أحداث الهجرة
(١) صور من محاربة قريش للرسول
كان أهل مكة قساة القلوب؛ على قلوبهم أقفال، وكانوا تجارًا وفسقة ماديين وأهل شهوات، فلم يجدوا في الدين الجديد إلا رغبة محمد ﷺ في الغلبة والقوة الدنيوية، حتى أقرب الناس إليه؛ أمثال: أبي جهل، وأبي لهب، فضلًا عن غيرة بني أمية ومحاربتهم لفرع هاشم؛ فقد كان أبو لهب سمينًا سريع الغضب دموي المزاج، فلما دعاه الرسول للإسلام قال له: تبًّا لك سائر هذا اليوم، ألهذا جمعتنا؟! فجاءت سورة: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ.
وقد أقبل الفقراء على الإسلام؛ لأنه لم تكن عندهم تجارة تلهيهم، ولا شهوات تأخذ وقتهم، والدين الجديد يدعو إلى الحب والعطف والمودة والتسامح ويقول: إن الإكثار من المال والجري وراءه أذية للروح، قال تعالى: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّىٰ زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ.
وأحبه الفقراء؛ لأنه دين حرية وانطلاق من قيود الأصنام والمجوسية والكهنة والنصارى والأحبار واليهودية؛ فأعمال الرجل هي شفيعه يوم القيامة، وخلاصه بيده، وضميره هو ميزانه، أما الأديان الأخرى ففيها الوسطاء والخرافات والحجب والعبودية والرق والذل والاستعباد.
فشعر أغنياء قريش بالخطر، فاستأجروا الشعراء؛ لهجوه ﷺ وتحدوه، وطلبوا منه معجزات مادية وسخروا منه وهزءوا فأجابهم محمد ﷺ بتهزيء آلهتهم، فعز عليهم ذلك.
وحاولت قريش أن تضغط على محمد عن طريق أبي طالب الذي كان يحميه حتى قال له: فأبقِ عليَّ وعلى نفسك، ولا تحمِّلني من الأمر ما لا أطيق، فأجاب محمد ﷺ: يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري؛ على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته.
فقال له: اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت، فوالله لا أُسلمك لشيء أبدًا.
فنجا محمد بحماية عمه وبيت بني هاشم ومال خديجة ضد بقية قريش، وقد اضطهدوه شخصيًّا ورموا عليه النجس والقذارة وخصوصًا أبو جهل، وامرأة أبي لهب حمالة الحطب، ورجموا بيته، وضربوا أتباعه، وتآمروا عليه، وقلعوا عين مسلم وهو يقرأ القرآن في الكعبة! وشرع أحدهم في قتله ﷺ وهو يطوف بالكعبة.
أما أبو جهل فقد صدر عنه مرة عمل فيه حكمة، وهو أنه لما ضربه حمزة بعد سب الرسول أراد جماعة من بني مخزوم أن يعاقبوا حمزة فقال لهم أبو جهل: لا، إنني سببت محمدًا سبًّا قبيحًا. وذلك منع لاستفحال الشر.
وقد أعطت هجرة الحبشة للإسلام صبغة دولية؛ فقد لجأ أهل دين منزل حديثًا إلى أهل دين منزل قديمًا خصوصًا وأن القرآن أشاد بعيسى ومريم، فشقت هجرة المسلمين إلى الحبشة على عمر بن الخطاب وكان غضوبًا سكيرًا، وقويًّا فخورًا، فراح لقتل محمد ﷺ فلقيه نعيم بن عبد الله في الطريق ونصحه أن يفتش في أهله، وقال له: إن أخته وزوجها أسلما فراح وسمع القرآن فبطش بسيفه وشج أخته شجًّا ورأى دم أخته فأسف وقرأ القرآن فتأثر؛ لشدة الخير والعدل فيه، فراح ليسلم وأسلم فعلًا.
وقد ماتت السيدة خديجة وأبو طالب في عام واحد سمي بعام الحزن لاجتماع الخطبين، فتمادت قريش في إيذاء النبي، فكانت فاطمة إذا بكت وهي تزيل أثرًا أحدثه السفهاء في أبيها يقول لها: لا تبكي يا بنية؛ فإن الله مانع أباك.
ولما أراد ﷺ الخروج إلى ثقيف في الطائف رجاهم ألا يذكروا من استنصاره بهم شيئًا حتى لا يشمت به قومه، فأغروا سفهاءهم يسبونه ويرمونه بالحجارة، فلجأ إلى ظل كرْمٍ وابنا ربيعة ينظران إليه، فرفع رأسه إلى الله ضارعًا في شكاية، فأرسلا غلامًا نصرانيًّا اسمه عدَّاس من نينوى قرية الرجل الصالح يونس بن متى، فلما سمع الولد الدعاء أخذ يقبل يديه ورجليه ﷺ فقال له ولدا ربيعة: لا يصرفنك هذا الرجل عن دينك فهو خير من دينه.
ثم عرض الرسول نفسه على القبائل، تارة في الحج وطورًا في منازلهم فردوه وردوا دعوته، وذلك كله لأسباب اقتصادية وسياسية.
(٢) الإسراء١
اجتمعت في روحه ﷺ ساعة الإسراء والمعراج وحدة الوجود، فاجتمع الكون كله في رُوعه، فوعاه منذ الأزل إلى الأبد.
وللإسراء بالروح أدلة وسند، وللإسراء بالجسد أدلة وسند، والعلم الحديث يقر الإسراء بالروح (اللاسلكي والتنويم المغنطيسي وتحضير الأرواح والتلبثي أو علم ما يحدث في أماكن بعيدة … إلخ).
