا.
ولم يقلد أحدًا من أبطال قريش الأقوياء كما فعل عبد الله بن جدعان في توفير السلاح والذخيرة لأعداء قومه الناقمين (حرب الفجار)، على الرغم من أن عبد الله بن جدعان كان موضع الأنظار من فتيان قريش ومحل الإعجاب والمفاخرة لقوته وغناه وكرمه الذي تجلى في بيته المفتوح ومائدته الممدودة، يطعم الطعام لكلِّ من ورد جفانه، وإن كان سر ثرائه غامضًا، وقد عللوه تارةً بالعثور على كنز من الجواهر، وطورًا باغتيال المال بالغزو في شبابه، فإن صاحب الملايين المكي لم يقصر في إنفاق الكثير مما وصل إلى يده سواء باللقية أو بطريقة أخرى، ولكن على كل حال لم يكن شحيحًا كبني أمية ولم يكن حسودًا ولا غادرًا. قد كان نهابًا وهابًا ولكنه لم يكن دنسًا ولا حقيرًا وسط الغنى ولا دساسًا، ولعله أعطى السلاح لأعداء قومه لعهدٍ قطعه على نفسه، وقد رأينا يهوديًّا شهمًا هو السموأل يشهد قتل ولده بعينه ولا يفرط في أمانة امرئ القيس وهو ليس من جنسه ولا دينه، فلا عجب إذا رأينا ابن جدعان يفي بكلمته، ولا سيما أن مسبب الشر الذي أنتج الحرب لم يكونوا بني قيس خصوم قريش، بل كان حرب بن عبد شمس ووالده أبو سفيان العُرقاء في القرشية! وقد يقسو الرجل على قومه إذا كانوا في جانب الباطل تأديبًا لهم ومتابعةً لضميره، وقد جاء القرآن مؤيدًا لهذه النظرية بآيات كثيرة نذكر منها: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ والثانية: وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللهَ ۚ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ. ولا ننس أن لعبد الله بن جدعان شأنًا آخر وفضلًا لا يُنسى؛ فقد دعا في بيته إلى حلف الفضول، عن عائشة — رضي الله عنها — أنها سمعت النبي ﷺ يقول: «لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلف الفضول، أما لو دُعيت إليه اليوم (أي بعد البعثة بعشرين عامًا) لأجبت! وما أحب أن لي به حمر النعم وأني نقضته.» أضف إلى قوة عبد الله وشجاعته وكرمه سمو فكره وبغضه الظلم وإهراق الدماء، وتجد أسباب تفخيمه على ألسنة الشعراء الذين نالوا من رفده، ولم يكن في مكة صبي لم يأكل من جفان ابن جدعان حتى النبي — عليه الصلاة والسلام — فقد كانت منصوبة تلمع في ضوء الشمس حافلة بألوان الطعام، يردها أولاد السادة وغيرهم ولا يعترضهم أحد. ولكن عبد الله لم يقد جيشًا ولم يرأس جندًا؛ فقد ترك القيادة لحرب والد أبي سفيان؛ لأنه رأس الضلال والفتنة وحامي البراض الذي سبب القتال، ومن شهامة بني هاشم أنهم لم يتخلَّوْا عن بني أمية في هذه الأيام العصيبة فحاربوا خصومهم وأخذوا بناصرهم في حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل! ولم يكن أحد منهم في خطر؛ فقد رأينا محمدًا نفسه يشد أزر عمه الزبير بن عبد المطلب الذي وقع عليه واجب القيادة القرشية يومًا، وقد ذكرناه هنا وهو عم النبي وأحد سادة بني هاشم؛ لأنه لم يكن محاربًا مغوارًا وحسب، بل كان شاعرًا وكان كريمًا وإن قلَّ عن ابن جدعان، ولكن كرمه استطال وامتد إلى قبائل غير قبيلته فأعطى شعراءها وأجازهم جوائزَ كبرى على قصائدهم واصطحب محمدًا في أحد أسفاره إلى اليمن (رحلة الشتاء)؛ فقد كان يتردد إلى الجنوب أحيانًا كسالف عهد والده عبد المطلب، وكان يأبى أن يقر لحرب بشيء من نعرة السيادة التي ادَّعاها حينًا كذبًا ومينًا، وينازعه إياها ولا يعترف بها إلا لوالده عبد المطلب (المحاسن والأضداد للجاحظ، ص١٥٤).
