العرب في القرآن
يحق علينا أن نعتنيَ بتاريخ العرب وما كان من دولهم وخصائصهم قبل الإسلام؛ وذلك لارتباط تاريخهم بتاريخ الإسلام، ولعناية القرآن بهم، ولاختيار الله النبي ﷺ منهم لتبليغ دين الإسلام وما فيه من آداب وحكم وفضائلَ إلى أمم الأرض.
وقد يقال إنهم هُيِّئُوا تاريخيًّا لأجل أن ينهضوا بأعباء هذه الرسالة الإسلامية العالمية، وإن عظمة الرسول وصحابته لا شك فيها؛ إذ لا ينهض بالجليل من الأعمال إلا الجليلُ من الرجال ولا يقوم بالعظائم إلا العظامُ من الناس، وقد عني القرآن بتأديبهم وتربيتهم؛ ليأخذوا حظهم كاملًا من التربية قبل الناس كلهم، ولهذا نجد كثيرًا من الآيات القرآنية تبغي إصلاح حال العرب وتطهير مجتمعهم وإثارة معاني العزة والشرف في نفوسهم؛ ومن هذا الباب الآيات التي يذكر بها العرب أن القرآن أنزل بلسانهم مثل: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا، إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ.
والذين يعقلون القرآن قبل الناس كلهم هم العرب، ومن أول القصد إلى العرب والعناية بلسانهم وتنبيههم إلى أن القرآن أنزل بلسانهم دون جميع الألسنة؛ جلبًا لهم حتى يعلموا أنه أنزل لهم وفيهم قبل الناس كلهم، ولكن قريشًا لم تقبله أبدًا، فلم يجلب القرآن وحده نافرهم أو قرب بعيدهم وإن أنزل بلسانهم، بل الذي جلب نافرهم وقرب بعيدهم قوة الحديد والنار وكثافة الجيش الفاتح.
ومن هذا الباب توسعة الله في قراءة القرآن على سبعة أحرف وهي اللهجات التي تجتمع على صميم العربية وتختلف في غير ذلك، وُسِّع عليهم في ذلك لتشعر كل قبيلة أن هذا القرآن قرآنها؛ لأن اللسان الذي نزل به لسانها، وهذا هو ما يقصده القرآن.
ومن هذا الباب أيضًا إشعارهم بأن صاحب الرسالة منهم.
لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ.
ولكنهم لم يغتبطوا لهذا ولم يهتدوا به.
ومن الطبيعة العربية الخالصة أنها لا تخضع للأجنبي ولا للوطني في شيء، لا في لغتها ولا في شيء من مقوماتها مهما يذكرها القرآن بالشرف ويحدثها كثيرًا بالذكر، وهو في لسانها الشهرة الطائرة والثناء المستفيض، يقول تعالى لنبيه وهو يعني القرآن: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ.
والأنبياء لم يُبعثوا إلا في مناسب الشرف ومنابع القوة ومنابت العزة ليبنى المجد الطريف من الدين على المجد التليد من أحساب الأمة وأنسابها وشرفها وعزتها، وما كان لها من مناقبَ تلتئم مع أصول الدين، فقوله تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ.
يعني أنه شرف لكم، وقومه هم العرب لا محالة، ولكنهم لم يقبلوا باللين والحسنى.
ويقول بعد ذلك: وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ.
ليشعرهم أن عليهم من الواجبات في مقابلة هذا الشرف الذي أعطوه ما ليس على غيرهم، ولا شك أن ثمن المجد غالٍ، فلم يبالوا ولم يرغبوا في أداء ثمن المجد.
والأمة التي لا تؤدي ثمن المجد لا تحافظ عليه، ثم هي أمة لا يعتمد عليها في النهوض بنفسها ولا بغيرها، وإنما ذكرهم الله بذلك لينهضوا بالأمم على ذلك الأساس؛ وهو إحياء الشرف الإنساني في نفوسها، وليعاملوها على ذلك الأساس بالعدل والرحمة والتكريم وما ذكر القرآن العرب بتكريم بني آدم وخلقهم في أحسن تقويم إلا ليعاملوهم على هذه القاعدة التي وضعها الخالق، وأن أعداء البشرية يعمدون إلى قتل الشرف من النفوس؛ ليستذلوا من هذا النوع ما أعز الله، ويهينوا منه ما كرم الله.
والخلاصة أن عناية القرآن بإحياء الشرف في نفوس العرب ضرورية لإعدادهم لما هُيِّئوا له من سياسة البشر، وبهذا نستعين على فهم السر والحكمة في اختيار الله لبعض كبار العرب للنهوض بهذه الرسالة الإسلامية العالمية واصطفائه إياهم لإنقاذ العالم مما كان فيه من شر وباطل، وهذا السر هو أنهم ما كانوا عليه من شرف النفس وعزتها والاعتداد بها هو الذي هيأهم لذلك ولو كانوا أذلاء لما تهيئوا لذلك العمل العظيم، وهؤلاء الكبار هم محمد ﷺ وأصحابه وخاصة أعوانه.
