منطق العلم والعمل
(١) العلم يسود
وليس الأمر في ذلك مقتصرًا على أن طائفةً من النتائج العلمية قد انتهى إليها العلماء، وما أدَّت إليه تلك النتائج من تغير في أوضاع الحياة، بل كان أهم من هذا وذلك، أن ازداد اعتماد الناس على العلم والعلماء في حل مشكلاتهم على اختلاف ضروبها، وازداد بالتالي إقبال الناس على الدراسة العلمية، ولا غرابة في هذا التحول السريع، بعد أن تحوَّل وجه الحياة كلها نتيجة للانقلاب الصناعي ولواحقه؛ إذ أصبحت ملايين الناس صنَّاعًا في المدن بعد أن كانوا زرَّاعًا في الريف، واشتد الاهتمام بموارد الطبيعة وطرائق استغلالها واستخدامها، فلم يكن بدٌّ من تغيير أساسيٍّ شامل لأنظار الناس، ولم يكن بدٌّ كذلك من أن ينعكس هذا التغيير في مذاهب الفلسفة ومناهجها.
فإذا أردت فكرة واحدة رئيسية يجوز لك أن تتخذها محورًا لما أصاب الفلسفة من تغير في العصر الحديث، تغيرًا هو إلى الثورة أقرب منه إلى التطور، فقل إنها الانتقال من البحث عن «العنصر الثابت» إلى البحث عن «مبدأ الصيرورة»، ذلك أن الكثرة الغالبة من الفلاسفة فيما مضى كانوا يؤمنون بأن وراء هذا التغير البادي في ظواهر الطبيعة عنصرًا أو عناصر ثابتة دائمة لا تتحول ولا تتبدل، وجعلوا همهم البحث عن ذلك العنصر الثابت أو العناصر الثابتة، فهذا الإنسان — مثلًا — ما ينفك متغيرًا في أحواله وأطواره فهو طفل وشاب وكهل وشيخ، وهو آنًا صحيح البدن، وآنًا مريض، لكنه مع ذلك يحتفظ بذاتية واحدة مستمرة رغم ما ينتابه من تغير، وإذن فعلينا أن نزيح هذا الغشاء المتبدل لنكشف وراءه عن حقيقته الثابتة، من روح أو نفس أو عقل أو ما شئت من أسماء، وقل هذا في كل شيء؛ في المنضدة والشجرة والنهر والجبل، بل قله عن الكون بأسره جملة واحدة باعتباره كائنًا واحدًا … هكذا كانت الفلسفة فيما مضى — إلا استثناءات قليلة جدًّا — تبحث عن الثبات وراء التغير، أما اليوم فقد جاءها العلم بفكرٍ جديد — وعلى رأسه فكرة التطور — جعل هذا التغير نفسه هو طبيعة الأشياء وحقيقتها؛ ومن ثم أقلعت عن البحث عمَّا ليس له وجود، وطفقَت تجاري العلم في وجهته، وتوازيه في منحاه، فتجعل التغير والتطور والسير والترقي مدار بحثها.
ولك أن تصف هذا الانتقال بالفلسفة من مجال البحث عمَّا هو ثابت إلى مجال النظر فيما هو متغيِّر بحكم طبيعته، لك أن تصف هذا الانتقال بعبارةٍ أخرى، فتقول: إنه انتقال من اللاهوت وما يجري مجراه إلى العلم وما يدور مداره؛ فقد كان اللاهوت يغض النظر عن الظواهر المتغيرة ليبحث فيما هو ثابت وراء هذا التغير، فوراء الكون المادي المتغير إله ثابت، ووراء جسم الإنسان المتغير روح ثابت، ووراء أي شيءٍ مادي متغير عنصر ثابت وهكذا، وكانت هذه «الثوابت» أعلى منزلة من ظواهرها المتغيرات، بل كثيرًا ما انتهى الأمر بالفلاسفة إلى إنكار وجود هذه المتغيرات إنكارًا يبطل وجودها، حتى لا يتصف بالوجود إلا ما هو حق مطلق لا يتغير مع تغير المكان والزمان.