•••
فإن تعجب لشيء فاعجب لهذا الفتى المكي الحضري المولود بها والناشئ في بطحائها وضواحيها، والمستقر استقرار كل مواطن مدني بين جدرانها وفي حاراتها وأزقتها، كيف يصير محاربًا ومشاركًا في الحياة العامة، يحضر خطبة قس بن ساعدة في سوق عكاظ، ويشترك في حرب الفجار، ويشهد حلف الفضول في دار عبد الله بن جدعان، ويلتف حوله أبناء الأعيان كأبي بكر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف، وتسير به الصدف إلى الشام واليمن، وينبغ في الفروسية والرماية ولا يجد به حاجة لتعلم القراءة والكتابة، وكان جده يجيدهما؛ كل هذه وتلك وهو بمعزل عن حياة اللهو والفساد التي حفلت بها مكة في كل عهودها. كانت لديه مواهب حب الجمال وسماع الغناء ولكن لم يقع في شبابه في فتنة النساء ولم يشرب الخمر ولم يلعب الميسر، فإن كان بُعده عن هذه المعاصي لسبب ضيق ذات يده فأنعم به من ضيق! وإن كان بُعده عنها بفطرته السليمة التي تُقصيه عن النقائص بدون حاجة إلى المواعظ فحبًّا وكرامةً، وإن كان بُعده عنها بإرادة الله الذي جعله على خُلق عظيم وأدَّبه فأحسن تأديبه فألف نعم وزيادة نعم الخالق ونعم المربي. وقد ثبت بما لا شك وراءه ولا ريب فيه أن محمدًا ﷺ كان أبعد الشباب عن اللهو؛ وهذا النوع من الشباب لم ينقطع من الدنيا حتى في عصور الانحطاط والاضمحلال، وكانت مكة منحطة ومضمحلة، وكانت مدينة فاسقة فاسدة تخرَّج فيها المغنون والقيان وأهل المجون طوال عصور الجاهلية إلى عهد الهادي صاحب المنشور الشديد، بل إلى ما بعد ذلك بمئات السنين!
ألا نجد في القاهرة وبغداد وبابل وباريس في وسط مفاسقها ومفاجرها شبانًا وشابات على أتم استقامة وعفة وترفُّع؟ وقد وصلت المفاسد والمفاسق في عصرنا هذا حدًّا يعجز القلم عن وصفه! ولكنك لا تُدهش إذ تشهد شابًّا لا يعرف غير العمل والجد! فلِمَ إذنْ يُدهش الأغيار لاستقامة محمد في شبابه ويزعمون أن ما قيل في مكارم أخلاقه من المحامد مصنوع ومنحول ومخترَع بعد الإسلام؟! هل جاء الإسلام في حاجة إلى تمجيد صاحبه بعد القرآن وبعد النجاح وبعد الفتوح؟ وهل كان صاحبه أعوج أو ملتويًا؟ وهل كانوا يسمونه الأمين لو لم يكن أمينًا وأهل مكة أحدُّ من السيف في النقد وأقذع من المرارة في توجيه اللوم وأدقُّ من مفتش الجمارك الأمين في التنقيب على معايب خصومهم؛ ولم يُعْرَفْ عن أمه وأبيه وجده وأعمامه وأخواله سوء حتى يرثه أو يقلده؟ وهل كانت خديجة العاقلة الحازمة البالغة الرشيدة التاجرة الحاذقة لتسلمه زمام مالها ثم زمام دارها ومالها لو رأت منه اعوجاجًا أو عزوفًا عن الحق؟! وقد كان خلقه القويم ثمرة لعقله الراجح، وقد كان هذا العقل تام النضج عبقري المواهب، ومن هذه المواهب سعة الخيال ودقة المنطق وسرعة انطباع الصور والمعاني في جوهره، ومنها أيضًا حب الاستطلاع والشوق المحرق للمعرفة بمعناها الفلسفي؛ تلك المعرفة التي تنطوي على المادة والروح الظاهر والباطن؛ فكان يكفيه أن يرى طرفًا من أرض الشام أو بر اليمن ليدرك ما فيها من جمال وفتنة وخصوبة ورخاء ويُسر، وكان يكفيه أن ينظر إلى الرجل أو يرى سيره أو يسمع صوته ليحكم عليه حكمًا صادقًا كما لو أنه عاشره عِشرة طويلة.
وهو أول نبي مصلح أمر الناس بمخاطبة الناس على قدر عقوله. لقد رأى بصفاء جوهره العقلي اختلاف المواهب كاختلاف الرماية؛ فمن يكون إدراكه كرمية العاجز لا يعامله معاملة العقل البعيد المرمى. وإن يكن أهل مكة قد جاسوا بحكم تجارتهم خلال الممالك البعيدة حتى امتدت أسفارهم إلى بلاد الروم وبلاد فارس ومصر، فضلًا عن شواطئ الخليج الفارسي وعمان والحبشة والعراق وأقصى اليمن وحضرموت، فلم تكن أسرة بني هاشم ممن توغلوا في هذه الأقطار البعيدة. ولا جدال في أن محمدًا لم تتجاوز أسفاره في شبابه حدود الشام واليمن، ولم يصل قط إلى شواطئ البحار؛ لأن أهل مكة أنفسهم لم يكن لهم حظ في الملاحة ولم يفكروا في تأسيس مجدهم على الماء واكتفوا بأن تكون إبلهم سفائن الصحراء، وإن يكن بعضهم قد ركب البحار في سبيل التجارة، ولكن الممالك التي رحلوا إليها كانت سبلها برية ما عدا الحبشة التي تحتم عبور البحر الأحمر في ساعات محدودة. أما مصر فكانت طرقها البرية معبَّدة.
