أثر القرآن في أذهان العرب
لقد امتازت آيات القرآن عَمَّا جاء على ألسنة حكمائهم وخطبائهم وشعرائهم بدقة الإدراك وقوة التعبير وتصوير المعاني النفسية والاجتماعية تصويرًا يقرب أن يكون مدركًا بالحس كوصف الجنة والنار والحساب والثواب والعقاب وجمال الكون وسحر الوجود وأسرار الحياة وتواريخ الأمم الذاهبة وأخبار الأنبياء والملوك والدول البائدة مما لم يسبق له مثيل في لغتهم، أو في أية لغة أخرى معروفة لديهم؛ كاللغات السامية وبعض اللغات الآرية (الفارسية واليونانية).
فكيف يوفقون بين هذه الحقائق؟
لقد عهدوا البلاغة خلاصةً لِكَدِّ العقول والأفهام وثمرة للاضطراب الفكري الذي ما برح دليلًا على قوة الإدراك وحياة النفوس العاقلة؛ ولم يكن لمحمد كدٌّ ولا اضطراب ولا حياة عقلية سابقة على بعثته، ولو أن له حياة روحية فما رأوها وما لابسوها؛ لأنها منطوية في دخيلة نفسه، فرأوا أثرها، دون أن يروا حقيقتها المستورة عنهم، المحجوبة بظلمات نفوسهم.
ولكن العرب رأوا محمدًا وصحابته يحرصون على ذلك الكلام، الذي قال: إنه يهبط عليه، ويحيطونه بالعناية ويقيدونه بالكتابة التي تكشف عن أسراره وتبين حقيقته، فلن تكون الآيات من الأقوال التي يدركها العقل ثم يتركها تمر ولا تعود، ولن يكون هذا الكلام كغيره من الكلام العربي من دواعي اللهو أو الفخر والخيلاء، وإنما هو من دواعي الإعجاب والعبرة والتنوير والإرشاد والإنذار والبشرى التي تحول حياة الإنسان تحويلًا خطيرًا عن مجاريها الأولى، وفيه من الحقائق الأزلية المحتوية على كثير من صور الألوهية والربوبية والنبوة والعبودية وصفات السموات والأرض والألوان وحالات الاجتماع الإنساني وعوالم النبات والحيوان والجماد وصفات الأفلاك والأجرام العلوية، فأحدثت هذه المظاهر الجديدة في نفوس الجاهليين روعةً أيَّ روعةٍ ورهبةً أيَّ رهبةٍ، ولكنهم ما زالوا في ذهول وخوف، ولما كان الجمال من أخص لوازم الكلام المنثور والمنظوم؛ لأنه من فنونه ولأنه لا يدخل في باب الأدب أو البلاغة حتى يملك الحواس ويأسر العقول بما فيه من جمال التعبير وحسن الأسلوب والافتنان في التنسيق — فقد جاء القرآن مستكملًا هذه الشروط، غايةَ الكمال المطلق، وقد أُخذ العرب حقًّا بما رأوا وسمعوا، وكان أخذُهم أشدَّ وأقوى إذ أصر محمد على أن هذا ليس كلامه، وأن ليس له إلا أجر النقل من لسان الوحي.
وعرب الجاهلية مهما وُصفوا بالقصور الذهني أو التحلل النفساني، لم يكونوا ليعموا عن الجمال والإبداع والحق على الأقل بين خواصهم، وإن كان يصعب عليهم أن يقروا به أو يعترفوا لمصدره.
ومن هنا قول بعض المتعجلين من ذوي الرأي السطحي بأن العرب أسلموا وآمنوا لما شهدوه من بلاغة القرآن، فإنهم لم يذعنوا يومًا لتلك البلاغة مهما سمت؛ لأنها كانت منطوية على حقائق تؤدي إلى ضياع حياتهم وزوال قوتهم، وانحلال مجتمعهم وتحطيم أربابهم، ومحاسبتهم على معاصيهم؛ وهي محط آمالهم واستمتاعهم في حياتهم المادية، وإرهابهم بعذاب النار، والتلويح لهم بالنعيم لقاءَ تضحيات كبرى؛ ظنوا نفوسهم لا تقوى على خوض غمارها، ولم يكن في العالم رجل يستعذب بلاغة الحكم بإعدامه أو سجنه أو إفلاسه وخراب حياته، ولا يسرُّه أن يقبل على إحدى هذه العقوبات الشديدة؛ لأنها مُفْرَغة في نصوص فصيحة، ولم يكن العرب ممن تغرهم القوالب حتى يقبلوا على معانيها؛ حبًّا في جمالها ورشاقتها، وإن ساءتهم حقيقتها، وإلا ما خيبوا رجاء نبيهم فيهم ثلاث عشرة سنة ثم أخرجوه من وطنه، فأرغموه على الهجرة.
وهناك أسباب أخرى لإذعان العرب للإسلام غير بلاغة القرآن، سيأتي ذكرها بالإسهاب في مواطنها، غير أننا ها هنا نحاول أن نلم بأثر القرآن في أذهان العرب؛ إذ سمعوا آياته تُتْلَى وتَتْرَى حافلةً بمعانٍ لم يألفوها وأغراضٍ ومآربَ لم يعهدوها؛ كدعوتهم إلى تطهير أنفسهم وترقية ضمائرهم، وخلع أردية الرياء وعدم الخوف من الأوهام التي ركبت كواهلهم في ماضي حياتهم؛ كالإملاق والموت والجن.
وقد ظنوا بعد أن وصل فحول شعرائهم إلى نظم المعلقات وكانوا يعدون على أصابع اليدين، أنهم بلغوا قمة الفصاحة اللفظية؛ لأن دولة الشعر كانت قبيل الإسلام وأثناء ظهوره في أعلى مجدها وأزهى عصورها كما هي عادة الشعر في عهود الانحلال في كل دولة؛ كما حدث في اليونان والرومان والأندلس والفرس وأوروبا الحديثة؛ فإن الدول تزول والأدب في أروع مظاهره.