العربية، لغة القرآن
انشقت اللغة العربية من أصلها السامي في عصور متوغلة في القدم، وجرت في ألسنة هذه الأمة التي اجتمعت معها في مناسب المجد وأرومات الفخر، وشاء الله أن يكون ظهورها في تلك الجزيرة الجامعة بين صحو الجو وصفو الدَّوِّ، والمحبوَّة بجمال الطبيعة ومحاسن الفطرة؛ لتتفتق أذهانُ عُمَّارِ تلك الجزيرة عن روائع الحكمة مجلوَّة في معرض البيان بهذا اللسان، وقد كانت هذه اللغة ترجمانًا صادقًا لكثير من الحضارات المتعاقبة التي شادها العرب بجزيرتهم، وفي أوضاع هذه اللغة إلى الآن من آثار تلك الحضارات بقايا وعليها من رونقها سمات، وفي هذه اللغة من المزايا التي يعز نظيرها في لغات البشر الاتساع في التعبير عن الوجدانيات، والوجدان أساس الحضارات والعلوم كلها.
وهذه المدنية التي يردد لفظها الألسن، ويصطلح المؤرخون على نسبتها إلى أمم مختلفة، ويميزون بينها بطوابعَ خاصةٍ، ويشتد المتعصبون في احتكارها لأمة دون أمة، كأنها خلقت معها أو كأنها ذاتية لها — هي في الحقيقة تراث إنساني تسلمه أمة إلى أمة، وتأخذه أمة من أمة، فتزيد فيه أو تنقص منه بحسب ما يتهيأ لها من وسائلَ، وما يؤثر فيها من عواملَ، وخير الأمم وأوفاها للمدنية هي الأمة التي تقوِّي الجهات الصالحة في المدنية، وتكمل النقائص الظاهرة فيها، وتسعى في نشرها وإشراك الناس كلهم في خيراتها ومنافعها — وخير اللغات ما كانت لسانًا مبينًا للمدنية تسهل على الناس سبيلها وتمهد لهم مقيلها.
وقد أصبح احتكار المدنية لأمم خاصة تقليدًا شائعًا متعاصيًا عن التمحيص والنقد، ومن هذا الباب احتكار الغربيين للمدنية القائمة اليوم، وما هي في الحقيقة إلا عصارة الحضارات القديمة ورثها الغربيون عمن تقدمهم، وقاموا عليها بالتزيين والتحسين والتلوين وطبعوها بالطوابع التي اقتضاها الوقت وانتحلوها لأنفسهم أصلًا وفرعًا، ولا تزال التنقيبات عن مخلفات الحضارات القديمة تكشف كل يوم عن جديد يفضح هؤلاء المحتكرين ويقلل من غرورهم.
ومن العجائب أن هذه الحضارة القائمة الآن تساندت في تكوينها وفي تلوينها عدةُ لغات مختلفة الأصول ولم تستطع أن تقوم بها لغة واحدة، على حين أن العربية قامت وحدها ببناء حضارة شامخة البنيان ولم تستعر من اللغات الأخرى إلا قليلًا من المفردات.
ازدهرت حضارات الأمم القديمة من العرب وفارس والهند والصين ومصر ويونان والرومان، وزخرت علومها وكانت كلها مبنية على أصول عامة متشابهة، وكانت لكل حضارة لغتها المعبرة عن محاسنها والكاشفة عن حقائقها، وكان لتلك اللغات أَثَرٌ بَيِّنٌ في بقاء الحضارة وانتشارها، وكلٌّ من بقاء الحضارة وانتشارها يتوقف على ما في اللغة من قوة وحياة واتساع، فاللغة من الحضارة جزء لا كالأجزاء، كاللسان من البدن عضو لا كالأعضاء، ثم اندثرت تلك المدنيات والعلوم إلا ما بقي من آثار الأولى منقوشًا على الأحجار وما بقي من آثار الثانية مكتوبًا في الأسفار، ولولا اللغات لم نتبين من الحضارات ما تبيَّنَّاه.
