الفيلسوف يؤيد الشاعر
(١) «بوردن باركر باون»١ وتوكيد الذات الإنسانية
كان «إمرسن» وكان «ثورو» يعبران عن الاتجاه المثالي تعبير شاعر ينطق لسانه بما يخفق به قلبه، فيجيء القول فياضًا بالعاطفة جياشًا بالشعور، تقرأ لهما فتحس أنك إزاء لمعات من الضوء، وقبساتٍ من الإلهام، فعلى الرغم من أنهما كانا يصدران فيما ذهبا إليه عن أصول من الفلسفة المثالية انتقلت إليهما — وإلى معاصريهما في أمريكا — في الأعم الأغلب عن طريق ما كتبه الشعراء الإنجليز عندئذٍ — وبخاصة كولودچ — عن الفلاسفة المثاليين من الألمان، وعن هيجل بصفةٍ خاصة، أقول: إنه على الرغم من أن «إمرسن» و«ثورو» كانا يصدران عن أصول من الفلسفة الألمانية المثالية، إلا أنَّهما اكتفيا من تلك الفلسفة بما أوحت به إلى نفسيهما، ولم يدرساها دراسةً تفصيلية عميقة، كلا، ولا هما قد أخذا نفسيهما بكتابةٍ فلسفيةٍ منطقية تجعل من الفكر نسقًا مرتبط الأطراف متصل الأجزاء، أو — إن شئت — فقل إنهما تناولا الفلسفة كما يتناولها الهواة لا كما يتناولها المحترف، فكان لا بد أن تكمل الحركة الفلسفية المثالية بفلاسفة محترفين يضعون الفكرة المقصودة في الأسلوب الذي ألفته الفلسفة، وهو الأسلوب الذي يوجِّه الخطاب إلى العقل، ومنطقه لا إلى القلب ومشاعره.
والفلسفة المثالية — في اختصار — هي الفلسفة التي تحاول أن تبين أن أي شيءٍ يستحيل تصور وجوده إلا على صورة فكرية أو عقلية، أي إن الأشياء التي نظن أنها مادية وقائمة خارج عقولنا، إن هي في واقع الأمر إلا كائنات عقلية في رءوسنا، وكيف يمكن أن يكون الأمر غير ذلك ما دمتُ لا أستطيع لأي شيءٍ إدراكًا إلا بعد أن يتحوَّل إلى فكرةٍ في عقلي، وما دام قد تحول إلى فكرة فليس هو عندي بالشيء المادي مهما دلت ظواهر الأمر على غير ذلك، فالحق أن الفلسفة الحديثة كلها تدور حول هذه المشكلة، وهي: إذا كان الإنسان عقلًا وجسمًا، أو إذا كان الكون كله عقلًا ومادة، ثم إذا كان العقل والمادة مختلفين في طبيعتهما، فطبيعة العقل هي أن يفكر وطبيعة المادة هي أن تشغل حيزًا من مكان، فكيف يمكن للعقل أن يعرف المادة؟ كيف يمكن للعقل أن يعرف الأشياء؟ كيف تكون الصلة بينهما مع أنهما — كما رأيت — مختلفان اختلافًا بعيدًا؟ وفي الإجابة عن هذا السؤال تجد من الفلاسفة مَن يحاول أن يبقي لكل من العقل والمادة طبيعته، ثم يحاول أن يصل بينهما على نحوٍ ما، ومنهم من يحاول أن يحول أحدهما إلى طبيعة الآخر، فالماديون — من جهة — يقولون إن العقل في الحقيقة إن هو إلا المخ والجهاز العصبي، ولما كان هذان من مادة فالاتصال بينهما وبين الأشياء المادية الأخرى لا إشكال فيه، إذ الأمر كله لا يزيد على ذراتٍ ماديةٍ تتحرك في المكان، والمعرفة نفسها ليست إلا اهتزازات في ذرات المخ والجهاز العصبي، والمثاليون — من جهةٍ أخرى — على عكس ذلك، يحولون المادة إلى عقل؛ إذ يقولون إن ما نظنه مادة ممتدة هو في الحقيقة أفكار في عقول مدركيها، المثالية لا تنكر وجود الأشياء كما هو شائع عنها، بل تقرر وجودها، وغاية ما في الأمر أنها تجعل وجودها عقليًّا لا ماديًّا.
