معاملة الرسول للمرأة
اختص الله رسوله بخصائصَ في كل شيء لم يجعلها لأحد من عباده تشريفًا لقدره وتنبيهًا للناس أنه ليس كأحدٍ منهم فجاء في «الأحزاب»: تُرْجِي مَن تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَاءُ ۖ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ ۚ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ ۚ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (آية ٥١).
وهذه الحرية في الاختيار لم يعطها الله للرسول إلا بعد أن جعل لأمهات المؤمنين حرية الاختيار بين البقاء والتسريح، فقال: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (سورة الأحزاب).
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا (الأحزاب).
ثم تتلو أربع آيات من جواهر القرآن وهي: وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلهِ … (الآية)، ويَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ …، وآية: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ …، ووَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ … (الآية).
وإذن كان الرسول يتبع في حياته البيتية أوامر الله ونواهيَه، ويطبق على حياته الخاصة نصوص القرآن، ولم يشترط عليهن حرية الإرجاء والإيواء إلا بعد أن منحهن الله حرية البقاء والتسريح الجميل؛ وهو الطلاق. وقد كان طوال حياته — عليه الصلاة والسلام — مثال العدل بين زوجاته، ولا نركن كثيرًا إلى ما رواه صاحب حسن الأسوة من قول الرسول: «هذا قَسْمِي فيما أملك ولا تلمني في ما تملك ولا أملك» تبريرًا لتعلقه بعائشة وميله إليها؛ فقد قضى خمسًا وعشرين سنة في زواج السيدة خديجة وكانت تكبره سنًّا، ومعظم نسائه أرامل وأيامى؛ فلا غبار عليه إذا ركن أيامًا إلى عائشة؛ فليس في هذا ما ينافي العدل أو يُشعر بمخالفة الإنسانية؛ فقد كان رسول الله ﷺ بشرًا ولم يكن ربًّا، وكان إنسانًا لا مَلَكًا، ولم تغمض للقرآن عين عن هذه الحقيقة، ولم يصمت له لسان عن الإفاضة بها في مواضع كثيرة. وعصمة الأنبياء إنما تكون عن الكبائر والمعاصي، وكان النبي من هذه الناحية معصومًا، فلا يؤاخذه في ميله إلى بنت أبي بكر إلا جاهل أو متعمد سوء. وقد أثبتنا بالأدلة التاريخية والعقلية أن تعدد زوجاته لم يكن لشهوة وإنما كان لمصالح المسلمين. وكذلك ادَّعى وتجنى مَن زعم أن قدرته على النساء كانت كقوة أربعين كما جاء في ابن سعد، واتخذ منه بعض المستشرقين حجة؛ فليس من المعقول أن جبريل الذي نزل بالوحي جاء لصاحبه بقِدر أكل منها «الكفيت»، وهو لفظ غريب لا معنى له، وقد كان ابن سعد إلى حدٍّ ما غير متحرز في كل ما ينقل.
غير أن حنان النبي وأدبه وحياءه أبت عليه أن يُطلِّق سودة بنت زمعة التي عقد عليها بعد وفاة خديجة؛ لأنها رجته أن يُبقيَ عليها نعمة الانضمام إلى بيته، وقد وفى الله جنس المرأة اللطيف حقها في سورةٍ جعلها باسم جنسها، ومنها آية تلقي شعاعًا هامًّا على حديث سودة وتفضيل عائشة عليها: وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا ۚ وَالصُّلْحُ خَيْرٌ … فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ ۚ وَإِن تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا (سورة النساء).
قيل إن الرسول تزوج من سودة بعد وفاة خديجة بشهر، وخطب عائشة بعد زفاف سودة بشهر، وقال إن فيها خلفًا من خديجة وقد أُرتها في المنام مرتين، وأوصى بها أمها قائلًا: «ألم أوصِكِ أن تحفظيني فيها.» ولم تزف إليه إلا بعد الهجرة فكان لعائشة منزلة عند أهلها وهم لا يشعرون بأمر الله فيها، إلى أن خطبها الرسول فكان لها في الإسلام ما كان من النفع والخير، فأتمت فعلًا ما بدأته خديجة وأعانت أباها وزوجها في الأمر. وخطب النبي بعد فترةٍ حفصة بنت عمر بن الخطاب بعد ترمُّلها، فعرضها أبوها على عثمان وأبي بكر، فأخذها النبي لنفسه لأنها صوَّامة قوامة، وهي التي احتفظت بالمصحف كاملًا سلمته إلى عثمان في خلافته؛ فكان نشره في بلاد الإسلام.