ذلك كان أمر اللاهوت وما اقتضاه من تفكيرٍ فلسفي مثالي على مر العصور، ثم جاء العلم الحديث، وفي مقدمته فكرة التطور، فلم يعد هنالك ما هو «ثابت»؛ لأن الطبيعة كلها تغير دائم وتطور دائب، لم تعد تستطيع — كما كنت تستطيع فيما مضى — أن تصنف الكائنات أجناسًا وأنواعًا؛ بحيث يظل التقسيم إلى الأبد قائمًا؛ وذلك لأن الكون متطور تتغير أجناسه وأنواعه؛ فقد كان الإنسان — مثلًا — يعد نوعًا قائمًا بذاته لا صلة بينه وبين سائر الكائنات من حيث التقسيم، فإذا هو الآن حلقة من حلقات التطور في عالم الحيوان، وكذلك كان الإنسان نوعًا قائمًا بذاته من حيث اتصافه بالعقل والذكاء مما لا يتصف به كائن سواه، وإذا هذا الإنسان اليوم بعقله وذكائه ظاهرة طبيعية تنساب في مجرى الطبيعة بما فيها من شتى الظواهر، فإن كان للإنسان ذكاءٌ عقليٌّ يتميز به، فما ذاك إلا وسيلة بيولوجية يتصل عن طريقها ببيئته ليحيا، كما لكل كائن حي آخر وسيلته التي يتصل بها مثل هذا الاتصال.
على أن هذه الفلسفة البراجماتية ليست في حقيقة الأمر نباتًا جديدًا منقطع الصلة بالماضي، فها هو ذا أحد أعلامها «وليم جيمس» — وسنحدثك عنه في الفصل التالي — يقول عنها على غلاف العنوان نفسه الذي يصدر به كتابه فيها إنها «اسم جديد لطريقةٍ قديمةٍ في التفكير.» فماذا يعني؟ أكان التفكير فيما مضى مصطبغًا بنفس الصبغة العلمية العملية التي تميز الفلسفة البراجماتية؟ وإن كان الأمر كذلك فأين الجديد؟ أم هي جدة في الاسم وحده، أما الطريقة فقديمة كما هو ظاهر المعنى في عبارة «وليم جيمس»؟ الجواب على ذلك يردنا إلى الفلسفة الإنجليزية التي كانت بغير شك وثيقة الصلة بالاتجاهات الفكرية في الولايات المتحدة، حتى لقد ظلت هذه الاتجاهات صدى لها قبل أن تتمخَّض عن لون أمريكي صريح، وطابعٍ متميزٍ فريد.
فالوجهة السائدة بين فلاسفة الإنجليز: بيكن ولوك وباركلي وهيوم ومل، هي الاعتماد على الخبرة الحسية، أي على التجربة كما تأتي بها الحواس مما تشاهده وتتأثر به، وإذن فلا جديد من هذه الناحية، أعني أنه لا جديد في انصراف المذهب البراجماتي إلى عالم الواقع كما يتبدَّى في خبراتنا الحسية، لكن الجديد هو في استبدال النظر إلى المستقبل بالنظر إلى الماضي، التجريبية الإنجليزية تلتفت إلى الوراء، إلى الماضي، والبراجماتية الأمريكية تنظر إلى الأمام إلى المستقبل، ذلك أن الفيلسوف الإنجليزي عندما أراد تحليل المعرفة الإنسانية، شغل نفسه بردها إلى أصولها، وبالنظر في كيفية اتصالها بتلك الأصول؛ إذ راح يحلل العلاقة بين الأشياء الخارجية، وما تطبعه على حواسنا من آثار وبين حصيلتنا من المعرفة التي تنشأ عن ذلك، أما المذهب البراجماتي فيربط معارفنا بعالم التجربة، لا من حيث النشأة، بل من حيث النتائج، فالفيلسوف الأمريكي إذ يقف أمام عبارة تعبر عن واحدة من أفكارنا، لا يسأل — كما يسأل زميله الإنجليزي: كيف نشأت؟ وكيف جاءت؟ بل يسأل نفسه: ما النتائج التي تترتب على هذه الفكرة في عالم الواقع؟
