ظهور الإسلام
كان من المعجزات الفذة في تاريخ العالم أن شعبًا حديث النشأة ولا عهد له بالحضارة العالمية ينهض فجأة، ويخرج من نطاق الصحراء المحصورة، وتتَّحد عناصره بعد أن كانت متنافرة مشتتة، ثم يُشهر أسلحته — التي طالما مزقت أشلاء القبائل نفسها — على الأمم القاصية والدانية فيقهرها قويَّها وضعيفَها، وفي عشرات السنين استطاع هذا الشعب — الذي كان بعيدًا عن مظان القوة والملك — أن يمحوَ قوة كل مَن عداه من الشعوب من صحيفة الوجود، ولم تقف همته القعساء في تلك الفترة الوجيزة حتى وقف عند أبواب القسطنطينية.
لقد كانت نهضة الإسلام أسرع في الانتشار من نار الحراج تلتهب وتلتهم كل ما يصادفها، وما زالت حتى بلغت شواطئ المحيط الأطلسي غربًا.
ولم تكن تلك الحركة المشتعلة، والنهضة التي لم يسبقها مثال سوى ثمرة جهود رجلٍ واحد، هو النبي محمد ﷺ، ولم تكن الأمم الأوروبية وغيرها قد تمكَّنت من إدراك حقيقته؛ لشدة ما ذعرت من سرعة تقدمه، وانهيار بنائها، واندحار جنودها، وانطفاء أنوارها حيال اندفاع تياره وشدة بأسه وبطشه ونوره الجديد الباهر، فلما عجز ملوكهم وقوادهم ووزراؤهم عن مقاومته في ميادين الوغى والسياسة، انبرى كُتَّابهم وشعراؤهم لهجائه والنيل منه؛ فقالوا ما قالوا، وسبُّوا وطعنوا وقذفوا وشتموا ما شاء لهم الغيظ والحقد والحسرة على ممالكهم الضائعة وتيجانهم الطائحة وشملهم المشتت.
وبقي أهل الرأي فيهم في حيرة يتساءلون عن علة ظهور الإسلام بهذا المظهر العظيم، وكيف أن صوت النبي محمد وحده أيقظ شعبًا من سُباته، بل خموده الذي تطاولت عليه القرون؟! وكان لفيف منهم اتَّهم النبي بالادِّعاء، فلما رأَوُا المتانة في الأخلاق، والشدة في الحروب، والدقة في التدبير، وشهدوا القوة في جميع مظاهرها المادية والمعنوية، خضعوا لها، وما فتئت القوة في نظرهم الحجة التي لا تُرد والوسيلة البالغة. وبعد أن كانوا يقولون: «إن الإسلام حليف الشيطان وثمرة جهود إبليس ومظهر الغضب الرباني على الجنس الإنساني.» (مجموعة التواريخ، تأليف دي تيرو، الكتاب الأول، الفصل الأول) سكتوا ولم يدروا كيف يعللون ما حاروا في فهمه؛ فعدلوا عن القذف والشتم وتحوَّلوا إلى الدرس والبحث والتنقيب لعلهم يهتدون إلى تفسير ذلك الحادث التاريخي، والذي كان من شأنه إخضاع الملايين لصوت رجل واحد كان منهم ونشأ بين ظهرانيهم وترجمة حاله معلومة لديهم.
وكان من مؤرخي الإفرنج مَن بدأ يهمس بأن النبي لو كان دعيًّا أو منتحلًا أو طالب مجد لنفسه على حساب الرب الذي يدعو إليه، ما وصل إلى أعماق تلك القلوب التي كانت بالأمس متحجرة، ولا استطاع هو مهما أوتي من حذق وبراعة أن يضرب على الأوتار الحساسة في قلوبهم ونفوسهم، لا سيما وأنه جاء لهم بمعتقدات تخالف معتقداتهم وتصدم ميولهم وشهواتهم وتقف حجر عثرة في سبيل آمالهم الدنيوية.
ولم يقتصر أثره في شعبه الذي ناصبه العداء من اللحظة الأولى، بل امتد أثره إلى الشعوب الأخرى التي لم تكن تربطها بالنبي العربي رابطة دمٍ ولا جنسٍ ولا ماضٍ في جاهلية أو إسلام. وكما أن الفجر يتلوه الصباح، كذلك الهمس يتلوه الجهر؛ فأخذ بعض علمائهم يجهرون بأن محمدًا ﷺ نبي مرسل؛ فقال نولدكه وهيرجرنجيه: إنه صادق. وقال جولد زيهر وولز: «إنه أنجح الأنبياء.»