ولعل محمدًا كان من أزهد الناس في ركوب البحار؛ ولذا نرى آية كبرى في صدق الوحي بما جاء في القرآن الكريم من وصف الطوفان ورحلة نوح وفي انشقاق البحر لعبور بني إسرائيل وفي وصف سير السفن وهبوب الرياح والعواصف وصفًا يكاد يكون واقعيًّا؛ فلو كان محمد أبحر مرة واحدة لزعموا أنه رأى فوَعى فوصف من عنده! ولكن الواقع ينفي عنه الإبحار نفيًا باتًّا، وليس وصف البحر في القرآن هو وحده الذي يدهش، ولكن وصف مصر الذي ورد في القرآن عشرات المرات في عرض الكلام على رسالة موسى وحياة فرعون؛ يُعد وصفًا واقعيًّا كأنك تراهم.
ومن الثابت ثبوتَ نسبة الأمية إلى الرسول أنه لم تطأ قدمه أرض مصر، وإلا ما أخفاها أحد من كتاب السير الذين لم يُخفوا رحلته إلى الشام واليمن، ولم يكونوا في وقت تدوين هذه السيرة (ابن إسحاق في القرن الأول وابن هشام في الثاني) يحسبون حساب نقاد مكرة ينبشون كل زاوية وخفية وخبيئة أمثال نولدكه وجولدزيهر ومرغليوث. والرحلة إلى مصر أهم وأضخم وأكثر كلفة من رحلة الشام واليمن، ولو أنه زار مصر لذكرها في الحديث؛ لأنه مع صدقه الرباني لم يُعهد فيه إخفاء شيء من حياته الخاصة، وقد جهل حتى زراعة النخل واعترف بذلك لأهل المدينة عندما لم يفلح نصحه إياهم، ولم يتردد في قبول رأي الصحابة في مسألة آبار الطريق من المدينة إلى بدر، ولا في العمل بإرشاد سلمان في حفر الخندق. ولا شك في أن الفترة التي تلت زواجه واستقراره وامتدت من بنائه بخديجة إلى البعثة اقتضت اتصاله بكثير من السائحين والوافدين على مكة في مواسمها المعهودة، ولكن هذا الاتصال لم يتجاوز الساعة أو الساعتين كوقوفه بحانوت سياف رومي بمكة لا يتكلم إلا لسانه ولا يتعامل إلا في بيع السلاح وإصلاحه، فأي علم روحاني أو وحي رباني أو تاريخ عالمي يمكن لهذا الرومي العامي أن يلهمه أو يلقنه لمحمد في شارع عام لا ينقطع منه الأقدام لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ؟! وهل يُعقل أن محمدًا ﷺ يترك الأحبار والرهبان ونساخ التوراة والإنجيل وقساوسة نجران ويتلقى العلم والدين على حدَّاد أو نجَّار وهو الذي نزلت عليه آية فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ؟! وقد خفي على بعض المستشرقين أن ابن العشرين والثلاثين لا يقتفي أثر علم أو فن أو صنعة إلا إذا كان هاويًا ومتطلعًا إلى إتقانها بعد ذلك. والنبوة ليست حرفة ولا صناعة ولا هواية بل أمانة وعبء وتبعة كبرى، فإن قالوا بأنه تلقَّى علمًا ومعرفة من البشر ليتقن النبوة كذَّبهم الواقع؛ وهو أن الوحي أتاه فجأة وعلى غير انتظار أو استعداد سابق، وكان أقرب إليه من الاختلاف إلى حداد أو نجار أن يحاول القراءة والكتابة ليسهل عليه درس الأخبار في كتبها، وكانت ميسورة له في مكة نفسها؛ فلم يَرْوِ أحد من خصومه أو أنصاره أنه قرأ أو سمع ما يملأ صفحة واحدة من أي كتاب، بل لم يفك عقدة سطر واحد في حياته. وقد يكون إهمال تعليمه (وقد جاء نعمة عليه لتمام إعجاز القرآن) بسبب وفاة والديه وفرْط حرصٍ وتدليلٍ من جده وعمه، كما قد يكون أحدهما حاوله فلم يستجب الغلام لرغبته، ولم يتشدد أحد لأن مدار الحياة كان على المشافهة دون التدوين إلا في النَّدرى؛ فالذاكرة كانت تغني عن التحبير والتحرير.