وفي السنة الرابعة للهجرة عقد الرسول على أم سلمة بعد أربعة أشهر (عدة المتوفَّى) من استشهاد زوجها، وكانت من خير النساء وإن كانت شديدة الغيرة، وهاجرت إلى الحبشة وعاهدت زوجها أن لا تتزوج بعده وأن لا يتزوج بعدها، فلما استُشهد أبو سلمة في أُحد دخل عليها رسول الله ليعزيَها فذكر ما أعطاه الله وما قسم له وما فضَّله به، وكانت السيدة عاقلة عفيفة لها موقف جليل في الحديبية، وكان أبو بكر خطبها فردَّته ثم خطبها عمر فردَّته، ولكن النبي سمعها تدعو: اللهم آجرني في مصيبتي وأعقبني خيرًا منها. فاستجاب لها.
وكانت أم سلمة تعتذر للرسول بسنها وغيرتها، فقال لها: أنا أكبر منك، وأما الغيرة فسأدعو الله أن يبرئك منها. وعرف الرسول لأرامل المهاجرات فضلهن وفضل أزواجهن فبعث إلى الحبشة في طلب أم حبيبة، ولكن أم حبيبة كانت أجدرهن عناية وأخلقهن بعطف الله ورسوله؛ فقد تخلى عنها حليلها في الحبشة وتعلق بالخمر والمسيحية، وهي بنت أبي سفيان شريفة في نسبها متمسكة بدينها على نقيض زوجها الذي أهلكته الخمر، فقبلت خطبة الرسول عندما أخبرها النجاشي، وجهزها وأصدقها وبعث بها في كرامة زوجة المعجب الصديق إلى المدينة في حراسة وفدٍ من عنده انضم إلى الوفد الذي بعثه الرسول لخطبتها.
ولهجت الألسن في مكة بأن محمدًا تزوج من أم حبيبة تأليفًا لقلب أبيها، ولم يذكروا أنه اتخذها جزاءً لها على وفائها لدينها وعفتها كما فعل بأم سلمة، ولم يذكروا أن أخاها معاوية، وهو ابن أبي سفيان كاتبُ الوحي، ومن الصحابة الذين لهم عند الرسول كرامة، وأن في زواجها تقديرًا للمهاجرين جميعًا وتوثيقًا للألفة بين الرسول وبين عاهل الحبشة.
وفي السنة الخامسة عقد الرسول على زينب بنت جحش مطلقة زيد بن حارثة.
ثم عقد على جويرية فأعتق بسببها كثيرًا من رقاب الأرِقَّاء، وبعد خيبر تزوَّج صفية بنت ملك اليهود، وتلتها ريحانة في السنة السادسة ثم ميمونة، وكانت له غيرهن مارية القبطية التي ولدت إبراهيم، وعددهن جميعًا تسع نسوة عشن في بيوت مختلفة كلها تنفذ إلى المسجد.
كان الرسول غيورًا على نسائه وإن كن في حصن حصين وحرز حريز، ولكن الغيرة غريزة الرجال ومن فضائل الزعماء. قال سعد بن عبادة: لو رأيت رجلًا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح. فقال ﷺ: «أتعجبون من غيرة سعد؟ لأنا أغير منه، واللهُ أغير مني» (صحيح البخاري، ج٣، ص٢٦، طبع بولاق).
ورأى أخا عائشة في الرضاع، قالت: «فرأيت الغضب في وجهه» (أخرجه الشيخان).
وحرَّم الله على نساء الرسول أن يتخذن بعده بعولة. وكان سخيف سفيه اسمه طلحة بن عبد الله زعم أنه يتزوج عائشة بعد وفاة الرسول، فطمع في أم المؤمنين في حياة زوجها وهو خير الرجال! وعزم النبي — عليه الصلاة والسلام — على قتل قبطي وجده في بيت مارية ففر القبطي من وجهه وتسلق نخلة، فأبان عن نفسه أنه خصي فنجا من الموت.