كان النبي ليلة الإسراء في بيت ابنة عمه هند أم هانئ بنت أبي طالب فلما أخبرها قالت له: لا تحدث الناس بها فيكذبوك ويؤذوك، فقال: والله لأُحدِّثنَّهموه.
قالت عائشة: ما فُقد جسد رسول الله، ولكن الله أسرى بروحه. وقال معاوية: كانت رؤيا من الله صادقة. وقال بعضهم: إن الإسراء من مكة إلى القدس كان بالجسد، بدليل ذكر ما شاهده في البادية، وإن المعراج إلى السماء كان بالروح. وقال آخرون: إن الإسراء والمعراج كانا بالجسد.
أما المتشككون فقد قالوا لأبي بكر عن حديث الإسراء والمعراج، فقال: إنكم تكذبون عليه! فقالوا له: إنه في المسجد يحدث الناس. فقال أبو بكر: لئن قال لقد صدق! إنه ليخبرني أن الخبر ليأتيه من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه، فهذا أبعد مما تعجبون منه.
والدليل على أن الإسراء كان بالجسد أنه ﷺ وصف عيرًا مرَّ بها في الطريق فضلت دابة من العير فدلَّهم عليها، وأنه شرب من عير أخرى وغطى الإناء بعد أن شرب منه، فسألت قريش عن ذلك فصدقت العيران ما روى محمد عنهما.
وقد ارتد بعض المرتابين بعد الإسراء؛ لأنهم اعتبروا هذا دجلًا، وردَّته قبائل ثقيف وكندة وكلب وبنو عامر وبنو حنيفة، وهو في عزلة من قريش وردٍّ من القبائل، ولكنه لم ييأس، وكان متيقنًا من النصر في النهاية، وزاده هذا الموقف إيمانًا وتمسكًا.
(٣) بيعة العقبة
تقابل الرسول ﷺ في مكة مع سويد بن الصامت وهو من كبار أشراف المدينة فراح يحج فدعاه محمد للإسلام وأسمع محمدًا ﷺ حكمة لقمان، وأسمعه محمد القرآن فاستحسنه وطلب مهلة للتفكير، غير أن الخزرج قتلوه، وقيل إنه مات مسلمًا.
ثم جاء وفد من المدينة ليحالفوا قريشًا؛ وهم: أبو الميسر بن رافع، وإياس بن معاذ، فجلس إليهم ودعاهم للإسلام، فأسلم إياس.
وتقاتل الأوس والخزرج بتحريض اليهود في موقعة بعاث، وكانت حرب فناء، وانتهاجًا لسياسة «فَرِّقْ تسد». وهزمت الخزرج، واستعاد اليهود بعد هذا اليوم مكانتهم في يثرب.
فتنبه القبيلتان إلى نتائج ذلك فجعلوا عليهم ملكًا؛ هو عبد الله بن أُبَيٍّ الخزرجي؛ لمكانته، وعقله.
وجاء جماعة من المدينة بينهم اثنان من بني النجار وقالوا له: أنت النبي الموعود لليهود وقومنا، ولعل الله يجمع بينهما بسببك، وأسلموا وعادوا إلى المدينة وأخبروا قومهم فوجدوا قلوبهم مفتوحة، وذُكر محمد ﷺ في كل دار وبيت.
وفي العام المقبل كانت بيعة العقبة الأولى؛ إذ أسلم اثنا عشر رجلًا فأرسل معهم مصعب بن عمير يقرئهم القرآن، ويعلمهم الإسلام، ويفقههم في الدين.
ويثبت لدي أن الذين فاوضوا النبي في هذه الفترة كانوا أفطن أهل المدينة وأبعدهم نظرًا وأصدقهم فراسة سياسية؛ فقد أرادوا أن ينقذوا المدينة من ظلم اليهود والخزرج، واستبداد عبد الله بن أُبَيٍّ بهم؛ لأنه لم يكن ليظهر سخطه على قومه ويرميهم بالغدر إلا ريثما يتمكن من السلطة فيمكن قبيلته بمعونة اليهود من خصومهم (الأوس)، وهذا المسلك لم يكن مستغربًا على طبيعة رأس المنافقين كما دلت حياته بعد ذلك وألاعيبه مع النبي إلى أن هلك غيظًا، ولذا كان حقده على الأنصار لا يُحَدُّ ولا يتسع صدره لأحد منهم، ولم يشفع في أحد غير اليهود، كأنه من ذيول بني إسرائيل وسماسرتهم — يؤيدني في هذا الرأي أن وفد الأنصار أخفى مفاوضته مع محمد عن عبد الله بن أُبَيٍّ، ولو كانوا يعرفون عنه إخلاصًا أو يأمنون عاقبته ما قصروا في مشورته، وليس العمل كله دينيًّا؛ بل فيه نصيب سياسي، ومحمد لم يتفاوض مع الأنصار على أنه نبي وحسب، بل على أنه سياسي قدير يستطيع أن يحكم البلد وينظم أمورها ويخرجها من فوضى اليهود والمنافقين ويقيها شر الحروب؛ لحاجتها إلى الراحة بعد موقعة بعاث؛ فقد رأى أهل يثرب غداة بعاث أن الحرب مهلكة للنفوس، متلفة للأموال، وأنها بلاء على الغالب والمغلوب، وخسارة للفريقين إطلاقًا.
