الرسول وبناء الكعبة
ومما يُساق مساق الكلام في تكوين أخلاقه ﷺ أنه كان يُعرف بالأمين، وكان يُحتكم إليه فيَحكم بالحق ويفض الخصومات؛ ففيه سجية العدل والاستعداد للقضاء، وهما من صفات الزعماء في الجماعات الفطرية، وقد ورثتها الحضارة الحديثة فصار معظم رؤساء الحكومة في الأقطار ممن درسوا الشرائع ومارسوا صنعة القضاء. وفعله في بناء الكعبة الذي حُسم به النزاع بين العشائر كان حكمًا أصدره وقام بتنفيذه فورًا، وإن كانت تلك الواقعة وقعت في نصف العقد الرابع من عمره إلا أنها تنصبُّ على تكوينه وتُظهر ناحية من عقله وخلقه؛ فما زال بعيدًا عن البعثة بخمس سنين وعن النجاح الذي لقيته دعوته بثمانية عشر عامًا؛ لأن نجاحه في رأينا يبدأ بالهجرة إلى المدينة.
وقد جمعوا المال بالاكتتاب في دار الندوة شأنهم في كل ما كان له مساس بالمال الذي ينفق في المنافع العامة. واجتمعت القبائل، والمعقول أن القبائل أوفدت أفرادًا تمثلها؛ لأنه لا يُقبل أن تترك القبائل بأسرها أعمالها لتنقطع لهذا العمل؛ فكانوا يجمعون الحجارة، وبلغ منهم رغبة التفرد وإبراز الشخصيات أن كل قبيلة كانت تجمع الحجارة على حدة، وكان محمد ﷺ ينقل معهم الحجارة، شأنه في التعاون مع قومه في السلم والحرب، ثم عمدوا إليها ليهدموها على شفق وحذر؛ لأنهم هابوا هدمها وفَرَقُوا منه خشية أن يغضب رب البيت فيسبب لهم بلاءً، حتى زعموا أن الله أرسل إليها أفعى كبيرة تحرسها! وهو من الوهم وتمسُّك الجاهلية بمبدأ «لا مساس» تابو (انظر كتاب سيجموند فرويد الطوطم ولا مساس عند الأمم القديمة).
ولم تكن الكثرة فيهم تميز بين الهدم للإزالة وبين الهدم للإصلاح، حتى تقدم الوليد بن المغيرة أحد أذكيائهم وقال لهم عندما بدا رعبهم وجمدت أيديهم دون المعاول: «الله لا يُهلك المصلحين، أنا أعلوها وأنا أبدؤكم في هدمها.» وقال يخاطب الكعبة وهو يضرب بالفأس: «اللهم لم ترَع فلا نريد إلا الخير.» ثم هدم من ناحية الركنين وقد بُهت الجمع من جرأته، وما زالت المخاوف تساورهم فتربصوا تلك الليلة وقالوا ننظر، فإن أصيب الوليد بن المغيرة بسوء فلن نهدم شيئًا ونردها كما كانت.
فأصبح الوليد من ليلته غاديًا إلى عمله، فهدم وهدم الناس معه حتى انتهى بهم الهدم إلى الأساس الذي وضعه إبراهيم.
فكان حذرهم أكبر من أن يزول بالمشاهدة، بل صبروا ليلة ليرَوْا أثر «المساس» في الاقتصاص من الوليد أو العفو عنه، فيكون علامة على الرِّضَى من رب البيت. وروى المؤرخون أنهم عثروا في أساس الكعبة بمكتوب ومحفور على حجارة فدعَوْا رجالًا من يهود وحمير لفك الخطوط التي كانت عبرية وثمودية ويمنية؛ فترجموا بعضها وكتموا البعض، وقال أحد الكاتمين: «إن فيها لحرفًا لو حدثتكموه لقتلتموني.» فكتموه ولعل الرجل جهل الخط فاخترع العذر لينجوَ من تهمة الجهل، أما قول من قال إن فيه ذكر محمد، فبعيد.