وفاخرت عائشة ضرتها صفية بوالدها أبي بكر الصديق، فقال الرسول لصفية: وأبوكِ هارون وعمك موسى.
وكان الرسول صبورًا عليهن جميعًا إلا ما طغى من أمور المرأة في الجدال، فكان يقفهن عند حدودهن، وبدت بوادر الغيرة على أم سلمة فقالت: تتحدث مع ابنة اليهودي (صفية) في يومي وأنت رسول الله؟!
معذرة! فقد أنذرته — عليه الصلاة والسلام — بغيرتها وهي وفية بفطرتها حتى عاهدت زوجها الأول على عدم الزواج من غيره بعده، ولولا مكانة الرسول وهيبته وتعظيمها إياه ما قبلت رجلًا، وقد رفضت صحابيَّين جليلَين صارا فيما بعدُ خليفتَي الرسول وأميرَي المؤمنين، وكفاها فضلًا أن قبلت بقسمة الأيام بينها وبين زوجاتٍ منهن عائشة وصفية ومارية وبنت جحش، وليس في كلامها شيء إلا أنها تبالغ في تدقيق المحاسبة على كلمة تعرف أنها من نصيبها، ولكن الرسول يبتسم ويتلطف، فإذا قسا أبو بكر على عائشة لهفوة بدرت أو زلة لسان عاتبه الرسول: «ما دعوناك لهذا يا أبا بكر!» ثم ينسى ويصفح عن عائشة — رضي الله عنها. حتى كانت زوجة عمر تحتج لديه بحسن أخلاق الرسول مع نسائه فتقول له: إن ابنتك (تعني حفصة) لَتراجع رسول الله حتى يظل يومه غضبان!
وكان الرسول يعين نساءه في أعمال البيت، قالت عائشة: كان النبي في مهنة أهله فإذا حضرت الصلاة قام للصلاة. وهو الذي نزل على لسانه قول الله: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ.
كان الرسول رحيمًا رءوفًا بالنسوة، وقد أنصفهن الله على يديه في القرآن وفي السنة، وإن يكن رأيه فيهن ليس جميلًا كل الجمال؛ فالشريرات منهن في نظر العقلاء أصل الشر وجرثومة الفساد ومصدر البلاء، وقد يجد الإنسان رجلًا صالحًا في ألف رجل، ولا يجد في ألف ألف امرأة خيِّرة، وقد كان للنبي عدوات منهن في مكة ألحقن به أذًى شديدًا وبأولادهن ممن أسلموا، ولكن الرسول لم يجعل لرأيه الشخصي وزنًا في جانب أحكام الله، ولم يعاملهن بما يستحققن على نكرانهن الجميل وبطرهن وثرثرتهن وطيشهن وتعلقهن بالدنيا وتفاخرهن بالآباء.
ويكفي تذكُّر امرأتين من نوع هند وأم جميل زوجة أبي لهب ليثور أحدنا على الجنس كله، حتى قيل إن أكثر أهل جهنم من النساء. وأظن المقصود أنهن خليقات بالعذاب لِمَا يأتينه من الفواحش وأسباب الخراب والتدمير وسوء الظن وألوان النكد والكيد كامرأة العزيز وبنات لوط، قال جيد في كتابه «دراسة في حياة المرأة»: يا امرأة أنتِ باب الشيطان!
وقد نهى الرسول عن الخلوة بالمرأة خشية الفتنة، واستشاره رجل في الخروج إلى الجهاد وترك زوجته تحج وحيدة فقال له: «انطلق فحج مع امرأتك.» (مسلم، ج١، ص٣٨٠)، وحديث: «إنما الأعمال بالنيات» أن رجلًا هاجر من مكة إلى المدينة لأجل امرأة ذات جمال أراد زواجها، فجعل الرسول جزاءه من جنس نيته في هجرته: «ومن كانت هجرته إلى امرأة ينكحها …»
والتفت الفضل إلى حسناء شغلته في مجلس الرسول فأخذ بذقن الفضل فعدل وجهه عن النظر إليها (البخاري، ج٣، ص١٥٨). وقال يحذر الرجال: «إياكم وخضراء الدمن.» فقيل «ما خضراء الدمن يا رسول الله؟» قال: «المرأة الحسناء في المنبت السوء.» وكان يقول: «اتقوا الدنيا واتقوا النساء.»