من أين لمحمد عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ * أَن جَاءَهُ الْأَعْمَىٰ ما لم تحدث حادثة معينة؟
هل أفاد محمد شيئًا من حديث القادمين على مكة والنازحين عنها وهم بين مقيم أيامًا وظاعن؟ إن أمثال هؤلاء إذا تحدثوا لأهل البلدة لا يكون حديثهم لذيذًا أو منتجًا إلا إذا طال، ولا يطول الحديث إلا إذا كان في خان أو حان ولم يعرف محمد أحدهما، وقد حاول السمر مرة فغشاه النوم حتى أصبح فلذعته أشعة الشمس على باب أحد البيتين الذي كان فيه الهرج والمرج والغناء واللهو. وقد يستفيد من الأحاديث لو كان ذا حرفة أو صناعة أو كان دائب السفر في التجارة ولم يكن محمد حدادًا ولا نجارًا ولا غزالًا، ولم تظهر له موهبة في شيء غير التفكير والتأمل، حتى التجارة لجأ إليها مرغمًا وتخلى عنها بُعيد الزواج بقليل، وأغلق باب دكان شارك فيه بزازًا أو تاجر جلود. كان محمد من أواخر العقد الثالث لحدود الأربعين كسولًا متراخيًا يركن إلى الراحة والتأمل، قليل الكلام جدًّا منطويًا على نفسه شاعرًا بغناها عن الاتصال بالغير، ولم يشعر قط بحاجة إلى الإفضاء بشيء مما يُحس إلى أحد من الناس، وهذه الخلة المعنوية التي سببها فرط حيائه وتردده في اقتحام المواقف وغشيان المجالس امتدت معه إلى ثلاث سنين بعد الرسالة، وهي الفترة التي كان فيها المسلمون بمثابة جمعية سرية مع أن الأمر قد صدر إليه: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ.
كانت نفسه ﷺ منطوية على الجمال والجلال لا يعوزها أن تسمع لغير صوت الله ولا أن تنظر لغير بهائه وهو نور السموات والأرض.
إذا كان الأنبياء يتعلمون نبوَّتهم ويتلقَّوْن رسالتهم ويتلقفون الآيات من أفراد الراحلين والنازحين وينتظرون في مواقف القوافل ومَبارك الإبل ليلتقطوا نادرة أو نكتة أو لفظًا غريبًا أو خبرًا طريفًا فأية نبوة هذه تكون؟ وهل كان محمد وحده يسعى لهذا التعليم في شوارع مكة؟ فإن كان معه غيره — ولا ريب في ذلك الافتراض — فكم نبي تخرج من تلك الشوارع ولِمَ لَمْ يَصِرِ الحداد أو النجار أو الرحالة أو المغامر الذي لقَّنه هو نفسه نبيًّا ما دام هو الأصل؟ هذه حيلة العاجز عن نقض الحق يتحكك بالصغائر ولا يجد الحبة ليجعل منها قبة.
وإن رأيتم أن تُجاروا أخيلتكم لتثبتوا أن محمدًا انتحل واقتبس وادَّعى وزعم فلا تصدقوه بتاتًا وأريحوا أنفسكم وأريحوا سواكم، ولكنني ما لي أراكم تتخبطون؛ فتارةً هو نبي لا شك فيه ولكنه مبعوث للعرب دون سواهم! وطورًا تقولون إن لهجته لهجة صدق ولم يُعرف عنه غير ذلك! وتُقرون وفي مقدمتكم مرغليوث «مما لا شك فيه أنه لم يتلقَّ أيَّ تعليمٍ وإن قلَّ، ومن المؤكد أنه لم يتعلم في طفولته القراءة والكتابة (ص٥٩ من كتابه)، وإن كانت القراءة والكتابة معروفتين في مكة لحاجة التجارة إليهما، وقد اعترف محمد بأنه تيتُّمه من والديه وجده كان سببًا في إهمال تعليمه، وكذلك كان معدوم الأذن للشعر؛ أي فاقد موهبة الأوزان والنظم، ومن هنا كان محرومًا من الحفظ عن ظهر قلب، الذي تعوَّدته العرب في النثر والشعر.» فإذا كان الرجل أميًّا يتيمًا مهملًا فاقد الميل للشعر، فكيف يعي حقائق الكون والعالم والحياة التي تعد بالملايين، ثم يحشدها ويرتبها بعد صياغتها صياغة أعجزت الإنس والجن، ثم يبرزها على صورة كتاب منزل، وبعضها يصفه أصحابه وتابعوه بأنه حديث شريف وتقضى الأعمار في درسهما وفهمهما وتأويلهما للعمل بهما في أقطار العالم؟
وهذا القرآن يتحدى المعاصرين وفيهم الشعراء والبلغاء والقادة والساسة وألد الخصوم؛ فلم يتقدم واحد منهم ليقول آية واحدة على مدى ثلاثٍ وعشرين سنة، فإن أقررتم بأن هذا وحي الله على أية طريقة يقبلها العقل ويقرها العلم الحديث فحبًّا وكرامة وانحلَّت القضية، وإن زعمتم أنه كلام محمد الْتقطه والْتقفه وخطفه من أفواه الناس فاعترِفوا معي بأنه مخلوق فوق طاقة الإنسانية، وحق عليكم أن تتخذوه إلهًا كما اتخذتم عيسى ابن مريم وأمه أيضًا إلهين! ولا نحب أن نفضِّل نبيًّا على نبي، ولكن عيسى في باب الإنتاج الروحي والعلم اللدني لم يأتِ بشيء من هذا، بل أتى بمعجزات أخرى وصفها القرآن بالإسهاب.