وقد أقبل الأنصار لا ليتخذوا الدين وحده بل ليأخذوا صاحبه ليعينهم على إقامة حكومة تحد من قوة القوي والغني وتناصر الضعيف والفقير، أي حكومة شعبية دينية تسبق الحكومة الأرستقراطية الرأسمالية اليهودية التي كان السلولي يوشك أن يقيمها بالحيلة والدهاء، وقد كان التفاهم بينهم وبين النبي على ذلك، وإن لم يصرح به أحد من الفريقين، ولكنهما أخفيا الأمر عن قريش وعن أهل يثرب، ولذا تقول عائشة: إن الحرب كانت تمهيدًا للهجرة، والحرب لا تكون إلا تمهيدًا لتغيير سياسي؛ يصحبه أو يلحقه ظاهرة دينية. ألا ترى إلى حدود الاتفاقية أو المحالفة؛ لقد تعاهد الأنصار الأوائل على أن «لا يشركوا بالله شيئًا، وهي المادة الأولى؛ مادة التوحيد التي جاء الدين بسببها، ولا يسرقوا ولا يزنوا ولا يقتلوا أولادهم، ولا يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم، ولا يعصوا الله في معروف» فإن وفوا فلهم الجنة (إنه لا يَعِدُ بشيء دنيوي)، وإن غشُّوا من ذلك شيئًا فأمرهم إلى الله — عز وجل — إن شاء غفر، وإن شاء عذَّب.
وهؤلاء الأنصار قوم مهذبون تقريبًا وقد قبلوا التوحيد للوهلة الأولى، ولم يعارضوا فيه، مع أن دينهم الرسمي هو دين قريش وكانوا يحجون ويطوفون بالبيت ويعبدون الأصنام إلخ، وقد قبلوا مبادئ أولية ضد الشرور الاجتماعية؛ فلن يسرقوا ولن يزنوا أو يئدوا أولادهم أو يكذبوا، ولهم الجزاء الأوفى، وإذا أخلوا بشرط فالمغفرة مقدَّمة، والأمر موكول إلى الله، ولا يمكن أن يوجد منهاج أبسط ولا أعظم من هذا المنهاج.
ولم يكن الأوس والخزرج قد أصابهم ما أصاب أهل مكة من الركون إلى الدعة والانغماس في الحياة اللينة وألوان البذخ والترف التي تملكت أخلاق البلد الحرام لأسباب شرحناها، بل كانوا على نصيب من البداوة وسلامة الفطرة؛ لأن مدينتهم لم تكن على طريق القبائل والقوافل، وقد استقروا بسبب انشغالهم بالزراعة والصناعة التي أوجدها اليهود في المدينة نفسها، وما زال التشريع الذي جاء به القرآن في هذه الفترة قليلًا، وهو مثل الشريعة المحمدية كلها ليس فيه ما يخالف العقل والمنطق أو تأباه الطبيعة الصافية البدوية.
وقد انتظر النبي عامًا بعد هذه البيعة الثانية في مكة إلى أن يوافيه وفد من الأنصار أكبر من الوفد الثاني، ولتصل إليه أخبار تلك البلدة الجديدة التي صممت خلاصة أهلها على أن يحتضنوه ويعتنقوا دينه الجديد، ويهمنا كثيرًا وصف الحياة التي عاشها رسول الله بين أعدائه وخصومه وهو الذي دخل وطنه ومسقط رأسه ومبعثه ومهبط وحيه في جوار المطعم بن عدي الذي طلب إليه في أدب وخشوع أن يكف مؤقتًا عن توجيه الدعوة إلى هؤلاء الذين لا يستحقونها، ولكن النبي كان في شغل شاغل بإعداد مهاجرة المستضعفين من المؤمنين.
في السنة المقبلة جاء إلى الحج من الأنصار الموالين للنبي خمسة وسبعون رجلًا بينهم امرأتان، وكان غير هؤلاء المسلمين كثير من المشركين من الأوس والخزرج جاءوا للحج والتجارة، ولكن المسلمين زادوا ستة أضعاف عن وفد العام الماضي، وجدَّ جديد؛ وهو دخول العنصر النسوي في زمرتهم، وهو عنصر كريم تقوم على حنانه ووفائه مبادئ الإنسانية والرحمة والطهر والعفاف التي حفل بها الإسلام، ولكن ما زال المقصود والقاصد في حاجة إلى التكتم الشديد؛ فإن النبي كان يحذر علم القرشيين بما يدبر له الله من النجاة والفرار، كما كان الأنصار لا يريدون أن يطلع على أمرهم أحد من أهل بلدهم أو من أهل مكة الذين أبغضوهم منذ عرضوا عليهم محالفة يشتد بها أزرهم على اليهود في يثرب، وتخلص منهم المكيون؛ خوفًا من عداوة القبائل الأخرى، ومن خصومة اليهود، وخشية أن يحسبوا في صفوف محاربيهم، فاجتمعوا ليلًا عند العقبة، في الطريق بين مكة ومنى، وفي هذه المرة تقدمت المحالفة خطوة جريئة؛ فقد عاهدوه ﷺ على أنه منهم، وأنهم منه، وعلى أن من جاءهم من أصحابه أو جاءهم هو نفسه أن يمنعوه ويمنعوا أصحابه مما يمنعون منه أنفسهم، فلم تتخذ هذه البيعة صورة الحماية التي يسديها قوي إلى ضعيف، ولا الاعتراف بالسيادة التي يقدمها العبد للسيد، ولكنها اتخذت صورة المساواة الذاتية والجود بالذات في سبيل الذود، وبهذه البيعة أمسى لرسول الله والمؤمنين بيثرب أنصار يئوونهم ويدفعون عنهم ويعتبرونهم كأنفسهم.
