قريش ومحاربة الرسول
نعوذ باللات والعزى من شر هذه المحنة وعواقب هذه الفتنة، ونسألهما أن يقبضاها على منهج هبل ومناة الثالثة الأخرى، وعقيدة هذه الأمة في آلهتها العظمى!
هكذا كان يقول مشركو قريش في فناء الكعبة حين انبثق نور الهدى من غرة محمد رسول الله.
إن دعوة الدين فجأت قريشًا على دنيا مقلوبة الأوضاع، في الأخلاق والغرائز والطباع، فقال الناس حين رأوا رجلًا رأسه في السماء، ورءوسهم في الأرض: انظروا كيف يريد أن يبدل نظام الكون ويغير خلق الأرباب.
وكان محمد يقول وهو ينفض باسمًا ما حثوه على رأسه من تراب ورماد وما قذفوا على عطفيه من تهم وظنون وشتم وسباب: والله لا صلاح لهم إلا بصلاح نفوسهم، وطهارة قلوبهم، وكفرهم بالأوثان، وإيمانهم بالواحد الأحد، ولا قيامة لهم إلا بقيام عقيدة التوحيد في أفئدتهم.
وقد مر على محمد وأصحابه في فترة الجهاد في مكة وهي لا تزيد عن ثلاثة عشر عامًا من جليل الحوادث وفادح الخطوب ما لو مر على الشامخات الرواسي لجعلها دكًّا أو وقع على الجلاميد الصم لصيرها هباءً، فأعد الرسول وصحبه الإيمان الذي لا يزلزله رزء، والثبات الذي لا تزيله مصيبة، وصبروا عليه صبر العظيم على العظيم، حتى تعودوا مس الضر، وألفوا قوارع الدهر.
واستعانوا على خصومهم بالإحسان والتضحية والصبر حتى آمن من آمن، وهادن من هادن، فوضع الرسول يمناه على أيديهم، ويسراه في أيدي أولئك الذين فتنتهم الآلهة المنحوتة من الصخر، وكان لهم من وراء عبادتها ما كان من مال وشهوات وسلطان وغلبة، ولا سيما أهل الطبقة الغنية التي استبدت بمصادر الخير ومنابع الثروة ومناصب الحكم لبيت بني عبد شمس وبعض المناكفين من بني عبد المطلب؛ كأبي لهب.
ولم يكن هذا النفور في قريش بمستنكر في زمنهم، كما أضحى مستنكرًا ومستغربًا في عصور الإسلام التي تلت؛ فلقد طالما سخر الملكيون في فرنسا من الجمهوريين، والسراة من الاشتراكيين، واليهود من الحواريين، وعباد آمون من عقيدة، أخناتون، كما سخر فرعون من موسى وهارون، وإن المسلم الآن ليعجب وهو يخر ساجدًا أمام عظمة القرآن وجلال الدعوة المحمدية ولا سيما دعوة التوحيد، كيف أعرض عنها العرب ونئوا ونافروا ولم يسطع في قلوبهم قبس من النور المحمدي، ولو أنهم فكروا قليلًا لآمنوا ولكنهم لو آمنوا لما سمحت أنفسهم ولا سخت أيديهم بترك ما شدوا عليه قلوبهم من قوة وبأس وحكم وما قبلوا انتحال المساواة بينهم وبين فقرائهم ورقيقهم وأبناء السبيل.