والمتدينون المؤمنون بوجود الله، والمرتفعون بقيمة الإنسان ومكانته في الكون، حريون أن يكونوا في فلسفتهم من المثاليين؛ لأنهم لا يريدون للعالم أن يكون كتلة من مادة بغير روح إلهي أعلى يحيط بكل شيءٍ علمًا، أي يجعل كل شيءٍ فكرة معلومة، ولا يريدون للإنسان أن يكون جسمًا كسائر الأجسام بغير عقلٍ يدرك به نفسه، ويدرك به الأشياء من حوله؛ ولذلك ترى الفلسفة المثالية أكثر شيوعًا وأقرب إلى القلوب من الفلسفة المادية العلمية، أو قل إنه كلما غمرت الإنسان موجة علمية تهتم بالمادة وظواهرها، كان الأرجح أن يتلوها رد فعل من فلسفةٍ مثاليةٍ تؤكد الروح — أو العقل — وأصالته في الكون عامة، وفي الإنسان خاصة، هكذا حدث في النصف الأول من القرن التاسع عشر، فبعد التطرُّف إبان القرن السابق له في التمسك بالعلوم الطبيعية وما يتفرَّع عنها، وفي الفلسفة التجريبية التي ترد علم الإنسان كله إلى أصول حسية جاءت من هذه الحاسة أو تلك، قامت موجة مثالية تعلي من شأن الروح الإلهي والروح الإنساني معًا، ثم لم يكد ينتصف القرن التاسع عشر حتى أخذت النزعة العلمية تظهر من جديد، متمثلةً في نظرية التطور التي تفسر الكون — لا بأنه من صنع خالقٍ خلقه دفعة واحدة، بل تفسره بتطوُّر ينمو به على مر الزمن، وتفسر الإنسان — لا بأنه كائن ذو مكانةٍ فريدةٍ في الكون إذا ما قيس إلى سائر الكائنات، بل تفسره بأنه حلقة من حلقات التطور لا يختلف عن سائر الحلقات إلا في ترتيب ظهوره، فكان حتمًا أن تنهض الفلسفة المثالية مرةً أخرى لتعود إلى توكيد الروح الإلهي والروح الإنساني معًا كما فعلت أول مرة، لكنها في المرة الأولى قد تعهدها هواة من الشعراء، وفي المرة الثانية تولَّاها محترفون من الفلاسفة، وإنه لَمما يلفت النظر أن ذلك بعينه ما حدث في إنجلترا أيضًا، ففي إنجلترا — كما في الولايات المتحدة — تتابعت موجتان من الفلسفة المثالية إبان القرن التاسع عشر، أولاهما في نصفه الأول، وثانيتهما في نصفه الثاني، وفي إنجلترا — كما في الولايات المتحدة — تعهد المثالية في المرة الأولى هواة من الشعراء، على رأسهم «كولردج» في إنجلترا، و«إمرسن» في الولايات المتحدة، وتولاها محترفون من أساتذة الفلسفة في المرة الثانية، أمثال «برادلي» و«جرين» في إنجلترا، و«باون» و«رويس» في الولايات المتحدة، وعن هذين سندير الحديث، أما «باون» فقد كانت النفس الإنسانية نقطة ارتكازه، وأما «رويس» فقد جعل الروح المطلق، أو الله، محور تفكيره.
التجريبية هي الصفة الغالبة على الفلسفة الإنجليزية منذ عصر النهضة الأوروبية حتى اليوم، فعلى الرغم من موجاتٍ مثاليةٍ تظهر في مجرى الفكر الإنجليزي هنا وهناك، إلا أن الكثرة العظمى من فلاسفة الإنجليز كانت تؤمن بالتجريبية، وبأن المعرفة مصدرها الحواس، والعلم أساسه المشاهدة والتجارب، هكذا كان «بيكن» و«لوك» و«هيوم» في القرنين السابع عشر والثامن عشر، ثم هكذا كان «مل» و«سبنسر» في القرن التاسع عشر، ولو سلمنا مع هذا الاتجاه التجريبي بأن معرفتنا بالعالم الخارجي قد جاءت إلينا عن طريق حواسنا، لنتج عن ذلك بالضرورة أن نسلم كذلك بأن المعرفة تأتينا مجزأة، ويتلقاها عقل قابل لا يسعه إلا أن يتلقى ما يعطى إليه كأنه آلة تصوير لا تملك سوى أن تصور ما يبعثه إلى لوحتها الشيء المصور، نعم إنه لو كانت الحواس وحدها هي مصدر علمي بالعالم الذي حولي، لكان علمي بالعالم، بل علمي بالشيء الواحد، سلسلة من إحساساتٍ يتبع بعضها بعضًا، فلست أعلم عن هذه المنضدة — مثلًا — إلا حالات متعاقبات، جاءت كل حالةٍ منها إلى حاستي، بصرًا كانت تلك الحاسة أو لمسًا أو غير ذلك، في لحظةٍ معينة، ثم أعقبتها الحالة التي تليها في اللحظة التي تليها وهكذا، وإذن فسيكون الأمر في معرفتي بالشيء، بل سيكون الأمر في معرفتي بنفسي، كالأمر في شريط السينما حين يصور الشيء الواحد في سلسلةٍ من الصور متعاقبة.
لكن ذلك التفكك في معرفتي بشيءٍ ما، إنما يأتي افتراضه من افتراض ألا عقل وراء الحواس يتلقى ما يجيء منها ليتناوله بالتنظيم والتجسيم — إن صح هذا التعبير — لو كانت حواسي وحدها هي التي تدرك البرتقالة التي أمامي — مثلًا — لاقتضى ذلك أن تكون البرتقالة في ذهني أشتاتًا من إحساسات: إحساس جاء عن طريق العين، وإحساس عن طريق اللسان، وثالث عن طريق الأنف، ورابع عن طريق اللمس وهكذا، لكن لا، ليس إدراكي للبرتقالة هو على هذا التفكك والتجزئة، فماذا يتناول الأشتات في داخلي ليضم بعضها إلى بعض، بحيث تتكون منها «برتقالة»؟ إنه عقلي الفاعل الذي لا يقف عند حدود القابلية لما يجيء إليه، بل هو نشيط فعال ينظم أجزاء الخبرة في تيارٍ واحدٍ متصل، شيء كهذا هو ما يقوله «باون»، مؤكدًا لوجود الذات الإنسانية باعتبارها كائنًا قائمًا بذاته، غير الحالات الحسية الواردة إليها من الخارج، وإذن فهنالك جانبان: الرسائل الواردة إلينا عن الأشياء المحيطة بنا، والنفس، أو الذات، أو العقل الذي ينظم هذه الرسائل في معرفةٍ متصلةٍ متماسكةٍ متسقة الأجزاء، ولم يزد «باون» في هذا القول عن عقيدة رجل الشارع حين يؤمن بأن له عقلًا غير المعطيات الحسية، وحين يؤمن كذلك أن هذه المعطيات الحسية — أو بمعنى آخر أفكارنا عن الأشياء الخارجية — إنما تشير إلى أصول لها في العالم الخارجي.