إن المقارنة بين مكة والمدينة ليس هذا موطنها، ولكن لا نملك أن نعوق القلم عن ذلك التأثير الخفي الذي سرى من مكة إلى المدينة، فإنه قبل كل شيء وبعد كل شيء وعلى الرغم من مقاومة المكيين للرسول ودعوته فإن محمدًا مكيٌّ مولدًا ووطنًا، ووحي الله إليه جاء في مكة على ذروة أحد جبالها، واشتد ساعده في بيوتها، وبيت الله الحرام وكعبته المشرفة في قلب مكة، وإن تكن مكة معروفة لدى أهل المدينة مذ كانوا يحجون إليها في كل عام في عهد الجاهلية والشرك ويتَّجرون في أسواقها، إلا أن أهل المدينة لم يشعروا بحاجة إلى الاتصال الروحي أو العقلي بأهل هذا البلد، ولكن ظهور النبي كان عاملًا قويًّا في الاتصال العقلي الروحي والسياسي، وقد عادت كل هذه بخيرات كثيرة على المدينة وأدَّت بها إلى أن صارت عاصمة الإسلام على مدى أجيال متعاقبة، وجعلتها في موضع المدينة الغازية الفاتحة؛ فمنها تجهزت الجيوش الجرارة التي حاربت وانتصرت في بدر ومكة وثقيف والخندق وخيبر واليمن والعراق والفرس والرومان وسوريا ومصر.
وإنك لتعجب إذ تقف بجوار العقبة وتعود بالخيال والذاكرة إلى تلك الليلة المشرقة من ليالي الحج عندما اجتمع الرسول ونفر من أصحابه بهؤلاء الرجال؛ ليشيدوا أساس التاريخ العالمي، ولم يكن غير الرسول بينهم بعالم ما تخبئه الأقدار لهذه الطائفة من الرجال من المجد الذي يشهدونه ويحرزونه في حياتهم، ثم تتصل حباله المتينة إلى أولادهم وأحفادهم إلى آخر الدهر.
لا يسع السائر في تلك القفار، المتنقل بين تلك الوديان والجبال، القاطع الطريق الوعرة بين مكة والمدينة طردًا وعكسًا إلا أن يستعرض تلك الحوادث الجسام، وإن هناك عنصرًا لا يخفى على فكرة القارئ الفطن؛ وهو أن محمدًا — عليه الصلاة والسلام — لم يكن غريبًا عن المدينة؛ فإن له خئولة وأهلًا، وإن والده نفسه قد دفن بالمدينة، وإن جده عبد المطلب (شيبة الحمد) مولود بها وعاش في كنف أمه إلى الثامنة من عمره، وكانت آمنة تذهب لزيارة قبر زوجها في حماية حميها عبد المطلب وصحبة جاريتها أم أيمن، وقد ماتت في عودتها الأخيرة ودُفنت بالأبواء، وقد توثقت هذه العلاقة بنص البيعة، وقد أشرنا إلى المقاصد السياسية التي رمى إليها طلائع الأنصار، وها هم يفاتحون بها الرسول صراحةً ويطرحون عليه حالة قومهم، وما انتشر من الشر بينهم؛ فقد قال له أحد مقدميهم في ليلة العقبة: «إنَّا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، وعسى أن يجمعهم الله بك، فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليه فلا رجل أعز منك.»
كانت هذه آخر كلمة ودَّعوا عليها النبي في تلك الليلة الكبرى.
إنهم يقولون: نحن نعادي مكة والمدينة ونتعرض لأخطار شديدة بالانضواء تحت علم الله ربك وربنا، وإن تكن تلك الأخطار لا تخيفنا فقد قدمنا العهد بأنك منا وأننا منك، ولتكون على بينة من أمر قومنا وهم شركاؤنا في البلد؛ فاعلم أنهم على أشد الخصومة فيما بينهم، وأنهم قد انشقوا وتحزبوا واختلفوا فيما بينهم، لا قوم سواهم يضمرون العداء بعضهم لبعض كالعداء الذي تضمره أحزاب المدينة، وقد قمنا نحن بهذه البيعة أصلاء لأنفسنا ووكلاء بغير توكيل عن بقية مواطنينا، مجازفين ومخاطرين ومغامرين مجازفة ومخاطرة ومغامرة في سبيل الله ورسوله، وها نحن سنعود إلى بلدنا لنقف مواطنينا على ما تم بينك وبيننا، فإن استطعنا إقناعهم بقبول دعوتك فلن يكون أحد أكثر منعةً وعزةً منك؛ لأن الكل سيدين لله الذي تدعو إليه.
وإنها في الحق كلمات رجال لا تصدر عن ضعفاء ولا مترفين ولا مراوغين أمثال أهل مكة، قوم يفاوضون عن أنفسهم فيعطون المواثيق ثم يرغبون في تعظيم الدعوة وتوسيع نطاقها فيرجون أن يوفقوا إلى الإعلاء من شأن النبي بإقناع قومهم والقضاء على التفريق والخلاف الذي خلوه وراءهم ينخر في عظام مجتمعهم المدني.