وإنه لمما يلفت النظر أن التجريبية الإنجليزية قد اتجهت نحو «النتائج» في مجالين من مجالات التفكير: في مجال العلوم، وفي مجال الأخلاق، لكنها لم تتجه هذه الوجهة في بقية التفكير النظري، فجاءت البراجماتية الأمريكية لتكمل هذا النقص، وتجعل النظر إلى النتائج مبدأ شاملًا لميادين الفكر جميعًا، نعم كان النظر إلى «النتائج» العملية رائد الباحث في العلوم، فلم يكن مقياس «الفرض» العلمي الذي يفرضه العالم في محاولته تفسير ظاهرة طبيعية، إلا ما يترتب على هذا «الفرض» من نتائج، فإن وجدت النتائج المترتبة على الفرض مطابقة لما يحدث في الواقع، أصبح «الفرض» نظريةً علمية مأخوذًا بها، وكذلك كان النظر إلى «النتائج» العملية رائد الفيلسوف الأخلاقي في إنجلترا — بصفةٍ عامة — كما هي الحال مثلًا في مذهب المنفعة الذي أخذ به «مل»، ومؤداه أن الفعل يكون فضيلة أو رذيلة حسب ما يترتب عليه من نتائج تسعد الناس أو تشقيهم، والفعل الذي ينشأ عنه أكبر مقدار من السعادة لأكثر عددٍ من الناس هو الفعل الفاضل، وإذن فلا تستطيع — وأنت إزاء فعلٍ تريد الحكم عليه من الوجهة الخلقية — لا تستطيع أن تطلق هذا الحكم على الفعل، إلا بعد النظر إلى نتائجه التي ستترتب في عالم الواقع على أدائه، فإذا كان النظر إلى «النتائج» العملية في عالم الواقع هو مقياس الحكم على الفروض العلمية، ومقياس الحكم على الأفعال حكمًا خلقيًّا، فلماذا لا يكون هو نفسه مقياس الحكم على الفكرة كائنةً ما كانت؟ لماذا وأنت إزاء فكرةٍ ما، تريد الحكم عليها بصوابٍ أو بخطأ؟ لا تنظر إليها من حيث نتائجها، فإن أنتجت عملًا تصلح به حياة الإنسان كانت فكرة صائبة، وإلا فهي فكرة خاطئة، هذا هو أساس الفلسفة البراجماتية — الفلسفة العلمية العملية — التي هي طابع الفكر الأمريكي الحديث، فإذا كانت «البراجماتية» اسمًا جديدًا لطريقةٍ قديمة؛ فذلك لأن الطريقة كانت متبعة — ولا تزال متبعة — في ميدان العلوم، وفي ميدان الحياة اليومية، ثم أمسك الفلاسفة عن تطبيقها في مجال تفكيرهم النظري، فالطريقة قديمة كانت — ولا تزال — قائمة، وأما الجديد فهو تعميمها على كل ضروب الفكر، والفضل في هذا الجديد هو أولًا ﻟ «بيرس» الذي وضع الأساس، ثم ﻟ «جيمس» و«ديوي» اللذين سارا على نهجه بعد شيءٍ من التعديل عند كل منهما، وسنكمل هذا الفصل بالأول؛ لنقصر الفصل التالي على الآخرين.
