شخصية الرسول ﷺ
إن محمدًا ﷺ الذي يكتب عنه المؤرخون ويذكره المؤمنون في صلواتهم وعبادتهم في كل أوقاتهم، شخصية لا ترتبط بموعد من الميلاد، أو بواقعة من الهجرة، أو بمعركة من المغازي، أو بفتح من الفتوحات، أو بأجل من الوفاة؛ إنما هو معنى متجدد يتصل بالحياة الإنسانية، فحيثما ذُكر العرب والحضارة والإسلام والفكر الجديد والشجاعة الفردية وخير الإنسانية، فهناك مجال لذكر محمد ﷺ وحيثما خطر حديث النهضات القومية وتوحيد كلمة الأمم وإخراج الناس من الجهل إلى العلم ومن الظلام إلى النور والمواقف الحاسمة في تاريخ البشر وأطوار الأمم، فمحمد هو موضوع الحديث من قريب أو من بعيد، ولا نعلم مناسبة قديمة أو حديثة من مناسبات الحوادث العالمية، ولا نقول: الكونية؛ كالحروب العظمى وتقلُّب المدنيات، إلا ولمحمد ﷺ شأن أكبر فيها، وذكر أعطر في صميمها وفي ثناياها وحواشيها، ولا يمكنك أن تسأل منذ ظهوره إلى آخر العالم: هل يبقى من حديث محمد كلام لم يقله القائلون ولم يعرفه العارفون بعد ما قيل في حياته ومماته؟!
كان محمد ﷺ رجلًا عدا عن كونه نبيًّا مرسلًا، رجلًا بالمعاني التي يُقصد إليها بهذه الكلمة في العصر الحديث، أي جريء القلب لم يطرقه يأس ولا هلع، رهيب الطلعة يشعر الرجال بجانبه كأنهم أقزام أو أطفال، في صوته رنة عجيبة، وفي منطقه قوة ساحقة، وفي فمه فصاحة دافقة، وفي ذهنه سرعة نادرة، فتشغلهم تلك المواهب عن أنفسهم، وعن التفكير الحر المستقل، ويشعرون كأنهم مقيَّدون أمامه بقيود متينةٍ أدقَّ من خيوط الحرير من غير ضيق أو ضغط. وقد دوَّنت كتب الحديث وأسفار السير، ومنها ما كتبه خصومه الإفرنج وغيرهم، أن كثيرين ذهبوا إلى النبي مسلَّحين بالحجج التي حسبوها دامغة، والأدلة التي ظنُّوها قاطعة، وفي رءوسهم أفكار بلغت لديهم مبلغ العقيدة التي لا تتزعزع؛ فكان محمد يناقشهم ويحاورهم ويجذبهم ويدفعهم ويوافقهم هنا ويعارضهم هناك، ثم إذا بعينيه تلتمعان ببريق عجيب ينفذ إلى قرارة نفوسهم، وإذا بأكثر حججهم هباءٌ إزاء حججه، وإذا ببعض ما أعدوا من الأدلة قد تبخر من رءوسهم فلم يدلوا به، وإذا بهم معجبون بمقدرته العقلية وفصاحته اللفظية التي تعينه في سهولة ويسر على التعبير عن أدقِّ ما في نفسه في سحر وطلاوة، مبهورون بحججه المتماسكة المتلاحقة المتساقطة عليهم في سرعة مدهشة، وبصراحته التي تصعق أحيانًا وتكشف الغامض دائمًا بما لا يدع مجالًا لشك أو تأويل، كل تلك تشعرهم بأنهم أمام شخصية فذَّة ممتازة لا يسعهم إلا أن يُكبروها ويخضعوا لها بمحبة وإجلال.
ومع أن محمدًا كان عمليًّا واقعيًّا بالمعاني الحديثة يرى الممكن فيسعى إليه، والصعب فينصرف عنه (كما حدث في استفتاء ردم الآبار في موقعة بدر) ولكنه مع ذلك كان يفهم المثل الأعلى ويتبع الوحي الرباني ويعرف التضحية كيف تكون.