ولذلك فلا غرابة أن يطلق «باون» على فلسفته اسم «التجريبية المثالية»؛ لأنها في الحقيقة تؤكد الذات العارفة من جهة، لكنها تعتمد على الرسائل الحسية من جهةٍ أخرى، وهو ما يذكرنا طبعًا بفلسفة «كانت»، لولا أن «باون» يأخذ على «كانت» أنه حصر قدرة الذات العارفة على ظواهر الأشياء دون حقائقها في ذاتها، وذلك حد من قدرتها لا يرضي «باون»، فما ليس يقع في وعي ما، لا وجود له، وكل ما في الوجود من كائنات لا يخرج عن كونه إما ذاتًا عارفة أو فكرة معروفة للذات.
لكننا مع ذلك ترانا مدفوعين دفعًا إلى افتراض الوحدة الذاتية في الأشياء، فمن العسير على إدراكنا الفطري أن يعتقد بأن هذه المنضدة التي أمامي ليست هي منضدة الأمس، فما الذي يحملنا على الظن بأن الشيء يظل هو هو بعينه خلال التغيرات التي تطرأ عليه؟ يحملنا على ذلك ما نخلعه من أشخاصنا على الأشياء، ففي ذاتي وحدة تجعل من خبراتي الجزئية المفككة خبرة شخص واحد، فتراني أفترض في الشيء المادي الذي أدركه ما أراه في نفسي؛ ومن ثم يقول «باون» إنه خلال الذات يستطيع الإنسان أن يفهم الأشياء وترابطها، أرى في الأشياء فاعلية؛ لأنني أرى في ذاتي فاعلية فأعكسها على الأشياء، وأرى في الشيء الخارجي وحدة رغم تعدد ما يأتيني منه من انطباعاتٍ حسية؛ لأنني أرى في نفسي تلك الوحدة فأخلعها على الشيء الخارجي وهكذا.
ذات الإنسان الباطنية هي عالمه وهي نبراسه الذي يهتدي به في فهم الأشياء، فهي عالمه؛ لأنه يستحيل على الإنسان أن يعرف ما ليس في ذاته، وهي نبراسه؛ لأنه على مبادئ تكوينها يفهم تكوين الأشياء، لكن إذا كان ذلك كذلك، فهل نقول: إن أفراد الناس المختلفين جزر منفصل بعضها عن بعض، كلٌّ منهم محاط بجدران ذاته، ولا سبيل إلى ثغرةٍ ينفذ منها ليتصل بفردٍ آخر؟ لو كان الأمر كذلك لاستحال قيام المجتمع؛ لأن المجتمع أساسه أن يتصل الأفراد بعضهم ببعض، وإذن فنحن بين أمرين: فإما أن نعترف بعنصرية الذات الفردية وتكاملها واستقلالها، وبذلك نجعلها مغلقة على نفسها مستحيلة الاتصال بغيرها، وإما أن نقبل إمكان اتصال ذات بذات، وبذلك نحد من تكامل الذات وتفردها واستقلالها، ويواجه «باون» هذا الإشكال فيلتمس المخرج في القول بوجود ذات — أو روح أو عقل أو نفس — كلية كبرى، ما هذه الذوات الفردية الجزئية إلا أجزاء منها، وبهذا الفرض نحل مسألتين مشكلتين: الأولى أن نرد كثرة الأفراد إلى وحدة واحدة تجعل منهم حقيقة واحدة، والثانية أن نجعل اتصال الذات الفردية بغيرها ممكنًا لاشتراكها جميعًا في حقيقةٍ واحدةٍ شاملة، إن فاعلية الذات المفردة — ذاتي أو ذاتك — إما أن تكون داخلية كأن تصب تفكيرها على نفسها، أو أن تكون خارجية كأن تتصل بذات غيرها، وليست الفاعلية الداخلية بإشكال؛ لأن الذات عندئذٍ لا تجاوز حدود نفسها، وتظل محتفظة بفرديتها واستقلالها، لكن الإشكال هو في خروجها عن جدران نفسها للاتصال بغيرها، فها هنا يقول «باون» إن افتراض وجود الذات الكبرى — الله — التي نحن أجزاء منها يجعل هذا الذي نظنه اتصالًا خارجيًّا بين ذاتٍ وذات، يجعله فاعلية داخلية بالنسبة للذات الكبرى، وإذن فلو نظرنا إلى الذات الكبرى الشاملة على أنها الحقيقة لما قامت في وجهنا مشكلة خروج الذات عن نفسها كيف يكون، إن أفراد الناس يؤثر بعضهم في بعض، بل وقد يعارض بعضهم بعضًا، لكن هذا التضاد بينهم وهذا الانفصال وهذا التجزؤ يذوب كله في عنصرٍ واحد يحتويهم جميعًا، وما قد يبدو في عالم الجزئيات تضادًّا إن هو في حقيقة الأمر إلا اتساق لو نظر إليه من أعلى، نظرة ترى تفصيلات الوجود كلها دفعةً واحدة في كل واحد.