لم يمر أهل المدينة بدور الحكومة القبلية التي قامت على أساس دار الندوة في مكة، مما دل على أن هذا النظام المكي القرشي لم يكن ضروريًّا لحياة الجماعات ولا محتمًا في التقدم أثناء الانتقال من الجاهلية إلى الإسلام، ولعل النظام المكي كان فريدًا في بابه؛ لأنه نوع من الأرستقراطية المستبدة القائمة على رءوس المال وتجارة النقل والانتفاع بالكعبة دون التصدي للدفاع عنها عند مقتضى الحال؛ فقد تخلوا عن الدفاع لدى حملة الفيل، ولم يمد أحد يده للحرب، حتى أصحاب الوظائف الرسمية؛ كالسقاية والسدانة، ولم نجد نظامًا شبيهًا به في أحد بلاد الحجاز أو غيره، ولكنه كان نظامًا شديدًا يبدأ بإعلان بلوغ البنات سن الرشد وينتهي بجمع الأموال وحشد الجيوش وتجهيز الحملات التي تصل إلى عشرة آلاف محارب، فوق ما يصحبها من الإبل والنساء وتستنزف الأموال الطائلة، ولكن هذه المظاهر لم تكن محتمة لتظهر الرجولة والعظمة في أهل المدينة، ولم يكن هؤلاء الرجال الذين بايعوا النبي عند العقبة بضعفاء أو مرتابين أو خجلين، بل كانوا يصارحون النبي وهم يبايعونه؛ اسمع إلى أحدهم وهو يسأل الرسول عن عواقب الأمور: «يا رسول الله إنَّ بيننا وبين الرجال أحبالًا وإنَّا قاطعوها، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟» لقد كان هذا السائل شجاعًا، ولكنه سليم القلب بسيط، ولعله لم يكن يعلم الكثير من أخلاق النبي، ولو علم ذلك ما سأل هذا السؤال، ليس هذا لأنه مثال الوفاء والصدق والأمانة وأن خلقه القرآن، ولكن لشدة حاجته وحاجة أصحابه المهاجرين إلى المدينة، وحاجته إلى خلق جديد وجيل جديد وأخلاق جديدة تتسع لدينه بعد ظهور الفشل في قلوب المكيين وعجزهم عن إدراك الإسلام والاستغناء به عن الوثنية، وكان السائل يعلم يقينًا أن صلتهم برسول الله ستقطع علاقتهم باليهود، وهذا ينفي ما قيل من أنهم استقبلوه بحفاوة ظانين أنه المبعوث إليهم، فهؤلاء الناس كانوا يعلمون يقينًا أن محمدًا مبعوثٌ لكل الأمم؛ لأن موسى لم يُبعث إليهم وحدهم، بل دعا الفراعنة أنفسهم إلى دين التوحيد الذي كشف له عنه بعد دراسته في هياكلهم بوحي إلهي أو ناموس سمائي.
لم يصبر النبي على هذا السؤال بل بادر إلى الرد عليه بابتسامة تنفي الشكوك وتضيء ظلمة الفكر وتثبت القلوب التي في الصدور وتجلو غوامض الظنون، إنه ليس بالرجل الذي يستغل الرجال لمصلحة نفسه، وليس بالذي يستند إلى القرى؛ ليستعين ببعضها على بعض أو يحرضها على الحرب ليسود أو يفرق بينها ليغنم، قال جوابًا على سؤال الأنصاري الذي يريد أن يطمئن قلبه: «بل الدم الدم والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم.»
وهذا التصريح قطع بالبيعة شوطًا أبعد من الذي قطعه الأنصار؛ فقد ذكر الدم والهدم وتوحيد الحرب والسلم، وهذه المبادئ هي أساس دستور المدينة الذي أملاه الرسول وأقره وأخذ عليه تعهد المدنيين والقبائل بعد ذلك.
(٤) الهجرة إلى المدينة
لا يسع كل زائر للمدينة إلا أن يسأل عن الطريق التي سلكها النبي ﷺ هو وصاحبه أبو بكر الصديق ورفيقه في الطريق وضجيعه في الروضة الشريفة النبوية، والله أنيسهما في الغار؛ فإن الطرق من مكة ومن جدة إلى المدينة متشعبة، وبينها أربعة دروب مشهورة، ولا نتعرض إلى هجرة أصحابه الأول الذين هاجروا بأمر الله وإذن الرسول في السنة الثالثة عشرة للنبوة بعد استهلال المحرم من تلك السنة، وقد يدرك القارئ لوعة المؤرخ المشتاق وهو يجوس خلال مكة في مواسم الحج؛ ليتعرف على مواقع الديار التي سكنها الرسول والمؤمنون والتي أُخرجوا منها على الرغم منهم وذكرها القرآن في مواطنَ عدةٍ: خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ، كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم، وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ، مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ، وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ.
فجعل الله للخروج من الديار شأنًا عظيمًا وخص المهاجرين بالآية الكريمة: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ.
ولم يكن الخروج مقصورًا على الفقراء الذين كان عندهم أموال قليلة، ولكنه شمل الأغنياء والأعيان أمثال أبي بكر وعثمان وطلحة وأبي عوف وبقية المبشرين بالجنة فوصفهم الله — سبحانه — بأنهم الصادقون.
وقد بادر المكيون الغادرون إلى وضع أيديهم على تلك الدور وصادروها واعتبروها أموال أعداء وتصرفوا فيها بعد برهة، ولكنهم قبل اعتزام هذا الاغتصاب تركوها فترة خاوية خالية من أهليها، وقد أعلقوها يأملون أن يعودوا إليها، وقد طالت هذه الفترة ثماني سنين، وقد أقفرت تلك الدور من خمسماية من ذويها في فترة قصيرة، كما خلت أندية مكة من زينتها من الرجال والنساء؛ لأن المهاجرين كانوا زبدتها وخلاصتها، ولم يكونوا كما زعم بعض المستشرقين والمشركين من زعانف القوم أو أطرافهم؛ فقد خلت وأقفرت دور بني مظعون وبني جحش وبني البكير، وقد مرَّ بها بعض أئمة الشرك أمثال أبي جهل وهو الذي لقي حتفه في بدر، وكان في صحبة عتبة بن ربيعة والعباس بن عبد المطلب وهو الذي أسدى خدمًا جليلة للإسلام سرًّا، فنظر عتبة بن ربيعة إلى دار بني جحش وأبوابها تخفق يبابًا ليس فيها ساكن ولا حارس فتنفس الصعداء، وأنشد:
وأهل مكة في كفرهم شديدو الطيرة، وإن كان بعضهم إلى الآن يبغض أن يسمع أبيات «الحجون إلى الصفا»، غير أن هذا العُتبة لم يتنفس الصعداء ألمًا؛ بل شماتةً وبغضًا للنبي، وتلويمًا وتأنيبًا؛ فقد قال: «هذا عمل ابن أخي، هذا فرَّق جماعتنا، وشتت أمرنا، وقطع بيننا.»