كان محمد كاملًا ناضجًا كل النضج مثقفًا ثقافةً لَدُنِّيَّةً، وهي — يا للعجب — إنسانية عالمية كونية لا عربية جاهلية ولا شرقية قديمة، ولكنها تكاد تتفق وكل العصور والأزمان، ولقد بلغ من أمر هذا النضج وتلك الثقافة والأدب أنه كان يسوق الحكمة والكلمة الجامعة في سياق حديثه فلا تخطئ ولا تنسى، وكان على كثرة ما وعى المحدِّثون عنه من الأحاديث يفضِّل قلة الكلام على كثرته، ويعتقد أن الإقلال أنفع من الإكثار؛ لأن القليل يبقى في الذاكرة ويثبت في النفس، ويلزم المتكلم أن يراقب السامع؛ فلا نفع في كلام مع ملل السامع أو تعبه، ولا سيما لم تكن الكتابة شائعة، ولم يلازمه كاتب إلا في تدوين القرآن أو عقد المعاهدات، وكان محمد في رفق يتخير سامعيه كلما استطاع وكلما اعتمد على ذكائه وذاكرته استماله، وكلما حسن لديه رأيه ازداد عليه إقبالًا، ويقصي من يخالفه عنادًا أو خبثًا أو حبًّا في المخالفة، وكان هذا النوع منتشرًا؛ ولا سيما بين المنافقين.
فلم يكن نبيًّا ورسولًا للعالمين وحسب، بل كان زعيمًا لأمة زعامة قوية عميقة مطبوعة، ولو حاول أن يكون نبيًّا هاديًا ونذيرًا دون أن يكون زعيمًا لأعجزه ذلك وأعياه. وقد قامت زعامته على أسس متينة من الشخصية القوية وصفاء النفس وصدق الاعتماد على الله والحيوية الكاملة والرجولة الفاضلة والشعور التام بواجب الرسالة، والثقة البالغة بالله وبالنفس، وامتلاك ناحية اللهجات العربية والبلاغة اللغوية والفصاحة المتدفقة والنطق الصحيح والذكاء الخارق والنضج المبكر الذي حماه من الرذائل والمعاصي في البيئة المكية الفاسقة.
وقد تجلت مواهبه الإنسانية أثناء الفترة الأولى من ظهور الرسالة وإعلان الإسلام إلى الهجرة؛ فقد كان قلبه يتوثب إشفاقًا على المسلمين المضطهدين مما يجدونه من المشركين الجاهلين، والأولون فقراء ومستضعفون، والآخرون أغنياء وأقوياء وعتاة، فكان ينظر إلى ما يقعون فيه من المحنة وما يقابلونها به من جميل الاتحاد وعظيم الصبر والتسليم، ما يبذلون من الجهود لمقاومة خصومهم وتقوية إيمانهم حتى جلوا الغمرة وكشفوا المحنة وأتوا بها آية أظهرت لله ورسوله والمؤمنين والمشركين أنفسهم أن من أعوزه الحديد والنار والمال والقوة المادية فحسبه الأخلاق التي إذا متنت كانت أمضى سلاحًا وأشد إفصاحًا وأبلغ نجاحًا، فتضافروا بأمره وثبتوا بإرشاده في ذلك الصدام العنيف الذي لم يرَ مثله بين اليهود ولا النصارى في الأحقاب المتعاقبة، ثبات الكرام وهم عزل لا معين لهم من حليف إلا قوة يقينهم، ووضوح الحق في دينهم، والتزام الحدود المشروعة في شريعتهم، فكثيرًا ما أرجعوا الخصوم على أعقابهم غاضِّين من غلوائهم عاضين على أنامل الندم على ما رأوا من تبدل الحال في مكة وبطحائها وتصرم آمالهم في مقاومة الرسول؛ تارةً باللين، وطورًا بالشدة حتى المقاطعة والحصار في شعاب مكة وتقتيل المسلمين وحبك المؤامرات لاغتياله، فانقلب بعض زعماء هؤلاء المشركين من الزراية إلى الرعاية، ومن المخاشنة إلى المحاسنة، ومن زمجرة الترهيب إلى بأبأة الترغيب، فبارك الله المسلمين ونبيهم، وشفيت أنفسهم من وجدها، وسكنت قلوبهم من وجبها، فكان التحرير، وكانت الهجرة، وكان الفرار إلى الله، وكان النصر المؤزر والفتح المبين، فرقموا لأنفسهم ولأعقابهم في سجل المجد واليقين ذكرًا لا يتدلى، ووضعوا في بناء العظمة الإنسانية حجرًا لا يبلى، ألا لمثل هذا فليعمل العاملون، وفي سبيل الله ما لاقوا، وفي ذمة الله تلك الدماء الطاهرة التي أراقها بالظلم أعداء الحق والنور، فإن الحق قديم والنور ساطع، ويبقيان أبدًا، والباطل والظلام حادثان يحوران هباءً ويذهبان جفاءً.