وما لي أراكم لا تجادلون في رسالة موسى وتقرونها مهللين مكبرين وتضمون كتابه (على ما بنصوصه المعلومة) إلى كتابكم باسم العهد القديم والعهد الجديد، كأنَّ الإنجيل وحده لا تقوم له قائمة فشددتم أزره (كما شد هارون أزر موسى) بالتوراة، وهي نسخة طبق الأصل مما بين أيدي اليهود، مع أنهم ألد أعدائكم وأعداء أربابكم الثلاثة، وفي عزمكم وعقيدتكم أنهم صالبوه وقاتلوه حقًّا ويقينًا وصدقًا، وأن ديانتكم لا وجود لها إلا إذا آمنتم بصلبه على أيديهم، فهل كانوا على حق ولذا قدستم كتابهم، فلِمَ إذنْ تبغضونهم وتذبحونهم، أم كانوا على باطل؟ ولم إذنْ تعتزون بكتابهم وتجعلون كتابكم جزءًا منه لا ينفصل عنه؟!
الحق أن هذا تناقض ضخم وأفضح وأفظع وأغلط مما يستطيع ابتلاعه واستساغته غيركم.
بل ما تقولون وأنتم تحاسِبون محمدًا الأمي باعترافكم على أحاديث خيالية توهمتم أنها جرت في شوارع مكة، ومن حُسن الحظ لم يكن بها مقاهٍ ولا أندية ولا مدارس ولا جمعيات تلقى فيها محاضرات ولا صحف ومجلات ولا كتب مطبوعة، فما قولكم في موسى — عليه الصلاة والسلام — وهو الذي تلقى العلوم العالية في قصر فرعون وكلية عين شمس وعاشر كهنة إيزيس — وهم جماع العلم والأسرار — عشرةَ التلميذ لأساتذته، ولم يجئ بآيات محفوظة تلقاها عن الوحي بل جاء بأحجار وألواح حُفرت فيها الشريعة حفرًا. فلِمَ لَمْ تكذِّبوه ولِمَ لَمْ تتهموه بتأليفها وتلفيقها وقد غاب موسى عن مصر عشر سنين في مدين قضاها في مصاهرة شعيب ومعاشرته فلم تنسبوا إليه أنه تعلم عليه أو استحضر النبوة والرسالة؟!
وعيسى — عليه الصلاة والسلام — خرج من وطنه صبيًّا وفرت به أمه الصِدِّيقة وزوجها المكرم يوسف النجار إلى مصر وقصدا به إلى المطرية (ميتاريا)؛ حيث كانت مدرسة عين شمس الكبرى، وحيث تلقن موسى العلم قبله بمئات السنين، وكانت مقصد كبار الفلاسفة من اليونان، ولم يظهر في وطنه إلا في نصف العقد الرابع، فلم تسألوا أين كان وماذا صنع وهل أضاف إلى علم اليهود وهم شعبه علم المصريين وهم أساتذة العالم في علوم الدين والدنيا؟ إني أقسم بالحق لا أكتب لكم فلستم بالمقتنعين، ولكني أكتب إلى من يقرءون كتبكم مغرورين بزُخرف القول ومخدوعين بحسن السبك ومجذوبين إلى ما لا يدركون! إلى هؤلاء الأحداث الذين يستهويهم كل ما هو مطبوع بأحرف إفرنجية، ويفتنهم كل اسم له رنين أجنبي، وإلى كل كهل شابَ قرناه دون أن يتحقق من بسائط الأمور حتى صارت أباطيل المأجورين والمزيفين في نظره القاصر كلامًا مقدسًا، فما قيمة أقوال هؤلاء الناس حيال هذه البراهين الناصعة التي لا تكلفك في إقامتها فوق التفكير الفطري والمنطق السهل القريب؟! لو كان محمد نابغة في الحفظ فلِمَ لَمْ يستوعب إحدى المعلقات؟ ولِمَ لَمْ يتمثل بشعر؟ ولِمَ لَمْ يَعِ خطبة قس؟ ولم يُعِدْ على الأسماع مثلًا فارسيًّا أو روميًّا أو حبشيًّا أو كلمة هندية أو نادرة مصرية أو اسم ملك واحد غير كسرى وفرعون وتبع والنجاشي وقيصر أو هرقل؟ وهذا القرآن له أساليبه المتعددة المذهلة المرقصة حينًا والمرعبة والمخشعة حينًا. وهذا الحديث المحمدي وقد عقدنا فصلًا طويلًا للمقارنة بينهما لنثبت أنهما ليسا من بحر واحد ومن وعاء واحد ولا من خطة واحدة ولا من نفس واحد ولا انفصلا عن جبل واحد ولا نُسجا من غزل واحد ولا صيغا من معدن واحد ولا رُصعا بجوهر واحد، بل إن القرآن لا يشبه الشعر الجاهلي ولا أسجاع الكهان ولا يشبهه حديث النبي، بل كان محمد يبغض الشعر والنثر المسجع كليهما، ولا يعي الخطب الطوال، والمرء لا يقتبس مما يبغض ولا يصوغ على أسلوب ينفر منه، ولو أن القرآن يشبه أحدهما لكان مجال القول ذا سعة وطول وعرض لدى المستشرقين والمقلدين. وهل إذا كان محمد التقط والتقف وانتحل واقتبس من النصارى واليهود — وهم طبقة الراحلين والنازحين في شوارع مكة — كان يمكنه أن ينظم تلك الجواهر في عقود مع انطباقها على الحق والواقع بإقرار أحبار اليهود وقساوسة النصارى فلم يخطئ مرة ولم ينسَ ولم يحذف ولم يزد ولم ينقص ولم ينقح كلمة ولا حرفًا! لا بد أن هؤلاء المسافرين والحدادين وأضياف الحانات والخانات كانوا أنبياء أو على الأقل ملائكة! إن العلماء الذين يدونون علومهم بلغاتهم في أوطانهم بعد إتقانها يخطئون، ومؤلفو دوائر المعارف والمعلمات يسهون ويقدمون ويؤخرون ويجعلون مسارد لتصويب الأخطاء وينقحون المطبوعة تلو المطبوعة ويجادلون الناقدين، فكيف لهذا الرجل أن لا يخطئ ولا يحتاج لتصحيح فكرة أو حقيقة أو واقعة أو برهان؟ والقرآن كما يعلم العالم متواتر منذ ستين وثلاثمائة وألف عام. وإن كان محمد لقط وانتحل فمن أين مواهبه الخارقة في تعرُّف الرجال وفهم طبائعهم وأخلاقهم بنظرة فاحصة؟ ومن أين هدايته في المواقع وتدبيره في السلم والحرب وتشريعه الواسع البعيد وأجوبته الحاضرة في كل مسألة وبُعده عن الربا والنفاق وبغضه التمليق؟ ومن أين صلاته ودعاؤه يوم ثقيف وحله معضلة الحديبية ومسلكه الحاذق الباهر بعد هزيمة أُحد؟
لقد أثبت موقفه في حرب الفجار أنه من فجر شبابه خير الشباب، وأنه مُسيَّر لغير ما خُلق له حرب وأخو حرب وأبو سفيان وابن أبي سفيان وامرؤ القيس وإن يكن في شبابه شديد الحرص على حياته (لما يعلمه الله من قدره ومستقبله)؛ فقد خاض غمار الحروب بشجاعة فائقة في بلادٍ كانت شجاعة المرء فيها جزءًا كبيرًا من رأس ماله وجاهه ووجاهته، ولكنه لم يكن مجازفًا مجازفة خرقاء، وكانت عنايته بشخصه ومظهره وهندامه ونظافة بدنه وطهارة ثوبه وعفة ملمسه مضارب الأمثال، حتى لقد حرَّم على نفسه أن يتذوق طعامًا تفوح منه رائحة غير مقبولة يتلقَّاها مخاطبه من أنفاسه، وكانت عنايته بفمه وأسنانه ونصحه لقومه بالسواك تنبئ بإشرافه على مستقبل الحضارة التي جعلت من نظافة الفم قانونًا لصحة البدن كله. أليس الفم موضع الطعام والشراب والحديث والتنفس والابتسام والتقبيل، وأي وظائف أشرف وأغلى من هذه الوظائف الست التي هي خلاصة حياة الرجل وعقله وخلقه، بل هو مقر اللسان الذي عُرف الإنسان به؟
وقد عرف محمد في شبابه كيف يكبت جماح الشهوة والضرورة الطبيعية للزواج، وأمثاله يعقدون على بنات وهم دون العشرين، فماذا عليه لو اختار فتاة يعقد عليها ومكة كلها زواج محلل ومحرم واستمتاع مباح ومخادنة مشروعة! وقد روى التلمود أن تسعة أعشار الميل إلى الزواج منحت للعرب ووُزع العُشر الباقي على سائر أنحاء العالم؛ فلا يملك العربي أن يصبر بلا زواج بعد الثامنة عشرة. وهذه الكلمة التلمودية صادقة ومشاهدة في كل العصور، وهي إحدى مبررات تعدُّد الزوجات في بلاد العرب، وإحدى أسباب انتشار