مقدمة
جاء المهاجرون إلى العالم الجديد من شتَّى الأمم في الدنيا القديمة، فجاءوا مزيجًا من ثقافاتٍ مختلفة، ولبثوا أمدًا طويلًا على اتصالٍ وثيقٍ بأصولهم الأولى، حتى لقد ظلت تيارات الفكر الأوروبي المختلفة تنساب إلى العالم الجديد غداة ظهورها، فكل صوتٍ يرتفع في أوروبا كان له صداه في أمريكا، ولم ير الأمريكيون في ذلك — أول الأمر — غضاضة؛ لأنه إن كانت مقتضيات العقيدة الدينية قد حملتهم على الهجرة عن بلادهم الأولى، وإن كانت مصالح الاقتصاد بعد ذلك قد أوجبتْ أن تحدَّد الهجرة، وأن تقام الحواجز في عالم التجارة، فماذا يمنع أن تشترك الفروع مع أصولها في الفكر، وأن تتبادل معها الرأي والنظر؟ لهذا ظلت أبواب العالم الجديد مفتوحة على مصاريعها، تتقبَّل من ألوان التفكير كل ما تهتزُّ به أوروبا، على اختلاف مصادره وتعدُّد مذاهبه.
لكن المجتمع الجديد سرعان ما تميَّز بطابعٍ جديد، ثم ما لبث هذا الطابع أن أصبح معيارًا تقاس عليه الواردات الفكرية، فيقبل منها ما يقبل، ويرفض ما يرفض، ويعدِّل ما يراد قوله بعد تعديل، وأما هذا الطابع الجديد المميِّز للمجتمع الأمريكي فهو — في اعتقادي — تلك «الفردية الجماعية»، التي لا تغرق الفرد من الناس في خضم المجتمع، بل تحتفظ لكل إنسانٍ بفرديته المستقلة على الرغم من اشتراكه مع الآخرين في جماعةٍ واحدة يربطها الصالح المشترك، وإذن فهي جماعة أقرب إلى الشركة التعاونية التي يحرص كل عضوٍ فيها على استقلال شخصيته، وإن يكن في الوقت نفسه حريصًا أشد الحرص على ازدهار الشركة ونمائها، هي أقرب إلى ذلك منها إلى الكائن العضوي الذي لا يجعل للعضو فيه وجودًا إلا بانطوائه تحت الكل الذي يحتويه، فالمجتمع الأمريكي في صميمه «كثرة» من أفراد لا جسم واحد ذو أعضاء، غير أن تلك «الكثرة» ليست أشتاتًا موزعة الأهواء متباينة النزعات، بل هي كثرة تلتقي حباتها في عقدٍ واحدٍ يضمها دون أن تضيع فردية الحبة الواحدة بهذا الالتقاء.
على هذا الأساس يتم قبول الأفكار أو رفضها أو تعديلها؛ فالفصل الأول من هذا الكتاب فيه تصوير للفكر الأمريكي إبان العشرات الأخيرة من أعوام القرن الثامن عشر، فكان الفكر حينئذٍ سياسيًّا في معظمه، يدور حول حقوق الأفراد الطبيعية التي على أساسها أُقيمت السياسة، وأُقيم الحكم، وأقيمت الحياة، بل على أساسها أُقيمت العقائد الدينية نفسها؛ إذ كانت الكثرة الغالبة من الأمريكيين من «البروتستانت المتزمتين» (البيورتان)، وهؤلاء يعلون من شأن إرادة الفرد إعلاءً يحفظ له حقوقه في أن يلتمس لنفسه طريق النجاة الروحية، وحقوقه في أن يفكِّر حرًّا، ويعمل حرًّا، وأن يحتفظ بثمرة عمله. وهكذا جاءت فلسفة عصر التنوير مؤيدةً لهذه المبادئ، إذ جعلت أساس المجتمع تعاقدًا بين أعضائه، ولكل فردٍ حقوقه الطبيعية في الحياة، وفي الحرية، وفي التماس العيش السعيد، وهي حقوق فطرية لم يهبها أحدٌ أحدًا.
فلما أن جاء النصف الأول من القرن التاسع عشر انتقلَت هذه الفردية من ميدان السياسة إلى ميدان الفلسفة والأدب، وهنا نهض «إمرسن» و«ثورو» وغيرهما يؤكدان استقلال الفرد على الرغم من صلاته ببقية أفراد البشر، كانت الفلسفة السائدة في ذلك العهد هي الفلسفة الهيجلية المثالية، انتقلت إلى إنجلترا عن طريق شعرائها، وبخاصة «كولردج»، وعن هذا الطريق جاءت إلى أمريكا، لكنها لم تكد تنتقل إلى أمريكا حتى عُدِّلت بما يلائم وجهة النظر الأمريكية التي أشرنا إليها، فلم يعد الأفراد — كما تريد لهم الفلسفة المثالية — مغرقين في «المطلق»، بل أصبح كل فرد — عند «إمرسن» — ممثلًا لذلك «المطلق» الهيجلي؛ أي إن كل فرد حقيقة قائمة بذاتها، على الرغم من أنه إذ يشعر وإذ يفكر أو يعبر، فإنما هو «ينوب» في ذلك عن الإنسانية جميعًا إن كان صادق الشعور والتفكير والتعبير؛ ومن هنا كان اهتمام «إمرسن» باعتماد الفرد على نفسه؛ وبالتالي اهتمامه باعتماد أمريكا على نفسها في مجال الفكر والشعور، واتجه «ثورو» نفس الاتجاه مع إسراف أدى به إلى أن يعتزل وحده في غابةٍ ليعيش بمفرده إنسانًا معتمدًا على نفسه. هكذا ترى الفلسفة المثالية قد جاءت إليهم من ألمانيا، لكنهم حين أخذوا عنها فكرة الروح الكونية المطلقة الشاملة، لم تسمح لهم أنفسهم بالانسياق إلى ما قد ساقت إليه أصحابها الأولين من دمج الأفراد في واحدية كونية مطلقة، بل احتفظوا للأفراد بفرديتهم مع جعلهم قلوبًا شاعرة، وألسنةً معبرة عن تلك الروح الكونية الشاملة، كما شرحنا ذلك في الفصل الثاني وتبع ذلك — في النصف الثاني من القرن التاسع عشر — موجة مثالية أخرى هي التي تسمى عادةً ﺑ «الكانتية الجديدة»، أخذها فلاسفة العالم الجديد عن الفلسفة الألمانية أيضًا — أخذوها عن كانت وهيجل — لكنهم هنا أيضًا قد صاغوها في قالبهم، وقد بسطنا ذلك في الفصل الثالث؛ إذ بينا كيف جعل منها «باون» فلسفة مثالية ذاتية فردية، ثم تولاها «جوزيا رويس»، فكان مثال الفيلسوف الأمريكي العظيم الذي يصوغ ما يتلقَّاه من فكرٍ على إطاره الخاص؛ فقد قرأ شوبنهور وتأثَّر به، لكنه رفض تشاؤمه، وقرأ هيجل، وأخذ كثيرًا من مبادئه المثالية، لكنه رفض مذهبه التاريخي الذي يجعل سير الحوادث حتمًا لا مفر منه، كما رفض رأيه القائل بسيادة الدولة سيادة مطلقة، ودرس «كانت» ولكنه صاغ من كل تلك الفلسفات الألمانية المثالية فلسفة مثالية أمريكية توازن بين الحقيقة المطلقة من ناحية، وبين الفرد وحريته من ناحيةٍ أخرى بميزانٍ دقيق، ولا عجب أن يسمي كتابه المشتمل على الجزء الهام من مذهبه «العالم والفرد»؛ ففي كل خطوةٍ يخطوها تراه حريصًا على التأليف بين الفرد وسائر الأفراد، أو بين الإرادة الواحدة وسائر الإرادات، أو بين المجتمع الواحد وسائر المجتمعات، تأليفًا يبقي على كيان الفرد الواحد من جهة، ثم يجعله جزءًا شريكًا في البناء الكلي من جهةٍ أخرى.
وفي الفصل الرابع والفصل الخامس معًا بيان للحركة البراجماتية التي ظهرَت في أواخر القرن الماضي، ثم امتدَّت إلى يومنا هذا؛ إذ بسطنا لك آراء أعلامها الثلاثة: «بيرس» و«جيمس» و«ديوي»، وهي فلسفة جاءت بمثابة الثورة على التفكير المثالي الذي يُباعد بين الفكر والعمل، فجعلت الفكر والعمل وجهين لحقيقةٍ واحدة؛ إذ جعلت معنى الفكرة هو نجاح تطبيقها، وبهذا وصل الفكر الأمريكي الخالص إلى فلسفةٍ أمريكيةٍ خالصة نشأةً وطابعًا، فلئن كان الفلاسفة قبل ذلك يأخذون عن أوروبا، ثم يعدلون ما يأخذونه بما يجعله ملائمًا لوجهة نظرهم؛ فقد جاءت البراجماتية نباتًا أمريكيًّا بذورًا وساقًا وفروعًا، ولا غرابة — إذن — أن يُعرف الفكر الأمريكي الحديث عند العالم أجمع بهذه الفلسفة البراجماتية التي تعبِّر عنه أصدق تعبيرٍ وأخلصه.
فلما تحطَّمت الفلسفة المثالية التقليدية على أيدي البراجماتيين، تحطَّم معها التقليد الفلسفي كله، الذي كان يربط الفيلسوف بنمطٍ معينٍ من التفكير، وهنا خرجت مذاهب واتجاهات جديدة، لم يكن لها جلال التفكير التقليدي القديم، لكنها عوضت ذلك الجلال المفقود بروحٍ علميةٍ جديدة، مالت بالفلاسفة نحو التشبُّه بالعلماء في طريقة معالجتهم لمشكلاتهم؛ من حيث تعاون مجموعة الباحثين على حلِّ مشكلةٍ بعينها بدل أن يستقلَّ كل فردٍ منهم بإقامة بنائه الفكري الخاص، وسترى في الفصلين السادس والسابع شرحًا لتلك الاتجاهات الجديدة، كالواقعية الجديدة، والواقعية النقدية، ثم الفلسفة الطبيعية، وعقبنا على ذلك بفصلٍ ثامنٍ وأخير، عرضنا فيه اتجاهينِ من الاتجاهات المعاصرة عرضًا موجزًا، هما الوضعية المنطقية، والدعوة إلى رجوع الفلاسفة إلى ما هجروه من «تقليد عظيم».
وقد اكتفيتُ في عرضي لمجرى الحياة الفكرية الفلسفية في العالم الجديد، بالمعالم الرئيسية دون التفصيلات، راجيًا أن يكون هذا الكتاب صورة مجملة تتلوها صور جزئية في سلسلةٍ من كتب، نفصل فيها ما أجملناه، ونذكر ما قد أهملناه.