والفضل في هذا كله راجع إلى رسول الله محمد ﷺ الذي أدى رسالته على أتم وجه وأكمل صورة، ولولا زعامته البشرية وقدرته العجيبة على قيادة الجماهير وفهم تام لعقلية العرب وإدراك سامٍ لأمانيها في الحياة؛ فاستطاع أن يؤثر فيها بمقدار ما أثر فيه الوحي الإلهي، شهد الصحابة ذلك بأنفسهم ودرسوه عن كثب، وكانت الوفود تحجُّ إليه أفرادًا وجماعاتٍ كل يوم من غير انقطاع وكان يتحدث إليهم ويخطب فيهم ويجيب على أسئلتهم في غير ملل أو تعب أو شكوى، وكانت أحاديثه وخطبه بسائر اللهجات التي تنطق بها وفود القبائل، ينزل إلى مستواهم ويخاطبهم على قدر عقولهم، ثم ينهض بهم مدارجة إلى مستواه العالي في الإيمان والتفكير والشعور والنظر إلى الأشياء. وقد مرت برسول الله في مكة والمدينة أزمات حادة أقضَّت مضجعه؛ كفترة الوحي، وإخفاء الإسلام عن المشركين ثلاثة أعوام، وأمره بعض أتباعه بالهجرة إلى الحبشة، وعرض نفسه على القبائل وما لاقاه على أسوار الطائف، وما كان أثناء الهجرة، وما عاناه من المنافقين في المدينة بعد ما أصابه من بعض أقاربه، وما وقع له من الغيظ والهزيمة في موقعة أحد؛ فلم يضعف ولم يهن ولم ينخذل؛ لأن له إيمانًا بالله لا يتزعزع في وقت من الأوقات، ولم يقنط قط من رحمة الله ونصرته في موقعة بدر وقبلها وبعدها، ولم يكن حزنه إلا كسحابة صيف لا تلبث أن تنقشع؛ لشدة إيمانه بالله، وثقته برسالته، واعتداده بهما، وإدراكه إدراكًا تامًّا أن الله لا يريد به إلا الخير بعد أن أخرجه من أحرج المواقف؛ كوقف المؤامرة على اغتياله في مكة وفي العقبة ويوفقه دائمًا إلى ما فيه خير الإنسانية.
هذه بعض الناحيات من محمد الفرد؛ العلم، إيمان بالله، وشخصية كونية فذة واضحة الحدود، وإنسانية رفيعة، وشجاعة نادرة، وإرادة صلبة في الحق لا تلين ولا تستكين، وأساليب بليغة لا يعدل جمالها إلا قوتها، ولا يفوق فصاحته وحكمته وشفقته وحنانه على النبات والحيوان والإنسان وسائر الكائنات إلا سمو الشعور الرباني الروحي الفياض الذي يستمليه هذه المواهب، ويستمده هذا الإيمان، خلق عظيم بمدح القرآن، وإرادة ومقاومة وصلابة ومثابرة وثبات ومرونة ولين، أليس المؤمن هينًا لينًا؟ أليس الله يريد بهم اليسر لا العسر؟ أليس بينه وبين الله عهود ومواثيق: إن تنصروا الله ينصركم؟
ليست عهودًا خشنة قاسية كعهود بني إسرائيل، بل عهود رطبة معقولة سهلة على النفوس، وهو زعيم يعمل في وضح النهار في المسجد والمجلس وعلى مقروعة الطريق، أليس يخدم الحقَّ؟ والحقُّ ثابتٌ لا يتغير، قد يكره المتكلم ولا يكره الكلام إذا كان حقًّا، وقد يحب المتكلم ويكره الكلام إذا كان باطلًا؛ كشفاعة ابنته فاطمة في امرأة سارقة. كان يغضب ولكنه لا يحقد، ويحزن ولا يستسلم للحزن، ويفكر ولكن لا يضل، أبى أن يقبل قتل رأس المنافقين؛ خشية أن يقال عنه: محمد قتل أصحابه. ولم يكن الحبيب عبد الله بن أُبَيٍّ صاحبًا إلا للشر، قارن بين هذا القول، وبين الإسكندر الذي قتل أعز أصدقائه وأقرب أنصاره في سورة غضب وهو الذي أنقذ حياته من قبل وأتبعه غيره من أخلص الناس له.