العرب والإسلام في أنحاء العالم على قلة عددهم في جزيرتهم قديمًا وحديثًا، والأدلة عليها ظاهرة في حياة المكيين وغيرهم. وقد ثبتت في حياة عبد المطلب نفسه؛ فإنه خطب آمنة بنت وهب لولده عبد الله وعقد لنفسه على أختها، وهي التي ولدت له حمزة عم محمد ومثيله في السن، وقد كان عبد المطلب عندئذٍ كبيرًا؛ فقد مات وخلف محمدًا وحمزة في الثامنة، وكان حمزة من الطفولة والرعونة حتى عيَّر محمدًا باليُتم مرة! ولم يؤمن بدعوته إلا بعد أن تحرَّكت نخوته على أبي جهل الذي سبَّ محمدًا في الطريق العام، وكفَّر حمزة عن مزاحه مع ابن أخيه بالإسلام فالبطولة النادرة فالاستشهاد في أُحد، وأثبت محمد تمتُّعه بتلك القدرة التي أشار إليها التلمود فعقد على ثلاث عشرة زوجة كلهن أمهات المؤمنين — رضي الله عنهن وأرضاهن — والتحق بالرفيق الأعلى تاركًا تسعًا، ولم تسبقه إلى نعيم الجنة غير سيدتي خديجة — رضي الله عنها.
ولكن محمدًا صبر على طبيعته القوية سبع سنين بعد السن المحددة لزواج الرجال، قضاها كما قضى سوابقها في العفة والطهر والصون والصبر الجميل. وهناك رواية تشير إلى أنه خطب أم هانئ بنت عمه أبي طالب فلم يتم الزواج؛ لأن محمدًا كان يراها في طفولتها بحكم العشرة الأخوية في بيت أبيها، والعرب تحرم الزواج الذي يسبقه الميل، يؤيد ذلك حديث ليلى وصاحبها وبثينة وعاشقها، وما تزال هذه العادة مرعية في عصرنا هذا. ولعل أم هانئ (التي توجد باسمها مئذنة في الحرم المكي يؤذن من عليها شيخ المؤذنين في الأوقات الخمس) أرادت ولم يُرد والدها حبًّا في قوة النسل الذي يؤثِّر فيه زواج الأقارب.
أو لعل محمدًا لم يكن إلا مشغوفًا بالحنان يبادر إليه لتعويض ما فقده بوفاة أمه، ولعل موقفه كان يقتضي الانتظار حتى يتسع رزقه لزوجه وأولاده، والحق في كل هذا أن الله احتفظ به لخديجة التي بدأ نجم الإسلام يعلو على يديها ويتألق في بيتها فتكون أول مؤمنة بزوجها الكبير. قد يبدو هذا الرد ليده عن يد ابنة عمه مؤثرًا في شخصية حساسة رقيقة كشخصية محمد. وقد يكون الرد قد أشعره بألم اليتم أو قصر اليد عن التوسعة على عروسه. وقد يكون الرد مجرد إرجاء، ولكن الله ألهمه الصبر فادَّخر له السعادة والعز والزوجة المهذبة الكاملة التي نبض قلبها وفقًا لنبضات قلبه، والتي لم يَئِن أوان اتصاله بها، وفي هذا التأخير خير كبير؛ فما أضر شيء بالنابغين والمستعدين لتلقي كبريات التبعات مثل الزواج الباكر، فإنه يهد القوى ويعطل المواهب ويستنزف ماء الحياة، والشاب في أشد الحاجة إلى النمو، والذين يهرقون حياتهم في عرائس طائشات قلَّ أن يبلغوا رشدهم مستجمعين ما يحتاجون إليه من عناصر المقاومة والكفاح عندما تكشر الحياة عن أنيابها، وهي لا ريب مكشرة إن قريبًا أو بعيدًا؛ فكانت هذه هداية الله وكلمة أبي طالب الذي ننزهه عن طمعه في صهر أغنى أو أفضل من محمد وعن رغبة في إدخال الحزن على قلبه الفتي. أما أم هانئ نفسها — رضي الله عنها — لأنها ابنة عمه ولأنه أحبها، فقد فقدت بعلها بعد قليل وتمنَّت أن يعيد محمد طلبه فأبى واعتذر؛ وواحدة بواحدة! ونحن لا نشمت بأم هانئ، عفا الله عنها وعن والدها الذي بذل ما بذل في خدمة ابن أخيه وخدمة الإسلام حتى منحهما عليًّا أحد أبطال الجنس البشري، ومات على عقيدة أبيه وجده.