وجدَّت قريش في البحث عن الخشب حتى وجدت سفينة جانحة بساحل الشعبية — وهو أقرب السواحل إلى مكة قبل اتخاذ جدة ثغرًا — فابتاعوا الخشب واستخدموا يواقيم الرومي النجار أو البناء الذي وجدوه على قيد الحياة بجوار السفينة المحطمة، وما زال شاطئ البحر الأحمر طوال أرض الحجاز قاسيًا حافلًا بالشعب والصخور التي تصدم السفن فتحطمها، وكان إدخال الخشب في البناء بدعة؛ لأنهم أرادوا تسقيفها وجعل بعضه يتخلل مداميك العمارة. ولا ندري ما يصنع المكيون لو لم يعثروا على الخشب والنجار الرومي، فطاوعهم وقبل مقاولة العمل، ولا ريب أنه كان يعرف العربية أو أن فيهم من كان يتكلم الرومية كصهيب، ثم عاد أبو وهب عمرو بن عائذ خال والد النبي عبد الله بن عبد المطلب فقال: أرى أن تقسموا أربعة أرباع. فكان شق الباب لعبد مناف وزهرة وما بين الركنين الأسود واليماني لبني مخزوم وقبائل قريش، وظهر الكعبة لبني جمع وبني سهم ابنَي عمرو، وشق الحجر (الذي فيه الحجر الآن) لبني عبد الدار وبني أسد وبني عدي. ويفيدنا هذا التعداد أمرين: رغبة القبائل في تقسيم الشرف والبركة والنفوذ في بناء الكعبة كما ساهموا بالمال والعمل، وسرد العشائر والبيوت والأسباط ذات النفوذ في مكة وبطحائها في أوائل القرن الثامن الميلادي قبل بعثة النبي بخمس سنين، وقد أورد المقريزي بيانًا آخر فقال: ما بين الحجر الأسود إلى ركن الحجر: لعبد مناف.
والحجر كله: لأسد وعبد الدار.
دبر البيت: لمخزوم.
ما بين اليماني إلى الركن الأسود: لسائر قريش.
وأمروا يواقيم أن يجعل البناء على طراز الكنائس؛ لأن له عهدًا بتلك المعابد المسيحية في بلاده، ولكن لا من حيث التصميم وشق المحراب على هيئة صليب له قائم وجناحان، ولكن من حيث نوع بناء صميم الكعبة، فجعلها مدماكًا من خشب الساج وآخر من الحجارة، وزادوا فيها تسعة أذرع فصار ارتفاعها أربعة عشر مترًا بارتفاع بيت حديث من ثلاث طبقات. وكان في جزيرة العرب مبانٍ أرفع منها كالحصون والقصور وبعض الكنائس، ولعل قصر بني عبد شمس وقصر عبد الله بن جدعان كانا يدانيانها في العلو، وصنعوا لبابها سلمًا فلا يُصعد إليها إلا في درج. ثم ظهر شح قريش؛ فقد ضاقت بهم النفقة عن بنيانها على تلك القواعد فأخرجوا منها الحجر، وهم الذين جمعوا ألف دينار دفعة واحدة ليعدوا جيشًا لمحاربة محمد ﷺ بعد ذلك ببضع سنين! ولما بلغ البنيان موضع الحجر الأسود اختصموا؛ كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى حتى أعدوا للقتال، مفخرةٌ تجمعهم وأخرى تفرقهم! فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دمًا ثم تعاقدوا هم وبنو عدي على الموت وأدخلوا أيديهم في تلك الجفنة فسموا لعقة الدم وقد حدث مثله في حلف المطيبين. ولعق الدم ولعق النار والاحتكام إلى البشعة وهو الحديد المحمي؛ كلها من خصائص الأمم المتوحشة! وذكر سبنسر الدم في توثيق العرى بين المتوحشين وفي تقديمه قربانًا للأرباب وشربه ولعقه (ص٢٦٥، ج٦، من كتابه في فلسفته التحليلية فصل الاجتماع، طبع لندن ١٨٩٣)، وقد سُميت هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان وأم معاوية آكلة الأكباد، كما سُمي بنو عبد الدار وبنو عدي «لعقة الدم». ودام النزاع بين القبائل أربع أو خمس ليالٍ، ثم اجتمعوا في المسجد الحرام وكان أبو أمية بن المغيرة زعيم السن في قريش وهو والد أم سلمة إحدى زوجات النبي ومن عقلائهم وكرامهم ومات مشركًا فقال: يا معشر قريش، اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم (وهو باب بني عبد شمس في الجاهلية والآن باب السلام)، فعلق قضاءه على النصيب والحظ والمصادفة المحض، وجعل الفصل في الخلاف مكتوبًا لمن يسعده الحظ بحسمه، فكان أول داخل منه محمد