دستور الفكر بعد دستور السياسة
(١) «رالف والدو إمرسن» واستقلال الفكر
أعلنت الولايات المتحدة وثيقة استقلالها عام ١٧٧٦م، فضمنت «إعلان الاستقلال» مبادئها التي قرَّرت بها حقوق الإنسان الطبيعية التي لا فضل فيها لأحدٍ على أحد، لكنها إذ وضعت — في تلك الوثيقة — للسياسة دستورها، اعتمدَت في مصادرها على الفكر الأوروبي بصفةٍ عامة، وعلى الفيلسوف الإنجليزي «جون لوك» بصفةٍ خاصة، فكانت في ذلك بمثابة من استقل بجسده ولم يستقل بروحه، وأين يكون استقلال الروح إذا كانت أوروبا لا تزال تضع لها المبادئ وتخطِّط لها مناهج التفكير؟
لما انطلق «إمرسن» يملأ مسامع قومه بهذه الدعوة إلى أن يستقل الإنسان بفكره؛ وبالتالي إلى أن يستقل الأمريكيون بتفكيرهم، كان في الحقيقة صادرًا في دعوته تلك عن ثورة عميقة على رجال «التنوير» والثورة، يقتلع الفلسفة التي بنوا عليها نظريتهم السياسية من جذورها ويهدمها من أساسها، ألم يكن مصدر هؤلاء الساسة علم «نيوتن» وفلسفة «لوك»؟ ثم أليس ذلك العلم وهذه الفلسفة قائمين على المشاهدات الحسية والتجارب، فعلم الطبيعة يُبنى على شهادة الحواس، وفلسفة «لوك» تدور حول خبرة الحواس تحللها وتصنِّفها؟ ولكن ما بالحواس يُدرِك الإنسانُ حقائق الأشياء، وإن أدرك بها ظواهرها، وإنما يكون العلم بحقيقة الكون بوسيلةٍ أخرى غير الحس، هي وسيلة الحدس، أو العيان العقلي المباشر، وهل يدرك الإنسان ذاته بالبصر أو بالسمع؟ كلا، إن الإنسان لَيدرك ذاته وفحواها بالنظر الداخلي إلى نفسه فيراها رؤية مباشرة، وهكذا يكون إدراك الحق كيفما كان.
هي نزعة مثالية سادت بعد الموجة التجريبية التي اشتملت التفكير في النصف الثاني من القرن الثامن عشر؛ نزعة مثالية لم يقتصر أمرها على أمريكا، بل فاضت من ينبوع المثالية الألمانية كما تدفق في فلسفة «كانت» و«شلنج» و«هيجل»، وكان مجرى الفيض ذا شُعبتين: فشُعبة منهما اندفقت في إنجلترا على يدي شاعرها «كولردج» (١٧٧٢–١٨٣٤م)، واندفقت الأخرى في الولايات المتحدة الأمريكية على لسان شاعرها «إمرسن»، وقد يكون أقرب إلى الصواب أن نقول: إن المثالية الألمانية وجدت في الشاعر الإنجليزي «كولردج» مؤيدًا ونصيرًا، فقرأ الأمريكيون ما كتبه «كولردج» وتأثروا به؛ ومن ثم أخذ تيار الفكر بينهم ينحرف من تجريبية «لوك» التي سادت عصر التنوير والثورة إلى مثالية الألمان بصفةٍ عامة ومثالية «هيجل» بصفةٍ خاصة.
ولم يكن هذا الاتجاهُ المثالي في فلسفة النصف الأول من القرن التاسع عشر — في أوروبا وفي أمريكا على السواء — إلا جانبًا من النزعة الرومانتيكية التي اصطبغ بها الأدب والفكر بصفةٍ عامة إبان تلك الفترة، فلئن كان القرن الثامن عشر عصرًا ساده تغليب العقل ومنطقه في العلم وفي الفلسفة وفي الأدب جميعًا، حتى لقد أطلقوا عليه بحق اسم عصر «التنوير» وهم يقصدون بالكلمة اعتماد الإنسان على عقله يعلِّل به كل ما أُشكل عليه من جوانب الحياة والطبيعة؛ فقد جاء القرن التاسع عشر في نصفه الأول ردًّا لفعل حركة التنوير، فكانت الرومانتيكية في الأدب، وكانت المثالية في الفلسفة، وكانت العودة إلى الإيمان في الدين، بل امتزجت هذه الاتجاهات كلها بعضها ببعض، وأصبح مزيجها طابع ذلك العصر.
فالمثالية في الفلسفة إذا نظرت إليها من زاوية الدين، وجدتها سخطًا على النتائج التي ترتبت على المبادئ العقلية خلال حركة «التنوير» مما يمسُّ العقائد الدينية، إذ انتهت تلك الحركة إما إلى إنكارٍ صريح لتلك العقائد، كما حدث في فرنسا مثلًا، وإما إلى تنكُّرٍ للعقائد التي تُبنى على الخرافة والتصديق، ومحاولة إقامة مجموعة أخرى من العقائد مَحلَّها تتفق مع المنطق العقلي، ومع العلم ومع شهادة الحواس، فأراد المثاليون أن يركنوا إلى وسيلةٍ أخرى لإدراك الله والإيمان بوجوده غير وسيلة العقل والحس، فجعلوا الحدس — أي العيان العقلي المباشر — وسيلة الاتصال بين الإنسان وربه، فبهذا الإدراك الحدسي المباشر يجاوز الإنسان حدود الطبيعة المحسوسة وحدود العقل وشروطه، بل يجاوز النصوص التقليدية والكنائس ونظامها، يجاوز كل ذلك إلى الحق الكائن وراءها، أو إن شئت فقل إنه حق كائن فوقها جميعًا، فيستطيع الاتصال بالله صلةً مباشرة، فيعرفه معرفة اليقين، وبهذا تكون الطبيعة ونظامها من شأن العلم وأداته التي هي العقل والحواس، وأما ما فوق الطبيعة، وهو الحق المطلق من قيود الزمان والمكان، فيكون من شأن الدين، وأداته في الإدراك هي الحدس، وإذا نظرت إلى المثالية في الفلسفة من زاوية السياسة وجدتها كذلك تخدم الديمقراطية في أغراضها، ألم يؤسس قادة الثورة السياسية مذهبهم في حقوق الإنسان على أن هذه الحقوق جزء من طبيعة الإنسان يُولَد بها ولا يَمنحها أحدٌ لأحد؟ ثم ألم يبنوا طبيعية الحقوق الإنسانية على أساس من فلسفة «لوك» في تحليل العقل الإنساني وطريقة إدراكه للأشياء الخارجية كما فصلنا ذلك في الفصل الأول؟ فهكذا يفعل أنصار الفلسفة المثالية أيضًا؛ إذ يقولون إن إدراك الله بالحدس المباشر جزءٌ لا يتجزَّأ من طبيعة الإنسان، لا فضل فيه لأحدٍ على أحد، والناس جميعًا في هذه القدرة سواء، فيكفي أن يكون الإنسان إنسانًا لتكون له القدرة على استخدام حدسه في الإدراك، وإذن فللناس جميعًا قيمة إدراكية واحدة متساوية، فهم من الوجهة الروحانية سواء؛ وبالتالي فهم من الوجهة السياسية سواء كذلك.
