غد بعد أمس
(١) «وليم جيمس» ومعيار النجاح
الانتقال من الفلسفة التقليدية — واقعيةً كانت أو مثالية — إلى الفلسفة البراجماتية هو انتقال من أمس إلى الغد، فبعد أن كان أساس الحكم على قول ما بالصدق أو بالبطلان هو الرجوع إلى الأصل الذي بعث على تقرير ما يقرره القول، أصبح الأساس هو النتائج التي تترتب عليه، فالكلام صواب أو خطأ، والنظرية من نظريات العلوم حق أو باطل، بمقدار ما يعين ذلك الكلام أو هذه النظرية على ترسم طريقنا في الحياة العملية، لا بمقدار تطابقه مع الواقعة التي يصورها، أو اتساقه مع غيره من الأفكار، وفي بيان الفرق بين نظرة الفلسفة التقليدية من جهة، ونظرة الفلسفة البراجماتية من جهةٍ أخرى، لا تمييز في ذلك بين الشعبتين الرئيسيتين اللتين منهما تتكون الفلسفة التقليدية على اختلاف ألوانها، وهما الواقعية أو التجريبية، ثم المثالية، فالقول صادق عند الأولى إذا طابق العالم الخارجي على نحوٍ ما، أي إنه نسخة من أصلٍ موجود خارج الإنسان، وسواء جاءت هذه النسخة طبق أصلها — كما تذهب الواقعية الساذجة — أو أصابها تحوير في العقل — كما تذهب الواقعية النقدية — فأساس الحكم على كل حال هو علاقة بين الفكرة التي نشأت عند الشخص العارف وبين الشيء المعروف الذي هو حقيقة قائمة بذاتها مستقلة بوجودها — سواء صادفه العقل الذي يعرفه أو لم يصادفه — وإذن فتحقيق القول إنما يكون «بالرجوع» إلى ذلك الأصل الخارجي، وأما المثالية على اختلاف مذاهبها، فهي وإن خالفت الواقعية في رأيها بوجود الشيء المعروف خارج الذات العارفة، بأن جعلت وجود الشيء قائمًا في العقل الذي يعرفه، إلا أنها — كالواقعية — تحقق صدق الفكرة المراد تحقيقها «بالرجوع» إلى شيءٍ سابقٍ على وجودها، وهو في هذه الحالة مجموع الأفكار الأخرى، لترى هل هنالك بينها وبين تلك الأفكار اتساق فنقبلها، أو تناقض فنرفضها.
وجاءت البراجماتية لتغير وجهة النظر من أساسها، فبدل الالتفات إلى ما «كان» عند تحقيقنا لفكرةٍ ما، نلتفت إلى ما «سيكون»، بدل الالتفات إلى الماضي السابق على نشأة الفكرة المراد تحقيقها، نلتفت إلى المستقبل الذي سيعقب وجود الفكرة ويتلوها؛ فهي صواب إن كانت نتائجها مما يسعف ظروف حياتنا العملية ويفيدنا في حل مشكلاتنا، وهي خطأ إذا لم يكن لها مثل هذا الأثر، هذه اللفتة الجديدة عنصرٌ مشتركٌ بين البراجماتيين جميعًا، ثم يعودون فيختلفون في تفصيلاتٍ أخرى تميز أحدهم من الآخر، وقد أسلفنا لك القول — في الفصل السابق — عن «بيرس» الذي شق للناس هذا الطريق الجديد في منطق التفكير، وسنحدثك في هذا الفصل عن زعيمين آخرين سارا في هذا الاتجاه مع تعديل هنا وتبديل هناك، وهما «جيمس» و«ديوي».