وكان محمد سياسيًّا واسع الحيلة دون أن يخدم مصلحة غير مصلحة الدين والجماعة، ويقبل المعارضة ويتلقاها في غير ملل أو برم، ويبتسم لعدوه ومُجالسه، ويجادله في مداراة واتقاء بغير نفاق ولا رياء، فكان يفهم سياسة الأفراد والجماعة على أنها قضية من القضايا تحل على أساس من الحق والعدل، وكان سلاحه الماضي في حلها الصراحة والمنطق، وقد اقتبس حلول السياسة من حلول الأقضية التي فصل فيها أثناء حياته، فصاحب الحق في نظره يجب أن يأخذ الحق كاملًا وغاصبه يردُّه غير منقوص.
ومن حسن حظ الإسلام وهو في أول أدواره وبداية أطواره أن الرسول كان على هذه الأوضاع من الفطنة والعقل والصلابة حتى أتم لهم دينهم فنضج وازدهر وأينع ثم أثمر، كما نضج المسلمون بعد أن اكتووا بنار الاضطهاد، وصهروا في أتون الجهاد، وأصيبوا بالحرمان في أرزاقهم وأموالهم، وبالأذى في عواطفهم وأجسامهم، ثم خرجوا إلى العالم وهم أصفى ما يكونون معدنًا وأعمق شعورًا وأكثر نضجًا وأوسع أفقًا وأعظم استعدادًا لفتح العالم وحكمةً بالنصفة والمعدلة، فلم يسنوا سنة الاستعباد والاستعمار، ولم يبيعوا ويشتروا في حرية الأمم، ولم ينهبوا الشعوب، ولم ينزلوها إلى مستوى العبيد والرقيق كما فعلت الأمم القديمة (مصر في الأسرى، وبابل في اليهود قديمًا، وأوروبا الحديثة في القارات الأربع).
ومحمد بذكائه العجيب وقلبه الملهم ومنطقه المرهوب وعقله الموهوب من الله كان يدرك كل هؤلاء في صميم نفسه من الساعة الأولى، وحسبه نجاحًا في ميدان الإنسانية بين الحرب والسلم والإنذار والتبشير والرسالة والنبوة، أن الله مكنه قبل أن يلحقه بالرفيق الأعلى أن يشهد ثمار رسالته؛ فقد شهد قلوبًا مؤتلفة وصفوفًا متحدة وأهواء راقدة وأحقادًا خامدة وأحزابًا متراضية وجيوشًا مجندة وأعلامًا خافقة، مكنته جميعها من إلقاء خطبة الوداع الرائعة، عليه أفضل الصلاة والسلام من الله وملائكته ومن المؤمنين جميعًا، فلما قبضه الله إليه لم يترك أمته جاهلة خاضعة لإرادة سادة مستبدين أو ملوك طامعين، كما كانت الحالة في مكة وغيرها من المدن الخاضعة لأرستقراطية رذلة بذيئة جريئة على الحق يحكمها رجال مستبدون؛ كأبي سفيان، يفعلون ما يشاءون غير مسئولين، ويحكمون بما يرسم به هواهم؛ وافق الحق أم خالفه، وكان العالم قبل محمد في الفرس ورومة والقسطنطينية ومصر والهند محكومًا بملوك وحكام جلبوا على الأمم والشعوب من الأضرار والمتاعب ما بغضهم إلى قلوبهم؛ إذ لم ينالوا من عهودهم إلا وبالًا، ولم يلقوا من عصورهم إلا نكالًا، وشهدوا النفوس تذهب فيها ظلمًا، وتؤكل أثناءها الأموال أكلًا لمًّا، وتُسفك الدماء زورًا، وتدمر البلاد تدميرًا (انظر الفصل الخاص بوصف العالم قبل الإسلام من هذا الكتاب).
وقد يخشى النبي والمصلح والزعيم الخَيِّرُ أن تتغلغل هذه الخلال اللئيمة في أنفس خلفائه (انظر تواريخ أنبياء بني إسرائيل)، ولو تبين لهم أن الشريعة لا تبيحه، وأنها توجب تقييد الحاكم بالسنة والقانون، ومن البديهي الواضح أن نصوص الشريعة لا تقيد الحاكم بنفسها حتى ولو كانت الإسلام، فإنها ليست سوى معاني أحكام مرسومة في أذهان أصحاب الشريعة وعلمائها أو مدلولًا عليها بنقوش مرقومة في الكتب، ولا يكفي في تقيد الخليفة بها مجرد علمه بأصولها، بل لا بد في ذلك من وجود رجال يتخلقون بمعانيها ويظهرون بمظاهرها؛ فيكون منهم الحاكم، وهذا ضمان أول، والضمان الثاني أن يكون أمثاله خارج الحكم مسلحين بالشجاعة والثبات فيقومونه عند انحرافه عنها، ويحضونه على ملازمتها، ويحثونه على السير في طريقها.