وفي زماننا هذا لا يزال عباد للنار ووثنيون يسجدون للحجارة ويقدسون الأنهار والأشجار بعد أن بلغتهم دعوة الأديان المنزلة، وقد خلق الإنسان رجعيًّا محافظًا مستمسكًا بما كان عليه آباؤه وأجداده، شديد الحرص على ما وصل إلى يده من نعم الدنيا ومظاهر العظمة الزمنية، وهو يطلب منها المزيد، ولا يفرط في عشر معشارها إلا مكرهًا مغلوبًا على أمره، وقد يموت في سبيل الاحتفاظ بها، كما وقع لشارل الأول ولويز السادس عشر وماري ملكة إيقوسه وماري أنطوانيت والأمين العباسي وعائلة رومانوف وهمبرتو الأول وعشرات غيرهم من أندادهم وذوي قرباهم، ولكن هؤلاء وأولئك والذين خلفوهم لم ينسوا شهوة القوة والاستئثار بالسلطان، ويتبعهم ألوف مؤلفة من أتباعهم وصحابتهم وخدمهم. ولو قِسْتَ الحضارةَ والثقافةَ والتَّنَوُّرَ في الأعصر الحديثة بها في زمن قريش وما كانت عليه من حداثة العهد بالحياة المدنية إذن لأدركت الأسباب القوية التي أرغمت القرشيين على التمسك بدينهم وملتهم ودولتهم وحقوقهم، نحن نبغض قريشًا الوثنية بقلوبنا الإسلامية، ولكننا ندرك حالتهم بعقولنا الناقدة التي تحلل وتعلل وتحاول ربط الأسباب بالنتائج.
ولكننا إن وصلنا بالفهم إلى حقيقة ما انطوت عليه أنفس القرشيين، والتمسنا لهم بعض العذر في ثورتهم على ثورة محمد، فإننا لا نملك إلا الإعجاب بتلك الفئة القليلة التي انضوت تحت لوائه وبادرت إلى تلبية دعوته واستمتعت أولًا بنعمة التصديق بالحق، فلقت في هذا السبيل ما لم يلق أتباع موسى ولا حواريو عيسى ولا أصحاب أخناتون وبوذا، حتى غدت تلك الفئة القليلة من المسلمين لطول ما رأت من البلاء وما راضت نفسها عليه من الصبر لا تألم لمصيبة ولا تجزع لنائبة!
ولم يكن الدين الإسلامي الذي جاء به محمد عقيدة روحية وحسب، بل كان فكرة وطنية أيضًا؛ فقد كانت البلاد العربية قبل محمد طعمة للأجانب قد مزَّق الاستعمار شملها فأصبح أهلها خاضعين للنير الأجنبي؛ فالرومان والفرس في الشمال وفي الوسط، والأحباش والفرس في الجنوب، واليهود في يثرب وفي اليمن، ومن أهل مكة من كان يستعدي قيصر على وطنه ويحسن له احتلاله وحكمه كما فعل عثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى بن قصي، ونحن إذا رجعنا إلى العصر الجاهلي وقلبنا تطورات الشعر العربي في ذلك العهد لم نجد للشعر الوطني ذكرًا ولا أثرًا بين القصائد، ولم يكن لعاطفة الوطنية مقام يذكر في نفوسهم، ولكن المسلمين لم يلبثوا أن يتذوقوا عقيدة محمد ﷺ حتى تنبهت فيهم عاطفة الوطن؛ حب مكة وبطحائها وما فيها من جبال ووديان وقفار ومفاوزَ، ثم حب المدينة وما يحيط بها من حقولٍ وبساتينَ ومزارعَ، ثم امتد هذا الحب حتى شمل الجزيرة كلها، وهذا الحب نفسه، مقترنًا إلى عظمة محمد، وحلمه، وعفوه، وصفحه، وسعة صدره، ومكارم أخلاقه هي التي حمت مكة من التدمير والتخريب يوم الفتح، وهي لا تضم جوانحها إلا على مشركين متغطرسين وأعداء معاندين، ولو كان محمد على شيء من الحقد أو حب الانتقام أو على الأقل مقابلة المثل بالمثل لقضى على أكابرهم وحكَّم السيف في أعناقهم وشفى غليله وغليل أتباعه بإهراق دماء مضطهديهم ومعذبيهم، بل إنه وصف يوم الفتح بأنه يوم المرحمة لا يوم الملحمة، واقرأ واعجب لما يدهش له جيبون عند المقارنة بين فتح مكة سنة ٨ﻫ وفتح رومة على يد مارسيلوس وكيف أن هذا القائد الروماني أروى السيوف من دماء أبناء وطنه بعد أن استسلموا له.