كذلك إذا نظرت إلى المثالية الفلسفية من وجهة نظر الإصلاح الديني، ألفيتها أداة نافعة، فالمثاليون — كالتجريبيين من قبلهم — متفقون على أن الكنيسة لا بد أن تحطم قيودها الجامدة، أو يحطموا هم قيودها المفروضة عليهم، فيحرروا أنفسهم من الاعتقادية الساذجة؛ لأنه إذا كان الإدراك الحدسي هو مدار المثالية، أي إنه إذا كان في مستطاع الإنسان بحكم طبيعته أن يَحدِس الله حدوسًا مباشرًا، فما ضرورة الكنيسة ونظامها ورجالها لسلامة العقيدة؟ إن الصلة بين الإنسان وربِّه صلة مباشرة قبل كل شيء، وكل ما يحول دون هذه الصلة الإدراكية المباشرة فهو عقبة في سبيل الوصول إلى الحق جديرة بالازدراء والإهمال، والعلم والكنيسة معًا يحولان دون الحدس وإدراكه للحقيقة المطلقة، أما العلم فلأنه يُقيِّد الإنسان بقيود المشاهدات الحسية والتجارب العلمية، وما ليس يطَّرد وقوعه من الظواهر لا قيمة له في رأي العلم، وهذه القيود إنما تعطل إدراك الإنسان بغير موجب، فماذا لو جاوز الإنسان بجناحي إدراكه الحدسي حدود المشاهدات والتجارب واطِّراد الظواهر؟ وأما الكنيسة فهي الأخرى تضع من أصفاد نظامها ما يستحيل معه التفكير الحر الذي ينفذ إلى الحقيقة فيراها مباشرة كما ترى العين ضوء الشمس، وفي ذلك يقول «ثورو» — الذي سنحدثك عنه بعد قليل: «لا بد أن تخرج من المسيحية لتدرك ما في حياة المسيح من جمالٍ ومغزى.»
لقد أخطأ رجال اللاهوت السابقون — في رأي المثاليين الذين نحن الآن بصدد الحديث عنهم — أخطئوا حين ظنوا أننا ندرك وجود الله من وجود مخلوقاته، فذلك لا يكون إلا اعتمادًا على الحواس من جهة، والعقل من جهةٍ أخرى، أما وجود الله في رأي المثاليين فمفارق للطبيعة مجاوز لحدودها، فلسنا بحاجةٍ إلى حسٍّ أو عقل، بل نحن بحاجةٍ إلى حدس ندرك به وجود الله في الجوانب الإلهية التي في طبائعنا، إن الإنسان شبيه الله، فحسبك أن تَحدِس ذاتك لتدرك فيها وجود شبيهها، وعندئذٍ يصبح الله موجودًا وجودًا حقيقيًّا يقينيًّا، ولن تكون بعد ذلك بحاجةٍ إلى كتاب أو إلى قسيسٍ يهديك إلى وجوده.
ها هي ذي نزعة دينية تقف موقفًا وسطًا بين طرفين، فلا هي الاعتقادية الجامدة التي تنبني على اللاهوت القديم، ولا هي إلحاد أو ما يشبه الإلحاد مما قد ترتب على حركة التنوير العقلي، والفلسفة التي يقوم عليها هذا اللون الوسط من التديُّن هي المثالية الألمانية، وخصوصًا مثالية «هيجل» التي تولَّى نشرها في إنجلترا شاعرها «كولردج»، ثم كان بين ناشريها في الولايات المتحدة شاعرها «إمرسن»، فما هي مثالية «هيجل» في خلاصةٍ قصيرة؟
يبني «هيجل» (١٧٧٠–١٨٣١م) فلسفته على فكرة «المطلق»، ومؤداها أن الأفراد الجزئية التي نراها في الطبيعة المحسوسة من حولنا، إن هي إلا صور تَبدَّت فيها روح كانت في بداية أمرها مطلقةً من قيود المكان والزمان، أي إنها لم تكن تعلن عن نفسها في نقطة معينة من المكان ولا في لحظة معينة من الزمان؛ لأنها لا مكانية ولا زمانية، هي روح لم تبدأ في سلسلة الزمن بلحظةٍ معينة، ولن تنتهي في سلسلة الزمن عند لحظةٍ معينة، بل هي أزلية أبدية، ثم أعلنت تلك الروح عن نفسها في الطبيعة وكائناتها إعلانًا كان في بداية أمره مقتصرًا على درجة دنيا من اللاشعور، ثم صعدت على درجات من التطور حتى عادت فاستيقظت شعورًا ووعيًا في الإنسان، وستعود الروح المطلقة إلى نفسها من جديدٍ مدركة لنفسها إدراكًا كاملًا، وإذن فكل شيء في الوجود هو تلك الروح المطلقة، أو ذلك العقل المطلق، قد عبر عن نفسه على هذه الصورة أو تلك، كما يعبِّر الشاعر — مثلًا — عن نفسه في قصائد مختلفة تتفاوت في درجة الكمال، لكنها على تفاوتها تُفصح عن نفس قائلها، وكما تنظر إلى كل قصيدة في ديوان الشاعر، فترى خلالها روح الشاعر، فكذلك تستطيع أن تنظر إلى كل كائن في الطبيعة من حولك: إلى هذه الجبال والأنهار والأشجار والحيوان والإنسان، فترى في كل واحدٍ منها ذلك العقل المطلق قد بسط نفسه في كائنٍ جزئي متعين، وهكذا تكون الطبيعة بكل ما فيها عقلًا مرئيًّا مسموعًا — إن صح هذا التعبير — ولا سبيل إلى فهم كائن جزئي إلا بنسبته إلى ذلك الكل المطلق الشامل.