الكون كله — إذن — عقل واحد كبير، عقول الأفراد أجزاؤه، ولولا أننا نواجه بعقولنا الفردية عقلًا إذ نواجه الكون، لما أمكن أن ندرك فيما ندركه ارتباطًا منطقيًّا هو بعينه الارتباط الذي نراه قائمًا بين أفكارنا، أي إنه لو لم يكن الكون عقلًا، وكان من عنصر مختلف عن عنصر العقل لاستحال على العقل الإنساني أن يفهم ظواهره وأحداثه؛ إذ كيف له عندئذٍ أن يفهم ما ليس بينه وبينه شبه؟
انظر إلى جارك تجد جسمًا ماديًّا يتحرك وينطق ويسلك سلوكًا تراه بعينك فترى فيه نظامًا وتلمس له هدفًا وغاية، «فتستدل» من ذلك أن له عقلًا يحركه بهذا السلوك نحو تلك الغاية، إنك لم تشهد عقله بعينيك، لكنك تستدله استدلالًا مما ترى فيه من سلوكٍ وحركة، وهكذا قل في الكون بأسره: ترى فيه حركةً بين أجزائه، ثم ترى في الحركة نظامًا واتساقًا يهدفان إلى غاية، أفلا تستدل من ذلك أيضًا أن وراء هذا الجسم المادي الكبير عقلًا كبيرًا؟ لو أخذك في هذا العقل الإلهي شك، فحري بك كذلك أن تتشكك في عقل جارك؛ لأن طريقة الاستدلال في كلتا الحالتين سواء.
ولئن كان عقل الفرد الواحد قادرًا على إدراك جانبٍ من الكون إدراكًا يمكِّنه من فهمه، فالعقل الكلي قادر على إدراك الكون كله مثل هذا الإدراك، الكون كله نسق عقلي مرتبط الأجزاء، كل جزء يعتمد على سائر الأجزاء وهو في الوقت نفسه ضروري لها، ولكن الفرد الواحد من الناس لا يستطيع أن يرى النسق بأسره دفعةً واحدة، وإنما يستطيع ذلك العقل الكوني.
هكذا ترى أن مجرد تسليمك بوجود عقلك أنت، يؤدي بك حتمًا إلى التسليم بعقلٍ شاملٍ يحيط بالوجود كله؛ لأن كل جانبٍ صغيرٍ مما يدركه العقل الفردي دالٌّ على أن في هذا الجانب اتساقًا عقليًّا، وفي ذلك إشارة إلى أنه لو رُئِيَت الجوانب كلها معًا لتبين أيضًا ما بينها من اتساقٍ عقلي، لكن رؤيتها معًا تتطلب عقلًا أزليًّا أبديًّا؛ لأنها لانهائية بغير حدود، وإذن فلا بد أن يكون هنالك ذلك العقل الأزلي الأبدي العليم بكل شيء، وعلى هذا النحو نفسه تستطيع أن تقيم البرهان على أن الذات الإلهية الكبرى ليست علمًا مطلقًا فحسب، بل هي كذلك خير مطلق وجمال مطلق، استدلالًا من الخير الجزئي والجمال الجزئي اللذين يدركهما الفرد في نفسه؛ لأنه إذا كان علم الإنسان الجزئي بأحد جوانب الكون دليلًا على وجود حق يشمل الكون كله، فميل الإنسان إلى الخير الجزئي المحدود بحدود فرديته، وحبه للجمال الجزئي المقيد بقيود خبرته، يشيران إلى خيرٍ مطلق يسعى إليه الكون كله، وإلى جمالٍ مطلق سابغ على الكون كله.
(٢) «جوزيا رويس»٣ والمثالية المطلقة
إن الإنسان لَيعتمد في ذاته الشاعرة على الذاكرة وعلى الخيال، لكي يجعل من تلك الذات كائنًا واحدًا رغم تعدُّد خبراتها، فلولا الذاكرة لما استطاع الإنسان أن يحتفظ بشيءٍ من ماضيه، ولا نحصر وجوده الشعوري في إدراك اللحظة الحاضرة الراهنة، ولما كان الإدراك الراهن يتغيَّر لحظة بعد لحظة؛ فهو إذن — لو اقتصر على الإدراك الحاضر وحده — إنسان جديد في كل لحظةٍ زمنية، ولا يكون بين حالاته المتتابعة خيط يربطها، يربط الماضي بالحاضر، ليكوِّن من السلسلة إنسانًا واحدًا بعينه وذاته، كذلك إذا لم يستطع الإنسان أن يفرِّق بين ما يتخيله وبين إدراكه الحسي الحاضر لاستحال عليه الإدراك والسلوك؛ إذ لو كان لا فرق عندي بين غرفة — مثلًا — أتخيَّلها وغرفة أراها فعلًا وأجلس فيها، لما عرفت كيف أتصرَّف إزاء الأشياء تصرفًا يحفظ لي ذاتيتي العاقلة، فلولا القدرة على التخيل لانحصر الإنسان في لحظته الراهنة — كما هي الحال في الذاكرة — فأنا أدرك ما أدركه الآن من أشياء العالم الخارجي، ثم أدَّخره بالذاكرة، ثم أستعيده تخيلًا، وبذلك تتكون خبرتي على مر الأيام، وبغير ادخار الخبرة الماضية واستعادتها تخيلًا، لما زادت معرفة الإنسان عما يراه في اللحظة الراهنة وحدها.