انظر إلى شجاعة الرسول وهو يبعث المؤمنين إلى المدينة أرسالًا، ينزلون على الأنصار في دورهم وهو باقٍ بمفرده بين أعدائه، وهؤلاء الأعداء أشد ما يكون الأعداء فطنة في اللؤم والخبث ودقة الملاحظة، واستعدادًا لتحميله عبء التبعات، نعم؛ إنهم لم يأمروا المهاجرين بالخروج، ولكنهم نكَّلوا بهم حتى أصبحت حياتهم مستحيلة، ولو أنهم صبروا عليهم أو تسامحوا ما خرج المهاجرون من ديارهم، وقد كانت الهجرة سلاحًا جديدًا يستعمل للمرة الثانية بعد الهجرة الأولى إلى الحبشة، وهو ينجي المهاجرين ويفقر مكة من عناصرها الفاضلة، ويقفرها، حتى لم يبقَ من المسلمين إلا النبي وأبو بكر وعلي والمسجونون والمرضى والضعفاء، وهؤلاء المسجونون من المؤمنين الذين قدر المشركون عليهم وقيدوهم بالسلاسل؛ يسجن الرجل ابنه، والزوج زوجته.
وبعد اقتصار الأمر على التنهد والشعر، شُغل أهل مكة به حتى دبروا مؤامراتهم على قتل الرسول، كما فعل قوم صالح، وفي ذلك يقول القرآن مؤرخًا تلك المكيدة ومثبتًا فشلها: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ۚ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ ۖ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ.
وقد عبَّر القرآن ﺑ «يُثْبِتُوكَ» عن الاعتقال والسجن؛ وهو من أعلى التعبير وأبلغه.
•••
خرج النبي وأبو بكر ومعهما دليل وخادم من أسفل مكة فبلغوا عسفان في طريق على ساحل البحر، ومنها إلى أمج فقديد، وتخطوا بدرًا ومالوا إلى الشرق مبتعدين عن ساحل البحر، وقصدوا إلى العوج، ثم هبطوا إلى وادي العقيق الذي يؤدي إلى المدينة، قطعوا هذه المسافة في ثمانية أيام، والإبل تقطعها عادةً إلى الآن في ثلاثة عشر يومًا، ولعله من جميل المصادفات أن وصل النبي إلى قباء، قرية بني عمرو بن عوف ظهر الإثنين ١٢ ربيع الأول من السنة الأولى للهجرة، ويوم الإثنين يوم مولده ويوم بلوغه ويوم وفاته، وفي الحياة مصادفات وموافقات غريبة تكاد تكون مرتبة ومنظمة قبل حدوثها بمئات السنين والأعوام، وفي قباء مسجد كبير هو الذي بُني على التقوى وفيه مبرك الناقة وفيه محراب الكشف، وهو على مسافة نصف ساعة بالسيارة من المدينة المنورة.
لا نبحث في شئون المسلمين في المدينة، ولكن نعود إلى مكة التي هاجرت زبدتها وخيرة رجالها ولم يبقَ منها إلا رءوس الشرك وأهل الخبث والبطر حتى من عائلة النبي — عليه الصلاة والسلام، فإنهم لم يكتفوا بنهب الدور التي خلفها المهاجرون وفتح حساب جديد في دفاترهم التعسة للأموال التي سلبوها؛ ليزيدوا رأس مالهم من دماء أقاربهم؛ فقد باع عقيل بن أبي طالب عم النبي المخلص دار الرسول ودور إخوته المهاجرين من الرجال والنساء ودور كلِّ من هاجر من بني هاشم، وجعل نفسه وارثًا لهم وهم على قيد الحياة! حتى إن رسول الله بعد الفتح دعي إلى العود إلى داره بالشعب فقال متهكمًا ومسجلًا على عقيل عاره: «وهل ترك لنا عقيل منزلًا؟» فدعي الرسول إلى بيت غير بيته فأبى، وقال: «لا أدخل البيوت.» ولم يزل مضطربًا بالحجون ويأتي منه إلى المسجد، لقد كان محقًّا؛ فإن مزاجه الرقيق قد زهد فيما اختطفه الخاطفون كما يزهد الكريم في الثوب المسروق والمال المختلَس، وحق أن يأبى الدخول إلى بيوت خصومه الذين أسلموا على الرغم منهم بعد أن شملهم عفوه، وحتى البيوت التي جعلها آمنة لفرار المشركين إليها كدار أبي سفيان الذي أبت كبرياؤه وبطره إلا أن يكون زعيمًا في الشرك وزعيمًا في الإسلام؛ تعلقًا بحب المظاهر التي أضاعت كثيرًا من مجد الإسلام، وأية رابطة تربط هذا النبي الكريم بهؤلاء الخبثاء ودورهم وليس بينها بيت طاهر غير بيت الله الحرام الذي كان يقصد إليه من الخلاء، قارن بين فعل النبي بعد فتح مكة وشممه وتعففه وعزة نفسه ورقة شعوره، وبين الغزاة والفاتحين الذين لا يكتفون بإباحة المدن المفتوحة أيامًا معدودة لجنودهم وسلب ما فيها واختيار القائد أعظم القصور وأفخمها للنزول بها، كما فعل قمبيز العجمي اللعين في مصر وآسيا، والإسكندر المقدوني في سائر البلاد التي فتحها، ونابوليون بونابرت، وبالجملة كل فاتح غربي أو شرقي في التاريخ، تجد هذا الرسول الغازي الفاتح قد انفرد بهذه المكارم، ويعتدي الفاتحون على المدن تقتيلًا وتهتيكًا وسلبًا وليس بينهم وبين المغلوبين ضغن أو حقد؛ بل هم المعتدون، ولكن محمدًا الذي أساء إليه المكيون وإلى من انتمى إليه كلَّ أنواعِ الإساءة حتى قطعوا حبال الرحم والقرابة والمودة والمواطنة، لم يقابلهم بشيء مما يستحقون، لا لأنهم مغلوبون كما فعل الآخرون، ولكن على الأقل عقابًا على ما فعلوا به حتى شروعهم في قتله وتآمرهم على اغتياله، وجعْلهم جائزة مالية على من يتتبعه ويعود به حيًّا أو ميتًا، تجد مثالًا فذًّا في تاريخ الإنسانية.