و«وليم جيمس» بين هؤلاء جميعًا هو الذي ينظر إليه العالم على أنه نموذج الفيلسوف الأمريكي، وعنوان الفلسفة الأمريكية؛ فهو أكثر منهم شيوعًا، وأوسع منهم في سائر أنحاء العالم سيرورة وذيوعًا، ترجمت كتبه — كلها أو بعضها — إلى كل لغات العالم المتحضر، ويرجع ذلك إلى عوامل عدة؛ فقد جاءت حياته (١٨٤٢–١٩١٠م) في الفترة التي استكملت فيها الولايات المتحدة استقلالها الفكري، ولم تعد تابعة من توابع الفكر الأوروبي، أضف إلى ذلك ما أتيح له من إلمامٍ بكثيرٍ من اللغات الأوروبية، ومن ثراء يمكنه من التجوال والسفر، فلبث يتنقل في ربوع أوروبا يحاضر، ويخالط الناس فيجذبهم بحديثه وخفة روحه، ولا شك أن شيوع الفكرة الجديدة مرهون إلى حدٍّ كبيرٍ بشخصية قائلها، فها هو ذا زميله «بيرس» يدعو إلى الفكرة ذاتها، فلا يكاد يلتفت إليه أحد من أبناء وطنه أنفسهم، لطريقة اختياره لألفاظه وعباراته التي كان يتعمَّد فيها ألا تجري مع مألوف الناس في حديثهم اليومي، ولصرامة شخصيته التي لم تجعل طريق الاتصال بينه وبين غيره سهلًا ميسرًا، فإذا أضفت إلى ذلك في «جيمس» أن فكرة «البراجماتية» التي كان يتحدث فيها ويكتب ويحاضر، كانت في ذاتها جديرة بالاهتمام لخطورتها، أدركت كم صادف عند أصحاب الفكر في العالم كله من نجاحٍ وتوفيق.
وقد عرف «جيمس» أول ما عرف باشتغاله بعلم النفس، وقد أخرج فيه كتابه العظيم «أصول علم النفس» من جزءين كبيرين، فكان نقطة تحول وانتقال في هذا العلم من عصرٍ إلى عصر، فعلم النفس قبل كتابه كان محوره ترابط الإحساسات والأفكار ترابطًا آليًّا، قائمًا على أساسٍ من فلسفة التجريبيين الإنجليز، وعلى رأسهم «لوك» و«هيوم»، فالفكر عند هؤلاء مصدره الانطباعات الحسية، وهذه الانطباعات تأتي أشتاتًا فرادى، ثم تتلاقى في الداخل أفكارًا، لكن كيف تتلاقى؟ تتلاقى بالتداعي بعضها مع بعض، فهذه الفكرة أو هذا الانطباع الحسي يدعو زميله لما بينهما من شبه أو تضاد أو غير ذلك من قوانين الترابط التي فصلوا القول فيها، والتداعي أو الترابط يحدث من تلقاء نفسه، كما يحدث التجاذب بين الذرات المادية مثلًا، فكأنما العقل قابل لا فاعلية فيه، ساكن بغير حركة، أو كأنه «لوحة بيضاء» — كما قال «لوك» — ترتسم عليه الانطباعات وتتجاذب، ولا حيلة له فيما يتلقاه إلا أن يسجله على صفحته تلك، أما بعد كتاب «جيمس» فقد بدأ علم النفس عهدًا جديدًا؛ لأنه جعل العقل أداة فعالة نشيطة، ومهمته هي كمهمة أي عضوٍ آخر من أعضاء الكائن العضوي الحي، وهي أن يكون أداة للمواءمة بين الكائن وبيئته مواءمة تعين الكائن الحي على البقاء؛ فهو إذن أداة بيولوجية تطورية، لا تنفك تواجه الجديد من مواقف البيئة الخارجية وظروفها، فترد عليها بما يحفظ لصاحبها حسن البقاء ودوامه، وبهذا التفسير يكون «العقل» كلمة نسمي بها نمطًا معينًا من السلوك الحي النشيط المفيد، لا مجرد مرآة قابلة تمر أمامها أشياء الطبيعة وحوادثها، فترتسم على صفحتها كما ظن السابقون، ولعلك تلاحظ أن هذا التفسير للعقل يزيل الحاجز التقليدي بين العقل والجسم؛ لأنه إذا كان العقل ضربًا من السلوك، فهذا السلوك هو نفسه الجسم السالك الفاعل المتصرف، وليس هنالك آمر ومأمور، وحاكم ومحكوم، بل هنالك كائن عضوي واحد يسلك في بيئته على نحوٍ معين، وإذا كان هذا هكذا فقد تحطمت الثنائية التي شقَّت الإنسان — والكون بصفةٍ عامة — جانبين: فعقل هنا وجسم هناك، أو نفس هنا ومادة هناك، تلك الثنائية التي سادت الفلسفة الحديثة كلها منذ «ديكارت»، وها هنا بذرة المذهب الفلسفي عند وليم جيمس، فعلى الرغم من أنه حاول في كتابه «أصول علم النفس» ألا يخلط العلم بالفلسفة، إلا أنه — بطبيعة الحال — لم يستطع تخليص ذلك العلم من وجهة نظره العامة التي كانت أساس علم النفس عنده، وستكون أساس فلسفته أيضًا.