ولكن هذه الخواطر المحمدية لا تنطوي على رأيٍ قاطع ضد المرأة؛ فهو ﷺ يحبها ويذكر أمه وزوجته الأولى ويعطف عليها بسببهما، ولا ينسى فضل المرأة على الرجل ولا حنان أم موسى وأخته على سلفه في التوحيد، وتأبى رقة طبعه أن يجمع الرجل بين قسوة التأديب ولذة التشبيب: «يظل أحدكم يضرب امرأته ضرب العبد ثم يظل يعانقها ولا يستحي؟» وكيف لا ينفر الرسول من هذا النوع من الرجال وفي الجمع بين الضرب والحب تناقض عجيب لا يصل إليه الرجل إلا إذا شارف على جنونٍ بسبب خبث النساء! وإن يكن خبث البعض لا ينفي خير غيرهن. قال الرسول: الدنيا متاع وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة (مسلم، ج١، ص٤٣٠)، واستوصوا بالنساء خيرًا (البخاري، ج٣، ص١٩) والمرأة راعية على بيت زوجها وولده (البخاري، ج٣، ص٢٣).
وكان الرسول أول من جاءه كتاب منزَّل يجعل للمرأة مكانة رفيعة؛ فيتحدث إليها ويخاطبها كما يخاطب الرجال، وفي سور القرآن مساواة بين الرجل والمرأة في توجيه الأوامر والنواهي ﮐ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ، ووالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ … إلخ. وقال: قولوا اللهم صلِّ على محمد وأزواجه وذريته (البخاري، ج٣، ص١٧٧)؛ فاختص الرسول آل بيته بالذكر والصلاة والسلام عليهم في الصلاة؛ فهذه خصوصية لا شك فيها. وأوصى بالإنفاق عليهن وصيانة حقوقهن فقال: أفضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على عياله (مسلم، ج١، ص٢٧٤). وهو القائل: «الجنة تحت أقدام الأمهات.» فنظرة الرسول إلى المرأة نظرة احترام وتقدير وتحرير؛ فمناسك الحج تقتضي كشف الوجه، وفي مسلم (ج١، ص٤٠١) أمر الرسول لخاطب امرأة: «اذهب فانظر إليها.» وفي الفقه والسنة — ولا سيما الشافعي — يرى الرجل وجه مخطوبته ويدَيها وكعبَيها. وعندما أمر الله نساء النبي بالحجاب قال: لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ ….
وإن يكن الله قد أمر نساء المؤمنين بإدناء جلابيبهن أي إطالة ذيول الثياب الظاهرة لأجل التمييز بين المصونات وبين الموالي: يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ ۗ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا.
فإطالة الذيول من عادة ربات الحجال وطبقة الأغنياء عند مغادرة دورهن، وليس معناه ضرب الخمار دائمًا.
وإن ضرب الحجاب على نساء الرسول استجابة من الله لدعوة عمر بن الخطاب الذي كان بطبعه غيورًا شديد الوطأة على الجميع، فقال: يا رسول الله، إن نساءك يدخل عليهن البَر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب! وقالت عائشة: كان عمر يقول لرسول الله: احجب نساءك. وكان بعض من دُعوا إلى زفاف زينب بنت جحش قد أطالوا المكث في دارها بعد أن طعموا حتى خجلت العروس ولزمت مكانًا قصيًّا من الغرفة، فخرج الرسول لينصرفوا فما انصرفوا وما ارعوَوْا!
ولعمري لم يكن الإسلام ليُبقيَ على كثير من خلائق الجاهلية إلا ما اقتضاه العرف القومي ولا ينتقض الدين؛ فقد ذكرنا من وظائف دار الندوة ما كان له صلة بالأبكار إذا بلغن، وذكر الفاكهي أن الطواف لم يكن للعمرة والحج بل كان للتبشير بالبنات (ص٢، أخبار مكة) الطواف بالجواري الأحرار والإماء بمكة إذا بلغن، وجعلوا عليها حليًّا إن كان لهم، ثم أدخلوها المسجد الحرام مكشوفة الرأس بارزة حتى تطوف بالبيت والناس ينظرون إليها ويبدونها أبصارهم فيقولون من هذه، فيقال فلانة بنت فلان إن كانت حرة، ومولدة آل فلان إن كانت مولدة. وأوصى الإمام الشافعي أن السيدة نفيسة حفيدة الرسول تصلي عليه صلاة الجنازة فصلتها عليه. وكانت خديجة تصحب الرسول وعليَّ بن أبي طالب للصلاة بالمسجد الحرام. وكره عمر أن تخرج زوجته لصلاة الفجر بالمدينة فمنعها بحيلة. وكانت ميمونة أم المؤمنين تصلي في الدرع والخمار وليس عليها إزار.