•••
وإذنْ كان محمد في وسط العقد الثالث شابًّا سوي الخلقة، مشرق الطلعة، نبيل المظهر طاهر السيرة كريم المخبر يعيش عيشة لعله لم يكن يعيشها بمكة أحد غيره؛ زاهدًا في الناس عزوفًا عنهم إلا ما اقتضته ضرورة المعايشة والمساكنة، نزوعًا إلى التفكير، محبًّا للعزلة، قادعًا للشهوة رادعًا للنفس؛ فأوشك بذلك أن يستغنيَ بنفسه عن غيره، قبل أن يستغنيَ بربه عن نفسه، وغدا أنسه في وحشته وانبساطه في انقباضه وغناه في إقلاله، قد حد ما بينه وبين الناس بحدٍّ واضح المعالم، ثم لم يأذن لعلاقته بهم أن تتجاوز هذا الحد فتنغص عليه نعمة باله وتفسد عليه هدوء سربه.
هذه حقائق أثبتها التاريخ فلا سبيل إلى الجدال فيها؛ ولذا ترانا نبتسم ابتسامة التهكم والازدراء إذا وقع بصرنا على قول رجل مثل مرغليوث بعد أن أكد أميته أن معظم مصادره سماعه إلى أحاديث الشاربين في الحانات وحوانيت النبيذ وقصص القصاصين وإلى تجار الأقمشة من اليهود وغيرها من البضائع؛ فهؤلاء في نظر مرغليوث ماء الأخبار وطينتها، وكنز تاريخ الأديان ومدنيتها، أطلعوا محمدًا على دفائنهم، وفتحوا له دون سواه من أهل مكة أغلاق خزائنهم، فاغترف من بحور علمهم ما اغترف، وأخفى من أسماء معلميه من أخفى واعترف بمن شاء أن يعترف! كيف لا نضحك ولا نزدري، وهذا الرجل الذي يعيش في القرن العشرين في ظل حضارة من أعظم الحضارات يتوهم أن مكة في القرن السابع المسيحي كانت تضارع لندن بعد ثلاثة عشر قرنًا، بل تفوق عليها مذ كان رواد مقاهيها ورواد حاناتها يصلحون لتعليم الأنبياء وتخريج الرسل، وهذه لندن وباريس ورومة بكل ما فيها من المعاهد والجامعات والمقاهي والأندية وتجار اليهود والهنود، لم تخرج نبيًّا واحدًا ولم نعلم أن رجلًا ألَّف كتابًا أو نظم ديوانًا جمع مواده ولبابه وصاغ قوالبه وأبدع بيانه على مناضد المقاهي أو في زوايا الحانات، اللهم إلا أن يكون ناظمًا مفلوكًا أو مدمنًا هلوكًا لا يغني إنتاجه ولا يسمن، وحتى هؤلاء المفاليك المهاليك أمثال ألفريد دي موسيه وبول فيرلين وإرتور ريمبو؛ كانوا مثقفين معروفين بلون من النبوغ وميل إلى الأدب وانطباع على النظم والنثر، وكانت لهم بيوت وكتب وأنصار ومريدون محبذون؛ فاتخذوا من سمر المقاهي والحانات محرضًا على شهوة الشعر، واستحثوا بالخمر والتخدير قرائحهم الراكدة وأذهانهم الراقدة، وألهبوا بسياط المرئيات ظهور جياد الخيال، وأشعلوا بنيران الشهوات كوامن المواهب العليلة كمن يحرق أجزاء سفينته ليبلغ مرفأ النجاة.
لم يكن محمد أحدًا من هؤلاء، ولم تهيِّئه الطبيعة لهذا النوع من الحياة، وليس بين حديثه وبين هذه المخزيات المحكية على لسان مرغليوث صلة أو رابطة أو شبه؛ فتلك التي يتوهمها مرغليوث أذهان مريضة وأشعار هي أزهار شجرة الانحلال في نفس الشاعر والكاتب ونفوس قومه ومعاصريه، ولو لم تبلغ تلك الأمم التي مجدت أوسكار وايلد وجورج مور ولورانس وفيرلين وموسيه وبودلير درك الاضمحلالَ ووردت مدرجة الفناء ودقت في آذانها نواقيس الهلاك؛ ما رحبت بأشعار هؤلاء ونثرهم وما أصغت يومًا أو بعض يوم إلى أدبهم إصغاء الجثث إلى وسوسة الديدان أو العظام النخرة إلى دبيب السوس. ولكن الحسد والبغض والحقد الموروث وحب الممالأة تُملي على أمثال هذا الرجل أكثر من هذا وأدهى وأمر؛ فلنمر بقوله مر الكرام، وهنيئًا لمحمد ﷺ أنه ما زال محسودًا بعد موته بألف وثلاثمائة عام.