(٢) «تشارلز ساندرز بيرس»٤ واصطناع المنهج العلمي
ويدور المذهب البراجماتي عند «بيرس» حول محورينِ أساسيين، يلتقيان في النهاية عند نقطةٍ واحدة، وهما مشكلة «المعنى»، ومشكلة «الاعتقاد»؛ أما الأولى فهي محاولة الإجابة عن هذا السؤال: متى يكون للكلمة أو للعبارة «معنى»؟ وأما الثانية فهي تُجيب عن هذا السؤال: إن كان لدي اعتقاد معين بأن هنالك في العالم الخارجي شيئًا ما ذا صفةٍ معينة، فما التحليل الصحيح لمثل هذا الموقف؟
«معنى» الكلمة أو العبارة هو مجموعة ما يمكن للإنسان أن يؤديه من أعمال مسترشدًا بالكلمة أو العبارة، وما ليس يهدي إلى عملٍ معين فلا معنى له، فالأفكار — أي الكلمات والعبارات — إما أن تكون خططًا للسلوك العملي، أو لا تكون شيئًا على الإطلاق، فإذا وجدت فكرة — مهما يكن من أمرها — لا تدلك على أنواع السلوك الذي تسلكه في عالم الواقع، فاعلم أنها فكرة باطلة، أو قل إنها ليست شيئًا، وإنه لممَّا يلفت النظر بالنسبة إلى ما يصادف الإنسان في حياته الفكرية من مشكلات، أن بعض هذه المشكلات لا يجد سبيله إلى الحل مهما تقدمت المعرفة البشرية، على حين أن بعضها الآخر مصيره إلى الحل إذا ما توافرت للإنسان المعرفة الكافية لحلها، فلننظر إلى المشكلات التي من النوع الأول — وهي المشكلات الفلسفية التأملية — لعلنا ندرك السر في تعذُّر حلها، خذ مثلًا لذلك مشكلة كهذه: هل العقل والمادة عنصران مختلفان، أم أن أحدهما يمكن رده إلى الآخر؟ أو مشكلة كهذه: هل الروح خالدة أم فانية؟ وسل نفسك لماذا استعصى أمثال هذه المشكلات على الحل بالرغم مما أنفق فيها الفلاسفة من جهود؟ أكان ذلك لأن الإنسان عاجز في علمه عن مواجهتها وحلها، أم لأن المشكلات التي من هذا القبيل بحكم طبيعتها مستحيلة على الحل، لا لأنها أصعب من أن يستطيع الإنسان حلها، بل لأنها ليست بمشكلاتٍ حقيقة، لأنها ليست بذات أفكار، وكل ما فيها كلمات لا تحمل معنى؛ لأنها لا ترسم سلوكًا؟ وأول ما ينبغي أن تتنبه إليه في هذا الصدد هو أن المشكلة الحقيقية هي ما يحتمل الحل يومًا ما، إن لم يكن اليوم فغدًا أو بعد مئات السنين، أعني أنه لا بد أن يكون الحل ممكنًا، أما أن تكشف لنا إزاء مشكلة مزعومة أن حلها مستحيل بحكم طبيعتها، فعندئذٍ لا يجوز أن نكتفي بالقول عنها إنها مشكلة عسيرة، بل يجب إخراجها من عداد المشكلات الحقيقية؛ لأنها ليست منها، وإن تكن قد اتخذت صورة المشكلات الحقيقية بأن وُضعت على هيئة سؤال يتطلب الجواب، فمتى نحكم على مشكلة مزعومة بأنها «زائفة»؟ نحكم عليها بالزيف إذا لم يكن موضوعها مما يدخل في حدود الخبرة البشرية فعلًا أو إمكانًا، ونضع هذا بعبارةٍ أخرى، فنقول: إن المشكلة الزائفة التي يجب اطِّراحها هي التي تدور حول كلماتٍ ليست بذات معنى؛ لأنها لا ترسم سلوكًا، فمعنى الكلمة هو السلوك الذي يترتب عليها ولا معنى لها غير ذلك، فماذا في وسعك أن تعمله إزاء العقل والمادة لتعلم إن كانا عنصرين مختلفين أو لم يكونا؟ وماذا في وسعك أن تعمله لتعلم إن كانت الروح خالدة أو فانية؟ وعلى أي وجهٍ يتغير السلوك إذا كان العقل والمادة عنصرين مختلفين أو متفقين؟ وماذا يكون نوع الآثار العملية المشاهدة في عالم الواقع حين تكون الروح خالدة، ثم كيف تتغير تلك الآثار العملية المشاهدة حين تكون الروح فانية؟ واضح ألا سلوك يقابل أمثال هذه المشكلات؛ وبالتالي فلا معنى، وإذن فهي مشكلات زائفة.