واتخذت عائشة النقاب مرة عندما وصلت صفية اليهودية إلى المدينة، وسمع نساء النبي ونساء الأنصار بها وبجمالها فجئن ينظرن إليها وجاءت عائشة متنقبة حتى دخلت عليها فعرفها النبي (ابن سعد، ج٨، ص٩٠، طبع أوروبا).
وسيدتنا الطهور عائشة لم تتنقب لأنه عادتها، وإنما لتخفى على الناظرين، ولكن بعض سيدات المؤمنين لم يتنقبن. في البخاري عن سهل قال: لما عرس أبو أسيد دعا النبي وأصحابه فما صنع لهم طعامًا ولا قربه إليهم إلا امرأته أم أسيد؛ بلَّت تمرات في قور من حجارة من الليل، فلما فرغ النبي ﷺ من الطعام أماتته له تتحفه بذلك (صحيح، ج٢، ص١٩).
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله لا تمنعوا النساء من الخروج إلى المساجد بالليل. فقال أحدهم لابن عمر: لا ندعهن يخرجن فيتخذنه دغلًا. فقال ابن عمر: أقول قال رسول الله، وتقول لا تدعهن؟! (مسلم، ج١، ص١٢٩).
وفي مسلم، والبخاري (ج٢، ص٥٧): «من كانت له جارية فعالها فأحسن إليها ثم أعتقها وتزوجها كان له أجران.» قالت خولة بنت قيس: كنا نكون في عهد النبي وأبي بكر وصدرٍ من خلافة عمر في المسجد نسوة قد تحاللن وربما غزلنا وربما عالج بعضنا فيه الخوص، فقال عمر: لا ردتكن حرائر! فأخرجنا منه إلا أنا، كنا نشهد الصلوات في الوقت.
ويؤيد رأينا في جعل الخمار للجميلات الأصيلات ما ذكره التيجاني قال: «وفرَّق القطان في كتابه المسمى بالنظر في هذا بين الإماء الحسان المصونات المقصورات الحاملات من الجمال أكثر مما تحمله الحرائر، وبين الإماء المتبذلات، فمال لوجوب التستر على من كان منهن بالصفة الأولى وسقوطه عمَّن كان بضد ذلك» (التيجاني، مخطوط بليدن، عدد ١٢٦).
قال المغيرة بن شعبة: «حصنت تسعًا وتسعين امرأة ما أمسكت واحدة منهن على حب ولكني أحفظها لمنصبها» (الجاحظ في المحاسن والأضداد، ص٢١٩).
وأبى الله أن تعضل النساء بعد الإسلام كما فعل المغيرة فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا ۖ وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ (سورة النساء).
وكانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاءوا زوجوها وإن شاءوا لم يزوجوها (تفسير الطبري، ج٤، ص١٩٢).
واحترم الرسول إرادة المرأة في زواجها؛ فقد روى البخاري: تأيَّمت خنساء بنت خذام من زوجها، فزوجها أبوها وهي كارهة، فأتت النبي فقالت: يا رسول الله، إن أبي تقوت عليَّ فزوجني ولم يشعرني! قال: لا نكاح له، انكحي من شئتِ.
(البخاري، ج٣، ص١٣. وأقضية رسول الله للقرطبي.) وقد أقر الإسلام المهر والخيار للمرأة.
وقال — عليه الصلاة والسلام — في خطبة الوداع: فاتقوا الله في النساء؛ فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير مبرح، ولهن عليكم كسوتهن ورزقهن بالمعروف (مسلم، ج١، ص٣٤٧).
ونهى القرآن عن استرداد ما أعطى الرجل امرأته ولو كان قنطارًا من ذهب: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ (سورة النساء).