لكن هذه الذاكرة وهذا الخيال — وضرورتهما للحياة العقلية ضرورة محتومة كما رأيت — يجاوزان الحس الراهن، وبذلك تتكون في الشيء الذي أدركه إدراكًا حسيًّا وحدة ما كانت لتتكون لولاهما، فلولا أنني بالذاكرة احتفظت بصورة مكتبي هذا كما رأيته أمس، وبالخيال أتصور هذا الذي رأيته، لما استطعت حين أرى مكتبي نفسه الآن أن أقول: إنه هو هو الشيء الذي رأيته بالأمس، وبفضل الذاكرة والخيال أيضًا تتكون وحدة الذات العارفة — كما تكوَّنت وحدة الشيء المعروف — لأنه لولاهما أيضًا لكان إدراك كل لحظةٍ زمنية قائمًا وحده لا يرتبط بإدراك الماضي، وبذلك ينفرط عقد الخبرة، بل لا يبقى منها أبدًا إلا حالة واحدة، هي حالة اللحظة الراهنة، ولنا أن نسأل الآن: ما طبيعة هذا الرباط الذي يربط ذاتي العارفة الشاعرة في وحدةٍ واحدة، ويربط الشيء المعروف كذلك في وحدةٍ واحدة؟ أهو كائن داخلي غيبي قائم في جوفي؟ كلا، هكذا يجيب «رويس»، إنما هو نوع من العلاقات بين أجزاء الخبرة، يجعلها إذا ما ارتبطت على هذا النحو، ذاتًا شاعرةً بذاتيتها ووحدتها واتصال وجودها.
هذه العلاقات نفسها التي تصل أجزاء الخبرة بعضها ببعض بحيث تجعل منها نسقًا واحدًا هي ما نسمِّيه في الإنسان الفرد بالذات أو العقل أو الروح، ولأضرب مثلًا يوضِّح الفكرة للقارئ، فأقول: إذا رصصت كرات صغيرة من الحجر على هيئة دائرة، ثم سألت نفسك: ما الذي جعل من هذه الكرات الكثيرة دائرة؟ أهناك — إلى جانب الأحجار — دائرة، أم أن الدائرة هي نفسها الكرات، تكونت حين ارتبطت الكرات بعلاقات من طرازٍ معين؟ هكذا قل في «الذات»، فليست هي شيئًا مستقلًّا عن أجزاء الخبرة التي تأتي فرادى، بل هي العلاقات التي ترتبط بها تلك الأجزاء على صورةٍ معينةٍ؛ بحيث يتألف منها نسق فريد يكون من طبيعته أن يشعر بنفسه، وليس الأمر في هذا مقصورًا على ذات الإنسان الفرد، بل هو كذلك الأمر في الذات المطلقة — أو الله — فالله ذات أو عقل أو روح؛ لأن هنالك بين عناصر الكون الأكبر علاقات من نفس الطراز، تجعل ذلك الكون الأكبر وحدة واحدة شاعرةً بنفسها، فالنسبة بين كل فرد منا وبين الذات المطلقة هي نفسها النسبة بين خبرة اللحظة الواحدة في حياة الفرد الواحد، وبين مجموعة خبراته التي يتصل بعضها ببعض على نحوٍ يجعل منها ذاتًا واحدة، الكون كله عقل واحد كبير شامل؛ لأن أجزاءه تكوِّن نسقًا، كما أن الإنسان الفرد ذات واحدة؛ لأن أجزاء خبرته تكوِّن نسقًا، وكما أن الذات الإنسانية هي على هذا الاعتبار «مجتمع» من أجزاء مرتبطة على هذه الصورة النسقية الفريدة، فكذلك الله «مجتمع» قوامه أجزاء الكون كلها، وقد اتسقت أيضًا على نمطٍ فريد.
وقد كان هذا الاتساق بين إرادات الأفراد ليستحيل لولا أن بينها أصلًا مشتركًا ووحدة تجمعها، وإذن فلا بد لك من «بصيرةٍ أخلاقية» تنفذ بها إلى صميم الإرادة لترى ما طبيعتها التي تجعل مختلف الإرادات أشباهًا، وعلى ذلك فالحياة الأخلاقية لا تكتمل إلا بهذه «البصيرة الأخلاقية» جنبًا إلى جنب مع المبدأ الذي أسلفنا ذكره، إنه محالٌ عليَّ أن أنفذ هذا المبدأ الذي يقتضيني أن أوفق بين إرادتي وإرادة جاري بحيث أجعل منهما إرادة واحدة، إلا إذا كانت لديَّ القدرة على إدراك العنصر المشترك بين الإرادتين لأستبقيه وأحذف عناصر الاختلاف، وإدراك العنصر المشترك بين الإرادات إنما يكون بما يسميه «رويس» بالبصيرة الأخلاقية، والبصيرة الأخلاقية عند الناس تتفاوت قوةً وضعفًا، فإذا ما بلغت درجة الكمال في نفاذها وقوة إدراكها كانت هي البصيرة الأخلاقية التي يتصف بها الله، والتي بواسطتها ينسق مختلف الإرادات في العالم كله دفعةً واحدة ليكون منه عالم واحد ذو هدفٍ واحد، فما قد يراه الإنسان المحدود تضاربًا في اتجاهات أجزاء العالم، هو في الحقيقة اتساق من وجهة نظر الله الذي يرى كل شيء بلمحةٍ من بصيرته الأخلاقية، فيجعل من كل شيءٍ وجودًا واحدًا وحياةً واحدة.