ﷺ، فلما رأوه قالوا: «هذا الأمين رضينا به، هذا محمد!» لأنهم كانوا يتحاكمون إليه لأنه كان لا يداري ولا يماري، فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر قال: هَلُمَّ إليَّ ثوبًا. فأتوا به فأخذ الحجر الأسود ووضعه بيده ثم قال: لتأخذ كل قبيلة بزاوية من الثوب ثم ارفعوه جميعًا. ففعلوا، فكان في ربع عبد مناف عتبة بن ربيعة، وفي الثاني زمعة، وفي الثالث أبو حذيفة بن المغيرة نفسه، وفي الرابع قيس بن عدي، حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه محمد. وإن لم يكن محمد صاحب الاقتراح في التحكيم إلا أنه أظهر بديهة نادرة كما فعل كولومبوس في لغزٍ وقف البيضة على عقبها! ولم يخطر الحل ببال أحد من دهاة العرب، لا الوليد بن المغيرة ولا أخوه أبو أمية الذي وكل القضاء لأول من يدخل من باب المسجد. وكان الحق في شرف لمس الحجر وتركيزه لصاحب التفكير في الحل، وهكذا فاز محمد ﷺ باعتراف قريش بأمانته وذكائه وعدله، وارتبط اسمه بالكعبة من ذلك الوقت. وهنا يذكر الرواة قصة إبليس الذي تجسد في صورة شيخ نجدي ليلقي بالفتنة بين القبائل بعد فوات الفرصة كما فعل في دار الندوة بعد ذلك بثماني عشرة سنة، والدليل على أن هذا الخبر موضوع أنه لم يكن موفقًا في إحدى المرتين، ولعل سبب وضعه حديث منسوب للنبي قيل في نجد «هناك الزلازل والفتن وفيها يطلع قرن الشيطان» (ج١، ص١٦٢، سيرة برهان الدين). والله أعلم بمكانة هذه النبوة من التحقيق؛ فإنها تشمل بقعة كبيرة من الجزيرة ولها في التاريخ شأن يُذكر.
فلما فرغت قريش من البناء أعادوا الصور التي كانت في حيطان الكعبة وهي صور الأنبياء بأنواع الأصباغ، ومن بينهم صورة إبراهيم وفي يده الأزلام وإسماعيل وهو يستقسم وصور الملائكة وصورة مريم وعيسى. وكساها زعماؤهم أرديتهم وكانت من الوصائل.
إن المكذبين والمرتابين ينسبون وضع الروايات عن الرسول زيادة في فضله أو رفعة في قدره ولا يقصدون إلا مؤرخي العرب وهم مسلمون، وهؤلاء المؤرخون المسلمون يعلمون أن الرسول قال: «من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار.» فليس من العقل والمنطق أن يتزلف مؤرخ لمقام الرسول بخبر كاذب أو رواية موضوعة ليتبوأ مقعده من النار، وإن نسوا الحديث الأول فإليهم الحديث الثاني «من حدَّث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين.» وإذنْ يكون المكذبون والمرتابون وهم يعلمون مداخل الأمور ومخارجها إنما يراودون الناس فيها عن عقولهم وإيمانهم لينقادوا لهم في الرِّضَى بها والمتابعة عليها. وإننا حين نتناول أصغر صغيرة في سيرة الرسول لنفعل ذلك بتدقيق نرجو أن يصحبه التوفيق، ونحن نشعر بأننا نتناول إنسانية وحدها لم يخلق الله على غرارها قد جعلها الله بمنزلةٍ فوق منازل سائر البشر، ويمنعنا أن نقول فوق سائر الأنبياء ميل القرآن الكريم إلى المساواة بين المرسلين وذكرهم على لسان الرسول بوصف الإخوة مهما تفاوت عهدهم. وإن هذه المنزلة العليا لم تخرج عن منزلة البشر في أعراض الحياة، وما يكون فيها وما يأتي منها كالفقر والغنى والضعف والقوة والصحة والمرض والحب والبغض ما عدا الخلال التي نزهه الله عنها وعصمه منها. وتزداد ضرورة التدقيق والتحقيق لدينا لأن إنسانية الرسول ومن سبقه من الرسل هي التي أوجب الله على من حضرها من الناس أن يؤمن بها أولًا، ثم يحافظ على رواية سيرتها ثانيًا، ثم يحترس ويتدبر فيما ينقل عنها أو يصف منها؛ لأن نقيض ذلك كله أو بعضه يخرج بحقيقة الرسالة التي أرسلوا بها عن القانون الإلهي الذي عملوا به ليحققوا كلمة الله التي تعلو أبدًا وتزهر دائمًا وتبقى على امتداد الدهر روح الحياة البشرية وميزان أمر الناس في هذا العالم وما يتلوه من العوالم.