الحالة الاجتماعية في قريش
أما تعدد الزوجات فكان نظامًا معترَفًا به بجانب التسري واتخاذ الأخدان والاستمتاع بمن ملكت أيمان الرجال واستباحة النساء الأسيرات والمَسبيَّات، كما كانت الحال في بلاد اللاتين قُبيل تأسيس رومة وفي بلاد اليونان نفسها، ولكن قريشًا كانت تبيح للرجل الذي أدَّى إلى القبيلة أعظم الأعمال أن يتخذ من يشاء من الزوجات؛ فكان التعدد لونًا من الاعتراف بالعظمة والسيادة والرياسة، ولم تكن له علاقة بالمصاهرة لربط أواصر القرابة بين العظيم والقبائل التي تمُتُّ إليه بالنسب.
ومن آثار عهد الأمومة وتعدد الأزواج للمرأة الواحدة استبقاء عصمة المرأة في يدها، وحقها في أن تطلق نفسها من زوجها، وأن تلد في دار أبيها، وأن تكفل ولدها إلى سنٍّ معينة، كما جرى في تاريخ مولد سيدنا عبد المطلب الذي وُلد ببيت النجار بالمدينة.
رأينا كيف أن قريشًا كانوا يئدون البنات، ولكنهم في بعض القبائل كانوا يفرحون بمولد البنت لأنها تجلب لأبيها صداقًا؛ وهو مال يختلف كثرةً وقلةً باختلاف النسب والجمال!
وبالجملة كانت قريش متأخرة في كل شيء ما عدا التجارة، وهي مصدر حياتهم. وكانت أمورهم فوضى ما عدا ماليتهم وميزانيتهم، بل كانوا قبيلة منحطة ومنقرضة تكاد تئول إلى الزوال وتلحق بعادٍ وثمود وطسم وجديس، لولا أن أدركها الله بعنايته وأراد لها تلك الحياة الجديدة الخالدة، ولكن هذه القبيلة لم تهتدِ ولم تخضع للدين عن رغبة ما عدا أفرادًا يُعدون على الأصابع، إنما خضعت للحرب والقوة التي استطاع النبي تجميعها وتكوينها أثناء إقامته في المدينة؛ فالمهاجرون والأنصار هم قوة الإسلام.
لِمَ اختارهم الله ليكونوا مصدر هذا الدين العظيم ومنبعه ومبعثه دون سائر خلقه، وهم على هذا الجحود والجمود وتلك القسوة والنكران والجهل والحماقة والبُعد عن محجة الصواب وشدة العناد والمكابرة؟ إن قبيلة قريش مع ما كانت عليه من المعايب والنقائص ما انفكت منظورًا إليها بعين الحرمة والتجلة، لا لشرف المحتد أو قوة الحرب أو سمو الفكر، ولا للكعبة المشيدة في بلدهم والأصنام الجاثمة في أحضانها، ولكن لأن قريشًا ظهروا بمظهر الحذق والفطنة في التجارة والبراعة في ابتزاز أموال الغرباء واستدراج الأجانب إلى معبدهم وإلى بئرهم. وكانوا فوق ذلك مرغمين على حب السلم لأجل التجارة؛ فخلصوا بالتدريج من شوائب البداوة؛ فكفوا عن الرحيل لرعي الإبل وتربية الأنعام، بل استقروا وثبتوا ونظموا أسفارهم في قوافل رتيبة على ظهور الجِمال لجلب الخير إلى وطنهم. ولعلهم صاروا أمْيل القبائل للسلم؛ لأنهم ذاقوا حلاوتها وحلاوة كسب المال واختزانه، وحلاوة الهدوء العائلي ولذاذة السفر في سبيل الغنى، ولذاذة الحنين إلى الوطن وهم بعداء، ولذاذة العودة إلى الدار والمرأة والولد ولقاء الأصحاب ومحافل السمر بعد الاغتراب، وقد رغبوا عن الغزو وتوليد الأحقاد بينهم وبين جيرانهم؛ فاتخذوا من هؤلاء الجيران أحلافًا وأعوانًا وأضيافًا يرحلون إلى بلادهم في أعمالهم فيصلون إلى الشام شمالًا وإلى اليمن جنوبًا وإلى نجد وتهامة ونجران، ولا بد أن يكون محمد ﷺ قد أزعجهم إزعاجًا شديدًا بتوريطهم في الحروب الدامية التي ربحها وخسروها؛ لأنه لم يكن من السهل على هذه القبيلة أن تخرج من هدوء ديارها لتجريد السيف في وجه ذاك الرجل الذي مناهم بسيادة العالم في الدنيا، وبشَّرهم بالجنة في الآخرة، وتوعَّدهم بالذل في الدنيا والعذاب في الآخرة إن خالفوا دعوته إلى ربه، وقد صدق وعده كما صدق وعيده.
