اقتران ظهور الإسلام بمكارم الأخلاق
جاء القرآن بذكر الخُلُقِ فقال في وصف محمد: وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ (سورة القلم).
وقال الرسول: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق.» وقد ورد هذا الحديث في قصة إسلام أبي ذر، والتعبير من كلام أخي أبي ذر كما جاءت في ج١، من «أُسْدِ الغَابَةِ فيمن هم الصحابة» لابن الأثير، وفي «مناقب الأنصار» وكان أبو ذر لما بلغه مبعث النبي ﷺ قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي فاسمع من قوله، فرجع فقال: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق. فهو تعبير إسلامي، وإن الذين عالجوا مكارم الأخلاق لم يوردوا نصًّا جاهليًّا فيه هذا التعبير؛ فهو ينحدر من الحديث النبوي (انظر ص٣٣–٣٤، مباحث عربية، للدكتور بشر فارس).
فمكارم الأخلاق التي خلت منها الحياة الجاهلية سبعةٌ: عفوك عمن ظلمك، وإعطاؤك من حرمك، وصلتك من قطعك، وإحسانك إلى من أساء إليك، ونصيحتك من غشك، وحلمك على من أغضبك، وأصل هذه السبعة قوله تعالى لنبيه — عليه الصلاة والسلام: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ.
وقوله: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (سورة فصلت).
وقال تعالى: وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُور.
وقال تعالى: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (سورة الفرقان).
وقال الخوارزمي في «المكارم والمفاخر» (ص٣١): «كان فيه — عليه الصلاة والسلام — حلم إبراهيم وزهد عيسى وغلظة موسى وشدة نوح وصبر أيوب وسعة سليمان.»
على أن الجاهلية لم تكن كلها مجدبة من بعض محاسن الخلق، ولكنها لم ترتقِ إلى درجة مكارم الأخلاق، وكان النبي ﷺ يعجب أحيانًا ببعض أبطال الجاهلية، كما ورد في ترجمة عنترة أحد أغربة العرب، وعطفه على بنت حاتم طيء الذي اشتهر بالكرم؛ فقد سباها المسلمون في نساء، فلما طلبها أحدهم إلى الرسول قالت: «يا محمد، هلك الوالد وغاب الوافد، فإن رأيت تخلي عني فلا تشمت بي أحياء العرب فإني بنت سيد قومي، كان أبي يفك العاني ويحمي الذمار، ويقري الضيف، ويشبع الجائع ويفرج عن المكروب ويطعم الطعام، أنا بنت حاتم طيء.» فقال رسول الله ﷺ: «يا جارية، هذه صفة المؤمن، ولو كان أبوك إسلاميًّا لترحمنا عليه، خَلُّوا عنها؛ فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق، والله يحب مكارم الأخلاق.»
وإذن كان الإسلام عادلًا في أحكامه على الجاهلية، ولم يتعنت ولم يتجهم كما زعم بعض المتعصبين لها.
