دستور في سطور١
(١) جون لوك يضع الأساس
إننا نؤمن بأن هذه الحقائق واضحة بذاتها، وهي أن الناس قد خلقوا سواسية، وأن خالقهم قد حباهم بحقوقٍ معينة هي جزء من طبائعهم لا يتجزأ؛ منها «الحياة» و«الحرية» والتماس «السعادة»، وأنه لكي يظفر الناس بهذه الحقوق، أُقيمت فيهم الحكومات، تستمدُّ سلطاتها العادلة من رضا المحكومين، وأن الحكومة — كائنةً ما كانت صورتها — إذا ما انقلبت هادمةً لتلك الغايات، فمن «حق الشعب» أن يغيرها أو يزيلها، وأن يقيم حكومةً جديدة، تضع أساسها على مبادئ، وتنظم سلطاتها على صورة، بحيث تبدو للناس تلك المبادئ وهذه الصورة أنهما — على الاحتمال الأرجح — مؤديتان إلى أمنهم وسعادتهم.
هذه أسطر قلائل، لكنها — كما قال «جفرسن» وهو الذي صاغ عبارتها بقلمه — تعبر عن العقل الأمريكي، وقوتها مستمدة من تركيزها لاتجاهات الناس في عصرها تركيزًا يلخص روح عصر بأسره، هو عصر الثورة الأمريكية، أو إن شئت فسمِّه عصر التنوير في أمريكا، وقد كان التنوير فالثورة في أمريكا مقابلين في العصر نفسه لتنوير وثورة في فرنسا، ففي هذه الوثيقة القصيرة من المبادئ الهامة ما يستوقف النظر بغير حاجةٍ إلى تحليل، فهي تنصُّ على أن حقوق المساواة والحياة والحرية والتماس السعادة هي أشياء واضحة بذاتها — أي بديهيات — لا يحتاج صدقها إلى إقامة البرهان، وأنها حقوق مستمدة من الله، وليست هي بالهبات يمنحها الحاكم إذا شاء، ويحبسها إذا شاء، وهي جزء من طبيعة الإنسان وفطرته؛ بحيث يستحيل تصور الإنسان إنسانًا بغيرها، وأنه إن قامت بين الناس حكومة فلأن الناس أنفسهم هم الذين أقاموها لتحافظ لهم على تلك الحقوق، وهم الذين يغيرونها أو يزيلونها إذا هي قامت عقبةً في سبيل تلك الحقوق الإنسانية.
كان «جون لوك» — الفيلسوف الإنجليزي الذي عاش بين عامي ١٦٣٢م و١٧٠٤م — في طليعة من استخرجوا النتائج الفلسفية للعلم الحديث، وحلَّلوا مضمون هذا العلم تحليلًا ينتزع مدلوله بالنسبة إلى السياسة والأخلاق والدين، ولعله مما يجدر ذكره في هذا الموضع أن مهمة الفلسفة في صميمها هي هذا التحليل للمبادئ العلمية؛ بحيث تستخرج من هذه المبادئ ما تنطوي عليه من مضمون وفحوى، يتغير العلم السائد عصرًا بعد عصر، فتتغير معه الفلسفة؛ لأنها تحليل لمبادئ العلم، فإن تغير العلم تغيرت، كان العلم السائد أيام اليونان الأقدمين هو الرياضة، وكان اليقين الثابت هو معيار الحق، فهل يسع الفلسفة إزاء ذلك إلا أن تبحث عما يتضمنه هذا اليقين الثابت المنشود، والمتمثل في الرياضة، لتجد أصوله الأولى في مبادئ عقلية مفارقة لهذا العالم المحسوس الذي هو عالم الأشياء المتغيرة التي لا تثبت ولا تدوم؟ ثم جاءت النهضة الأوروبية في القرن السادس عشر وما بعده، ليسود بمجيئها علم الطبيعة الذي لم تكن له سيادة من قبل، بل أوشك ألَّا يكون له وجود من قبل، وكيف يجوز لمن ينشد الحقيقة الثابتة الدائمة أن يجعل الطبيعة المتغيرة المتحولة موضوع بحثه؟ لكن النهضة الأوروبية قد غيرت من وجهة النظر، وجعلت الحواس مصدر العلم بعد أن لم تكن عند اليونان الأقدمين إلا مصدر الظن والخطأ، كما جعلت بالتالي ظواهر الطبيعة موضوع البحث بعد أن لم تكن شيئًا جديرًا بالعناية والعناء؛ فشهدت النهضة الأوروبية من علماء الطبيعة من هم بين أقرانهم في التاريخ كله ذوو مكانةٍ ملحوظة، وعلى رأس هؤلاء «جاليليو» و«نيوتن»، وأقام هؤلاء العلماء علمًا للطبيعة هو الذي ساد الفكر الإنساني في القرون الثلاثة: السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر، حتى جاءت نظرية النسبية في القرن العشرين، وجعلت تعدل من البناء القديم لتقيم مكانه بناءً جديدًا على أساسٍ جديد.
وليس العلم الطبيعي في ذاته هو موضوع اهتمامنا الآن، إلا بمقدار ما نستعين به على معرفة النتائج الفلسفية التي نتجت عنه بالنسبة إلى السياسة، ولئن كان «جاليليو» و«نيوتن» هما على وجه الخصوص من نعني حين نتحدَّث عن علم الطبيعة في القرن الثامن عشر — وهو قرن التنوير والثورة في أوروبا وأمريكا على السواء — فإن «جون لوك» بصفةٍ خاصةٍ هو الذي استخرج من مبادئ علم الطبيعة كما أقامه «جاليليو» و«نيوتن» نتائجها الفلسفية التي تعنينا.
وأهم ما نهتم له في طبيعة «جاليليو» و«نيوتن» هو التفرقة التي فرَّقا بها بين نوعين من الظواهر: الظواهر كما هي في الأشياء الخارجة عن الإنسان، والظواهر كما تقع في إدراك الإنسان، وينتج عن ذلك تفرقة بين نوعين من «المكان»، ونوعين من «الزمان»، فالعلاقة المكانية والعلاقة الزمانية بين الأشياء في الخارج ليست هي نفسها القائمة بين صور الأشياء كما يحسها الإنسان بحواسه، بعبارةٍ أخرى: هنالك مكان مطلق موضوعي مستقل عن الإنسان، تتحرك فيه الأشياء المادية، وهذا هو المكان، وهذه هي الأشياء التي يعنى ببحثها علم الطبيعة، لكن هنالك أيضًا مكان ذاتي نسبي هو الذي يقع في حس الإنسان، وليس هو المقصود بالبحث عند علم الطبيعة، وكذلك قل في الزمان.
«أريد أن أضع تحت الفحص هذا الذي يسمونه «حرارة» وسأجد أن فكرة الحرارة كما هي عند الناس بعيدة بعدًا شاسعًا عما يقع في الطبيعة الخارجية؛ إذ الحرارة ليست صفةً من الجسم الذي نَصِفه بأنه حار، فبينما أراني مضطرًّا بالضرورة، إذا ما أردت أن أتصوَّر قطعةً من المادة، أن أتصوَّر بين صفاتها الكائنة فيها، أن لها حدودًا تحدُّها، وشكلًا معينًا، وأنها بالقياس إلى غيرها كبيرةٌ أو صغيرة، وأنها في هذا المكان أو ذاك، وفي هذه اللحظة الزمنية أو تلك، وأنها متحركة أو ساكنة، فهذه كلها صفات يستحيل على أي خيالٍ أن يتصوَّر قطعة المادة بغيرها؛ إذ يستحيل أن توجد قطعة المادة مستقلة عن هذه الظروف كلها، أما كونها بيضاء أو حمراء، مُرةً أو حلوة، صائتةً أو صامتة، زكية الرائحة أو كريهتها، فلا أجد عقلي مضطرًّا إلى افتراض لزوم هذه الصفات لقطعة المادة، فلولا حواسي، ولو كان الأمر لعقلي وحده أو خيالي وحده، لكان من الجائز ألَّا أعلم شيئًا قط عن أمثال هذه الصفات؛ لذلك أرى أن هذه الصفات، كالطعوم والروائح والألوان، ليست مما يصف الشيء الخارجي نفسه، وإن هي — بالنسبة إلى ذلك الشيء — إلَّا أسماء لا تدل على شيءٍ فيه.
خذ قطعةً من الورق، أو خذ ريشةً ومر بها على أي جزءٍ تشاء من أجزاء جسدك، تجد لها — أينما مررت بها — صفة الحركة؛ بحيث لا تتغير هذه الصفة في طبيعتها بتغيُّر الموضع الذي تتحرك فيه، لكن ضع الورقة أو الريشة بين عينيك أو في خياشيم أنفك، تثر فيك دغدغة لم تكن تحسها حين كنت تحركها على أجزاء جسدك الأخرى، وبديهي أن هذه الدغدغة فيك أنت وليست في الورقة أو الريشة. وأعود إلى فكرتي الأولى، فأقول: إن من الصفات التي ننسبها للأشياء ما لا يكون في الأشياء نفسها، بل يكون فينا نحن حين ندرك تلك الأشياء، ومن هذه الصفات صفة الحرارة، فالجسم الذي يُحدث فينا الإحساس بالحرارة — وهو النار — ليس هو في حقيقته إلا عدد كبير من جسيمات ذوات أشكال معينة، تتحرَّك بسرعاتٍ معينة، ولو أُزيل جسم الإنسان بحواسه، لما كانت الحرارة إلا لفظًا بغير مدلول.»
للأشياء إذن نوعان من الصفات: صفات فيها وتكون جزءًا من طبيعتها، وصفات نحسها نحن، وليست جزءًا من طبيعتها، الأولى كالشكل والحجم، والثانية كالألوان والطعوم، وسؤالنا الآن هو هذا: ما العلاقة بين الأشياء المادية التي تقع في المكان والزمان المطلقين الخارجيين الرياضيين العامين، وبين الصفات النسبية الذاتية التي يكوِّنها الإنسان بحواسه عند إدراكه للأشياء، دون أن تكون تلك الصفات جزءًا من طبائع تلك الأشياء؟ بعبارةٍ أخرى: ما العلاقة بين الإنسان والطبيعة؟
إنه سؤال سرعان ما يسوقنا إلى سؤالٍ آخر، وهو: ما طبيعة الإنسان، هذا الذي يخلق عالمه بنفسه ولنفسه، ألم نقل إن علم الطبيعة النيوتوني قد فرَّق بين عالمين: فمن جهة هنالك العالم الطبيعي الخارجي ذو القوانين الرياضية، الذي لا يتأثر بالناس وإدراكهم، ومن جهةٍ أخرى هناك العالم الذاتي الإدراكي المحس، الذي يخلق الصفات خلقًا من عنده، ثم يخلعها على الأشياء، فيعطيها لونًا وهي بغير لون، وطعمًا وهي بغير طعم، ورائحةً وهي بغير رائحة وهلم جرًّا؟ إن كان الدفء الذي يحسُّه الإنسان هو فيه لا في الشمس التي تحدثه، وأريج الزهرة الذي يشمه الإنسان هو فيه لا في الزهرة التي تبعثه، ولون البرتقالة الذي يبصره الإنسان هو فيه لا في البرتقالة التي تسببه، فلنا إذن أن نسأل: ما طبيعة الإنسان؟ نعم إنه سؤال لا يهم علم الطبيعة، بل يهم عالم النفس والفيلسوف، غير أن علم الطبيعة يلقي ضوءًا يعين على الجواب.
لو كان الإنسان ذرات مادية فقط — هكذا قال «جون لوك» — لما كان العالمان اللذان قال عنهما جاليليو ونيوتن، ولكان هناك العالم المادي الموضوعي الخارجي الرياضي وحده؛ إذ لو كان الإنسان كومةً من ذراتٍ مادية، شأنه في ذلك شأن سائر الأشياء، فمن أين — إذن — تأتي الصفات الذاتية كالألوان والروائح والطعوم، التي قال عنها جاليليو ونيوتن إنها لا تكون في الأشياء الخارجية؟ لا بد أن يكون الإنسان مغايرًا في طبيعته لطبائع تلك الأشياء المادية؛ بحيث إذا تأثرت طبيعته بطبائع الأشياء المادية، أحدث هذا التأثر الصفات التي قيل عنها إنها تكون في الإنسان، ولا تكون في عالم الأشياء، فإن قلنا عن الشيء كما هو في الخارج إنه عنصر مادي، أفلا يجوز أن نقول عن الإنسان الذي يختلف بطبيعته عن طبائع الأشياء المادية، إنه عنصر عقلي؟ هكذا استخرج «لوك» النتيجة الحتمية التي تلزم عن علم الطبيعة النيوتوني، فكأنما «نيوتن» وهو يقوم بمشاهداته العلمية ليصل إلى قوانين الطبيعة المادية، كان كذلك — ضمنًا — يُثبت نظرية شعورية أخرى، وهي أن للإنسان عقلًا يتأثر بالمؤثرات المادية فيخلق بعض الصفات التي يعود بدوره فيخلعها على عالم الأشياء.
وها هنا نضع أصابعنا على نقطة الارتكاز التي منها يبدأ الأساس الذي نبني عليه حق الأفراد في الحرية السياسية والدينية على السواء؛ فعلى هذه النقطة ترتكز نظرية «لوك» في الدولة وفي الكنيسة معًا.
فلئن كان الإنسان عنصرًا عقليًّا، بالقياس إلى دنيا الطبيعة التي قوامها عناصر مادية، إذن فالإنسان إنسان بعقله أو بروحه، لا بجسده؛ لأن الجسد هو كسائر الأشياء المادية عنصر مادي مثلها؛ فالجسم يتحرَّك — كما تتحرَّك بقية الأجسام — وفق قوانين الحركة التي استخلصها «نيوتن»، وهي قوانين لا تفرق بين أن يكون المتحرك حجرًا أو جسمًا حيًّا، أما العقل فعنصر مختلف، لا تسري عليه ما يسري على المادة من قوانين الحركة، فإن قلنا — مثلًا — إن الإنسان الفلاني يملك كذا وكذا من الأشياء، كان المعنى الصحيح لقولنا هو أنه يملك هذه الأشياء بعنصره العقلي، أما جسمه فلا يملك شيئًا، بل جسمه هو نفسه من بين الأشياء الممتلكة كقطعة الأرض التي يفلحها والدار التي يسكنها؛ وهكذا يكون الفرد من الناس واحدًا بعنصره العقلي، لكن ممتلكاته كثيرة.
هكذا يكون الإنسان الفرد وحده دون سواه مسئولًا عن عنصره العقلي، يستوحيه ويُنصت إليه في إملاء عقيدته، وصواب العقيدة مرهون بما يمليه العنصر العقلي ولا دخل لأحدٍ سواه في الأمر؛ فأنت أنت الذي يحكم بصواب عقيدتك أو ضلالها، ولا يكون بالاحتكام إلى سواك يفتيك في أمر عقيدتك ما يجوز فيها وما لا يجوز؛ فانظر إلى هذه النتيجة البعيدة المدى كيف استُنبطت استنباطًا من علم الطبيعة النيوتوني، انظر كيف انتهت بنا التفرقة بين الطبيعة من جهة وإدراك الإنسان لها من جهةٍ أخرى، إلى الاعتراف بالضمير الإنساني مشرعًا لصاحبه وحكمًا له في صوابه وضلاله، وبهذا الأساس للتسامح الديني كما يريده «لوك» إذ كيف تتدخل في عقيدة سواك وله ضميره ولك ضميرك؟ كيف يجوز للسلطان المدني أن يتدخَّل في عقيدة أي فردٍ من الأفراد مع أن لهذا الفرد عنصرًا عقليًّا خاصًّا به لا يشركه فيه إنسان آخر سفُل أو علا؟ بل لا يجوز أن يقال للفرد إن كذا وكذا من أمر العقيدة الدينية هو رأي الأغلبية فاتبعه؛ لأن آراء الآخرين وإن عُدت بالألوف لا تغير من الأمر شيئًا.
وننتقل من الدين إلى السياسة، فنجد النتيجة عينها، أنه إذا استحالت الصلة بين روح وروح، بين عنصرٍ عقلي في فرد، وعنصر عقلي آخر في فرد آخر، إذا استحالت الصلة بينهما، بحكم أن الصلة تكون تماسًّا في المكان، والعنصر العقلي بغير مكان، كان المجتمع المدني — كالمجتمع الديني — قوامه أفراد مستقل بعضهم عن بعض، كل فرد منهم وحدة قائمة بذاتها، يمكن أن تقوم وحدها، حتى ولو انعدم الآخرون جميعًا، وجود الفرد لا يعتمد على أي وجود آخر، إذن فمن ذا الذي يحق له أن يشرع لهذا الروح الفرد غير نفسه؟ إذا كانت شريعة العقيدة الدينية نفسها — كما رأينا — لا بد أن تنبع من ذات الفرد، وإذا كانت قوانين الطبيعة لا تسري على العناصر العقلية سريانها على العناصر المادية كما قرر «نيوتن» في علمه عن الطبيعة، فما بالك بالقوانين المدنية يضعها فرد مثلك أو أفراد؟ والنتيجة التي تنتج عن هذا كله هي أن القوانين المدنية عُرف يتفق عليه الأفراد، ولا يجوز أبدًا أن تُفرض عليهم من الخارج فرضًا بغضِّ النظر عن رضاهم، القانون المدني سنده الوحيد هو قبول العنصر العقلي في الإنسان، ولما كان كل عنصر عقلي فردًا مستقلًّا عن زميله، كانت أغلبية الآراء هنا هي السند الذي يستند إليه القانون المدني، وهكذا يُبنى المجتمع بموافقة أعضائه فردًا فردًا، إذ ليس الفرد الواحد حجة على زميله.
بهذا ننتهي إلى نظرية «جون لوك» في الدولة، وهي النظرية التي بُني عليها «إعلان الاستقلال» في الولايات المتحدة بناءً مباشرًا؛ فإذا كان الإنسان الفرد بحكم طبيعته العقلية — كما رأينا — حرًّا حرية مطلقة ومستقلَّا بذاته، فليس هنالك في طبيعة الإنسان ما يُبرر قيام الدولة إلا رضا الإنسان نفسه؛ أي إنه ليس جزءًا من طبيعته أن يتصل بغيره كما قد ذهب أرسطو وغيره حين زعم أن الإنسان اجتماعيٌّ بطبعِه لا بمجرَّد رضاه وموافقته، لا، ليس في طبيعة الإنسان ما يستلزم اجتماعه بغيره سوى العرف، وإذن فليس للدولة سندٌ يؤيد وجودها سوى العرف كذلك، فهكذا اتفق الناس أن تقوم فيهم دولة تصون حقوقهم، ومن هنا تنشأ المقدمتان الرئيسيتان اللتان استند إليهما «إعلان الاستقلال» في الولايات المتحدة، وهما: وُلد الناس أحرارًا وسواسية، وأساس الحكومة هو موافقة المحكومين على قيامها.
وُلد الناس أحرارًا وسواسية؛ لأن العنصر العقلي — في مذهب «جون لوك» — يولد صفحة بيضاء، ثم تأتي الخبرات عن طريق الحواس، فتؤثر في تلك الصفحة، وبذلك يبدأ الاختلاف بين الناس في مدى خبراتهم، لكنهم من حيث الحالة الطبيعية متساوون، فلم يولد واحد منهم وفي عقله ما ليس في عقل الآخر، وما دامت نظرية جاليليو ونيوتن في الطبيعة تجعل الظواهر المحسة غير حقائق الاشياء؛ بحيث يحس الإنسان لونًا وطعمًا ورائحة … إلخ، مما ليس في الأشياء، إذن فالطبيعة كما تقع في حس الإنسان، إنما تقع على غرار واحد في الناس جميعًا على السواء، لا فرق بين الأبله والعبقري في رؤية اللون وشم الرائحة وسماع الصوت وذوق الطعوم، ولد الناس سواسية في طبائعهم الواعية، فكلٌّ يدرك ظواهر الأشياء كما يدركها زميله، وكلٌّ يخلع هذه الظواهر على الأشياء كما يخلعها زميله، ولئن تفاوت شخص وشخص في القدرة، بحيث ينبغ النابغ ويسقط الأبله، فليس هذا التفاوت في طبيعة العنصر العقلي الروحاني، بل هو في أجزاء البدن المادية كتركيب المخ وما إلى ذلك، وهكذا ينجم عن علم الطبيعة الحديث تصور حديث للإنسان، هو الذي ذهب إليه «لوك»، وأخذه عنه قادة الثورة الأمريكية، وهو هذا: ليختلف الناس ما شاءت لهم حظوظهم في تركيب المخ، وفي الطبقة الاجتماعية، وفي الثراء، وفي درجة التعليم، وفيما شئت من نواحي الحياة، لكن كل إنسان — رغم هذا التفاوت كله — هو ككل إنسان آخر باعتباره إنسانًا.
يقول «لوك» في مقاله عن «الحكومة المدنية» إنه ما دام الناس بطبيعتهم سواسية أحرارًا مستقلًّا بعضهم عن بعض، فلا يجوز أن يحرم أحد من حالته الطبيعية ليخضع لقوة سياسية يملكها شخص آخر، وأن يكون هذا الخضوع بغير إرادته، لكن هنا تنشأ المشكلة الكبرى التي ما فتئت قائمة في تحديد العلاقة بين الفرد والدولة، فمهما حدَّت الدولة من سلطانها فهو سلطان على كل حال، ولا يكون هذا السلطان إلا بتنازل الفرد عن بعض حريته واستقلاله، فلماذا يتنازل الأفراد عن حقوقهم؟ لماذا يتنازل الفرد عن الحقوق التي كان يتمتَّع بها في حالته الطبيعية مع أنه كان عندئذٍ سيدًا مطلقًا على نفسه وعلى ملكه؟ جواب ذلك هو أنه في الحالة الطبيعية كان غير المنتِج يسطو — إذا استطاع — على إنتاج المنتِج فيسلبه إياه وقد يفتك به، فأراد الإنسان الحر المستقل أن يتنازل للدولة عن بعض حريته واستقلاله ليحميَ شخصه وأملاكه من عبث العابثين.
وإذن فالمبرر الوحيد لوجود الحكومة هو حماية الملكية الفردية، ويدخل الجسد في الملكية؛ لأن المالك الحقيقي هو العنصر العقلي من الإنسان، فقيام الحكومة شر، لكنه أهون شرًّا من تعرُّض الجسد وسائر الممتلكات المادية للنهب والتخريب، ليس قيام حكومة في الناس هو الخير الأسمى، وإنما الخير الأسمى هي الحالة الطبيعية التي تخلو من الحكومة إذا خلت كذلك من احتمال اعتداء الأفراد بعضهم على بعض، وعلى ذلك فلا يدخل الإنسان عضوًا في المجتمع الخاضع للدولة بسبب كونه اجتماعيًّا بالطبع والضرورة، بحيث لا يكون له مناص من حياةٍ اجتماعية تمكنه من التعبير عن نفسه تعبيرًا سياسيًّا وخلقيًّا ودينيًّا، بل يدخل عضوًا باختياره ليصون حقوقه، فإن لم يجد تلك الحقوق مصونة كان له أن يخرج عن الجماعة ويثور عليها، ومن النتائج الخطيرة لهذا الرأي ألَّا يكون من حق الدولة حرمان الفرد من ملكه إلا بموافقته؛ لأن صيانة الملكية هي — كما قلنا — الغاية الأولى والأخيرة من قيام الدولة.
ذلك هو «جون لوك» الذي اتخذه الأمريكيون في عهد ثورتهم فيلسوفًا لهم، بحيث جعلوا مذهبه أساس إعلان استقلالهم، فكيف كان صدى آرائه في قادة الرأي عندئذٍ؟ سنختار للإجابة عن هذا السؤال رجلين: «تومس جفرسن» و«تومس بين» وهما من أعلام حركة التنوير في الولايات المتحدة عندئذ.
(٢) «تومس جفرسن» وحقوق الإنسان
«لقد عاهدت الله أن أكون إلى آخر الدهر عدوًّا للطغيان في شتى صوره، الطغيان الذي يستبد بعقل الإنسان.» هكذا قال «جفرسن» عندما تقدَّم لرئاسة الجمهورية في الولايات المتحدة عام ١٨٠٠م، فقاومه المحافظون من رجال الدين لتطرُّفه في الدعوة إلى الحرية، فإذا جاز لنا أن نختار من أقواله قولًا يلخِّص حياته وفكره اخترنا له هذه العبارة شعارًا؛ لأن دفاعه عن حرية العقل كان مدار فكره وحياته، وإنما يكون هذا الدفاع في ميادين ثلاثة: السياسة، والدين، والتعليم.
-
(١)
فهو في السياسة يعبِّر عن روح عصره في النظر إلى حقوق الإنسان كما يمكن أن يستدلَّ عليها من فلسفة «جون لوك» التي أسلفنا لك شرحها، وهي بدورها فلسفةٌ ناتجة عن علم الطبيعة في ذلك العصر كما يتمثَّل في «جاليليو» و«نيوتن»، ولسنا بحاجةٍ هنا إلى تكرار ما قلناه عن حقوق الإنسان المستندة إلى فطرته وطبيعته، لا إلى منحة يمنحها إياه ملك أو حاكم، وتلك بعينها هي نظرة «جفرسن» وزملائه الذين قادوا الفكر والسياسة في الشطر الأخير من القرن الثامن عشر، ونكتفي بذكر لمحاتٍ يختصُّ بها «جفرسن» وإن تكن في حقيقة أمرها شروحًا وتعليقات على النظرية الأساسية.
من ذلك أنه — كسائر أبناء عصره — يجعل للفرد حق الثورة على الحكومة القائمة إذا هي قصرت في تحقيق السعادة التي ينشدها في حياته، والتي من أجلها تعاقد الأفراد على أن يجتمعوا وأن يقيموا على أنفسهم حكومة، لكنه وقف إزاء هذا الحق — حق الثورة — موقفين؛ أحدهما فيه تحفُّظ واعتدال، والآخر فيه تطرُّف ومبالغة، أما الموقف الأول فهو موقفه في صياغة «إعلان الاستقلال»، فكأنما أحس بضرورة القصد في القول إذا ما كان الأمر وثيقة مكتوبة، أو إذا ما كان التعبير ليس تعبيرًا عن رأيه الشخصي وحده، بل تعبيرًا عن الشعب كله؛ لذلك تراه ها هنا لا يبرِّر الثورة على الحكومة — وإن تكن حقًّا طبيعيًّا للناس — إلا إذا أفحشت الحكومة في خطئها وضلالها، وأصرَّت على أن تمضيَ عنيدة في هذا الخطأ والضلال، معرِّضة شعبها إلى فادح الخطر.
أما وهو يعبر عن رأيه الشخصي بعيدًا عن الوثائق الرسمية التي يتوخى فيها القصد والاعتدال والتحفظ، فعندئذٍ يرسل القول في تطرُّف وحرارة عاطفة، فتراه مثلًا يقول: إن الثورة على الحكومة حينًا بعد حين، هي العلاج الناجع الذي يضمن أن تظلَّ الحكومة سليمة معافاة، «فاللهم لا تقدِّر لنا أن نظل عشرين عامًا بغير ثورة»؛ لأن «شجرة الحرية لا بد لها من الازدهار حينًا بعد حين مرتوية بدماء الشهداء ودماء الطغاة، فالدماء هي المخصب الطبيعي لنمائها».
حق الثورة على الحكومة إن أخطأت هو من الحقوق التي تترتب على النظرية السياسية التي تجعل الحكومة صنيعة الشعب، وحرية الناس هي من حقوقهم الطبيعية التي هي — كما أوردها «جفرسن» في وثيقة «إعلان الاستقلال» — الحرية والحياة والتماس السعادة، لكن تلك الوثيقة لم تقل إن هذه الثلاثة هي كل الحقوق الطبيعية، بل قالت إنها بعض تلك الحقوق؛ لذلك ترى «جفرسن» يذكر حقوقًا أخرى في مواضع متفرقة كحرية الفكر وحرية الدين وحرية الكلام وحرية تبادل الرأي، وحرية الصحافة وحرية التجارة والحرية الشخصية، وهي كلها فروع للحرية بصفةٍ عامةٍ كما وردت في «الإعلان».
وإلى جانب تلك الحقوق الفردية حقوق أخرى اجتماعية ومدنية، كحق الملكية، لكن هذا الضرب من الحقوق مقيد بالحد الذي يمكِّن الآخرين من التمتع به، ولم يفت «جفرسن» أن يتنبَّه للجوانب التي تنتفي فيها حقوق الإنسان؛ أي إنه لم يحصر فكره في الحقوق الإيجابية وحدها، من ذلك قوله: ألا حق لأحد أن يعتدي على حقوق سائر الأفراد، ولا حق لأحد أن يكون قاضيًا في قضيةٍ هو أحد أطرافها، ولا حق لأحدٍ في أن يحتكر لنفسه شيئًا … وهكذا.
ويطبق «جفرسن» نظرية الحقوق الطبيعية على الأجيال تطبيقها على الأفراد سواء بسواء، معارضًا بذلك كثيرين من مفكري عصره في أوروبا، نخص بالذكر من هؤلاء «أدمند بيرك» (١٧٢٩–١٧٩٧م) فمن رأي هؤلاء أن حياة الأمة تمتد ما امتد الزمن، وبذلك وجب على الأجيال القادمة أن ترتبط بفعل الأجيال السابقة، فيعارض «جفرسن» هذا المبدأ، جاعلًا لكل جيل الحق في تغيير ما قررتْه الأجيال السابقة بأفعالها أو أقوالها؛ لأنه لو أخذنا بمبدأ اشتراك الأجيال السابقة في تقرير حقوق الجيل القائم، ترتب على ذلك أن تكون الأرض ملكًا للأموات لا ملكًا للأحياء الذين يفلحونها ويعيشون عليها.
الأفراد القائمون الأحياء هم أصحاب الحق في تقرير مصائرهم، وفي اختيار حكومتهم، إن لم يكن كل فرد بذاته، فبالإنابة، وهنا تختلف الديمقراطية الحديثة عن الديمقراطية القديمة — كما كانت عند اليونان مثلًا — إذ كان الفرد في الديمقراطية اليونانية يمثل نفسه، وكان ذلك ممكنًا حين كانت الدولة مدينة واحدة يمكن لأفرادها الراشدين أن يجتمعوا في صعيدٍ واحد، أما وقد تناءَت أطراف الوطن الواحد في العصور الحديثة، واستحال أن يجتمع الأفراد جميعًا، كان التمثيل بإنابة أفراد عن أفراد، وعلى كل حال، فالحكومة تكون على أكمل حالاتها حين تحصر نشاطها في أقل حدٍّ ممكن.
-
(٢)
أما الحرية الدينية فتنبني — في رأي «جفرسن» — على أن الحرية هي حق طبيعي للإنسان، فكما أنه لا يجوز أن يستبدَّ بها حاكم سياسي، فكذلك لا يجوز أن تنتقص منها هيئة دينية، والذكاء الفطري عند الإنسان — إذا لم تعطله العوامل الخارجية من دولة أو كنيسة — كافٍ وحده أن يهدي الإنسان في مشكلاته الدينية، دون أن يكون في ذلك بحاجةٍ إلى كنيسةٍ تُمسك بزمامه، فحسب الإنسان — في الرأي السياسي وفي العقيدة الدينية على السواء — أن يُرضي ضميره، وقد جاهد «جفرسن» وهو حاكم لولايته — ولاية فرجينيا — في سبيل تقرير الحرية الدينية لأفراد ولايته على النحو الذي يراه حقًّا لكل إنسان؛ لذلك سن قانونًا يحقِّق للناس هذه الحرية التي أرادها لهم في عقائدهم، وكانت عبارة الاستهلال في هذه الوثيقة هي ما يأتي: «لما كنت على يقينٍ من أن الله تعالى قد خلق عقل الإنسان حرًّا …» فإذا سلمنا بأن حرية العقل هي جزء من طبيعته كما خلقها الله، امتنع أن يكون لأي إنسان أن يضع ما يقيد الفرد في استخدامه لعقله، فلا الحكومة ولا الكنيسة لها أن تقيم الحواجز أمام الحرية العقلية عند الفرد إلا إذا كانت حرية تفكيره مؤديةً إلى إيذاء الآخرين وإلى الحد من حرية التفكير عندهم «غير أني لا أُنزل بجاري أذى إذا قلت إن في الكون عشرين إلهًا، أو قلت أن ليس هنالك إله؛ لأن مثل هذا القول لا يسلبه مالًا، ولا يكسر له ساقًا.» وإذن فليس من حق الحكومة أو الكنيسة أن تُرغم أحدًا على عقيدة دينية معينة، أو أن تضطهد إنسانًا بسبب عقيدته، بل الأمر على نقيض ذلك، فواجب الحكومة هو أن تهيِّئ الظروف التي تمكن الناس جميعًا من حرية التعبير عن آرائهم الدينية، ومن تأييد تلك الآراء بكل ما يستطيعون من حجة، دون أن تتأثَّر بذلك حقوقهم المدنية.
-
(٣)
عقل الفرد — إذن — هو مرجعه الوحيد في السياسة وفي الدين، لا سلطان عليه في ذلك من حكومة أو من كنيسة، فإذا قيل إن من الأفراد من ليست لهم هذه القدرة العقلية المؤتمنة على هداية صاحبها طريق الصواب، كان الرد على ذلك هو ضرورة تعليمهم لا التسليم بعجزهم، ومن هنا تنشأ عند «جفرسن» عقيدته في وجوب تعميم التعليم بين الناس؛ لتمكينهم من ممارسة حقوقهم الطبيعية في تقرير مصائرِهم بأنفسهم، ومع ذلك فالتاريخ — تاريخ الملوك بصفةٍ خاصة — شاهد على أن خطأ الشعب مهما يكن ناقصًا في تعليمه ليس أفدح خطرًا من خطأ الحكومات الوزارية والملوك، فليس هناك الأسرة الملكية التي أنجبت أكثر من رجلٍ واحد ذي إدراكٍ سليمٍ في كل عشرين جيلًا، والملوك هم على أفضل حالاتهم حين يتركون الأمر في أيدي وزرائهم، لكن من هم هؤلاء الوزراء إن لم يكونوا جماعة أسيء اختيار أفرادها؟ فإذا تدخَّل الملك في عمل الوزراء كان ذلك ليزيد الأمر سوءًا على سوء.
إن «جفرسن» لا يريد بهذا كله أن يدَّعي بأن الناس متساوون في قدراتهم العقلية؛ إذ لا شك أنهم في ذلك يتفاوتون، لكن علينا أن نهيئ أمام الجميع فرصًا متساويةً في التعليم، وللنابغ بعد ذلك أن ينبغ، وللمتخلف أن يتخلف، فلكل طفل الحق في فرصةٍ تعادل فرصة زميله، بحيث تنمو مواهبُه إلى أقصى حدٍّ مستطاع، بغض النظر عن حالته المالية من فقرٍ أو غنى، فلا يجوز أن يكون التعليمُ حقًّا للأغنياء وحدهم، وبهذا التعليم العام الذي لا يفرق بين فرد وفرد، سيظهر في كل جيلٍ قادته الجديرون بقيادته، وإذا شئت فقل عن هؤلاء القادة إنها الصفوة، أو هي «الأرستقراطية»، لكنها عندئذٍ تكون أرستقراطية المواهب، لا أرستقراطية الحسب والمال والجاه، وعلى هذا الأساس أقام أسس التعليم في ولاية فرجينيا — وهي وطنه — حين كان حاكمًا لها، وأنشأ جامعة فرجينيا.
جهاد في سبيل الحرية العقلية، هذا هو ما عاهد الله — كما قال — على أن يُنفق حياته فيه: حرية العقل في الفكر السياسي، وقد عبَّر عنها في «إعلان الاستقلال» الذي صاغ عبارته، وحرية العقل في العقيدة الدينية، وقد عبَّر عنها في القانون الذي وضعه في ذلك لولاية فرجينيا، وحرية العقل في التعليم، وقد عبر عنها في إنشائه لجامعة فرجينيا، ومن هذا كله نعلم لماذا — حين سُئل في أخريات سنيه: ماذا يريد أن يكتبوا له على شاهد قبره من بين أعماله الكثيرة التي زخرت بها حياته الحافلة المجاهدة المكافحة؟ قال: اكتبوا ثلاثة أشياء: إعلان الاستقلال، وقانون الحرية الدينية، وجامعة فرجينيا؛ فبالأول يزول استبداد الحكومة، وبالثاني يتحرَّر العقل من سلطان الكنيسة، وبالثالث تُصان الحرية التي يكتسبها الناس في السياسة والدين.
(٣) «تومس بين» والإيمان بالعقل
إنه لو جاز لنا أن نختار رجلًا واحدًا من رجال «التنوير» في الولايات المتحدة إبان ثورتها في سبيل استقلالها، نقول عنه إنه اللسان المعبِّر عن الحركة كلها، على الرغم من كثرة مَن ناصروها وأشاعوا مبادئها؛ لكان هذا الرجل الواحد هو «تومس بين» لما حباه الله من قدرةٍ أدبيةٍ في عرض أفكاره، التي هي في جوهرها أفكار العصر كله في أمريكا وفي أوروبا على السواء، بحيث استطاع بجمال أسلوبه وصفاء عبارته أن يلتمس طريقه إلى قلوب الناس وعقولهم على نطاقٍ أوسع جدًّا مما كانت تكون عليه الحال لو اقتصرت تلك الأفكار على صياغة فلسفية لا يسهل فهمها وقبولها عند أوساط الناس، فليس فيما قاله «بين» من جديد إلا طريقة العرض.
وتستطيع أن تلخِّص مبادئ حركة التنوير — في أمريكا وأوروبا — في حيزٍ صغير، فأول ما تشير إليه الكلمة — كلمة «تنوير» — التي تركز طابع الفكر في القرن الثامن عشر، هو إشارتها إلى قدرة العقل على حل مشكلات الطبيعة والإنسان، بحيث لا يعود الناس بحاجةٍ إلى مصادر أخرى غير عقولهم تُعينهم على تفهُّم ما يُريدون أن يتفهموه، وكان طبيعيًّا أن يشتد إيمان الناس إذ ذاك بعقولهم بعد ما شهدوه من غزارة الإنتاج العلمي الذي تراكمت آثاره خلال القرنين السابقين لعصرهم، وهما القرن السادس عشر والسابع عشر، فإن كان العقل قد استطاع أن يكشف في هذه الفترة القصيرة عن هذه الأسرار الطبيعية كلها، أفلا يستطيع على مر الزمن أن يكشف الغطاء عن سر الحقيقة كلها؟ إنه لا حدود للعقل تُلزمه بالوقوف عندها؛ فيكفيه أن يهتديَ إلى المبادئ الأولية، وله بعد ذلك أن يستخدمَ المنهج الرياضي في استنباط ما لا نهاية له، ولا حصر من النتائج التي تترتب على تلك المبادئ. فإن استغنى الإنسان بعقله عن كل معونةٍ تأتيه مما وراء الطبيعة، إذن فليتحوَّل باهتمامه كله من السماء إلى الأرض، حيث يعيش الإنسان، فسعادة الإنسان هي وحدها الهدف الذي يجدر بنا أن نستهدفَه، ونعيم الآخرة هو النعيم الذي نهيئ أسبابَه للأجيال المقبلة، والنجاة المنشودة ليست هي النجاة من خطيئة آدم، بل هي النجاة بالإنسان مما هو فيه من جهلٍ واستعباد.
اهتم «تومس بين» بالعلم الطبيعي ونتائجه — نظرًا وتطبيقًا — ولما كان من أهم النتائج التي تترتب على طبيعة نيوتن الاعتقاد في اطراد ظواهر الطبيعة اطرادًا يمكننا من الكشف عن قوانينها؛ وبالتالي إمكان التنبؤ بما سيحدث قبل حدوثه؛ فقد رأى «بين» أن الاحتكام إلى الطبيعة هو خير معينٍ لنا على فهم عالمنا الذي نعيش فيه، وما الطبيعة إلا قوانينها التي فرضها الله على المادة لتسير بمقتضاها، وإن شئت فقل هي القوانين التي يحكم الله بها ملكوته، فليس الاطراد في حدوث الحوادث — الذي هو القوانين الطبيعية — من خلق العلم واختراعه، فالعلم لم يصنع شيئًا ولم يُضف شيئًا؛ إذ الطبيعة بنظامها واتِّساقها واطِّرادها هناك، ومهمة العقل أن يعلن عنها، وهل خلق نيوتن قانون الجاذبية من عدم؟ أم هو طريقة الله في تسيير أجزاء الكون، كانت قائمة ثم انكشف عنها الغطاء؟
ومن الإيمان باطراد النظام في الطبيعة يستنتج قانون الأخلاق، فلو كانت الطبيعة مسيرةً وَفْق طائفة من القوانين استنها لها الله الذي يريد بخلقه خيرًا، ثم لما كان الإنسان جزءًا من الخلق من جهة، وشبيهًا بالخالق من جهةٍ أخرى، لزم أن يكون الإنسان في حالة كماله مسيرًا بقوانين أخلاقية تسير به نحو خيره، فكما أن للطبيعة قوانينها، فكذلك للإنسان قانونه، وقانونه هو قانون الأخلاق، والعقل في كلتا الحالتين هو كاشف الغطاء عن تلك القوانين التي ليست من خلقه، وإن تكن من كشفه، فإذا أردت أن تعرف كيف ينبغي للإنسان أن يسلك وأن يفكر في السياسة وفي الاقتصاد وفي العبادات، وفي كل جانبٍ من جوانب الحياة، فعليك بالعقل يكشف لك عما يحقق الاطراد والاتساق والنظام، ولا تركن في ذلك إلى حكم تحكم به الحكومة، أو فتوى يفتي بها رجال الدين.
وذهب «بين» إلى ما ذهب إليه «جفرسن» بأن الجيل الحاضر لا يرتبط بسابق الأجيال، بل هو حرٌّ في ما يختاره لنفسه، نعم إن القوانين التي يشرعها أحد الأجيال قد يجوز للأجيال التالية أن تستبقيَها، على ألَّا يكون معنى ذلك استحالة تغييرها، وغاية ما في الأمر أنها تستبقيها؛ لأنها لا تريد أن تشرع قوانين أخرى تحلُّ محلها، وعندئذٍ تكون بمثابة القوانين التي تستنها لنفسها، فإذا قلنا عن قانون باقٍ لدينا من جيلٍ سابقٍ أنه لا يزال نافذ المفعول، كان معنى ذلك أن هنالك موافقةً ضمنيةً من الجيل القائم على بقائه، فكما أن لكل طفلٍ يولد نفس الحقوق التي كانت لأول طفلٍ شهد الوجود، فكذلك لكل جيلٍ يأتي نفس الحقوق التي كانت لأي جيلٍ مضى، غير أن عدم ارتباطنا بقوانين أسلافنا لا ينفي أن يكون علينا واجبٌ نحو من سيأتي بعدنا، فتقرير حق يتضمن في الوقت نفسه فرض واجب يقابله؛ لأن كل حق لي باعتباري إنسانًا هو كذلك حق لسواي، وبذلك يصبح واجبًا علي أن أصونه لغير صيانته لنفسي، فهذا الواجب هو إلزام ملزم للناس على تعاقب العصور.