تعريف وجيز بإبراهيم خليل الله ونشأته وثورته على الوثنية في وطنه
أما إبراهيم — أو إبراهام على ما جاء في التوراة — فهو سيدنا إبراهيم، خليل الله الذي بعثه إلى النمروذ، وكان نبي التوحيد أو رسول الدين الحنيف. وذِكره وارد في القرآن في سورة «الأنعام» … إلخ، وفي سِفر التكوين وسِفر الأيام من التوراة. وهو ابن تارخ بن ناحور … ابن نوح، وقد وُلد بعد آدم بثلاثة آلاف سنة وثلاثماية على تقدير التوراة. وقد يكون تقدير التوراة نسبيًّا أو رمزيًّا؛ لأن العهد الذي وُجد فيه إبراهيم كان عهد حضارات كبرى في بلاد الكنعانيين والبابليين ومصر، ولا يمكن أن يكون مضى من تاريخ العالم هذا القدْر الضئيل من الأجيال، ولكننا على كل حال نسجل التواريخ الرسمية ولا نغفل ذكر الحقائق العلمية التي دلَّت عليها علوم طبقات الأرض والحفريات والاستقراء التاريخي في أور الكلدانيين وبابل وآشور وتل العمارنة وما إليها، ولا سيما في العصر الحديث.
وكانت أمه عوشاء تخاف عليه وهو جنين مستكن لما علمته من أن النمروذ يتعقب كل ولد ذكر ليقتله (وهذه الإشارة التاريخية التي من قبيل الإرهاصات التي تسبق ظهور الأنبياء نجد لها شبهًا في قصة موسى، ويوحنا المعمدان، والمسيح نفسه؛ فإن أمه السيدة مريم فرت به من فلسطين إلى مصر لتتقيَ غضب هيرود). وقد تكون هذه الحادثة قد وقعت فعلًا، كما يجوز أن تكون من قبيل المبالغة في تكريم النبي وتعظيم شأنه والدلالة على أن الله ينجي رسوله من الظالم الذي يترقبه؛ فإن عوشاء أم إبراهيم لجأت إلى كهف بالقرب من كوثا؛ لأن نمروذ رأى أحلامًا مزعجة فأمر بمراقبة الحوامل وقتل الذكور من المواليد، فزار عُمالُه أم إبراهيم للكشف عليها قبل أن يأتيَها المخاض؛ فجسوا جانبها الأيمن فاختفى الجنين في الجانب الأيسر، وجسوا الأيسر فاختفى في الأيمن، فانصرفوا دون أن يظفروا بطائل (الكسائي، ص١١٥ وما بعدها). وإنه لفحصٌ غريب!
فلما ولدته أمه في الكهف ونما، اشتغل مع أبيه في صناعة الأصنام، ثم ترك الغار فجن عليه الليل فرأى كوكبًا فظنه ربه، ثم ظن القمر ربه، ثم الشمس، فلما أفلت أنكرها واتجه نحو إله لا يراه بعينه ولكنه يشعر به بقلبه، وهذا هو ركن الإيمان، وسرعان ما عمل على تحقيق رسالته بإعلانه حربًا مقدسة ضد الملك نمروذ. وقصة إيمانه واختباره الديني في سورة «الأنعام» بكل إيجاز في أربع آيات (٧٥–٧٩)، ولكن القرآن حافل بقصته وتمجيده وأخباره في عشرات الآيات والسور. وقد كان في عُرف اليهود هو البطريرك أو الجد الأعلى وشيخ الأمة ورأس القبيلة وزعيم الجنس والجيل، وكرَّمه الإسلام لأنه نبي التوحيد ورسول الدين الحنيف الذي بُني عليه الإسلام، ولأن إبراهيم وابنه إسماعيل رفعا القواعد من بيت الله الحرام، وهي الكعبة في مكة، ولأن إبراهيم السامي هو الذي زرع نسله في وادي مكة وترك خليفته إسماعيل فتسلسل منه العرب الحجازيون الذين أسسوا مكة وظهر في أحفادهم دين الإسلام الحنيف، ولأن إبراهيم سبق النبي محمدًا — عليه الصلاة والسلام — إلى تحطيم الأصنام، سورة «الأنبياء» (٥٩–٦٨)؛ فإنه حمل فأسًا وذهب إلى معبد الآلهة؛ حيث كانت الموائد محملة بالأطعمة، فخاطبهم قائلًا: ما لكم لا تأكلون؟!