وقد عانوا مع قريش ما عانى موسى مع اليهود مما قصه القرآن علينا لنعتبر به في الحكم على الأمم فلم يعتبر أحد، فكانوا كبني إسرائيل الذين اختارهم الله وفضلهم على العالمين؛ لينقذوا أنفسهم من استعباد فرعون، وليكونوا مظهرًا للنبوة والدين في أول أطوارهما، وأضيق أدوارهما، وهذا هو الواقع، أما الأمة العربية فكان الرجاء أن تنهض بالعالم كله، وأن تظهر دين الله على الدين كله، لا كبني إسرائيل الذين ما استطاعوا أن ينهضوا حتى بأنفسهم؛ وإنما نهض بهم موسى نهضة قائمة على الخوارق، وما نهضوا بأنفسهم إلا بعد موسى بزمن مع اتصال حبل النبوة فيهم، ومغاداة الوحي الإلهي ومراوحته لهم.
فالأمتان — العربية والإسرائيلية — متمايزتان بالأثر ومتمايزتان بحديث القرآن عنهما، وإذا تلمسنا الحكمة المقصودة من اختيار الله لبني إسرائيل مع أنهم غير مستعدين للقيام بنهضة عالمية عامة وجدنا تلك الحكمة في القرآن مجلوة في أبلغ بيان، في قوله تعالى: وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ.
فالسر المتجلي من هذه الآية هو أن الله أراد بما صنع لبني إسرائيل وبما قال لهم أن يعلم هذا العالم الإنساني من سنن الله في كونه ما لم يكن يعلم؛ وهو إخراج الضد من الضد، وإخراج الحي من الميت، وإنقاذ الأمة الضعيفة التي لا تملك شيئًا من وسائل القوة الروحية ولا من وسائل القوة المادية — من استعباد الأقوياء المتألهين؛ فهو مثل عملي ضربه الله لخلاص أضعف الضعفاء من مخالب أقوى الأقوياء، وجعل المستضعفين أئمة وارثين وسادة غالبين، والتمكين لهم في الأرض، وجعل الأقوياء المستعلين في الأرض يرون عاقبة باطلهم؛ لكيلا ييأس المستضعفون في الأرض من روح الله، وقد قال موسى لبني إسرائيل؛ تمكينًا لهذا المعنى في نفوسهم: عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ.
وإلى هذا المثل العملي تشير الآية: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ۚ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ.
وأما محمد وصحبه وتابعوه وآل بيته والمهاجرون والأنصار فإنهم اختيروا — والوظيفة عالمية عامة — لما فيهم من شرف متأصل، واستعداد كامل، وصفات مهيأة، ولهذا كان منبع الرسالة بمكة؛ وشأنها عند العرب هو شأنها؛ فهم مجمعون على تقديسها، ولأنها في وسط الجزيرة وصميمها، ووسط الجزيرة بعيد كل البعد عن المؤثرات الخارجية في الطباع والألسنة؛ تلك المؤثرات التي يجلبها الاحتكاك بالأجانب والاختلاط بهم، وكل أطراف الجزيرة لم تَخْلُ من لوثة في الطباع وعجمة في الألسنة جاءت من الاختلاط بالأجنبي، ولا أضر على مقومات الأمم من العروق الدساسة، فاليمن دخلتها الدخائل الأجنبية من الحبشة والفرس على طباع أهلها وألسنتهم، والشام ومشارفه كانت مشرفة على الاستعجام، والعراق والجزيرة لم يسلما من التأثر بالطباع الفارسية، فكانت هذه الأطراف تنطوي على عروبة مزعزعة المقومات ولم يحافظ على الطبع العربي الصميم إلا صميم الجزيرة؛ ومنه مكة التي ظهر فيها الإسلام، وهذا الوسط وإن كان عريقًا في الصفات التي تَسَمَّى العصرُ لأجلها جاهليًّا، ولكنه كان بعيدًا عن الذل الذي يقتل العزة والشرف من النفوس، والجاهل يمكن أن تُعلمه، والجافي يمكن أن تُهذبه، ولكن الذليل الذي نشأ على الذل يعسر أو يتعذر أن تغرس في نفسه الذليلة المهينة عزةً وإباء وشهامة تلحقه بالرجال كما كانت حال الكثرة من أهل مكة وقريش والطائف الذين رفضوا دعوة محمد.
وشيء آخر يرتبط بهذا؛ وهو أن الله كما اختار محمدًا ﷺ للنهوض بالعالم، كذلك اختار لسانه؛ ليكون لسان هذه الرسالة وترجمان هذه النهضة، ولا عجب في هذا؛ فاللسان الذي اتسع للوحي الإلهي لا يضيق أبدًا بهذه النهضة العالمية مهما اتسعت آفاقها وزخرت علومها.