والمحور الرئيسي في فلسفة «جيمس» هو رأيه في «المعنى» — معنى اللفظة أو معنى العبارة — فماذا «نعني» بهذه الكلمة أو تلك، وبهذه العبارة أو تلك؟ إن لكل كلمة معناها الخاص، وكذلك لكل عبارة، لكن ما هي الصفة المشتركة بين كل ذي معنى، بحيث نستطيع أن نقول عن تلك الصفة المشتركة أنها «المعنى» الذي يجعل الكلمة المعينة أو العبارة المعينة ذات مدلول، ونظريته في «المعنى» لا تختلف في جوهرها عن نظرية «بيرس» التي أسلفنا لك القول فيها — في الفصل السابق — فهما معًا يذهبان إلى أن «معنى» فكرة من الأفكار، المعنى الذي يجعل الفكرة مفهومة وذات دلالة، هو النتائج العملية التي تترتب على الفكرة في خبراتنا، فإذا قلت — مثلًا: «قد انطفأ غليوني» كان «معنى» ذلك أن «أتوقع» نتائج معينة في خبرتي، كأن أتوقع ألَّا أحس طعم التبغ إذا جذبت أنفاسي خلالها، وألَّا يحترق إصبعي إذا وضعته في وعائها، وهكذا وهكذا، فهذه كلها خبرات ستكون مختلفة في حالة انطفاء الغليون عنها في حالة اشتعاله، وقد لا يكون في هذا الكلام جديد بالنسبة إلى طريقة فهمنا لكثيرٍ من عباراتنا في الحياة اليومية وفي معمل العلوم الطبيعية على السواء، ففي هذين المجالين ننصرف — في كثيرٍ من الحالات — إلى النتائج المترتبة على القول لنفهم معناه، لكن الجديد فيه هو القول بأنه لا معنى للعبارة إلا هذه النتائج، هذا جديد، بل يستوقف النظر ويستثير الدهشة لو أمعنت في مضمونه، فأنت في حياتك اليومية، حتى إن فهمت العبارة على أساس نتائجها، قد تظن أن للعبارة معنًى غير هذه النتائج العملية كأنما النتائج العملية تأتي عرضًا، وقد لا تأتي ويظل للجملة معنى، فكم ألف ألف عبارة نقولها، ونتوهم أن قد فهمنا لها معنى، فإذا سُئلنا عن النتائج العملية التي تترتب عليها في خبراتنا لم نجد شيئًا، ومع ذلك نصر على أنها ذات معنًى مفهوم، لكن هذه النظرية الجديدة في المعنى، نظرية «بيرس» و«جيمس» على السواء، تذهب إلى أنه لا معنى للعبارة إلا نتائجها العملية في خبراتنا البشرية، وإذا لم يكن ثَمَّة في خبراتنا من نتائج تترتب على جملةٍ معينةٍ، لم يكن لتلك الجملة معنًى، بل كانت لغوًا فارغًا لا يدل على شيء، وإن خيِّل إلينا غير ذلك.
هذه النظرية في «المعنى» تقضي على الخلافات اللفظية التي كثيرًا ما تنشب بين المختلفين بغير داعٍ يدعو إليها، إما لأن ما يختلفان عليه ليس بذي معنًى على الإطلاق، وإما لأنهما يعنيان شيئًا واحدًا، وهما لا يعلمان، بحكم أن كلًّا منهما يقول كلامًا غير الكلام الذي يقوله زميله، فيتوهمان أن اختلاف اللفظ يستتبع حتمًا اختلاف المعنى، مع أنه قد يكون المعنى واحدًا في القولين، إذا كانت نتائج القولين واحدة، فإذا قلت مثلًا عن منضدة إن طولها متران، وقال زميلي عنها إن طولها ليس مترين على وجه الدقة، لكنها تقرب من المترين قربًا لا تستطيع أدوات القياس التي بين أيدينا أن تكشف عنه، فهذان قولان ظاهرهما اختلاف، لكن حقيقتهما اتفاق في المعنى؛ لأنه لا اختلاف من حيث النتائج العملية بين القول الأول والقول الثاني؛ فأنا وزميلي على حدٍّ سواء سنستخدم أدوات القياس التي بين أيدينا، وسيجد كلانا أن ما يعمله الأول هو نفسه ما يعمله الثاني، وليس في خبرة زميلي نتيجة واحدة سيختلف بها عن النتائج التي ستقع لي في خبرتي بسبب اختلاف قوله عن قولي في طول المنضدة، فلو اشترى لها غطاء، واشتريت لها غطاء، فسيكون ما يعمله — من حيث طول الغطاء — مطابقًا لما أعمله، وهكذا، وإذن فقد انحسم الخلاف بيني وبينه في النتائج العملية؛ وبالتالي قد انحسم الخلاف بيني وبينه في معنى ما قاله وما قلته، على الرغم مما كان ظاهرًا بين القولين من اختلاف.
وكذلك قد ينشأ الخلاف بين متنازعين على ما ليس له معنى على الإطلاق، حين يكون الحكم في المعنى على النتائج العملية التي تقع في خبراتنا، فافرض — مثلًا — أني قلت لزميلي إن «أرواحًا» تسكن هذه الغرفة، ونفى زميلي هذا القول، فما هي النتائج العملية التي تكون في خبرتي ولا تكون في خبرته بناءً على إثباتي لشيءٍ هو ينفيه؟ لا شيء؛ لن أمسك بيدي ما لا يستطيع هو أن يمسكه، ولن أرى بعيني ما لا يستطيع هو أن يراه، ولن أشم ولن أسمع ما لا يستطيع أن يشمه أو يسمعه، لو اختلفنا على وجود خيط مشدود فوق أرض الغرفة بين الجدارين المتقابلين، فأنا أزعم وجوده وهو ينفي، لكان هنالك اختلاف في السلوك المترتب على عقيدتي وعقيدته؛ فقد أخطو فوق الخيط محاولًا ألا أتعثَّر فيه لعلمي بوجوده، وقد لا يحسب هو حسابًا لذلك فيتعثر ويقع، ها هنا اختلاف في النتائج العملية، وهو الذي يدل على أن كلامي وكلامه كان لهما «معنى»، وهكذا قل في كل عبارةٍ نقولها، فهي بغير معنى ما لم يترتب عليها نتيجة أو نتائج في خبراتنا البشرية العملية، وهذه النتائج هي وحدها معنى العبارة الذي لا معنى لها سواه، ومن التناقض أن تقول عن جملة — كائنةً ما كانت — إنك قد فهمت معناها ولو أنها لا تغير شيئًا من خبرتك السلوكية بين حالتَي نفيها وإثباتها.
إلى هنا يتفق «جيمس» مع «بيرس»، لكن «جيمس» يختلف عن «بيرس» في المزاج؛ وبالتالي فهو يستطرد في النظرية استطرادًا يختلف به عن «بيرس»، وحين أقول هنا إن اختلافهما في «المزاج» قد أدى إلى اختلافهما في الرأي، فإنما أستخدم نظرية ﻟ «جيمس» نفسه، حين قال إن الناس نوعان؛ ففريق ذو عقل «ناشف» أو «صُلب»، وفريق آخر ذو عقل «لين» أو «رخو»، العقل الأول معاند والعقل الآخر مطاوع، وبين الفلاسفة هذا الاختلاف نفسه، فالفلاسفة أصحاب العقول اللينة أو المطاوعة هم العقليُّون المثاليُّون المتفائلون المتدينون الواحديون الاعتقاديون القائلون بالإرادة الحرة، وأما الفلاسفة أصحاب العقول الناشفة أو المعاندة فهم التجريبيون الماديون المتشائمون الآخذون بشهادة الحواس وحدها، العازفون عن الدين، المتشككون، القائلون بأن العالم كثرة لا واحد، وقد كان «بيرس» من أصحاب العقول الناشفة المعاندة، أما «جيمس» فقد جمع الطرفين في شخصه؛ إذ كان في طبيعته جانب العالم وجانب الفنان في آنٍ واحد؛ ولذلك تراه في بعض نواحيه من أصحاب العقول المعاندة، ذلك حين يحتكم إلى التجربة والحس وما إلى ذلك، لكنه في نواحيه الأخرى ذو عقل لين مطاوع، ومن هذه النواحي رأيه في الدين وفي وجود الله، وهنا أحد مواضع الاختلاف بينه وبين «بيرس» في نظرية المعنى؛ فبينما يتفق الاثنان على أن الجملة لا تكون ذات معنى إلا بمقدار ما لها من نتائج عملية تقع في خبراتنا البشرية، ترى «جيمس» يستطرد بالنظرية فيخرج بها عن حدودها، إذ يجعل أن جملة مثل «الله موجود» ذات معنى، وشرح ذلك عنده كما يأتي: إن وجود الله يستحيل بالطبع إثباته إذا احتكمنا إلى خبراتنا العملية؛ لأننا لا نراه ولا نسمعه ولا نمسه، وإذن فلا يجوز أن يكون ذلك طريق إثباته، ومع ذلك فهنالك طريق غير مباشر إلى إثبات المعنى لهذه الجملة إذا رجعنا في ذلك لا إلى النتائج الحسية المباشرة، بل إلى النتائج العامة التي تحدث في وجهة نظر المؤمن بصدقها، فالذي يؤمن بأن الله موجود يختلف شعوره في حياته عمن لا يؤمن بذلك، فتراه مثلًا متفائلًا قوي الرجاء؛ وبالتالي فهو مستبشر بحياته فرح مطمئن، على خلاف زميله المنكر؛ إذ يغلب أن يكون هذا متشائمًا منقبض النفس معدوم الرجاء والأمل، وهذا الاختلاف في وجهة النظر كافٍ وحده أن يجعل للجملة معنى لما لها من نتائج.
ولا يسوق «جيمس» هذا المثل جزافًا، بل يجعله تطبيقًا لمبدأ عام، نلخصه فيما يلي: هنالك حالات تقطع فيها الشهادة بالصواب أو بالخطأ، وعندئذٍ لا إشكال في قبولها أو رفضها، لكن هنالك أيضًا حالات كثيرة جدًّا تمتنع فيها هذه الشهادة الحاسمة، فماذا يكون موقفنا إزاءها؟ يرى «جيمس» أنه في مثل هذه الحالات نأخذ «بأنفع» الفروض، ويكون النفع هنا هو هو بعينه صدق الفرض الذي أخذنا به، فانظر إلى هذا السؤال مثلًا: هل الحياة تستحق منا أن نحياها؟ إننا لا نملك ما يعيننا على الإجابة الحاسمة عن مثل هذا السؤال، فسواء أجبت بالإيجاب أو بالنفي، جاز لمعارضك أن يسألك لماذا كان الإيجاب أو كان النفي، دون أن تجد ما تقنعه به، فليس محالًا على إنسان أن يرى لنفسه أن الحياة لا تستحق منه أن يحياها، والعجيب أن مثل هذا المتشائم قد ينتهي به رأيه هذا في حياته إلى نوعٍ من الحياة هو بالفعل لا يكون جديرًا بالعناية أو الرعاية، ومن جهةٍ أخرى قد تجد من يقنع نفسه بأن الحياة تستحق أن يحياها، وتراه بفضل قراره هذا يجعل حياته بالفعل حياة جديرة بالعيش، وهكذا ترى أن الاعتقاد بالصواب في مثل هذه الحالة قد خلق الصواب فعلًا، فيكفي أن تأخذ بوجهة نظر معينة — في أمثال هذه الحالات التي يمتنع فيها القطع بصواب أو بخطأ — لتحدث لك هذه الوجهة من النظر نتائج عملية في حياتك تجعل رأيك صوابًا، هذه هي النظرية التي يعرضها «جيمس» في مقالته المشهورة التي عنوانها «إرادة الاعتقاد»، وهو يقصد من العنوان نفسه أن الاعتقاد في الحالات التي لا تحسم فيها الشواهد، إنما يتوقف على إرادة الإنسان المعتقد، فاعتقد — إن شئت — وسيكون لعقيدتك أثرها في حياتك؛ وبالتالي ستكون عقيدة ذات معنًى ومغزى ودلالة حكمًا بمقياس البراجماتية نفسها.