أرأيت كيف كان أبو بكر صلبًا شديدًا عنيفًا في حروب الردة حتى إنك لتنكر عليه تلك القوة في أخريات أيامه، وهو الذي عرفته في شبابه وكهولته جميلًا رقيقًا أنيسًا محدثًا ظريفًا، وراوية لطيفًا محبوبًا من الرجال والنساء على السواء؟! وهل رأيت كيف كان بعد وفاة النبي وهو ممزق من الحزن عليه كيف يقف لعمر بن الخطاب ذلك الموقف الجليل يصده ويرده ويهديه ويذكره بالآية الكريمة: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ الآية.
ومن أجل هذا وذاك انتهز عمر بن الخطاب فرصة مبايعته فدعا الناس في خطبته إلى تقويم ما عساه يكون منه من الانحراف والاعوجاج في تنفيذ أحكام الشرع الشريف، وأي فضل في الاحتفاظ بتلك الخلال أكبر من فضل الله ورسوله؛ الرسول هذَّب وعلَّم وقوَّم وأعد القلوب والعقول ليضمن مستقبل الحكومة والشعب كما بلغ قول الله: وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
وهي آية عامة في دعوة الخلفاء وغيرهم إلى الخير وجوبًا لا ندبًا.
هذه بعض أعمال محمد ﷺ في حياته وبعد موته، فما أكرم العهد وأجمل الذكرى وما أجلَّها حياة يمر بنا طائفها كلما ذهب الفكر قريبًا أو بعيدًا في شئون الإسلام والإنسانية، عهد باقٍ لن يضيع، ثابت لن يتحول، وتلك ذكرى حية يسطع خلودها، وحياة مباركة الأثر، مطهرة الأعراق.
لا يأخذ القارئ علينا هذا الإسهاب، فإنَّا نكتب ما نعتقد فيمن نحب ومن به نعجب، هذا هو الإنسان الكامل الذي تجلت صورته في أحلام الفلاسفة؛ حتى الماديين منهم، فنطقوا بلفظ السوبرمان للخير والمحبة والعلم والسعادة، لا للشر والبغضاء والجهل والشقاء، السوبرمان الذي خلقه الله على صورته، وتعاونت الطبيعة على إظهاره، وتمثل الكون كله في تكوينه؛ فجاء تامًّا متسقًا مع عظمة روحه وعظم رسالته، وبرأه قويًّا قادرًا على غذاء عقله ونفسه، فلم تجئ رسالته من عمل المصادفة ولا من صنع البيئة ولا من استعداد الشعب الذي حوله (كما يحاول هربرت سبنسر إثبات ذلك في ظهور العظماء في كتابه الجميل دراسة علم الاجتماع) ولكنها إرادة وفطرة سليمة ونفس باهرة من صنع الله وحكمته وتدبيره، أعده الله وأعد نفسه بإرادة الله؛ لتلقي الأمانة الكبرى بما عرف عنه أهل عصره وبلده من أمانة وشرف واستقامة وعفة وقناعة وكرامة وعقل وعزم.