فلم يجيبوا طبعًا، فحطم يد أحدها ورأس الآخر وقدَم الثالث، ووضع الفأس في يد كبير الأصنام ووضع أمامه ما لذ وطاب من صحاف الطعام، فلما رآه قومه اتهموا إبراهيم بهذا الاعتداء المريع على أربابهم التي لا تسمع ولا تنطق؛ فقال إبراهيم ساخرًا ومتحديًا: بل فعله كبيرهم هذا، فاسألوهم إن كان ينطقون. فأجمعوا أمرهم على إحراقه بالنار، ولكنه خرج سالمًا، وهذا ما لم يحصل لنبيٍّ قبله ولا بعده، وكانت النار بردًا وسلامًا على إبراهيم، فدُحر نمروذ، وترك إبراهيم وأتباعه يخرجون إلى فلسطين، وسُمي من ذلك التاريخ خليل الله. ولإبراهيم وزوجته سارة حوادثُ مع فرعون مصر وبعض الملوك، وما زال يرحل حتى بلغ أور الكلدانيين وأرض الحجاز بعد مصر وسينا وفلسطين، فكان نبيًّا مستنفضًا يجوب أنحاء الأرض في سبيل المرعى ونشر دين التوحيد وتعمير البلاد، وقد أمره الله بالختان بعد أن قطع مائة وعشرين عامًا من عمره؛ فأطاع أمر الله، وصار الختان علامةً على اليهود وشعب الله المختار! وإن كان معروفًا عند بعض الشعوب القديمة، ولكنه عند إبراهيم وأتباعه صارت له صبغة دينية رسمية.
وعاش قرنين إلا ربعًا (١٧٥ عامًا)، ودُفن في مقبرة أهله في حبرون. ويظهر أنه نال لقب خليل الله عند بداية هجرته من وطنه بعد محنة النار التي أنقذه الله من شرها وحرها. وقد أفاض من المحدَثين في تاريخ إبراهيم الشيخ عبد الوهاب النجار في كتابه قصص الأنبياء، كما كتب إسكندر دوماس الصغير رسالة في الطلاق تناول فيها سيرة إبراهيم، وهو كتابٌ عجيب منقطع النظير، ومن الأقدمين — غير التوراة — الثعلبي والطبري وابن الأثير والكسائي وغيرهم، وتناوله كذلك علماء المشرقيات أمثال رينان وشبرنجر في «حياة محمد» وسنوك هرجرونجيه، وقد أجمعوا على أنه أبو العبرانيين وأبو العرب ومؤسس ملة إبراهيم وباني الكعبة، كما أجمعوا على أنه رمز الهجرة السامية والقبائل اليهودية الرحالة. ولكن يقصد بيهودية إبراهيم تلك اليهودية العريقة الموحدة الخالصة من الشوائب، التي نظرت في الكون وأعرضت عن عبادة الكواكب وعن عبادة الأصنام، فلما اشتد ساعدها حطمتها وجاهرت بعدائها ووقعت في يد الظالم الوثني، وهو نمروذ، وتحملت مشقة التعذيب بالنار، وتحملت آلام الهجرة وفراق الوطن في سبيل المعتقد، ومع كل هذا فلم تخمد لإبراهيم نار؛ فسافر واغتنى وتناسل واستعمر، وكان له مع الله حوار بديع قبل أن يطمئن إلى معتقده، فشك في إحياء الموتى بعد موتهم، فتفضل الله عليه بتجربة الطير التي أمره بذبحها وتفريق أشلائها، ثم أعاد الله إليها الحياة بأمره، وأول هذه التجربة قول الله: أولم تؤمن؟ قال بلى، ولكن ليطمئن قلبي.
وفي هذا الحوار رمز إلى مقدار ما يسمح الله به لعبده المخلص من البحث والشك ليصل إلى الإيمان واليقين؛ فلم يكن دينُ إبراهيمَ دينَ إيمانٍ أعمى، ولكنه كان دين الإيمان البصير؛ فلا عجب إذا اتخذه الإسلام جدًّا وأصلًا وأرومةً وهو يشبهه في كثير من أوجه الحق والصواب، والعمل للبناء والتأسيس، لا على الهدم والتدمير.