وحيثما وجد الإسلام حسنةً جاهليةً لم ينكرها، وإنما عادى الإسلام الجاهلية من أجل دينها؛ فلم ينكر عليها من آدابها إلا ما كان متصلًا بالدين، وقد أقر الإسلام بعض عادات العرب؛ كحفظ الجوار، والوفاء بالعهد، والشجاعة، فمكارم الأخلاق فكرة قرآنية ونظرية إسلامية ورأي محمدي، فقوله عز وجل: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ فيه المروءة بحذافيرها، ربما كانت العرب في الجاهلية تتواصى بالحلم والحياء والتذمم، وتتعاير بالبخل والغدر والسفه، وتتنزه عن الدناءة والمذمة، وتتدرب بالنجدة والصبر والبسالة، وتوجب للجار من حفظ الجوار ورعاية الحق مثل ما توجبه للحميم والشقيق أو ما قد يفوق ذلك، ولكن هذه الصفات كانت مبعثرة في الأفراد والقبائل كوفاء السموأل وكرم حاتم وحلم معن بن زائدة، أما الإسلام فقد جعلها قانونًا وقاعدة وشريعة، وهذا من الفروق الجوهرية بين الجاهلية والإسلام؛ فإن كراهية الإسلام للجاهلية وإن كانت باسم الدين وحده فقد شملت وجوهًا كثيرة كالرذائل والنقائص وانتهاك الحرمات والتقتيل والخمر والميسر، وقد خدم الأدب الإسلامي في هذا البحث الدكتور بشر فارس بإمداد ألقاه في مؤتمر المستشرقين المنعقد في رومة (سبتمبر ١٩٣٥) وأثبت أن مكارم الأخلاق الإسلامية ورد ذكرها في أكثرَ من عشرين كتابًا مخطوطًا وعلى ألسنة الشعراء:
وقول آخر:
وفي جوامع الكلم بعد الإسلام: مكارم الأخلاق من أعمال أهل الجنة، حُفَّ الإسلام بمكارم الأخلاق ومحاسن الآداب (عوارف المعارف للسهروردي)، إن الله خص رسوله بمكارم الأخلاق فامتحنوا أنفسكم، إن الله جعل مكارم الأخلاق ومحاسنها وصلًا بينه وبينكم، مكارم الأخلاق عشرة: صدق الحديث، وصدق البأس في طاعة الله، وإعطاء السائل، ومكافأة الصنيع، وصلة الرحم، وأداء الأمانة، والتذمم للجار، والتذمم للصاحب، وقرى الضيف، ورأسهن الحياء (ابن أبي الدنيا في مكارم الأخلاق، ص٤، مخطوط اطلع عليه بشر بن فارس)، وأهم هذه النصوص ما رواه محمد بن حارث الهلالي أن جبريل نزل على النبي ﷺ فقال: «يا محمد، إني أتيتك بمكارم الأخلاق في الدنيا والآخرة: خذ العفو، وأمر بالعرف، وأعرض عن الجاهلين.» وقال رسول الله: «أدبني ربي فأحسن تأديبي، ثم أمرني بمكارم الأخلاق فقال: خذ العفو …» إلخ، ونحن لا نبحث في هذا الأمر؛ لأنه دار على أقلام المسلمين وعلى ألسنة شعرائهم فكان مستوليًا على أذهانهم؛ ولكن نبحثه؛ لأنه حكم من أحكام الشرع وأصل من أصول الإسلام وأدب من آداب السنة المحمدية، وقد روى الحديث مالك في الموطأ بتعديل خفيف وخرجه البيهقي وكلاهما ثقة، وأقدم منهما أخو أبي ذر في حديث إسلامه، ورواه علي بن أبي طالب وعائشة — رضي الله عنهما، فهو صحيح على الرغم ممن حاوله المستشرق فنسنك من التشكيك في لفظ: «مكارم الأخلاق» واستبدال: «حسن الأخلاق» بها كرواية مالك أنه قد بلغه أن رسول الله ﷺ قال: «بعثت لأتمم حسن الخلق.» ونحن لا نقلل من قدر سيدنا مالك — رضي الله عنه، ولكن عدد الذين ذكروا «مكارم الأخلاق» بالنص أوفر؛ وهم: علي، وعائشة، وأخو أبي ذر، وخرجه البيهقي في السنن، والأقطع في هذا أن الجاهلية لم يذكروا هذا التعبير في شيء من أقوالهم.
ومن الطريف حقًّا أن يذكر بعض مؤلفي الإسلام بعض آداب النصرانية في معارضة أدب التوراة، فبينا ترى شريعة اليهود العين بالعين والسن بالسن، وشريعة النصارى النهي عن مقاومة الشر بمثله والصفح عمن يصفعه أو يسلب ثوبه أو يسخره وأن يحب عدوه إلخ، ترى مكارم الأخلاق الإسلامية بنص القرآن: أخذ العفو، والأمر بالمعروف، والإعراض عن الجاهلين، وقد فسرها علماء الأخلاق وحكماء المسلمين بجماع الفضائل العشر التي ذكرناها.