وكل هذا لا ينافي أميته وبساطته قبل الدعوة؛ فإن الله أعلم أين يضع رسالته، وأخبر بالإناء الذي أودعه حكمته، فاختزن مواهبه الكامنة إلى وقتها المرهونة به، وقد قضى معظم شبابه بين قوم عرفوه حق المعرفة ولكنهم عرفوا ظاهر الأشياء، ولم يعلموا بواطنها، حتى إذا آن الأوان تكشفت لهم حقيقته وما نضح عليها من ألوان وما شكلها به من أشكال وما صيَّرها إليه من تكييف يوائم روح العصر ويلائمه، ويطابق واقع الحياة، فأقبل عليه رجال من أنضج الناس فكرًا وأخبرهم بالدنيا والرجال؛ كأبي بكر، فأحبه وتعلق به ولازمه إلى آخر لحظة؛ لأنه لم يرَ أمامه رجلًا عثر في مصادفات الحوادث على رأي فتنه فهو يعلمه ويجهل كل شيء سواه، ولا يعرف له قرارًا يرتبط بأصله ولا فرعًا يمتد إلى سمائه، ولكن أبا بكر وأترابه رأوا فيه الرجل المقدر الذي اتصل بجذور الأفكار ومنابع الحقائق وأصول الأشياء (سدرة المنتهى) وأسبابها ومسبباتها وعللها وما يمكن أن تنتج من خير أو تسوق إليه من شر، فهو يسير في رسالته وحياته عامدًا قاصدًا، لا يخبط خبط عشواء، ولكنه مهتدٍ وهادٍ، حتى صار جامعة نقلت خير ما يصل الأجيال السابقة بجيله وما يليه (انظر سرد تواريخ الأمم البائدة والمعاصرة في القرآن الكريم)، وكأنه كان في مجالسه وحديثه يضع الأساس للأمم، حتى إذا بنوا كان البناء متمشيًا مع أساسه مستقيمًا مع روح الأقوام وفنونهم وأخيلتهم وآدابهم لا ينكر حاضرهم ماضيهم ولا يتنافر مستقبلهم مع حاضرهم.
وفي أثناء تلك السنوات الأربعين التي سبقت الدعوة لم تكن شخصية محمد غامضة ولا خامدة إلا ظاهرًا، ولكن عمل الله كان مستمرًّا، فوفَّق عقله الباطن فجعله يسبر غور الطباع والأخلاق والنوازع والرغبات والآلام والآمال في الإنسانية؛ فأحاط بها بوحي رباني؛ لأن الله أحبه واختاره، فعلمه وأدبه فأحسن تأديبه، وفكر في كل شيء فأصاب المِحَزَّ، ثم هضمها بالتأمل القوي والعلم الفسيح، وصفَّاها بالتأمل الهادئ وسهد الليل أثناء التحنث وقبله وبعده؛ حتى استقرت مع إلهام الله في ضميره إيمانًا قويًّا صادقًا لا يخطئ ولا يتلبس، إلى أن شاء الله في تمام الأربعين أن تتحول الفكرة الصامتة إلى فكرة ناطقة بالقرآن الموحى به من الله بوساطة الملك تحرك بها لسانه أفصح وأبلغ وأوضح ما تكون وأقوى ما يكون البيان وأوقع، فلما ترجم عن الله ما يملأ جوانحه وتعيا عنه ألسنة البشر أقبلت عليه القلوب قبل الأجسام وعنت لمنطق إيمانه جباه الفصحاء والمفكرين، ووثق به الضعفاء والمظلومون والمغلوبون كما وثق به الأغنياء والعظماء والقانعون.
هذا الصحابي التاجر يثق بخلقه فاطمأن إلى قراره وسلَّم قياده، وذاك الصحابي الشاعر وثق بأدبه الذي هو أدب القرآن فأحسن الظن به وآمن برسالته، وذاك العالم وثق بعلمه واطمأن لتحقيقه ومعرفته فأُعجب به وأطاع الله ورسوله، وهذا المتألم الشاكي الذي يجول الألم في نفسه وخاطره لا يملك اللسان الذي يعبر به سمع آيات الرحمة والإحسان والعدل والمساواة التي تنال بالإيمان والتقوى والتي تعتق رقبته وتفك عنقه وتحطم سلاسل عبوديته وتطرد عنه شبح الفاقة وتعده بالجزاء الحسن في الدنيا والآخرة، فهرع إليه؛ لأنه وصل إحساسه بمدارج بؤسه، فأسمع أذنيه وقلبه بالنغمة التي تثور في ضميره ولا يملك أن يبثها.
فلما اشتد ساعد الإسلام قليلًا تجاوبت بدعوته الآفاق وهتف محمد هتافه فرددته القصور والأكواخ والأمراء وأبناء السبيل، وأجمع عليه المترفون والبؤساء، ومذ أخذ بلال يؤذن أذانه لم تُعرض عنه أذن؛ لأنه رمز لكل عقل، وفيه لكل قلب نشيد وحداء، وكم قبل ذلك النصر من عواصف عصفت بالمجاهدين حتى ظُنَّ بالجهاد الظنون وخُيِّل إلى الفزعين أنه لم يبقَ من وراء محمد أمة مؤمنة ولا شعب منافح، فبقي وأخص أصحابه وأخلصهم ثابتًا لا يتزعزع وصارمًا لا يتثلم، لامعًا لا يخبو له ضوء حتى تراه بعد ذلك في موقف والحق والدنيا معه.