ولا بأس — بناءً على هذه الوجهة للنظر — في أن تختلف جماعات البشر في قواعدها الأخلاقية ما دمنا في النهاية نستطيع أن نضع تلك المختلفات في نسقٍ واحد، كما تساق الألحان المختلفة في نغمٍ واحد، وهكذا يقف «رويس» في «الأخلاق» موقفًا وسطًا بين مذهبين كانا دائمًا على طرفي نقيض؛ فقد كان الفلاسفة ينقسمون فريقين إزاء «الأخلاق» ماذا يكون أساسها؟ أتكون مطلقة؛ بحيث تصلح لكل إنسان في كل مكانٍ وزمان، أم تكون نسبية؛ بحيث يصلح لفريقٍ ما لا يصلح لفريقٍ آخر؟ ويمكن وضع هذا الاختلاف نفسه في صورةٍ أخرى فنقول: أيكون مدار الأخلاق على أداء الواجب الذي يقتضيه المبدأ الثابت الذي لا يتغير، مهما تكن الظروف، ومهما تكن النتائج، أم يكون مدارها على النتائج المترتبة على الفعل، فما تترتب عليه السعادة يكون فضيلة، وما يترتب عليه الشقاء يكون رذيلة؟ هاتان هما وجهتا النظر الأساسيتان في فلسفة الأخلاق، فاستطاع «رويس» أن يوفق بينهما، فالأخلاق مطلقة ونسبية في آنٍ واحد؛ لأن الفرد أو الجماعة قد تتصرف وفق ما تقتضيه ظروفها — وهذه هي النسبية — كل على شرط أن يتكون من مختلف الإرادات ومتضارب الاتجاهات والرغبات كل متسق تتكون منه حياة كونية واحدة — وهذه هي الناحية المطلقة — كذلك استطاع «رويس» أن يوفق بين أن يكون أساس الأخلاق هو طاعة المبدأ، وأن يكون أساسها هو النظر إلى النتائج، بأن جعل الفرد الواحد أو الجماعة الواحدة تتصرف على مبدأ أخلاقي تصرفًا يجعل نتائج ذلك التصرف عند الأفراد المختلفين أو الجماعات المختلفة متسقة غير متضاربة، كأنما الكل كائن واحد.
ومن البحث في «الأخلاق» وكيف ينبغي للإنسان أن يسلك، ينتقل «رويس» إلى الجزء الثاني من بحثه، وهو «المعرفة» ها هنا يهتدي الفيلسوف بمبدأ في وجوب الشك؛ لكي يبلغ اليقين، فعلى الرغم من أن الدين هو موضوع بحثه، فهو لا يرى مانعًا، لا بل يراه واجبًا أن يلجأ إلى منهج الشك، فنحن بالشك لا ننقض الحق في ذاته، وإن كنا ننقد ما يعتقد الناس أنه الحق، أعني أننا ننقد أفكارنا نقدًا يميز صحيحها من باطلها، ولعل أهم طابع يميز التفكير الفلسفي هو أن تشك حتى يدفعك الشك إلى آخر مداه، وإذا بهذا الشك نفسه يلد لك اليقين المنشود.
ومن البراهين التي يسوقها «رويس» على مثاليته، يسوقها ليؤيد بها أن العالم عقل مطلق، ونحن الأفراد بعقولنا أجزاء من ذلك العقل المطلق المشترك بيننا، أقول: إن من براهينه على ذلك برهانًا قويًّا رغم سهولته، فأولًا كيف أعرف أن ما أمامي الآن منضدة؟ إني أعرف ذلك — كما أسلفنا القول — بإدراكي الحسي الحاضر مضافًا إليه إدراكاتي السابقة التي احتفظت بها في الذاكرة، والتي أستطيع استعادتها وتصورها تخيلًا؛ أي إنني حين أعرف أن هذه منضدة لا أعتمد فقط على إدراك اللحظة الحاضرة، بل لا بد من مجاوزتها إلى خبرة الماضي أستعين بها لأعرف ماذا أمامي، وإلا فلو اكتفيت بإدراكي الحسي الحاضر وحده لما كان هنالك فرق بيني وبين الطفل الرضيع، وهو ينظر إلى المنضدة، ولا يعرف ماذا يرى، وإذن فلا بد من الاستعانة في إدراكي للأشياء بالمحصول المدخر في نفسي من خبرات الماضي، فافرض أنني وإياك قد نظرنا إلى منضدةٍ بعينها، واختلفنا على شيءٍ فيها، كأن نختلف — مثلًا — على نوع الخشب الذي صنعت منه، أما أنا فأقول إنها من خشب الزان، وأما أنت فتقول: إنها من خشب البلوط، فكلٌّ منا إنما يستمد حكمه من خبراته الماضية، أي يستمده من داخل نفسه، من حصيلته الفكرية التي لا يراها أحد في الدنيا سواه، وإذن فنحن إذ نختلف فيما بيننا، إنما نقيم اختلافنا على أساس أن هنالك — خارج عقلك وعقلي — حقيقة موضوعية، هي المنضدة ذات الطبيعة المعينة، لكننا يستحيل أن نلتقي على موضوع مناقشتنا إذا لبث كلٌّ منا مقتصرًا على عقله الفردي وحده؛ لأن كلًّا منا عندئذٍ سيكون بمثابة المغلق على نفسه بين جدران برجه، ولا سبيل إلى الالتقاء بين المتناقشين، إذن لا بد أن تكون المنضدة الخارجية وأنت وأنا جميعًا أجزاء من شيءٍ واحدٍ يحتوينا، وبذلك يمكن لنا أن نلتقي معًا على موضوعٍ لا هو جزء من عقلك ولا جزء من عقلي، فنحن الثلاثة فكرات في عقل مطلق، وعندئذٍ تكون المنضدة في حقيقتها الموضوعية فكرة في العقل المطلق، يمكن لي ولك أن نصحح عليها أفكارنا عنها.