إن الناس يتفقون على المعنى المفهوم من «صلابة» الماس — مثلًا — لأنهم يشتركون معًا في مشاهدة السلوك الذي تعنيه كلمة «صلابة» وهو أن الجسم «الصُّلب» يخدش بقية الأجسام، وهو لا ينخدش بها، هذا سلوك تستطيع أنت ويستطيع كل إنسان أن يؤديه، وهو أن يمسك بقطعة المادة الصلبة، ثم يضغط بها على مادة ثانية فثالثة وهكذا، ويكون هذا السلوك الظاهر هو نفسه «معنى» كلمة «صُلْب» حين نصف الماس بالصلابة، ولك أن تسأل الآن: لماذا لا يتفق الناس على معنى كلمات مثل «حرية» و«ديمقراطية» وما إلى ذلك من كلمات، اتفاقهم على معنى كلمة «صلابة»؟ والجواب هو أن المعنى يتحدَّد حين يتحدَّد نوع السلوك المترتب على أمثال هذه الكلمات، وما دمنا لم نحدد بعد مثل هذا السلوك، بالنسبة لكلمةٍ من الكلمات فستظل بغير معنى.
والعبارة تكون ذات معنًى لو كانت كل كلمةٍ فيها مما يمكن تحويله إلى سلوك وعمل، فإذا وقعنا من عبارةٍ على كلمة لا ندري ماذا يكون السلوك الذي هو معناها، فسدت العبارة بأسرها وأصبحت كلامًا خاليًا من الدلالة، لا فرق في ذلك بين أي عبارة تقولها وبين العبارة التي يقولها عالم الطبيعة في معمله، فهذا العالم الطبيعي في معمله إذا ما استخدم كلمة — وحدها أو في عبارة — كان لا بد أن يكون ثمة ما يقابلها من إجراءات عملية تؤدى، فلو استخدم — مثلًا — كلمة «ثقل» أو «سرعة» أو «انعكاس الضوء» أو ما شئت من كلمات، عرف ماذا يعمل إزاء الشيء المتصف بالثقل أو بالسرعة أو بالانعكاس، وهكذا الأمر في كل كلمة، وكل عبارة يجوز النطق بها في أي موقف من مواقف الكلام الذي يراد به التفاهم بين الناس، ونعود الآن إلى سؤالنا الأول: متى تكون المشكلة التي يراد حلها مشكلة حقيقية؟ والجواب هو: تكون كذلك لو أمكن أن يخضع حلها للتجارب العملية، أعني أن يكون جوابها سلوكًا يُؤدَّى في عالم الواقع، وإلا فهي مشكلة زائفة.
ولما كان معنى العبارة هو نفسه ما يترتب عليها من عمل، نتج عن ذلك أن العبارتين إذا اختلفتا لفظًا واتحدتا في العمل الذي يترتب عليهما، كانتا متحدتين في المعنى على الرغم من اختلافهما في اللفظ، والعكس صحيح أيضًا، وهو أنه إذا اتفقت عبارتان في اللفظ، ثم ترتب على كل منهما عمل يختلف عن العمل الذي يترتب على الأخرى، كانتا مختلفتين في المعنى، وإن اتحدتا في اللفظ، ومن أنفع الأمثلة التطبيقية التي نسوقها لذلك، هذه الاختلافات التي تقوم بين المذاهب الفلسفية، والتي كثيرًا ما تكون اختلافًا في اللفظ فقط مع اتحادها في الجانب السلوكي، وإذن فلا اختلاف؛ وبالتالي فلا إشكال، مثال ذلك هذه المشكلة القائمة بين الواقعيين والمثاليين حول طبائع الأشياء، فهل للشيء الخارجي وجود مستقل عن الذات العارفة، أم أن وجوده ليس إلا ما تعرفه الذات عنه؟ يقول الواقعي إن للشيء وجودًا مستقلًّا خارج الإنسان سواء عرفه هذا الإنسان أو لم يعرفه، ويقول المثالي إن الشيء موجود في إدراك الإنسان له، ولو لم يكن هنالك العقل الذي يدرك الشيء لما كان لهذا الشيء وجود، وبعبارةٍ أكثر تفصيلًا وتحديدًا، يفرق الواقعي بين نوعين من صفات الأشياء الخارجية، فمنها صفات توجد في الشيء ذاته بغض النظر عن وجود الذات المدركة له، كشكله وحجمه، وهذه هي ما تسمى بالصفات الأولية، لكن هنالك إلى جانبها صفات ثانوية، كاللون والطعم، لا تكون في الشيء ذاته، بل تتكون عند من يدرك الشيء، فالشيء كما هو في الخارج لا لون له ولا طعم، وإنما اللون والطعم من صنع حواسنا، وأما المثالي فلا يفرق في ذلك بين صفات أولية وثانوية، ويجعلها جميعًا من صنع العقل المدرك للشيء. هذان رأيان مختلفان عن طبيعة الشيء الخارجي، أهو قائم بذاته في الخارج مستقلًّا عن الإنسان، أم أن وجوده متوقفٌ على وجود العقل المدرك؟ فكيف نفصل بين هذين الرأيين من حيث الصواب والخطأ؟ لو كان الأمر كلامًا في كلام لما انتهينا إلى نتيجة حاسمة ولو لبثنا نناقش الأمر إلى يوم الدين، لكن طبق القاعدة البراجماتية في المعنى، وهي أن تسأل عن نوع السلوك الذي يترتب على قول الواقعي ونوع السلوك الذي يترتب على قول المثالي إزاء شيء معين، فماذا عسى أن أجد من النتائج العملية في هذه المنضدة التي أمامي إذا صح قول الواقعيين عنها، ثم ماذا عسى أن أجد فيها إذا صح قول المثاليين عنها؟ ما هو الاختلاف في التجربة العملية بين الرأيين؟ إنه لا اختلاف، وإذن فالرأيان — على اختلافهما في اللفظ — متحدان في المعنى.
ويرتبط «بالاعتقاد» الشعور «بالشك»؛ لأنهما حالتان متصلة إحداهما بالأخرى، ذلك أنك لو «اعتقدت» في أمرٍ معين، ثم سلكت إزاءه حسب اعتقادك فيه، فوجدت ما يعطل هذا السلوك أو يغيره على أي وجهٍ من الوجوه، «شككت» في اعتقادك الأول الذي كان باعث ذلك السلوك أو بعبارةٍ أخرى، يحدث الشك كلما وجدنا اختلافًا بين السلوك الواقع والسلوك المتوقع، أما إذا كان السلوك الذي توقعناه هو نفسه السلوك الذي أجريناه، فيظل اعتقادنا الذي بعثنا على السلوك قائمًا، ونعود إلى ثقل الحديد الذي سقناه مثلًا، فلو «اعتقدت» أو ظننت أن ما أمامك ثقلًا ثقيلًا من حديد، وأردت حمله، تأهَّبت لذلك بما يتناسب مع ذلك الاعتقاد، لكن افرض أنك حملته على هذا الظن، فإذا هو أخف جدًّا مما توقعت، فماذا يحدث لشعورك إزاءه؟ ستأخذك الدهشة أولًا، ثم يأخذك «الشك» في صواب ما اعتقدته حين اعتقدت أنك مُقدم على حمل ثقل من حديد؛ ومن ثم تغير من اعتقادك لتتخذ إزاء الشيء اعتقادًا آخر يتناسب مع العادات السلوكية المطلوبة للتصرف حياله، كأن تعتقد — مثلًا — أنه جسم مصنوع من ورق، أو من خشب، أو نحو ذلك، ويترتب على العقيدة الجديدة قواعد سلوكية جديدة، فلا تضعه في النار إذا لم ترد له احتراقًا، ولا تقذف به من النافذة إذا شئت ألا يصيبه كسر أو عطب وهكذا، وها هنا نضع أيدينا على مبدأ منهجي خطير، وهو أن الباعث على التفكير العلمي والبحث المجدي هو الشعور بالدهشة الذي ينتابنا حين تدلنا المشاهدة على أن ظاهرةً معينة من ظواهر الطبيعة لم تجر معنا في خبراتنا على النحو الذي توقعناه لها، فعندئذٍ فقط نشك فيما كنا قد اعتقدناه حيالها، ونحاول أن نعتقد في أمرها اعتقادًا جديدًا، يتضمن نمطًا سلوكيًّا جديدًا.