لقد كانت نهضة محمد في مكة والمدينة على مدى بضع سنين ثورة شعواء على الجهل والظلم والاستبداد في سائر أنحاء العالم، ولم تكن مكة والمدينة سوى قريتين صغيرتين في جزيرة العرب، وقد تمكَّنت الأفكار التي بزغت من اختراق أعظم العواصم وأعرقها في المدنية؛ فتسللت تلك الأفكار المحمدية إلى مصر ودمشق وبيزنطة وطهران ودهلي وبكين، ولم تَثْنِ عزمها شواطئ البحار؛ فخاضت الفكرة الإسلامية غمارها، واستولت على كثيرٍ من مدائن أوروبا في إسبانيا وفرنسا وإيطاليا وسويسرا، فما كان أعظم سر القريتين اللتين بهرتا العالم منذ القرن السابع المسيحي.
ومما زاد علماء الأغيار ومؤرخيهم انبهارًا أنهم رأَوْا حول النبي جيلًا كاملًا من الرجال الكاملين، أمثال أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وطلحة؛ فكانوا بعد الوحي الرباني والهدى الإلهي أجنحته التي بها يحلِّق، وفكرته الثاقبة التي بها ينفذ إلى أعماق المعضلات، وتدبيره الخارق الذي طالما حل أعوص المسائل والمشكلات. وقد التفوا حوله وضحَّوْا بأموالهم وأعمارهم ومجدهم القديم التالد في سبيل نصرته، وقد صدقوا به وصدقوه من الوهلة الأولى.
وليت المجال يتسع لنا لنشرح ما قام به هؤلاء الأفراد المحمديون على حدة، وسوف نحاول — إن شاء الله — أن نلم بأخبارهم إلمامًا كافيًا يجلو الغامض من التاريخ بغير إجحافٍ بحقٍّ من حقوقهم.
أما الناحية الأخلاقية فهي أكثر جلاءً من الناحية الدينية؛ لأن العرب بالبادية كانت تعرف الخير من الشر، والحق من الباطل، ولكن هذه المعرفة كانت نسبية، ولا يمكن تقريبها بحالٍ مما استفاض عليهم من الدين الجديد، حتى ولا مما ورد في التوراة والإنجيل، وهما كتابان مقدسان كان يدين لهما بعض القبائل في الشمال وفي الجنوب؛ فكانت حياة الإنسان لا قيمة لها في نظر القاتل، وقد يكون ذلك في نظر أهل المقتول أيضًا إلا من ناحية الأخذ بالثأر؛ ولذا كانت الحروب تكاد تكون دائمة، وكان المجرم يُنظر إليه في كثير من الأحوال بعين الاحترام والهيبة.
وكان دم الحر أغلى من دم العبد، والرقيق مباح، وكرامة المرأة مهدورة إلا في النَّدَرَى، وإذا قتل رجل زوجته عقابًا لها على عصيانها أو خيانة الأمانة الزوجية، فأبوها لا يحنق ولا يغضب، بل يزوِّجه من أختها الصغرى، ويغفر له في سبيل ذلك مقتل الأخت الأخرى! والقاتل إن لم يُكرَم ويُحترَم فهو لا يفقد مكانته الاجتماعية! ولم يكونوا بطبيعة الحال يفرِّقون بين القتل العمد والقتل الذي نشأ عن ضربٍ أفضى إلى موت؛ أي إنهم لم يعرفوا القصد الجنائي ولم يتبيَّنوا النية الإجرامية في الجاني.
ولكنهم كانوا يعالجون القتل بالقتل حتى صار الأخذ بالثأر عقيدة ثابتة. وكان من العار أن تؤخذ الدية في القتيل، لا لأنها تدل على عدم الاكتراث بالقتيل أو عدم الحب له، بل لأن الاكتفاء بالدية يدل على الجبن والخوف من القاتل!
ولكن لما نزل الوحي وتقدمت الجماعة القرشية وتكوَّنت لها ثروة، رأت أن هدوء الحياة واحترام الأعمار من شروط السلام والنجاح الاقتصادي، ولما كان بقاء القاتل في حضن القبيلة يقتضي دفع الدية أو تعريض أحد رجال القبيلة للقتل، فقد قنعوا بأن بقاء القاتل أمر غير مرغوب فيه؛ لأن يجلب على القبيلة بعض المتاعب التي تزعجها وتزعزع كيانها الاقتصادي!