ويميز «رويس» بين نوعين من المعرفة؛ المعرفة بالإدراك المباشر، والمعرفة بالوصف، فأنا أعرف بياض الورقة التي أمامي بإدراكي المباشر لها، وأحس الألم في ضرسي بإدراكي المباشر له، وهكذا أحس جمال الشيء الجميل كما أدرك الخير في الفعل الفاضل، وأما المعرفة بالوصف فهي تلك التي نعبِّر عنها بكلمات اللغة وعباراتها، إن المعرفة بالإدراك المباشر محال نقلها من شخصٍ إلى شخص، إذ كيف يمكنك أن تنقل إليَّ ألمًا تحسه، أو جمالًا تراه، أو لونًا ينطبع على شبكية عينك أو ضغطة على أصابعك؟ فماذا تصنع لو أردت أن تنقل إليَّ خبراتك هذه؟ إنك عندئذٍ تلجأ إلى كلماتٍ تقولها، لكن الكلمات ليست هي إحساسك المباشر، وإذن فالمنقول إليَّ منك ليس هو خبرتك المباشرة كما خبرتها، بل رموز لفظية تشير إليها، وتدل عليها فقط، حاول مثلًا أن تنقل إلى من تتحدث إليه، خبرتك المباشرة عن صديقٍ تحبه، فماذا في وسعك سوى أن تمضي في وصفه جهد استطاعتك، فتذكر له طوله ووزنه وعمره ولون بشرته، وطريقة نطقه بالكلام، وطريقة مشيته، وتناوله الطعام، وأنواع الثياب التي يرتديها وهكذا وهكذا، لكن يستحيل أن تستنفد هذه «الأوصاف» صديقك، بل سيظل في نفسك منه جوهره وصميمه، سيبقى في نفسك منه ذلك الجزء الذي جعله عزيزًا لديك، وجعله فردًا متميزًا بطبيعته، سيبقى ذلك الجزء مستحيلًا على الوصف بالكلمات.
وهكذا قل في سائر المدركات، فلكي يتبادل الناس المعارف بينهم، تراهم يلجئون إلى وصف ما يمكن وصفه مما يعلمونه، على أن يبقى دائمًا في نفوسهم مما يعلمونه جزء، هو إدراكهم المباشر الذي يحسونه من الشيء موضوع علمهم، دون أن يستطيعوا نقله إلى سواهم. يختار الناس في تبادلهم العلم بالأشياء، جوانبها التي يمكن قياسها، ويمكن وصفها، ومن ذلك يتكوَّن «علم» بالعالم من هذه الجوانب الممكنة الوصف وحدها، لكنه بالبداهة «علم» مجرد، جردناه من الأشياء، ولم نستنفد به الأشياء من كل أقطارها ونواحيها، لقد جردنا من الأشياء بعض جوانبها، وتركنا في أنفسنا منها جوانب، جردنا منها «الظواهر» التي تخضع للعدد وللقياس وللوصف وللتحقيق بالمشاهدات العلمية والتجارب، ولا بأس في ذلك على شرط ألَّا ننسى أبدًا أن هذا الذي نقوله عن الأشياء بعضنا لبعض إنما يمس ظواهرها التي يمكن وصفها، ولا يتناول البتة صميمها ولبابها وجوهرها، فكل ذلك يقع في النفس وقوعًا مباشرًا، ونقله محال، والعلوم الطبيعية على اختلافها من هذا النوع من المعرفة الذي يتناول من الأشياء ما يوصف ويترك منها ما يستحيل نقله؛ ولذلك فهي تتناول من الأشياء ظواهرها التي يمكن تصنيفها وقياسها ومشاهدتها وإجراء التجارب عليها.
نعم إن عالم الوصف — وهو العالم الذي تجعله العلوم موضوع بحثها — عالم حقيقي واقع، وليس وهمًا ولا خداعًا، لكنه مع ذلك ليس هو كل الحق، بل ليس هو أهم جانب من جوانب الحق؛ إذ هناك إلى جواره جانب آخر، هو الجانب الذي نتلقاه في أنفسنا بإدراكنا المباشر، ويستحيل علينا نقله بالعبارات اللغوية، فكما قلنا في مثال صديقك الذي تحبه وتعزُّه، إذا ما أردت «وصفه» للآخرين، فلن يسعك إلا الوقوف منه عند الجوانب التي يمكن وصفها، وأما «شعورك» بمنزلته في «نفسك» فشيء سيظل إلى الأبد ملكًا لك محال أن يشترك معك فيه أحد آخر، وهكذا قل في كل شيء، فاللون الأخضر الذي ينطبع على عيني عند رؤية الشجرة لا يمكن نقله إلى سواي؛ لأنه إدراك مباشر، وكل ما أستطيعه في علم الطبيعة إزاءه هو أن أقيس موجته الضوئية التي منها يتكون انطباعي الحسي باللون الأخضر، لكن طول الموجة الضوئية شيء يختلف كل الاختلاف عن الإحساس باللون كما يقع عند الشخص المدرك، فكأنما العلم عند قياسه لطول الموجة الضوئية التي تكوِّن إحساسي باللون الأخضر، إنما يقف عند «ظاهرة» تصاحب إحساسي باللون، ولا يتناول الإحساس اللوني نفسه، فهو يأخذ أقل الجانبين أهمية، ويترك أكثرهما تكوينًا لخبرتي، وأمسهما بنفسي، فلا شأن لخبرتي ونفسي بالموجات وأطوالها، إنما الخبرة النفسية خبرة بألوان.
عالم الوصف هو عالم العلم، وهو حقيقي إلى الحد الذي يمتد إليه، حقيقي في المدى الذي يتناوله، والمدى الذي يتناوله هو مدى الظواهر التي نكشطها كشطًا ونجردها تجريدًا من السطح، ليبقى اللباب بعيدًا عن تناوله، فلا بد من تقدير العلم بقدره الصحيح، فلا نقص ولا زيادة، ومن سبيل الإسراف في تقديره أن نظن أنه يقول الحق كله عن العالم، أو يمكنه أن يقول ذلك الحق كله، مع أننا قد رأينا أنه بحكم اعتماده على الوصف، فلا بد أن يتقيَّد بالجوانب التي يمكن وصفها دون الجوانب التي تكون في صميم خبراتنا، ومع ذلك فوصفها محال.