ومُؤدَّى هذا الذي أسلفناه من حيث حالة الشك، هو أن الشك لا يكون شكًّا حقيقيًّا إلا إذا كنا إزاء موقف لم ينجح فيه السلوك الذي سلكناه على عقيدة معينة لدينا، فتحتم أن نشك في هذه العقيدة، وأن نبحث لها عن بديل، بحيث يقتضي هذا البديل سلوكًا يتفق مع الموقف الذي نحن بصدد التصرف حياله، وها هنا مكان مناسب لمناقشة «ديكارت» في شكه المشهور الذي عرفت به فلسفته، أكان شكه ذاك قائمًا على أساس حقيقي مشروع، أم كان شكًّا مفتعلًا زائفًا، لقد بدأ «ديكارت» بزعمه أنه «يشك» في وجود الأشياء الخارجية، و«يشك» في وجود عقول فيمن يشاهد من الناس، وهكذا، لكنه وهو في حالة «شكه» في وجود المقعد الذي أمامه — مثلًا — كيف تصرف إزاءه بحيث كان هذا التصرف مختلفًا عن تصرفه، وهو في حالة «اعتقاد» بوجود المقعد؟ إنه لم يحدث له أن سلك نحو المقعد بما توقع أن يكون سلوكًا ناجحًا على افتراض أن المقعد موجود وله صفات معينة، ثم وجد شيئًا غير الذي توقعه، كأن وقع على الأرض حين أراد الجلوس، مما كان يبرر له بحق أن «يشك» في صواب اعتقاده الأول، أنه لا اختلاف إطلاقًا في عاداته السلوكية إزاء العالم الخارجي بين حالتي اعتقاده وشكه، كان قبل شكه وأثناء شكه وبعد زوال الشك عنه يتصرَّف بمثل ما كان يتصرف أولًا، وإذن فلم يكن ديكارت يشكُّ إلا بالقول دون العمل؛ فهو بهذا يكون شكًّا مفتعلًا زائفًا.
الغاية التي قصد إليها «بيرس» من نظريتيه في «الاعتقاد» و«المعنى» هي أن تسريَ قواعد البحث العلمي على الفلسفة، فلو أخذ عالم طبيعي بنظرية معينة، واعتقد في صدقها كان معنى هذا الاعتقاد أن ما نتوقعه منها في السلوك العملي هو نفسه ما يصادفنا في خبراتنا، ثم لو أراد متشكك أن يشك في صدق تلك النظرية، كان أساس هذا الشك أنه يجد في التجارب العملية ما يختلف مع ما نتوقعه من تلك النظرية، وعندئذٍ يقع عبء الإثبات على المتشكك؛ فهو الذي نطالبه بأن يبين أين يجد الناحية العملية التجريبية التي تخالف ما نتوقعه على افتراض صدق النظرية، فإذا كان هذا في ميدان العلم، فلماذا لا يكون هو نفسه منهج التفكير كذلك في ميدان الفلسفة؟ لماذا يسمح الفيلسوف لنفسه أن يقول قولًا لا يمكن أن تترتب عليه نتيجة عملية، ومع ذلك يحسب أن لقوله معنى؟ أين يكون المعنى إذن؟ ثم كيف يتشكك الفيلسوف في اعتقادٍ معين حين لا يكون في الحياة العملية حالة تدعوه إلى هذا الشك؟ أين يكون موضع الشك إذن؟ نعم، إنه لا «معنى» لقول، ولا أساس «لاعتقاد» إلا إذا كان ذلك المعنى أو هذا الاعتقاد هو نفسه خطة سلوكية يمكن أداؤها، وما ليس كذلك فلا هو بذي «معنى» ولا هو بالفكرة التي يجوز أن تكون منا موضع «اعتقاد» هذا هو لباب المذهب البراجماتي عند «بيرس».
