المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار
فكر الرسول أول ما فكر في رابطة الإخاء؛ وهي الطريقة التي اتبعها في دار الأرقم منذ عشر سنين، فآخى بين المسلمين من أهل مكة، ولكنه هنا يؤاخي بين المهاجرين والأنصار، المؤاخاة أخت المساواة، والمهاجرون أحوج إليها، والأنصار متعطشون؛ لأنها جديدة، ولأنها تدعوهم إلى إظهار عاطفة الكرم والرحمة، وهم عرب وكرام، وقد اتخذوا دينًا جديدًا شرح صدورهم ووضع عنهم أوزارهم ورفع ذكرهم؛ فلا أقلَّ من أن يقبلوا على أضيافهم وإخوانهم في الدين؛ ليظهروا حبهم وعرفانهم بالجميل، وقد جمع بين اسميهم في كلمة موفقة أثناء بناء المسجد:
فكان لهذا الحداء رنين وطنين، ولم تكن المؤاخاة تقليدًا عرفيًّا؛ بل إنها مبدأ قانوني أدخل في المدينة رابطة مدنية أقوى من رابطة الدم، فكما كان المسلم في مكة أحب إلى المسلم وأبغض إلى المشرك، كذلك صار المسلم المهاجر أحب إلى الأنصاري المقيم أكثر مما يحب الأنصاري شقيقه المشرك من الأوس أو الخزرج أو من حلفائهم اليهود، فهي رابطة في الدرجة الثانية ترقيًا، وصار المهاجر يعتبر المدينة وطنه، والمسلم الخزرجي أو الأوسي أخاه حقًّا وصدقًا، له عليه حقوق الإخاء والجوار والإسلام؛ فهذه المؤاخاة في حكم القرابة بالدم والنسب بالمصاهرة، وتوثقت تلك الرابطة؛ لأنها قامت على الوحدة في الدين والحاجة إلى التساند في القتال دفاعًا وهجومًا واتحاد الفكرة الاجتماعية والخلقية والمصالح الاقتصادية والاجتماعية، وكان من المحتم على المهاجرين أن يقبلوا ضيافة إخوانهم الأنصار، فهم أهل البلد وذوو البيوت العامرة فيها، وليس منهم من هو أكبر شأنًا من الرسول نفسه؛ فقد قبل ضيافة أحد أخواله أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري، وبيته لا يفصله عن المسجد سوى زقاق البدور، ولكن لم تكن الضيافة لتدوم إلى الأبد، وليس الله بقابل أن يبقى المهاجرون في سبيله عالة على الأنصار الذين — وإن كبروا نفوسًا وصفوا قلوبًا وسموا خلقًا — ليس لديهم من المال ما يكفي جميع المهاجرين أو ما يسد كل مطالبهم، فاتجه من حذقوا التجارة نحو الأسواق، ومن هؤلاء عبد الرحمن بن عوف؛ وهو من نوابغ المشتغلين بالمال قديمًا في مكة، فأحرز ثروة طائلة، واتخذ بعضهم الزراعة عملًا، وتقدم البعض إلى أعمال البناء، ولا ننسى أن الأعمال التي كان المهاجرون يجيدونها محدودة؛ لأن بلدهم بلد تجارة لا صناعة، والتجارة في حاجة إلى رأس المال، وهم معدمون؛ فلا عجب أن يكون منهم فقراء معدمون أقطعهم رسول الله صُفَّةَ المسجد، وهو الآن مكان ملاصق المقصورة النبوية في الحرم المحمدي، تمرُّ به وقد جعلوا من الصفة مكانًا مبلطًا بالمرمر، وإنك تتخيل وجوه هؤلاء المساكين «أهل الصفة» الذين لا مأوى لهم غير المسجد، يأكلون فيه ويشربون من صدقات الرسول والقادرين من المهاجرين، ولم يذهب اعتبارهم وإن لم يكن لا مأوى لهم ولا عشائر لهم، روى أبو هريرة أنه رأى ثلاثين رجلًا من أهل الصفة يصلون خلف الرسول ليس عليهم أردية! ومنهم واثلة بن الأسقع الذي وصفهم وروى خبرهم، وأقسم محمد قال: «والذي نفس محمد بيده ما أمسى في آل محمد طعام ليس شيئًا ترونه.» وكان أبو هريرة الصحابي المشهور من أهل الصفة في حياة الرسول قال: «كان ليغشى عليَّ فيما بين بيت عائشة وأم سلمة من الجوع.» (وهي مسافة تعد بالخطوات ولا تزال معروفة مبينة في الحرم النبوي)، وكان أبو ذر الغفاري الصحابي الجليل من أهل الصفة.
وإنما أردنا أن نصف حالة البؤس التي كان عليها بعض المهاجرين في بلد لم يكن فيه الغنى بالغًا ولم يكن أنصار الرسول فيه من الأغنياء، ومعظم المال في أيدي اليهود والمشركين والمنافقين أمثال عبد الله بن أُبَيٍّ، فكانت فكرة المؤاخاة خير ما أنفذه الرسول؛ فآخى بين أبي بكر وخارجة بن زيد، والزبير بن العوام آخى كعب بن مالك، وكان نظام المؤاخاة يقتضي التوريث بالإخاء؛ فلو مات أنصاري عن مال كثير وله أقارب من دمه مشركون وأخ مهاجر ورثه المهاجر وحُرم الأقارب، فصار الإخاء إلى فترة طويلة علاقة قانونية مبناها الإيمان ومعناها حلول العقيدة محلَّ قرابة الدم.