ولم تحدثهم أنفسهم أنهم منذ جردوا السيوف وعرضوا الرماح أنهم يتدربون في ميدان الجزيرة على حروبٍ كبرى في ميادين العالم، وأن تلك السيوف لن تعود إلى أغمادها حتى تفتح العالم وتكتسح كل ما ناوأها أو ناصبها العداء في ممالك الأرض قاطبةً.
وليس المعنى في هذا أن العرب جملةً كان ينقصهم المران الحربي؛ فإنهم — ما عدا قريشًا التي استوطنت وسكنت البلد الحرام — كانوا أمة حربٍ ونضالٍ وثأر وانتقام وغزو وقتل في سبيل السلب والسبي. ويمكن القول بأن سكان جزيرة العرب استمروا في حالة حربٍ متواصلة منذ أكثر من عشرة آلاف سنة، وقد أمضَوْا هذه الحقب الكثيرة في مناضلة الفاتحين والمغيرين ومنابذتهم، أو في محاربة بعضهم بعضًا.
ونرى أنفسنا مقتنعين بأن عصمة الجزيرة تنحصر في طبيعة أرضها؛ ففيها الرمال المتراكمة والرياح الهائجة السافية، وفيها الجدب والظمأ، وفي بعض أجزائها — مثل اليمن في الجنوب — جبال عالية قد يبلغ ارتفاع بعضها أكثر من أحد عشر ألف قدم، ومنها جبال تكاد تكون متصلة الأطراف قلما تجد فيها ثغرة يمكن الولوج منها إلا بعد رحلاتٍ طويلة ومشقاتٍ مهولة، والطرق في أكثر ناحيات اليمن ضيقةً جدًّا، وليس في مقدور جيشٍ أن يجتازها دون أن يتعرض لمحاربة المقيمين في هذه الجبال والذين اتخذوها حصونًا طبيعية للدفاع. ويجد المدافع عنها في طبيعة الأرض ما يضاعف قوته، ولا سيما المناطق الجبلية والبلاد ذات المسالك الوعرة.
ومما يسترعي النظر أن المعاملة التجارية هذبت من تلك النفوس الفطرية بعض التهذيب وأعدتها للحياة الاجتماعية البدائية؛ فكان العظيم الغني مقصودًا ليحكم بين الناس بالعدل، ولكن ذلك الزعيم الغني كان قد عرف الطبيعة الإنسانية بعض المعرفة، وأدرك أن نصف الناس أعداء لمن ولي الأحكام، هذا إن عدل؛ فكان النفاق أو المجاملة البالغة من أهم مظاهر هذا الخلق القرشي على ما اشتُهر به العرب من الصراحة وحب الحق، وفي رأينا أن الاشتهار بالصراحة وحب الحق لم يكن إلا من المُثل العليا التي صاغها الشعراء والحكماء ونسبوها تجملًا للعرب الأقدمين؛ فانظر إلى أبي سفيان وقد لجأ إليه خصمان من قبيلتين وطلبا إليه الحكم في قضيتهما، فسمع الدعوى، ثم أطرق وقال: أنتما متساويان عندي كركبتَي الجمل! ولم يقل أيهما الركبة اليمنى وأيهما اليسرى؛ لأنه ظن في ذلك تفضيلًا للواحد على الآخر! وفي حكمة الأحنف بن قيس وما نهى عنه كثير من الأخلاق المرذولة، أين هذا من مبادئ العدل والنصفة التي وردت في القرآن؟! وأين هذا من كلمة سيد العرب ﷺ في باب موعظة الإمام للخصوم عن البخاري أنه قال: «إنما أنا بشرٌ مثلكم، وإنكم تختصمون إليَّ، ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعةً من نار.»
بل أين نفاق أبي سفيان وخوفه من الخصوم، من عدل عمر الذي سار مسير الأمثال عند العرب، وصار غرةً في جبين الدهر، وحتى قيل عنه وهو نائمٌ في العراء: عدلت فأمنت فنمت.