ولم يقف نهب المال على أسرة النبي؛ بل إن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق — وكان مشركًا — عدا على مال أبيه بعد هجرته وبدده، ولم يكتفِ الرسول بحرمان نفسه من استرداد بيته؛ بل طلب إلى كبار المهاجرين أن يفعلوا مثله كدار عبد الله بن جحش التي أثارت رؤيتها شعر عتبة بن ربيعة وأبي حمد، ومن المهاجرين من لم يصبر المشركون على انصرافه حتى يأخذوا ماله فجردوه قبل هجرته؛ كصهيب الذي اشترى هجرته بثروته، وقد زادهم عليه حقدًا أنه رومي، وأنه نجح بعض النجاح بعد إسلامه في مكة!
من أجْل فضائل المدينة على الإسلام تتعلق بها قلوبنا ونرى نورها الوهاج ونحن على مقربة منها، وتدركنا تلك الروعة والفرح بالقدوم إليها؛ لأنها موطن الرسول وعاصمة الإسلام ومهد هؤلاء الأنصار العظام الذين حملوا شعلة الإيمان وفطنوا إلى جمال التوحيد وجلال الإيمان، «فسحبوا العدد الرابح» في حظوظ الزمان وكسبوا «الثمرة الأولى» في غفلة من أهل مكة الذين كان الكنز بين أيديهم ففرطوا فيه وطاردوا صاحبه، ولو قدروا لقضوا عليه؛ ليعيشوا على مدى الأجيال في رجسهم وفسقهم وقروضهم الربوية وعباداتهم الوثنية.
هؤلاء الأنصار الذين انقرضوا أنسالًا وأخلافًا ما عدا أسرة أو أسرتين، ولكن سرهم ما زال ساريًا في بلدهم؛ فترى السماحة والكرامة في الوجوه والنفوس، نعم؛ إنك ترى الآن البخاري والسمرقندي والهندي والنيسابوري والفارسي والعراقي والسوري، وقلَّ أن ترى الأوسي أو الخزرجي، وإن كنت ترى كثيرًا من البدو يقيمون ويظعنون، ولكن تلك الدور وتلك الدروب وهاتيك المغاني والمناظر والأجواء كان لها نصيب في تكوين الأخلاق والضمائر، وجوار الرسول — عليه الصلاة والسلام — ومراقد الصحابة العظام وشوارع البلد التي رويت بدماء كثير من الشهداء، كل هذه تنقل إليك تأثيرًا قويًّا لا تجده في مكان آخر، إن هؤلاء الأنصار الذين نرى آثارهم، وفي مقدمتهم أبو أيوب الأنصاري، وبيته لا يفصله عن حرم الرسول غير زقاق البدور، استقبلوا المهاجرين وهم حفاة عراة جياع عالة عليهم لم يكتفوا بالمؤاخاة وكرم الوفادة، بل كانوا يؤثرون المهاجرين على أنفسهم: وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ.
فدعا النبي لهم بالبركة في مُدِّهم وصاعهم وبطيب المقام فيها، ووصف ترابها بأنه شفاء من كل داء، وأن تلك المدينة التي وصف جوها قبل الهجرة بأنه وخيم وهواؤها مجلبة الحمى الراجعة وماؤها بالكدر والتلوث، حتى مرض كثير من المهاجرين واشتد بهم الداء، قد تغير فيها كل شيء، وتبدل، وأصبحت من أجمل بلاد الدنيا مناخًا وهواءً وجوًّا وخصوبةً ورغدًا وخفة روح، وإنك لا تَمَلُّها مهما أقمت فيها، ولا تشعر بفرح كالذي تشعر به لدى القدوم ولا بحزن كالذي تكابده لدى الفراق، وإنك تشعر وأنت قادم عليها أن لك نصيبًا من أجر المهاجرين بورود تلك البلدة التي أوى إليها الرسول فآوته، وأحسنت وفادته واستقبلته استقبال الملوك العادلين وهو بعدُ ما زال ضيفًا لا يعلم إلا الله مقر الدار التي يضيفه أهلها.