وقد تنظر إلى كائنٍ جزئي، كهذه الشجرة أو هذا الطائر أو ذلك الفرد من بني الإنسان، فيُخيَّل إليك أنه كائن قائم بذاته مستقل بنفسه، لكن أمعن النظر قليلًا تجده في حقيقة أمره جزءًا من كل، وأن هذا الكل هو الكون بأسره، فكيف تدرك هذه الشجرة — مثلًا — إدراكًا تامًّا إلا إذا أدركتَ علاقتها بالأرض التي تنبتها وتغذيها، وبالماء الذي يرويها، وبالشمس التي تنميها؟ ثم كيف تدرك الأرض والماء والشمس، كلًّا بدوره، إلا إذا أدركتَ علاقاته بسائر أجزاء المجموعة الشمسية؟ والمجموعة الشمسية بدورها لا يتم العلم بها إلا بعد العلم بما يصلها بسائر الكون من روابط وصلات، إن شأن الكائن الجزئي في هذا الصدد كشأن النظرية الواحدة في سلسلة النظريات الهندسية عند إقليدس، لا تُفهم على حدة، بل لا بد لفهمها وإدراكها إدراكًا كاملًا من إدراك الروابط المنطقية التي تصلها بما قبلها وبما بعدها من نظريات، لا بد أن نعلم كيف جاءت نتيجة لسوابقها، وكيف تكون مقدمة للواحقها، وبهذا يتكوَّن من مجموعة النظريات نسق واحد، لا يمكن فَهْم جزء من أجزائه إلا في ضوء العلم بسائر الأجزاء، كما أن سائر الأجزاء لا يمكن العلم بها إلا مع صلتها بذلك الجزء الواحد، وهكذا قل في الكون وأجزائه، الذي هو العقل المطلق قد حقق نفسه وأعلن عنها، فالكون بشتى أجزائه نسق متصل، كل جزء من أجزائه مرتبط بسائر الأجزاء، وإن بدا أمام العين منفصلًا مستقلًّا قائمًا بذاته، هذا الكل المترابط إن هو إلا كائنٌ عضوي واحد، لم توضع أجزاؤه وأعضاؤه وضع التجاور في المكان والتعاقب في الزمان، دون أن يكون بينها فوق ذلك صلةً عليا تربطها معًا، كلا بل هي كأعضاء الكائن العضوي الحي، متصل بعضها ببعض على نحو يجعل الكائن كله متمثلًا في كل عضو من أعضائه، وتجعل كل عضو مستحيل الفهم إلا على ضوء الكل الذي يحتويه.
إن حصر الانتباه في كائنٍ جزئي واحد على أنه وحدة مستقلة بذاتها، قد يوهم الرائي أن الكون ينطوي على أضداد، حين يرى في جنبات الكون من الحقائق الجزئية ما يعاند بعضها بعضًا، لكن هذه الأضداد سرعان ما يتبين لنا أنها في حقيقة الأمر أجزاء من كل متناسق، إذا ما علونا بالنظر إليها بحيث رأينا كل ضد منها — لا هو جزئي مستقل قائم وحده — بل رأيناه في صلاته بغيره، فعندئذٍ يتبيَّن في جلاء أن كل جزء موجود من أجل الكل وبسببه، ولكن على الرغم من أن الأجزاء كلها ضرورية لا بد من وجودها، فإنها تقف إزاء بعضها موقف التفاوت ضعة ورفعة في سلم التطور والترقي، المراتب السفلى منها تنتقل إلى العليا، ولكنها لا تنمحي من الوجود في عملية الانتقال، وكل ما يحدث لها هو التحول من صورة سفلى إلى صورةٍ عليا، «إن كِمَّ الزهرة يختفي إذا ما تفتحَت الزهرة، فيخيل إليك أن بين الكِمِّ والزهرة تضادًّا، ثم تجيء الثمرة بعدئذ، فتُعلن بوجودها أن الزهرة صورة دنيا من صور وجود النبات، وهكذا تنتقل حقيقة كل واحدة منها إلى حقيقة الأخرى، وليست هذه الصور متميزًا بعضها عن بعض فحسب، بل إن الواحدة منها لتسحق الأخرى باعتبارها مضادةً لها، ولكن طبيعتها التي تسري فيها كلها تكون منها دقائق من الوحدة العضوية التي تتآخى فيها، فلا تعارض إحداها الأخرى، بل إن الأمر بينها لا يقف عند حد عدم التعارض، ولكن كلًّا منها يكون لوجوده من الضرورة ما للأخرى تمامًا، ومن هذه المساواة بين الأجزاء في ضرورة وجودها تتألَّف حياة الكل الذي يحتويها جميعًا.»
هكذا يعرض العقل المطلق نفسه في الطبيعة على مراحل متعاقبة يرتبط بعضها ببعض بنفس الروابط التي تصل أجزاء الفكر بعضها ببعض، ومن هنا كان منطق العقل هو نفسه منطق الطبيعة، أو — بعبارةٍ أخرى — كان الفكر من جهة، والحقيقة الخارجية من جهةٍ أخرى كائنًا واحدًا، الثانية منهما تعبير عن الأولى، والأولى منهما متحقِّقة في الثانية، إن الوحدة التي تربط الفكر من جهة والطبيعة من جهةٍ أخرى ليست هي مجرد الصلة بين طرفين، بل هي وحدة أعلى من الطرفين معًا؛ إذ لا ينبغي أن تعد الطبيعة وجودًا آخر إلى جانب العقل الذي يدركها؛ لأن الطبيعة هي جزء من حياة العقل نفسه.
على ضوء هذه الفلسفة المثالية الهيجلية تستطيع أن تفهم «إمرسن» في شتى نواحيه، تستطيع أن تفهمه حين يتخذ من الحدس وحده وسيلة الإدراك الحقيقي، إذ كيف تدرك العقل المطلق المتحقق في الطبيعة إذا قَصَرت نفسك على حواسك ومشاهداتها، أو على عقلك وحجاجه، وتستطيع أن تفهمه حين يقرر أن الفرد الواحد من بني الإنسان ليس في الحقيقة فردًا منفصلًا بذاته، بل هو «العضو المنتدب» من قبل الروح المطلق الذي نحن جميعًا ممثلوه، فالزارع — مثلًا — ليس زارعًا لنفسه فحسب، بل هو زارع «بالنيابة» عن الحقيقة الكلية التي نحن أعضاؤها، ونستطيع أن نفهمه حين يتنكر لعلم الطبيعة في طريقة فهمه للطبيعة؛ لأنه يقف عند الجزئيات الظاهرة، مع أن الطبيعة في حقيقتها تعبير واحد متصل الأجزاء عن عقل مطلق يعبِّر عن نفسه فيها، وسبيل معرفة ذلك هو حدس المتصوف لا منظار العالم، وتستطيع أن تفهمه حين يجعل الفكر والطبيعة خطين متوازيين، فلا واقعة أو حادثة من وقائع الطبيعة وحوادثها إلا ولها أصل يصورها في الفكر.
بعد أن أتم «إمرسن» دراسته الدينية في جامعة «هارفارد» عام ١٨٢٩م، عُيِّن واعظًا في الكنيسة التي كان أبوه راعيًا لها — فهو سليل أسرة عريقة من رجال الدين — لكنه سرعان ما تبين هُوَّة سحيقة تفصل بينه وبين سامعيه، كان قد قرأ المثالية الهيجلية كما نقلها «كولردج» شاعر الإنجليز عندئذٍ، فتأثَّر بما قرأ، وأخلص لفكرته التي انتهى إليها، فبعدت مسافة الخلف بينه وبين من يختلفون إلى الكنيسة ليُسمعهم الموعظة، فلم يجد بدًّا من الاستقالة؛ إذ استحال عليه أن يوفِّق بين واجب مهنته وإملاء ضميره، فسافر إلى أوروبا لعله مستردٌّ بهذه الرحلة عافيةً لجسده العليل، وصحةً لروحه التي أحس كأنما هي ريشة في مهب العواصف، فقصد — فيما قصد إليه من ربوع أوروبا — إلى إنجلترا حيث التقى بأبطاله في الفكر والروح؛ «كولردج» و«وردزورث» و«كارلايل»، ثم عاد إلى وطنه الأمريكي بعد عام وهو معافى البدن، مستقر الروح على هدفٍ لم يعد يحيد عنه، وكانت الفكرة الرئيسية التي كشف عنها الغطاء في نفسه — كشف عنها كشفًا مستقلًّا عن كل قراءةٍ قرأها أو رأيٍ استمع إليه — هي أن في مقدور الإنسان أن يرى الله في أعماق قلبه، وأنه إذا أنصت الإنسان إلى ضميره بأذنٍ مصغية واعية سمع صوت الله في دخيلة نفسه، فإن كان ذلك كذلك فقد أصبح واجبه أن يهدي الناس إلى ما اهتدى إليه.
ولم يكد يستقر به المقام عامًا بعد عودته من أوروبا إلى بلاده، حتى أخرج سنة ١٨٣٦م كتابًا صغيرًا أسماه «الطبيعة» عبَّر فيه عن هذا الكشف الروحي، ونشر من كتابه هذا خمسمائة نسخة غُفلًا من اسم المؤلف، لكن الكتاب لم يصادف عند القارئين رواجًا، رغم اللقاء الجميل الذي تقبَّله به «كارلايل».
وفي العام التالي — عام ١٨٣٧م — ألقى خطابه المشهور في هارفارد، بعنوان «العالم الأمريكي» الذي توجه بالكلام فيه إلى قادة الفكر في بلاده، ثم في العام الذي تلاه — عام ١٨٣٨م — ألقى خطابه العظيم «إلى المتخرجين في كلية اللاهوت» قصد به إلى القائمين بالوعظ الديني، ويمكن القول بصفةٍ عامة إن حياته الفكرية بعد ذلك جاءت تعليقات وشروحًا وتفريعات لما ورد في هذه الأعمال الثلاثة: كتاب الطبيعة، والخطابين المذكورين.
يريد «إمرسن» للإنسان أن يدرس الطبيعة، لكن أي طبيعة يعني؟ ليسَت هي الطبيعة التي قصد إلى دراستها «نيوتن»، الطبيعة الثابتة في اطِّراد ظواهرها، والتي تسير في مجراها بغض النظر عن الإنسان، بل الطبيعة التي يطويها الإنسان تحت سلطان شعوره الذاتي، هي طبيعة الشاعر لا طبيعة العالم، هي الطبيعة بعد أن نُضفيَ عليها أنفسنا وحياتنا وفكرنا ومشاعرنا، هي الطبيعة التي نجدها مفرقةً موزعةً مجزأةً فننسقها كونًا واحدًا، بحيث نرى العلاقة بين الشمس الطالعة وزقزقة العصفور، هي الطبيعة كما تلتقي فيها خيوط الإنسان الروحية، فتكون ملكًا له لا تلك التي يخضع لها الإنسان، ويكون ملكًا لها، لو نظر الإنسان إلى الطبيعة هذه النظرة التي تجعلها جزءًا منه، أو إن شئت فقل تجعله جزءًا منها، فعندئذٍ يزول شعور الإنسان بانفصاله عنها، ولا تصبح ثنائية بين الذات من جهة والموضوع من جهةٍ أخرى، بل تصبح الذات العارفة والموضوع المعروف شيئًا واحدًا متصل الوجهين، عندئذٍ يشعر الإنسان شعورًا حيًّا بما بينه وبين الطبيعة من وشائج القربى، إن الطبيعة لا تبوح بسرها لمن يتناولها كما يتناول الجثة الميتة يشرحها بمِبْضَعه، بل تبوح بسرها الدفين لمن يُقبل عليها إقبال العاشق، إقبال من يريد أن ينمحي في أحضانها، فلئن كان العالم يبحث في الطبيعة عن وجهها الموضوعي الثابت الذي لا يتغير على مر الزمان، فالشاعر ينشد فيها وجوهها المتغيرة أبدًا المتجددة أبدًا، فهذه الطبيعة الحية الدفاقة هي وحدها التي تعكس للإنسان حالاته في حالاتها، تعبس لعبوسه وتفرح لفرحه.
وتأتي بعد درجة الانتفاع المادي درجة أعلى، هي أن أدرك ما في الطبيعة من جمال، إنك قد تنظر إلى الثمرة نظرتك إلى الغذاء، لكنك كذلك قد تنظر إليها نظرتك إلى الشيء الجميل قد سوَّاه الله وصوَّره، فأكمل التسوية والتصوير، ها هنا في هذه المرحلة تزداد فاعليتك الخالقة؛ إذ تضفي على الطبيعة من نفسك كمالًا من كمالها، وجمالًا من جمالها، وفي هذه المرحلة أخلاق وفيها تفكير، أما الأخلاق ففي اتِّساق النغم بينك وبين مشاهد الطبيعة؛ إذ ستكون العلاقة بينك وبينها أقرب شيء إلى العلاقة بين العازف والآلة التي يعزف عليها، وهل الفضيلة إلا الجمال؟ كلاهما في الاتساق والتناغم، الفعل الفاضل هو الذي يلتزم الحدود المعقولة، وكذلك الشيء الجميل، وأما التفكير فهو في إعمال الإنسان فكره في هذا الجمال الذي يشهده، الجمال والفضيلة والفكر كلها جوانب متصل بعضها ببعض، الحق والجمال والخير ثلاثة خيوط من نسيجٍ واحد، فبالحق ندرك ما ندركه، وبالجمال نقدره ونعشقه، وبالخير نفعل الصواب الذي يمليه إدراكنا للحق، وإحساسنا بحبه، وهذه النواحي الثلاث كلها متضمنة في إدراكنا للطبيعة من الوجهة الجمالية؛ لأن إدراك الجمال وحده كافٍ لخلق الفضيلة والكشف عن الحق.
وآخر الدرجات الأربع التي يتدرَّج فيها الإنسان مع ارتقائه في علاقته بالطبيعة، هي درجة الرياضة الروحية التي يرتاضها الإنسان عندما يتعلم من الطبيعة كيف تتسق الأجزاء في كل واحدٍ متَّزنٍ متجاوبٍ موصول الأطراف، عندما يتعلَّم أن الطبيعة على اختلاف كائناتها، وتنوُّع مخلوقاتها إن هي إلا وحدة واحدة تستهدف غاية وتسير نحوها، ألا إن بين كائنات الكون من أوجه الشبه ما يزيد كثيرًا على ما بينها من أوجه الاختلاف، إن كل شيءٍ في جنبات الطبيعة، من الحيوان الأدنى إلى الإنسان الأعلى، صارخ بقوانين الصواب والخطأ، في الطبيعة وحدة وثيقة العرى، حتى ليستحيل أن تكون بغير روح كلي واحد منبث فيها، تراه في الفكر ومنطقه كما تراه في الأشياء وتسلسلها سواء بسواء.
(٢) «هنري ديفد ثورو»٢٨ والفردية المتطرفة
كثيرًا ما تبدأ الدعوة إلى مذهب فكري معين دون أن تكون مكنونات هذا المذهب قد ظهرت كلها ظهورًا واضحًا عند الدعوة الأولى، فيجيء الأتباع بعدئذٍ واحدًا بعد واحد ليستخرجوا إلى وضح النهار ما كان خبيئًا كامنًا، ويدفعوا بمبادئ المذهب خطوة بعد خطوة إلى آخر نتائجها المنطقية، فإذا هذه النتائج تبدو غريبة حتى على أصحاب المذهب الأولين أنفسهم؛ لأنهم حين أخذوا يدعون إلى مذهبهم هذا، لم يكونوا قد تبيَّنوا دفعة واحدة كل ما تنطوي عليه مبادئه.
فها هم أولاء بناة الدستور الأمريكي ومعلنو استقلالها قد اعتمدوا على أساس من فلسفة «لوك» (انظر الفصل الأول) فقرَّروا أن للإنسان حقوقًا طبيعية، يتمتع بها بحكم فطرته، وهبها له الله ولم يهبها سلطان حاكم؛ ولذلك فهي ملكه الذي لا يشاركه فيه إنسان، ومن تلك الحقوق الطبيعية الفطرية — كما ورد في وثيقة «إعلان الاستقلال» — حق الحياة وحق التماس السعادة، فإن كان الأفراد قد تنازلوا عن بعض حقوقهم هذه للدولة، لقاء ما تتعهَّد به الدولة من صيانة الحقوق التي احتفظوا بها لأنفسهم ولم يتنازلوا عنها فيما تنازلوا، فما ذلك إلا بموافقتهم ورضاهم، هم الذين أقاموا الدولة باختيارهم، وهم الذين يزيلونها إذا ما قصرت في أداء واجبها الذي تعهدت لهم بأدائه، وقد كانت الحقوق التي تنازل الأفراد عن بعضها مما يمكن التنازل عنه، لكن هنالك جانبًا من الإنسان خاصًّا به، سيظل ملكًا له، يستحيل أن يشمله التنازل، وهو جانب الروح، أو العقل، فليس للدولة كائنةً ما كانت، بل ليس للكنيسة ذاتها، أن تحاسب الإنسان على حياته الروحية وإدراكه العقلي.
فجاء بعد ذلك «إمرسن» مع زملاء له يتفقون معه في وجهة النظر، وإن لم يكن لهم ما له من قوة التعبير، جاء بعد ذلك «إمرسن» وزملاؤه المثاليون، فانتزعوا من هذا المبدأ إحدى نتائجه التي تلزم عنه، وهي أن يكون للفرد — إلى جانب استقلاله السياسي — استقلال فكري، فلا ينبغي لفرد أن يعتمد على فكر فرد آخر، وواجب الإنسان يقتضيه أن ينظر في ثنايا ضميره ليدرك إدراكًا حدسيًّا مباشرًا ما عسى أن يوحي إليه به ذلك الضمير، فيكون هو الحق، ولا يبطل هذا الحق حق آخر يدركه الفرد نفسه في لحظةٍ أخرى، ولما كان الفرد الواحد ممثلًا للروح الكلية الشاملة؛ فهو فيما ينطق به عن صدق وسلامة حدس، إنما يفصح عن حقيقة تلك الروح الكلية من جهة؛ وبالتالي فهو يعبِّر عما هو حق بالنسبة لسائر أفراد البشر من جهةٍ أخرى، وبهذا يصبح ما هو حق لفرد حقًّا لكل فرد آخر، وإن جاء إدراكه عن طريق فرد واحد.
فخرج من هذه الجماعة المثالية أحد أعضائها هو «هنري ديفد ثورو» ودفع بهذه المبادئ إلى نتائجها المنطقية، فإذا كان الفرد قد اتفق مع زملائه على قيام الدولة، فمن حقه باعتباره فردًا أن ينسلخ وحده عن سائر الجماعة إذا أراد، فلا يخضع للدولة إذا لم تصادف عنده هوى، الفرد على هذه الأرض مملكة وحده، هو بذاته وبمفرده سلطة لها سيادتها، والمثل الأعلى هو ألَّا يقوم بين الأفراد حكومة، فإن قامت، فلا بد أن تنحصر واجباتها في أقل حدٍّ ممكنٍ من التدخُّل في حياة الأفراد.
كانت الولايات المتحدة عندئذٍ لا تأخذ بما تأخذ به البلاد الأوروبية من ضرورة قيام جيش عامل، على أساس أن مثل هذا الجيش لا تدعو إليه ضرورة وقيامه يقتضي نفقات كثيرة بغير موجب، فقال «ثورو»: إن الاعتراض على قيام جيش في البلاد يمكن توجيهه كذلك إلى قيام حكومة فيها. ثم استطرد يقول: إن الحكومة الأمريكية أفضل بعض الشيء من حكومات العالم الأخرى؛ لأنها أقل من هذه الحكومات تقييدًا للناس، ومع ذلك فقد كان كل ما فعلته في سبيل التقدم سلبيًّا لا إيجابيًّا؛ إذ كانت حسنتها الوحيدة أنها لم تقم حائلًا دون التقدم، أما ما قامت به البلاد الأمريكية من أعمال إنشائية فكله قد تم على أيدي أفراد الشعب، ولا فضل الحكومة فيه، وقد كان يمكن لهذا الشعب أن يزداد إنشاء ويسرع تقدمًا لولا أن الحكومة كانت تتدخَّل في سبيله حينًا بعد حين.
ولن تقوم دولة حرة مستنيرة بالمعنى الصحيح إلا إذا اعترفت الدولة بأن الفرد قوةٌ عليا مستقلة في ذاتها تستمدُّ منه كل ما لها من قوةٍ وسلطان.
إن القول بأن الفرد خلق ليعيش في مجتمع أكذوبة كبرى، والعكس هو الأدنى إلى الصواب؛ فقد خلق المجتمع من أجل الفرد.
ويريد الناس أن يحتفظوا بما يسمونه سلامة المجتمع بأعمال العنف كل يوم، فانظر إلى الشرطة، وما تحمل من عصيٍّ، وما تعده للناس من أغلال! انظر إلى السجون والمقاصل! إننا نعطي الحكم للأغلبية لا لأنها أحكم، بل لأنها أقوى … وإني لأرى كثيرًا من الناس — إن لم أقل معظمهم — ضربًا من الجثث المحنطة، لقد غادرتهم الحياة، ولكني مع ذلك لا أرى أجسادهم تتآكل وتنقضي وتتحلَّل، إنهم لا يزالون يحتفظون بصورة الأحياء، ولست أدري أين الملح الذي ينجيهم من الفساد، ويمنع عنهم الدود! إن من الأجساد ما يسلم من الفساد بعد الموت والدفن، فإن نبشت قبورهم بعد أعوام ألفيت أجسادهم طرية كأنها ماتت بالأمس، وهكذا بعض من أرى من الناس، فلقد انطفأ فيهم سراج الحياة منذ بعيد، ولكنهم لا يزالون يلبسون ما يشبه ملامح الأحياء.
إني لَأحسب أن هذا الشعب يطلب من الرجال أوساطهم إنه يطلب من الآراء والأخلاق مألوفها، إنه لا يريد الأصالة والامتياز الواضح، فلن تصادف في نفسه الرضا إلا إذا كنت شبيهًا بعامته.»
لا ينبغي أن تعلِّموا الناشئة احترام القانون بقدر ما يجب أن تعلِّموهم احترام الحق … إن النتيجة الطبيعية لاحترام القانون بغير ما موجب هي أن ترى هذه الصفوف من الضباط والجنود تسير في نظامٍ عجيبٍ فوق السهل والجبل إلى حومات القتال رغم إرادتهم، نعم ورغم إدراكهم الفطري السليم، ورغم ما تمليه عليهم الضمائر، وذلك يجعل سيرهم هذا شاقًّا عسيرًا أشد ما يكون العسر والشقاء، إنه سير تلهث منه القلوب.»
هكذا كان يكتب «ثورو» فتجيء كتابته قبسات من قلبه الحساس، ومدار تفكيره — كما ترى — هو أن للفرد حقَّ الثورة على الدولة، وله أن يمارس هذا الحق حيثما وقع من الدولة ما ينفر منه ضميره، إن حق الثورة لم يزُل بزوال الثورة الاستقلالية التي قام بها الأمريكيون جماعة في القرن الثامن عشر، إنه حق يظل قائمًا أبدًا، والعجيب أن «ثورو» في ثورته الفردية هذه على الدولة التي قال عنها إنها أجحفت وضلَّت السبيل، لم يكن صادرًا عن أذى لحق بشخصه أو ظلم أحاق بصالحٍ من صوالحه، إنما كانت ثورته لما لحق غيره من صنوف الإجحاف، كانت ثورته في سبيل غيره، كالزنوج العبيد، وكالهنود سكان البلاد الأصليين، وإذن فالأذى قد أحسَّه هو في لذع ضميره، كأنما هو لا يقصر واجب مقاومة الفرد لحكومته على الأمور التي تمس مصالح ذلك الفرد مسًّا مباشرًا، بل يوسع من مداه، ويجعل المقاومة واجبةً حيثما وقع من الحكومة طغيان، بغض النظر عمَّن نال منه ذلك الطغيان، وربما كانت المقاومة أوجب إذا ما نزل الطغيان ببلدٍ أجنبي وقوم غرباء.
ليس حق الفرد في الثورة على حكومته بقاصرٍ على المقاومة الإيجابية، بل هو كذلك في المقاومة السلبية، في رفض الولاء للحكومة، فإذا حفزك ضميرك إلى الخروج على طاعة حكومتك، فلا يتحتم عليك أن تنتظر حتى يوافقك جيرانك على موقفك لتتكون منكم أغلبية تستطيع بقوتها أن تسقط الحكومة، بل عليك بالبدء بنفسك، ففيم انتظارك من يؤيدونك من الناس إذا كان الله — متمثلًا في صوت ضميرك — إلى جانبك يؤيدك؟ هذا إلى أنه إذا كان الصواب في جانبك، فصواب واحد هو الأغلبية بالقياس إلى الكثرة المخطئة، لا عجب أن تُصبح رسالة «ثورو» في العصيان المدني من الكتب الرئيسية التي أعجب بها المهاتما غاندي حين أعلن مثل هذا العصيان في الهند على حكومة المستعمر.
إن تطور التاريخ السياسي لَيشهد في جلاءٍ على أن الفرد يزداد وزنًا وأهمية، فمن الملكية المطلقة المستبدة التي تغرق الأفراد في طغيانها إغراقًا، تقدَّمت المدنية نحو ملكية مقيدة بإرادة الأفراد، ثم إلى ديمقراطية جمهورية كالتي كانت قائمة في الولايات المتحدة عندما كتب «ثورو»، لكن هذه الخطوة الأخيرة — على تقدُّمها في نظام الحكم والاعتراف بقيمة الفرد — لم تكن تُشبع «ثورو» ولا تحقِّق له مثله الأعلى، إنما المثل الأعلى هو الذي يجعل كل فرد سيادة مستقلة، في مستطاعه أن ينشق عليها فلا يتدخل في أمورها، ولا هي تحرجه وتضيق عليه حر المسالك، وكلما ازداد عدد هؤلاء الأفراد الذين يستقلون عن الحكومة، ويحسنون التصرف نحو جيرانهم من تلقاء أنفسهم وبغير إلزامٍ من القانون يزداد الطريق تمهيدًا نحو تحقيق المثل الأعلى الذي هو زوال الحكومة زوالًا تامًّا.
وفيم حاجة الفرد إلى دولةٍ ترعاه؟ ماذا عساها أن تعطيَه مما ليس عنده؟ أليس أعز ما يملك الإنسان هو روحه؟ ثم أليس الروح ملكًا خاصًّا لا تضيف إليه الدولة شيئًا، ولا تستطيع أن تنتقص منه شيئًا؟ الروح المستقل بذاته لا يخشى على نفسه خطرًا؛ وبالتالي فهو لا يحس الحاجة إلى دولة تقيه الخطر، إن مثل هذه الحرية الروحية تنبع من النفس، ولا تأتي من الخارج، إنها صناعة الفرد نفسه وليست هي بما يحتاج إلى جماعةٍ ليتم تكوينها، إن كانت حاجتي إلى الدولة هي أن تيسر لي العمل والتجارة، فتلك حسنة لا أبيع حريتي واستقلالي في سبيلها، إن من يطيع الدولة الظالمة من أجل حسناتها المادية عبد رقيق يبيع روحه بمال وسلعة، أمن الحكمة أن أنتظر المشرعين في دور الحكومة في العاصمة أن يسنوا لي شريعة حياتي وحريتي مع أنهم هم العبيد الذين اشتروا الضلال بالهدى إذا اشتروا المناصب والمراكز بالأنفس والأرواح؟ كلا، فأنا المشرِّع لنفسي، ولا مشرِّع لها سواي.
هكذا لبثت الفردية الاستقلالية تدفع «ثورو» حتى انعزل بها عن الناس انعزالًا، فظنه الناس حالمًا شذ برأيه عن مألوف المجتمع، ولو استثنينا مقالته عن العصيان المدني، لكانت بقية كتابته أبعد ما تكون الكتابة عن التنسيق والتبويب، إنه لَينثر أفكاره نثرًا حسب ورودها على خاطره، ومع ذلك فقد أدلى بالرأي الناضج فيما يشغل المفكرين في يومه — وإلى يومنا — من أمهات المسائل، وجاءت مذكراته تلك التي كتبها متناثرةً على مدى اثنين وعشرين عامًا، من الغزارة بحيث امتلأ بها أربعة عشر مجلدًا، فيها ما يشتهي القارئ من رأيٍ وحكمة؛ فيها رأيه في الطبيعة وما يدبرها من عقلٍ حكيم، ورأيه في الزمن وتغير الأشياء، وفي المعرفة مصدرها وحدودها، وفي الجمال والفن، وفي الحق والباطل، وفي الخيال والواقع، وفي مشكلة الأخلاق وحرية الإرادة وجبرها، وفي العواطف الإنسانية وما تؤدي إليه من خيرٍ وشر، وفي المجتمع والدين، وفي القانون والعدالة، وفي الحياة والموت والآخرة.
ولكن أنى لهذا الشاعر الفيلسوف تلك الثروة الفكرية الغزيرة؟ إنه لم يستمدها من الكتب، ولم يستعبد نفسه لشخصيات الأعلام من السالفين، نعم لقد طالع الأدب اليوناني والروماني وقرأ الشعراء الإنجليز، فضلًا عما عرفه من معاصره وصديقه وأستاذه «إمرسن»، ولكن أين يقع هذا كله مما أنتج؟ إن مصدره الأول الأعظم هو سفر الكون العظيم، هو هذا الريف الجميل الذي كان له فتنة وسحرًا؛ فقد أراد أن يتعقَّب سر الوجود في خِدْره ومكمنه، إن هذه الكائنات من حوله لأنغام لأنشودة خافية عن الآذان، سافرة لذوي الشعور الحي الملتهب، فليقصد إلى هذا النشيد في مصدره ومبعثه، لقد خلبه جمال الحياة وسرها، حزنها وسرورها، جهلها وحكمتها، خيرها وشرها، حياتها وموتها، فهو عليل هدَّه المرض، ولكنه مع ذلك يأبى أن يؤمن بما ينتظره من فناء، وكيف يفنى وهو الذي علمه التأمل في خلق السموات والأرض أنه جزء من تلك القوة الروحية العليا التي خلقت العالم وأبدعته؟
وههنا نضع إصبعنا على محور فلسفته ولباب فكره، كما أنه محور الفلسفة المثالية كلها متمثلة في معاصريه من زملائه، فهذه الظواهر التي تدركها الحواس رموز تصيح بأن وراءها قوة فعالة مدبرة، والوسيلة إلى إدراكها هي الحدس أو العيان الروحي المباشر، فلئن كان العلم بمشاهداته وتجاربه يحصر نفسه في الظواهر واطرادها، فالفلسفة والشعر ينفذان خلال الظواهر بقوة الحدس، فيريان الحقيقة العليا الواحدة الأزلية الأبدية، ماذا يريد العلم حين يعالج ظواهر الوجود؟ يريد شيئًا واحدًا، ما يزال — ولن يزال إلى آخر الأبد — يجد في تحصيله، وذاك أن يصف اطراد الظواهر ليصوغ قوانين اطرادها، إن العلم لَيسأل: كيف يحدث هذا الذي أرى؟ ثم ينطلق باحثًا عن جواب ما سأل، أما إن أردت أن تعرف «لماذا» يقع في الطبيعة ما يقع فسل غير العلم والعلماء، سل الفيلسوف أو الشاعر «لماذا» يُجِبْك الشاعر أو الفيلسوف، قل للعلم: ما الإنسان، ولم كان؟ يزعم لك أن الإنسان آلةٌ من مادةٍ تسيرها مؤثرات البيئة فتسير، أما الفلسفة المثالية، وإن شئت فقل الشعور الفياض والحدس الصافي — كما تراهما في «إمرسن» وفي «ثورو» — فترى أن وراء هذه الظواهر التي يقف عندها العلم، قوة عليا توجه ما في الكون من مادة وطاقة إلى ما ينبغي لها أن تكون.
إن «ثورو» — مثل «إمرسن» — يرى أن الحياة بكل ضروبها تسيرها نواميس معلومة مرسومة تشمل بسلطانها كل شيء، ولكنه يأبى أن يصف تلك النواميس بالآلية العمياء؛ لأنه يؤمن أنها شاعرة بما تفعل، ويشرف على فعلها قوة عليا تسع كل موجود في الوجود، فليست تلك القوة خالقة لما في الكون وكفى، بل إنها لا تنفك مدبرةً له ومنظمة.
لقد أخذ «ثورو» يجوس خلال الطبيعة ويجوب أنحاءها، إن الإنسان تربطه بسائر الطبيعة أوثق الصلات، فلئن كان هذا الإنسان جزءًا من بناء اجتماعي فما ذلك من حقيقة حياته سوى عرضٍ تافه، وأما لباب حقيقته فهو أنه جزء من الطبيعة بأوسع معانيها، أليس الإنسان وليد الأرض؟ ألَا يأكل ما تُهيئه الأرض من لحمٍ وخضر؟ ألَا يسكن شطآن الأنهار ويسبح بسفائنه فوق متون البحار؟ ألا يستضيء بالشمس ويتنفَّس الهواء، ويحدق بنظره في السماء ونجومها؟ إنه إذًا عضو في هذا الكون الفسيح، إنه جزء من الطبيعة لا يتجزَّأ.