كانت الحضارات القديمة تقوم على تعبد يسد شعور النفس البشرية بالخضوع إلى قوة أعلى منها، فإن لم يكن هذا التعبد حقًّا طغت عليها الخرافة، وأصبحت الخرافة جزءًا من المدنية. وتقوم على تشريع يوزع العدل بين الناس ويحفظ مصالحهم الدنيوية، فإن لم يستند هذا التشريع على وحي سماوي أو نظام شورى طغى عليها التحكم والاستبداد، وأصبح الاستبداد جزءًا من تلك المدنية. وتقوم على نتائج القرائح البشرية من علوم، فإن لم تكفل هذه القرائح حرية شاملة لابسها التزوير والكذب، وأصبح التزوير والكذب جزءًا من تلك المدنية. وتقوم على لغة تسع تلك المدنية بيانًا وإفصاحًا، فإن ضاقت اللغة خسرت المدنية، وإن حضارة اليوم لم تسلم من بعض هذه النقائص والعيوب.
كانت هذه حال الحضارات إلى أن جاء الإسلام بالحضارة التي لا تبيد والمدنية المبنية على حكم الله وآداب النبوة؛ فكان التوحيد أساسها، والفضائل أركانها، والتشريع الإلهي العادل سياجها، واللغة العربية الناصعة البيان الواسعة الأفق لسانها، وبذلك كله أصبحت مهيمنة على المدنيات كلها، ووضع الإسلام هذه الحضارة الخالدة على القواعد الثابتة مما ذكرناه.
وقامت اللغة العربية ببيانها على أكمل وجه، وكانت الأمة المدخرة لتشييد هذه الحضارة التي نسميها بحق الحضارة الإسلامية هي الأمة العربية التي كوَّنها رسول الله في المدينة من المهاجرين والأنصار.
فهم العرب لأول عهدهم بالإسلام وبإرشاد القرآن أن هناك أممًا قد خلت، عمرت الأرض ومكن لها الله فيها وكانت أكثر أموالًا وأعز نفرًا وأثبت آثارًا، وامتثلوا أمر القرآن بالسير في الأرض والنظر في آثار تلك الأمم والاعتبار بمصائرها وعواقبها، ونبههم القرآن إلى أن مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلًا، فكان هذا الإرشاد القرآني المتكرر حفزًا إلى التنقيب عن آثار المدنيات القديمة ودراستها والاطلاع على الصالح النافع منها والأخذ به، وكان من آثار هذا التنبيه القرآني أن تفتحت أذهان المسلمين إلى دراسة هذه المدنيات واقتباس النافع منها، وكان من فضل القرآن على العالم أنه أبقى بهذا الإرشاد على علوم كادت تندرس، وعلى آثار مدنيات كادت تنطمس.
إن الفائدة الكبرى التي يعلقها القرآن على السير في الأرض والوقوف على آثار الأمم البائدة هي الاعتبار بحال الظالمين وعقبى الظالمين؛ ليعلم المعتبر أن الظلم هو سُوسُ المدنيات فيقيم العدل، وإذا جاء العمران قامت المدنية وكان العدل سياجها والعلم سراجها وهذه هي مدنية الإسلام.
إن إرشاد الإسلام للمسلمين بأخذ الصالح النافع أينما وجد هو الذي دفعهم بعد تمكن سلطانهم وتمهد ملكهم، إلى البحث عن الآثار العقلية للأمم التي سبقتهم، فاطلعوا على ما أنتجت قرائح يونان وفارس والهند في العلم والآداب فنقلوها إلى لغة القرآن ووجدوا فيها خير معين على ذلك.
هنا الجانب العامر من لغة القرآن، وهنا النقطة التي سقنا هذا الحديث كله من أجلها، وهنا الموضوع؛ وهو فضل اللغة العربية على العلم والمدنية.
لو لم تكن اللغة العربية لغة مدنية وعمران، ولو لم تكن لغة متسعة الآفاق غنية بالمفردات والتراكيب — لما استطاع السلف أن ينقلوا إليها علوم يونان وآداب فارس والهند، ولألزمتهم الحاجة إلى تلك العلوم بتعليم تلك اللغات، ولو فعلوا لأصبحوا عربًا بعقول فارسية وأدمغة يونانية ولو وقع ذلك لتغير مجرى التاريخ الإسلامي برمته.
لو لم تكن اللغة العربية لغة عالمية لما وسعت علوم العالم، وما العالم إذ ذاك إلا هذه الأمم التي نقل عنها المسلمون.
قامت اللغة العربية في أَقَلَّ من نصف قرن بترجمة علوم هذه الأمم ونظمها الاجتماعية وآدابها، فوعت الفلسفة بجميع فروعها، والرياضيات بجميع أصنافها، والطب، والهندسة، والأدب، والاجتماع، وهذه هي العلوم التي تقوم عليها الحضارة العقلية في الأمم الغابرة والحضارة، وهذا هو التراث العقلي المشاع الذي لا يزال يأخذه الأخير عن الأول، وهذا هو الجزء الضروري في الحياة الذي إما أن تنقله إليك فيكون قوة فيك، وإما أن تنتقل إليه في لغة غيرك فتكون قوة لغيرك، وقد تفطن أسلافنا لهذه الدقيقة فنقلوا العلم، ولم ينتقلوا إليه.
وقد قامت لغتهم بحفظ هذا الجزء الضروري من الضياع، بانتشاله من أيدي الغوائل وبنقله إلى الأواخر عن الأوائل، وبذلك طوقت العالم منةً لا يقوم بها الشكر، ولولا العربية لضاع على العالم خير كثير.
إن كثيرًا من العلوم التي بنيت عليها الحضارة الغربية لم تصلها إلا على طريق اللغة العربية بإجماع الباحثين منا ومنهم، وإن المنصفين منهم ليعترفون للغة العربية بهذا الفضل على العلم والمدنية، ويوفونها حقها من التمجيد والاحترام، ويعترفون لعلماء الإسلام بأنهم أساتذتهم في هذه العلوم عنهم أخذوها وعن لغتهم ترجموها، وأنهم يحمدون للدهر أن هيأ لهم مجاورة المسلمين بالأندلس وصقلية وشمال أفريقيا وثغور الشام حتى أخذوا عنهم ما أخذوا واقتبسوا عنهم ما اقتبسوا، ولا يزال هؤلاء المنصفون يذكرون فضل معاهد الأندلس العربية ومعاهد شمال إفريقية ومعاهد الشام على الحضارة القائمة، ولا يزالون ينتهجون بعض المناهج الدراسية الأندلسية في معاهدهم إلى الآن، ولا يزالون يردون كل شيء إلى أصله ويعترفون لكل فاضل بفضله.
وها هنا مسألة يجب الكشف عن حقيقتها؛ فقد كثرت فيها المغالطات وجنى عليها تعصب المتعصبين من ذوي الدخائل السيئة من الغربيين ومقلديهم، حتى أصبح باطلها حقًّا وكذبها صدقًا ووهمها حقيقةً، وحتى أصبح هذا الوهم من المسلمات التي لا تقبل الجدل عند أبنائنا الذين تلقوا العلم على أيدي أولئك المتعصبين — وهي أن العرب ليس لهم فيما ترجموا إلا النقل المجرد، وأنهم لم يزيدوا شيئًا في التراث الفكري الذي نقلوه، وأن وظيفتهم في هذه الوساطة وظيفة الناقل الأمين الذي ينقل الشيء كما هو ملفوفًا من يد إلى يد!
أغلوطة ملأت كتب الكثير منهم وترددت على ألسنتهم يمهدون بها إلى وصم العربي بأنه بليد الفكر جامد القريحة سطحي التفكير مسدود الشهية العلمية، ويتوسلون بذلك إلى تزهيد العربي في مزايا إسلامه واحتقار لها ولهم.
والحقيقة التي يؤيدها الواقع ويشهد بها المنصفون منهم أن العرب حينما نقلوا علوم الأوائل — كما كانوا يسمونها — نقلوا بدافع وجداني إلى العلم ورغبةٍ مُلِحَّةٍ فيه، وأنهم نقلوا ليستقلوا وليستغلوا ولينتفعوا بثمرة ما نقلوا، ولا يتم لهم هذا الاستقلال في العلم إلا بالتمحيص والتصحيح.