شخصان معنويان يتجليان أمامك وأنت تخترق شوارعها للمرة الأولى قاصدًا إلى الحرم النبوي؛ شخص المهاجر وشخص الناصر، فالمهاجر فقير طريد مليءٌ قلبه بالإيمان بقدر ما فرغ بدنه من الطعام، واستأذنت الوحشة على نفسه بسبب هجر وطنه وحنينه إلى بلده بقدر ما استأنس بالله ورسوله وبالإيمان، وهو بعد ممتلئ حماسًا وقوةً كامنة لا تُحدُّ، وعناصر كفاح لا تُعدُّ، ستظهرها المواقع المقبلة، فتراه يتلقى الظفر مستبشرًا والهزيمة صابرًا، غير طامع في شيء إلا طاعة الله وحب الرسول، وهو يعيش عيشة حديثة في بلد غريب، وعلى كاهله تبعات وهموم وفي نفسه آلام؛ فقد ترك بلده وأهله وما درج عليه من نعومة أظفاره، وهو قادم على أن يكون عالة على قوم كرام لا علاقة بينه وبينهم إلا علاقة الدين الجديد، ومؤاخاة الرسول بين المهاجرين والأنصار، ولكن تلك الحال ليس من السهل احتمالها على كرام النفوس، وفيهم كثير من أهل الغنى في مكة، وقد انتقلوا فجأة إلى الفاقة الشديدة بسبب الهجرة، وقد خلفوا أموالهم ولم تكن هناك مصارفُ تحوَّل إليها الأموال، ولا ذوو أمانات من أهل مكة يفرقون بين خصومة العقيدة وأمانة المعاملات؛ فقد نشئوا على السلب والنهب والاغتيال، ولا سيما أئمة الشرك؛ وعلى رأسهم أبو سفيان الذي أسلم بعد ذلك والسيف على عنفقته وعنفقة أنثاه هند آكلة الأكباد التي أسلمت بعد ذلك.
أما المناصر والنصير فلم يكن كرم الوفادة غريبًا عليه؛ استمساكًا بفضيلة البيعات الثلاث المتكررة، وعهد المؤاخاة الذي سنه رسول الله وزادهم مودة للمهاجرين أنهم رجال شرفاء هاجروا في سبيل دينهم وعقيدتهم، وليسوا طلاب مال ولا أصحاب طمع ولا غزو ولا اعتداء، فنعم الجوار جوارهم، وهؤلاء الأنصار ينتظرون النصر على يد النبي وأصحابه، النصر على مخالفيهم من قومهم، وعلى اليهود وهم أعداء الحزبين، فهذا النصير تتجلى مواساته لضيوفه الذين أصبحوا إخوانًا في مقاسمة الدار والطعام والكساء والمال؛ فقد قالوا للرسول: اقسم لهم من أموالنا ما شئت، وينظر الأنصاري إلى المهاجر نظرةَ إعجابٍ وإكبار؛ فإنهم ما لبثوا عامًا واحدًا استعادوا فيه قوتهم بفعل الحرية والشعور بالخلاص من مكايد مكة حتى كانت موقعة بدر في العام الثاني، وقد رسم النبي فيها خطة الحياة الجديدة؛ إذ جعل من العنصرين جيشًا واحدًا هزم به قريشًا وقضى على زهرة شبابهم وجزع كهولهم وجذر شيوخهم، وهكذا استجدت «زمالة السلاح» ووثقت المواقع روابط الألفة التي قامت على العقيدة ومكارم الأخلاق، وإن زمالة السلاح أو رفقة الحرب لَمن أعظم الروابط ولا سيما في بلاد العرب، وأعلن الأنصار تضامنهم مع المهاجرين في قتال المكيين واليهود والعالم بأسره، وخرج الإسلام ظافرًا ونجحت التجربة التي قبلها الأوس والخزرج وظنوا أول الأمر أنهم مخاطرون بها، وقطعت ألسنة المذبذبين الذين جبهوا الرسول بسؤالهم: «أتتخذنا وسيلة للقوة والظهور ثم تتخلى عنا وتعود إلى وطنك؟!» وإن كانوا أفرغوها في قالب أقل جفاءً، ولكن المعنى واحد لا يتعدد، وصار الرسول نفسه ملكًا للأنصار لا يقيم في مكة إلا ريثما يحج ويعتمر ويسعى ويطوف، أو ريثما يقسم الغنائم، أو يعد العدة للرجوع إلى بيته ومسجده.
كنت تشعر بشيء من هذه العزة التي شعر بها المهاجرون على الرغم من الشدة والألم والمرض والحنين إلى الوطن كما تشعر بكرامة الأنصاري الذي حمل العبء راضيًا، فكوفئ خيرَ مكافأة.
من أجل العظمة التي صاحبت الأنصار قبل بيعتهم وبعدها ذكرهم القرآن بالخير، واستجاب دعوة النبي لهم، وجعل بلدهم عاصمة الإسلام في أعظم أيامه، ثم جعلها مقصد كل مسلم بعد عصر الرسول، وجعلها مصدر الحرية الدستورية ومقر الحكومة الشورية التي انتشر منها مبدأ الانتخاب إلى أقطار العالم، ووضع فيها سر القوة التي تتيح للقرية الصحراوية أن تفتح عواصم الحضارات في الشرق والغرب، وأجرى فيها حتى في عصور الانزواء ذلك التيار الكهربي القوي الذي جعلها جذابة محبوبة على القرب والبعد، ثم اختارها مرقدًا ومضجعًا للجثمان الأطهر، ومظهرًا ومجلى لسره الساري في الكون؛ وهو نوره الذي لا يخبو، وشعلته التي لا تخمد، وقوته التي لا يدركها ضعف، وليس للزمان والمكان عليها سلطان، ومن أجل المشقات التي نالها المهاجرون قال الله في حقهم: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ ۚ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا * وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً ۚ وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ ۗ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا.