الحالة التي كان عليها العرب في الاجتماع والسياسة والاقتصاد أثناء الدعوة المحمدية
أما في الاجتماع والسياسة والاقتصاد فلا يخرج تاريخ البدو أيام الجاهلية عن تسجيل حروبهم، وأخبار عصابات تغير للسلب والغنيمة، يفخر كل فريق بنسبه ويرمي خصمه بوابل هطل من الأهاجي المقذعة، وتُسبى النساء وتُنهب الإبل، وكان ذلك نوعًا من الحروب الهمجية القديمة أتاحت فرصًا للبطولة البدوية، ومراجع تلك الوقائع القصائد الطوال والمقطعات القصار، ولهم أيام مشهورة كيوم ذي قار وحرب الفجار التي ساهم النبي فيها في شبابه وحرب البسوس وغيرها.
وخضع عرب الجاهلية لمن يجاورهم أو يبسط نفوذه عليهم لحرمانهم مقومات الأمم ذات الشخصية المعنوية التي تكتفي بوراثتها وتقاليدها ومثلها العليا دون التقليد والخضوع للغير، فكانت مملكة اللخميين تنافس آل غسان وتزاحمها في سطوتها ونفوذها، على أن حضارة ضئيلة لا تصلها بالطبيعة البدوية وخضوعها للوثنية.
أما الغساسنة فاتصلوا بالإغريق وتأثروا بثقافتهم وأنشئوا حضارة أعظم من حضارة اللخميين.
ومن العجب العاجب أن هذه الجماعات التي سميت ممالكَ مجازًا وتجاوزًا لم تفكر قبل الإسلام في جمع كلمتها ولَمِّ شَعَثِها والانضمام تحت لواء واحد، وما زلنا نشهد تفرق كلمتهم إلى أن تخضعهم دولة قوية كالترك، أو دولة أجنبية تساوي بينهم في الذل والعبودية، ولم تجتمع كلمتهم إلا في ظل الإسلام في عنفوانه، ثم لعبت بهم الأهواء قرونًا وأجيالًا.
وقد يحاول المؤرخ تقصي أخبار تلك الممالك العربية الصغرى فتدركه الحيرة واليأس، وقلَّ أن يستمد مرجعًا أو مصدرًا خليقًا بالتدوين، فيؤلف من الشتات هيكلًا تقريبيًّا حتى ولو استعان بالنتف المبعثرة في مدونات البيزنطيين، وقد يحتوي الشعر الجاهلي على صورة مصغرة أو مضخمة لحياتهم وأهوائهم ومطوَّحاتهم، فتعرف بعض ناحياتها، ولكن الشعر ليس في نهاية الأمر مصدرًا كافيًا شافيًا، ولا عجب ولا ملامة؛ فإن الجماعات الهمجية تكتفي في تاريخها على الذاكرة كما اكتفوا بها في حفظ آدابهم.
كان بعض ملوك العرب يقلدون ملوك الفرس والروم؛ لأن الفطرة العربية شديدة التعلق بالترف والأخذ بأسبابه؛ فقصورهم حافلة بالقيان يغنين بمختلف اللغات، يستقدمون المطربين من مكة، فإذا جلس أحدهم للشراب فُرش تحته الآس والياسمين وأصناف الورود والرياحين، وضُرب له العنبر والمسك في صحاف من الفضة، ولبس أفخر الثياب الملونة ليخلعها أثناء طربه على ندمائه وشعرائه، وقد وصف مجالسهم في قصورهم حسانُ بن ثابت والنابغة الذبياني، أما شعر حسان في هذا الباب فلا نقطع بصحته في هذه المواطن دائمًا، وإن ورد فيه كثير من مدح الغساسنة؛ لقرابته وصلته بهم أيام وثنيته، وقد أسلم قبل حكم جبلة بن الأيهم بزمن طويل.
أما النابغة فقد نظم فيهم؛ يؤيد عراقتهم في النعومة:
وعُرف عن بعض هؤلاء الملوك متانة الإيمان في العقيدة والملة، كان الحارث بن جبلة حليف جوستنيان على ملك الحيرة ثابتًا على رأيه في السياسة والدين؛ فقد قضى أربعين عامًا في محاربة المنذر الثالث بن ماء السماء (نسبة لأمه كما نسب ابنه عمرو إلى أمه هند)، فاتسعت رقعة الحرب بينهما من أول القرن السادس المسيحي إلى الثلث الأخير منه، فاستغل جوستنيان أحقاد الملكين؛ ليضعفهما جميعًا.
وكان الحارث بن جبلة يعقوبيًّا، فدافع عن مذهبه متحمسًا مستهينًا بأخطار شديدة، فاجتذب عطف عظماء بيزنطة إلى أن زارها؛ ليضمن توريث عرشه أحد أبنائه، فأظهروا له الإخلاص وحباه جوستنيان بعطفه وأدخله إلى أهل بيته؛ زيادةً في التغرير به، كما فعل أسلافه بالبطالسة في رومة وآل عثمان بأمراء أمثاله بعده بمئات السنين.
ولم يكن بعض هؤلاء الملوك عندما دخل الإسلام — راغبين أو مرغمين — سوى أعراب ما يزالون على الوثنية أو المسيحية لم يعقلوا روح الإسلام ومبادئ العدل والمساواة التي جاء بها حاسمة لعداوات الجاهلية.
ومن أشهرهم بسبب قضيته وردَّته جبلةُ بن الأيهم آخر ملوك آل غسان، أدرك الإسلام في خلافة عمر فأسلم ومرَّ بأسواق دمشق فأوطأ رجلًا وفرشه، فوثب الرجل فلطمه، فقبض عليه الغسانيون وأدخلوه على أبي عبيدة بن الجراح فاتح الشام المتوفى سنة ٦٣٩ م، وشكوه إليه، فطالب الملك بشهود الإثبات، فقال جبلة: وما تصنع بالبينة؟!
فقال الحاكم الصحابي: إنما أمر الله بالقصاص؛ فهي لطمة بلطمة.
فخرج جبلة ولحق بأرض الروم وتنصر ولم يزل هناك إلى أن مات، فرويت القضية على ألوان، وهذا النص أصدقها (ابن قتيبة)، ونمقها بعض كتاب العرب فجعلوا لها حواشيَ وذيولًا؛ فجعلوا الملك لاطمًا لا ملطومًا واختاروا موضعها المسجد الحرام أثناء الطواف بالكعبة، وأن حَكَمها عمر بن الخطاب نفسه.
ونقدر أن نفسر كبرياء جبلة بن الأيهم؛ فقد كان عملاقًا طوله اثنا عشر شبرًا وكان ملكًا مطاعًا حديث العهد بالإسلام فأخذته العزة وباع دينه الجديد بكرامته، وقد يعذره المجامل للملوك بأنه أسلم ولما يدخل الإسلام قلبه، وإلا لَصبر وعفا، والعفو من شيم الكرام.
أما ما روي من أنه ندم وأقام في بيزنطة وأدمن الخمر حزنًا، فلا نقيم له وزنًا.