وأيسر الوسائل التي يلجأ إليها الناس في تثبيت اعتقاداتهم إزاء مشكلةٍ بعينها، هي أن «يتشبثوا» باعتقادهم في كل مرةٍ تثور فيها المشكلة، حتى تتكون لديهم عادةً الإجابة عن المشكلة على النحو الذي اعتقدوا فيه، وفي مثل هذه الحالة ترى «المتشبث» يرفض الاستماع إلى أي جوابٍ آخر، فليس الناس بطبيعتهم مدفوعين إلى بلوغ الحق اندفاعهم إلى الوصول إلى حالة اعتقادية يريحون بها أنفسهم؛ ولذلك فهم يصمُّون آذانهم عن كل ما يخالف اعتقادهم، حتى لا يعكروا صفو الطمأنينة العقلية التي استراحوا لها، ولولا أن الناس في المجتمع الواحد لا ينفكون يتبادلون الرأي، ويؤثر بعضهم في بعض، لظل الفرد الواحد على اعتقاداته لا يغير منها شيئًا إلا عند الضرورة العملية القصوى، لكن الناس — كما قلنا — يراجع بعضهم بعضًا، ويعدل بعضهم بعضًا، بحيث يستحيل على الفرد منهم أن يحتفظ باعتقاداته الخاصة أمدًا طويلًا، ومن هنا كانت وسيلة «التشبث» بالرأي وسيلة ناجحة بعض النجاح لا كل النجاح، وإلى أمدٍ معين لا إلى غير نهاية؛ ولذلك يتحتم أن يبحث الناس عن وسيلةٍ أو وسائل أخرى لتثبيت اعتقاداتهم.
على أنه قلما يخلو مجتمع من فئةٍ قليلةٍ لا يرضيها أن تثبت عقائدها بإحدى الوسيلتين السابقتين، فلا يرضيها مجرد «التشبث» الأعمى، ولا طاعة «السلطان» مهما كان نوعه، فأمثال هؤلاء إذا ما ساورتهم الشكوك في معتقداتهم. لجئوا إلى مراجعة بعضهم بعضًا؛ لعل أحدهم يقيم البرهان الذي يقنع الآخر، ومن أمثال هؤلاء تتألَّف — عادةً — طائفة الفلاسفة التي يكفيها أن ترضى من الوجهة النظرية العقلية عن صواب الاعتقاد المعين، حتى وإن اضطرتهم ظروف الحياة الاجتماعية ألا يتصرفوا على أساس ما اعتقدوه صوابًا.
لكن خير الوسائل جميعًا في تثبيت الاعتقاد، هي الوسيلة العلمية التي تجعل صواب ما نعتقد في صوابه أمرًا يشاهده كل من أراد أن يشاهد، فليس الأمر هنا حجاجًا عقليًّا أو لفظيًّا بين جماعةٍ من الناس فيما بينهم، كما هي الحال حين يناقش الفلاسفة الميتافيزيقيون بعضهم بعضًا، بل الأمر هنا مرجعه التجارب العملية التي تجعل الفكر عملًا كما ينبغي له أن يكون، الطريقة العلمية وحدها هي التي تخرج بالفكرة من مجرد كونها اعتقادًا ذاتيًّا عند أحد الأفراد، لتجعلها حقًّا عامًّا للناس أجمعين، كل الطرائق السالف ذكرها «التشبث» و«الاستناد إلى السلطان» و«الحجاج النظري»؛ كل هذه طرائق تحصر الحق في مكانٍ معين أو زمانٍ معين أو جماعةٍ معينة، لكننا إذا أردنا له أن يجاوز هذه الحدود ليكون عامًّا شاملًا، لم يكن لنا إلى ذلك وسيلة سوى اصطناع المنهج العلمي، فلن تكون الفكرة واضحة إلا إذا استطاع أكثر من فردٍ واحدٍ تحويلها إلى عمل، بحيث يأتي تطبيقها في كل حالةٍ على صورةٍ واحدة، فعندئذٍ يكون لها معنًى واحد عند الجميع، ولا يتغير معناها بتغير الأفراد أو الشعوب أو بتغير مكانها أو زمانها، هكذا يتفاهم العلماء المشتغلون في معملٍ واحدٍ بعضهم مع بعض؛ إذ يجتمعون جميعًا في فهم الفكرة على طريقة تطبيقها، وهنا يقول «بيرس»: لو استطعنا أن ننشئ «مجتمعًا معمليًّا» — أي مجتمعًا يقوم في التفاهم على نفس المنهج الذي يقوم عليه العلماء في المعمل — لانتهينا إلى معنى «الحق» في غير تنازع أو خلاف.