إن كانت علاقة العقل المطلق، أو الله، بعقول الناس الأفراد، هي أن هذه العقول الجزئية أجزاء من ذلك العقل الكلي؛ بحيث تستطيع أن تنساب فيه، فتطلع على ما كان يستحيل عليها أن تدركه في عالم الحواس، فما علاقة الله بالعالم الطبيعي؟ علاقته به هي نفسها العلاقة القائمة بين عقل الإنسان الفرد وجسده، فلنا أن نسأل الآن: كيف يتصل عقل الإنسان بجسده لنقيس على ذلك علاقة الله بالعالم الطبيعي؟ فالجسد بحركته وسلوكه يعبر عن الذات العاقلة، لكنه يعبِّر عنها في الجوانب التي يمكن وصفها، ويمكن للآخرين مشاهدتها، يعبر عنها في الجوانب التي يمكن خضوعها للقياس، أما بقيتها المضمرة فمكنونة مصونة لصاحبها وحده، يدركها بالتأمل في نفسه، فإن أحسست في نفسي عزمًا وإرادة على القيام بعملٍ ما، ثم أديت ذلك العمل، فالطرف البادي لأنظار المشاهدين هو الطرف الخارجي، طرف العمل الذي أديته، وأما الطرف المضمر في نفسي، الدفين في ذاتي، الذي لا يراه أحد سواي، فهو جانب العزم والإرادة، فإن جاء مشاهد ووصف ما رآه مني، فإنما يصف الجانب الظاهر، ويستحيل عليه أن يتغلغل إلى الجانب الباطن ليراه فيصفه، إلا أنه يستطيع أن يستدل ما خفي عنه مما ظهر له، قياسًا على ما يراه في نفسه هو، ولولا هذا القياس على نفسه لما استطاع أبدًا أن يلمَّ أقل إلمام بما دار في نفسي إزاء ذلك العمل الذي أديته.
ولما كان «المطلق» (أو الله) مشتملًا على كل شيء، فلا يمكن — بداهةً — أن يحدَّه شيء خارج نفسه؛ ومن ثم فهو الذي يختار لنفسه طريق فعله، أي إنه حر، لكن حريته هذه التي تعني ألا شيء خارج نفسه يقسره ويضطره إلى فعلٍ معين، أقول: إن حريته هذه ليس معناها بالطبع ألا تجري الحوادث على نظامٍ مطرد، وليس ثمة في الطبيعة كلها مكان للمصادفة، وبعبارةٍ أخرى فإن الكون حرٌّ في كليته مجبر في أجزائه، وأما الإنسان فهو — عند رويس — كذلك مجبر بذاته (فالإنسان صورة مصغرة للكون) أي إنه حر إذا ما نظرنا إليه من ناحية نفسه الجوهرية التي تجعل منه فردًا متميزًا عن كل فردٍ سواه، لكنه من ناحية ظواهره السلوكية التي هي تعبيرٌ عن تلك النفس الباطنية، خاضع لقانون السببية كأي ظاهرةٍ أخرى من ظواهر الطبيعة، ونعود إلى التفرقة التي فصَّلناها فيما أسلفنا، التفرقة بين جانبي الإنسان: جانب ذاته التي لا يدركها أحد سواه، وجانب جسده الذي هو مكشوف للمشاهدة الخارجية، فنقول: إن الجانب الأول — وهو الذي يخلع على الإنسان قيمته الروحية — حرٌّ في اختياره؛ ولذلك فهو مسئول عن أفعاله، وأما الجانب الثاني فجزءٌ من الطبيعة التي تخضع في سيرها لقوانين السببية والاطراد، ولذلك فهو الجزء الذي يمكن أن يخضع للبحث العلمي، فلك أن تعيش حرًّا إذا أنت أبرزت من نفسك فرديتك المتميزة التي لا يشاركك فيها إنسان آخر، ولك أن تعيش عبدًا إذا أنت أهملت ذلك الروح الفريد من شخصك، بحيث أصبحت جسمًا يتحرَّك في المكان وفق القوانين الطبيعية كما تتحرك سائر الأجسام.
ولما كان «رويس» يهتم كل هذا الاهتمام بالشخصية الإنسانية؛ فهو يؤكد خلود الأفراد ولا يغرقهم في «المطلق» على الرغم من أنهم جزء منه؛ إذ يعتقد ألا تناقض بين أن تبدأ الذات الفردية وجودها في الزمان — أعني ألا تكون أزلية — وبين أن يكون وجودها قائمًا إلى الأبد، فكل فردٍ إن هو إلا وجه متعين من أوجه الحياة الإلهية المطلقة، ويضرب لذلك مثلًا جيدًا يصور ما يريد، وهو مثل يسوقه من الأعداد، فمن داخل سلسلة الأعداد اللانهائية تستطيع أن تستولد سلاسل، كل منها لانهائي أيضًا، ومع ذلك فكل منها له طابع فريد يميزها، كما يتبين مما يأتي:
١ | ٢ | ٣ | ٤ | … | … | إلى ما لا نهاية |
---|---|---|---|---|---|---|
٢ | ٤ | ٨ | ١٦ | … | … | إلى ما لا نهاية |
٣ | ٩ | ٢٧ | ٨١ | … | … | إلى ما لا نهاية |
٥ | ٢٥ | ١٢٥ | ٦٢٥ | … | … | إلى ما لا نهاية |
٧ | ٤٩ | ٣٤٣ | ٢٤٠١ | … | … | إلى ما لا نهاية |