إن العربية لم تخدم مدنية خاصة بأمة، وإنما خدمت المدنية الإنسانية العامة؛ مدنية الخير العام والنفع العام، ولم تخدم علمًا خاصًّا بأمة وإنما خدمت العلم المشاع بين البشر بجميع فروعه النافعة، ومن يستقرئ خاصة هذه اللغة لعلم الطب وحده يتبين مقدار ما أفاءت هذه اللغة على البشرية من خير ونفع.
وقد كانت هذه اللغة في القرون الوسطى يوم كان العالم كله يتخبط في ظلمات الجهل، هي اللغة الوحيدة التي احتضنتِ العلمَ وآوته ونصرته.
هذا فضل لغة القرآن على المدنية الإنسانية وفضلها على الأمم غير العربية، وأما فضلها على الأمم العربية فإنه يزيد قدرًا وقيمةً على فضلها على الأمم الأخرى، وإذا قلنا: الأمم العربية. فإننا نعني الأمم الإسلامية كلها؛ لأنها أصبحت عربية بحكم الإسلام ولغة الإسلام.
فاللغة العربية منذ دخلت في ركاب الإسلام على الأمم التي أظلها ظله كانت سببًا في تقارب تفكيرهم وتشابه عقلياتهم وتمازج أذواقهم وتوحيد مشاربهم، وإن هذا لمن المناهج السديدة في توحيد الأمم المختلفة الأجناس، ولولا العربية لاختلفت الأمم الإسلامية في فهم حقائق الدين باختلاف العقليات الجنسية، وقد وقع بعض هذا، ولكنه من القلة بحيث لا يظهر أثره في الحركة العامة للأمة.
إن الأمم التي دخلت في الإسلام متفاوتة الدرجات في الانفعالات النفسية وأنماط التفكير، متفاوتة في الإدراك والذكاء، متفاوتة في القابلية والاستعداد، متفاوتة في التصوير والتخيل، ولكن اللغة العربية فتحت عليها آفاقًا جديدة في كل ذلك ما كانت تعرفها لولا العربية، ودفعتها بما فيها من قوة وبما لها من سلطان إلى التفكير والتعقل على منهج متقارب، وحفزت الأفكار الخامدة إلى التحرك، وزادت الأفكار المتحركة قوة على قوة.
إن اللغة العربية هي التي قاربت بين الفكر الفارسي المنفعل القلق وبين الفكر البربري الرصين الهادئ ثم هيأت لكل فكر قابليته.
واللغة العربية هي التي سهلت لهذه الأمم المختلفة أسباب العلم والمدنية ومهدت لها الطرائق المؤدية إليهما حتى أخذت كل أمة حظها منهما.
واللغة العربية هي التي أفضلت على علماء الإسلام بكنوزها ودقائقها وأسرارها، وأمدتهم بتلك الثروة الهائلة من المصطلحات العلمية والفنية التي تعجز أية لغة من لغات العالم عن إحضارها بدون استعانة واستعارة، فبحثوا في كل علم وبحثوا في كل فن وملئوا الدنيا مؤلفاتٍ ودواوينَ، ومن عرف كتاب أبي حنيفة الدينوري في النبات وكتاب أبي عبيدة في الخيل وكتاب الهمداني في تخطيط جزيرة العرب وكتاب الجاحظ في الحيوان وكتب الأئمة في الطب والنجوم والإبل رأى العجب العجاب من اتساع هذه اللغة وغزارة مادتها، وعَلِمَ مقدار أفضالها على الأمة العربية.
كما أن من يقرأ شعر الشعراء النفسيين من الفرس بهذه اللغة وشعر الشعراء الوصافين من الأندلس يتجلى له أي إفضال أفضلته العربية على تلك القرائح الوقادة التي وجدت في العربية فيضًا لا ينقطع مدده، وأضافته إلى فيض الاستعداد.