وإذا كان الإنسان أخًا لهذا النبات والحيوان وسائر ما في الوجود من كائنات، فلماذا لا يسعد في حياته كما تسعد؟ إن «ثورو» متفائل يحب أن يرى الأشياء كما هي، فهي على هذه الصورة القائمة جميلة كفيلة بإسعاد الناس لو شاء الناس لأنفسهم السعادة، فلا تنفق حياتك انتظارًا للجزاء، لا تنظرن إلى الحياة جهادًا مضنيًا وعبئًا ثقيلًا، بل استمتع بها ففيها سحر وفتنة وجمال، إن الحيوان والنبات سعيد حين يقوم بما يقيم له الحياة، فهو سعيد حين يغتذي، وسعيد حين ينمو، وسعيد حين يحس، فماذا يمنع الإنسان أن يسعد بوظائف الحياة في نفسه؟ ماذا يمنعه أن يسعد بغرائزه حين يُشبعها، وبحواسه حين يتملَّى بها روائع الوجود؟ ولكن «ثورو» يجيل البصر في الناس من حوله، فتشيع في نفسه الحسرة والأسى، إن هؤلاء الناس لتضل بهم السبيل حين ينشدون السعادة لأنفسهم، إنهم يبحثون عنها في الثروة العريضة والطعام الغزير، إنهم يطلبونها في أسباب الراحة والخمول، فهم — إذن — يبحثون عن السعادة فيما يعطل الحياة ويعوقها، فوالله لقد فشل المسعى وخاب الرجاء، فيأيها الإنسان احتذِ النبات والحيوان إن أردت عيشًا رغيدًا، أشبع غريزة الجوع بالقوت، ولكن لا تسرف، وتدثَّر بالثياب، ولكن لا تكثر، واتخذ لنفسك المأوى، ولكن لا تُغال ولا تبالغ.
يقول «ثورو» في الطبيعة العاقلة ما يلي:
«ما أسرع ما تُصلح الطبيعة ما يحدثه الإنسان فيها من عطب، إن جذَّ الإنسان شجرةً وخلفها جذعًا داميًا سارعت الطبيعة إلى نجدتها بكل ما لها من فنون الكيمياء، لتستر ذلك الجذع الأبتر في رفقٍ بثوبٍ جديد، وما تزال بها تضيف إليها اللفائف الخضراء، حتى تعود آية تفتن عشاق الطبيعة من جديد.
إن هذه الأرض التي أطؤها بأقدامي ليست كتلة من جماد موات، إنها جسد له روح، إنها كائن حي … إن للطبيعة أمعاءها، إنها أم الإنسانية، أبذر فيها البذور تترعرع نباتًا، إن الطبيعة تبذل جهدها لتطعم الإنسان، إنها تطعم العقل والجسم جميعًا فتغذو الخيال كما تغذي الجسد … إنها ليست جميلة في عين الشاعر وحده، وليس الرائع من آياتها غروب الشمس وقوس قزح وكفى، بل لأن تطعم وتلبس الثياب، وتأوي إلى مأواك، وتصطلي دفء المدفأة، كل ذلك آيات روائع وبواعث على الإلهام.
هكذا نرى «ثورو» عميقًا في روحانيته وتديُّنه، ومع ذلك فلم يبلغ أحد ما بلغه «ثورو» من مهاجمة الكنيسة ونظمها وتقاليدها؛ لأن الروح — في اعتقاده — تختنق في جو النظام والتدريب، إنه مسيحي بتقديره الخالص لما في حياة المسيح من جمالٍ وكمال، عقيدته لا تحتاج إلى لاهوت وكهنوت، فحسب المؤمن أن يتبصَّر في السماء وألَّا يقيم الحواجز الحائلة بين بصره وبين السماء، وما المذاهب الدينية المختلفة إلا هذه الحوائل التي تعوق وصول الإنسان إلى ربه، المسيحي الصحيح النفس لا يريد كنيسة يرتادها، بل ينهض بفرديته كما فعل المسيح، وما حاجة السليم المعافَى إلى كنيسةٍ هي بمثابة المستشفى لأرواح المرضى؟ إنها — كمستشفيات الأجساد — مليئة بالتدجيل والخداع، إنه ينظر إلى مرتادي الكنائس نظرته إلى من اعتلَّ واسترخى، ولم يعد يؤدي عملًا مفيدًا، حتى ليعد الكنائس مهربًا للفارين من وجه الحياة النشيطة العاملة، ألا إن الفضائل كما يفهمها الناس لأبعد الأشياء عن الفضيلة بمعناها الدقيق، خذ الإحسان مثلًا؛ فنحن — في رأيه — حين نحسن إنما نهدم أنفسنا، ونهدم من نحسن إليهم على السواء؛ لأننا نهدر إنسانية من نعطيه إحسانًا حين نحول بينه وبين أن يكون إنسانًا كاملًا يعتمد على نفسه، ونهدر إنسانيتنا كذلك؛ لأننا نغذِّي في أنفسنا غريزة السيطرة حين نعطي الفقير، وهل تمتد يدك بالإحسان إلا مدفوعًا برغبةٍ خفيةٍ في أن تعلو غيرك وتسيطر عليه؟
لا بد لكل فرد — في رأي ثورو — أن يعمل كل يوم عملًا كبيرًا أو صغيرًا؛ لأن الترف والكسل معناهما الموت، وهذا العمل اليومي المحتوم على كل فرد عمل عضلي يساهم به في وسائل التعمير، وليس العمل الجسدي عنده بمقصور في نفعه على الجسد وحده، ولكنه وسيلة لتهذيب الفكر الذي يجب أن يبلغ به صاحبه منزلة يستطيع معها أن يندمج في الطبيعة … وتلك هي العبادة.
سبيل النجاة من هذه القيم الفاسدة كلها هو تقويم الفرد ليعيش حرًّا مستقلًّا، وإنه لناقم أشد النقمة على تربية الناس لأبنائهم فيما يسمونه بالمعاهد أو المدارس، وكلها معاول تقوض الفردية وتهدمها، بدل أن تقيمها وتبنيها، التربية في هذه المعاهد والمدارس — كما يقول «ثورو» — مهزلة وأضحوكة، وحسبك منها أنها لا تعلم أحدًا كيف يكسب قوته! إنها تحشو الرءوس بالآراء النظرية التي ابتكرها المجتمع، والتي لا تُسمن ولا تُغني من جوع، فلا حياة للإنسان إلا باستخدام حواسه وجسده، ولكن الناس مُمعنون في الخطأ، فتراهم ينشدون الإصلاح، ولكن أي إصلاحٍ يريدون؟ إنهم يسعون إلى الزيادة من ترف الإنسان وراحته، ولكنه يوجه السؤال إلى هؤلاء المصلحين: ما غناء الإصلاح في أسباب الحياة المادية إن ظلَّت نفس الإنسان على حالها؟ ماذا يفيدنا تغيير وجه الأرض إن لم نغير ما بأنفسنا حتى تعتدل عواطفنا وتستقيم؟ إنه ليستحيل على إصلاح مادي أن تقوم له قائمة إلا إن سبقه إصلاح فردي باطني، ولكنا نعود فنقول: إنك إن قوَّمت باطن الإنسان، فما أتفه ظواهر الحياة المادية بعد ذلك!