وما أمتن الإنتاج الأدبي إذا كان يصدر عن اتساع في اللغة واتساع في الخيال.
إن النهضة العربية الحاضرة في الشرق مفتقرة إلى كثير من المصطلحات العلمية والصناعية، وما زلنا نقرأ من سنوات عن اهتمام قادة النهضة بهذه المشكلة اختلافًا في الوجهة وهل الأصلح البحث عن مصطلحات عربية أصيلة، أو استعارة هذه المصطلحات من لغات العلم الأجنبية، وأن غاية ما استنجد به أصحاب الرأي الأول المعاجم اللغوية، وأعتقد أنه لو كانت الكتب العلمية والفنية التي كتبها أسلافنا موجودة بين أيدينا ولم تغلها غوائل الدهر لوجدنا فيها من هذه المصطلحات ما يفي بحاجتنا أو يقارب، ولكنها — ويا للأسف — ضاعت، وضاعت علينا بضياعها ثروةٌ لا تقوم بمال.
هذا كتاب الحيوان لأبي حنيفة شُدَّت في طلبه الرحال من عشرات السنين وأنفقت على تحصيله بدر المال، وتبارى هواة الكتب في طلبه في جميع أقطار الأرض فلم يُعثر له على أثر، وإن من يقرأ ما ينقله عنه ابن سيده في كتاب المخصص يسترخص في سبيله كل غالٍ، ويستسهل كل صعب.
هذا عرض بسيط لبعض ما للغة القرآن من فضل على العلم والمدنية، وإن هذا المبحث في حد ذاته موضوع طريف يحتاج إلى بحث عميق ودراسة مستفيضة ويتطلب جهدًا قويًّا ووقتًا متسعًا، ولو أن باحثًا عربيًّا يساعده وقته وحاله على استقراء هذا الموضوع لكتب فيه المجلدات ولبثَّ في ناشئتنا روحًا جديدة من الحماس للغتهم والتعلق بها والكد في تحصيلها والتعاظم بجمالها ولكان ذلك مقاومًا لروح التزهيد الخبيثة التي لابست عقولهم.
إن المستعربين من علماء المشرقيات فريقان متفقان في الاعتقاد بجمال هذه اللغة والاعتراف بمزاياها على العلم والمدنية، مختلفا الدواعي والبواعث في معاملتها؛ فريق ينظر إليها نظر الهون والمصلحة فينادي بموتها ويعمل على موتها ويزهد فيها الناس ويتجنى عليها وينحلها العيوب، وجاراهم في ذلك بعض كتابنا فنادوا بكتابتها بالحروف اللاتينية! وبئس ما نادوا به!
وفريق ينظر إليها نظرة العلم المجرد فيتعلمها بإخلاص ويحض على تعلمها ويشيد بذكرها في المحافل والكتب.
وإن لهذا الفريق في خدمة هذه اللغة أياديَ بيضاءَ يستحقون عليها الشكر العظيم من أبناء هذه اللغة، فكم كتبوا عنها مؤلفات، وكم عقدوا للبحث عن دقائقها مؤتمرات، وكم طبعوا من أسفارها القيمة في اللغة والأدب والتاريخ والعلوم، ولو لم يكن من فضلهم عليها إلا إحياء أمهات علمية عجزنا نحن عن إحيائها لكان ذلك موجبًا لعرفان جميلهم، وإذا كان فضل العربية عليهم في القديم عظيمًا؛ فقد قابلوا الفضل بفضل ولهم الشكر على كل حال، إن في هذه النقطة موضع اعتبار، وهي أنه إذا كان الأجنبي عن هذه اللغة يعرف لها فضلها فيحيي من آثارها ما استطاع ويحث قومه على تعلمها والاستفادة من ذخائرها، وحكومته من ورائه تجمع له مئات الآلاف من أسفارها القيمة؛ فماذا صنعنا نحن — أبناءها — حقيقةً؟! الحق أن ما صنعناه نحن لهذه الأم ضئيل وإن ما أنفقناه في سبيلها قليل، ولكن النية في خدمتها صحيحة، والرغبة في تعلمها ملحة، وعلى الله قصد السبيل.