وهذا ينتقل بنا إلى نظرية «جيمس» في الحق، أو في الصدق، صدق العبارة التي نقولها، فمتى تكون العبارة صادقة؟ يجيب «جيمس» بأنها تكون كذلك إذا تصرفت على أساسها فلم تجد ما يعترض غايتك، فالصدق أو الحق هو هداية في السلوك لا أكثر ولا أقل، ألم نقل إن «المعنى» — مهما كانت الكلمة أو الجملة — هو ما ترتب على الكلمة أو الجملة من نتائج؟ وكلمة «الحق» أو «الصدق» لا تشذ عن هذه القاعدة العامة، معناها هو نتائجها، فكل ما يؤدي إلى النتائج المرجوة «حق»، وكل ما لا يؤدي إلى مثل هذه النتائج «باطل»، الأمر في ذلك شأنه شأن الفروض العلمية نفسها، فكيف يقرِّر العالِم في معمله أن فرضًا ما صحيح؟ يقرر ذلك بعد أن يرى النتائج التي تنتج عن الفرض، فإذا وجده مطابقًا في نتائجه تلك لكل وقائع الظاهرة التي جاء الفرض ليفسرها، كان عنده فرضًا صحيحًا وإلا فهو باطل، فهكذا الأمر في كل عبارةٍ نقولها، هي بمثابة فرض علمي نفرضه، ويكون تحقيقه مرهونًا بانطباقه على الواقع، وليس في طبيعته شيء يجعله صوابًا أو خطأ غير نجاحه أو فشله في تفسير الواقع.
وليس بخافٍ على «جيمس» أن هذه النظرية في الأخلاق من التعميم، بحيث لا تصلح وحدها هاديًا في السلوك إذا ما نشأ موقف معين، وكان على الإنسان فيه أن يختار طريقًا للعمل، لكنه لا يجد وسيلة لتخصيص ما يعمل في كل موقف على حدة، فالأمر متروك للإنسان الفرد عندئذٍ؛ لأنه سيكون أدرى بالظروف التفصيلية المحيطة به، وعلى كل حالٍ فليس من شأن الفلسفة الخلقية أن «تعظ»؛ فهي معنية بالمبادئ العامة وحدها، وعلى غيرها تقع مهمة التطبيق.
حسبنا هذا المقدار من «براجماتية» جيمس — لكن البراجماتية منهج وليست فلسفة إيجابية ذات نتائج معينة، فهل هو من فلاسفة المناهج وكفى؟ — إذ قد يقتصر الفيلسوف على منهج التفكير دون أن يكون له هو نفسه تفكير خاص يقوم على أساس هذا المنهج — أم أن له فلسفة قائمة على منهجه؟
وأما الواقعيون فيرون رأيًا غير هذا؛ إذ يرون أن الأشياء التي ندركها موجودة وجودًا خارجيًّا مستقلًّا عن عقولنا وما فيها من أفكار؛ فهي موجودة سواء صادفها العقل الذي يدركها أو لم يصادفها، وإذا كان الأمر كذلك، فعلمي بها متوقف على ما أشاهده منها، لا على استدلالٍ عقلي، فإذا رأيت شيئًا يقع قبل شيء، قلت إنه وقع قبله؛ لأني شاهدته هكذا، لا لأني وجدت الأول يستتبع بالضرورة حدوث الثاني كنتيجة له، ولما كان العالم يأتي في التجربة الحسية أشياء مختلفة كثيرة مرتبطة بعلاقات مختلفة كثيرة كذلك، وجب أن أقول: إنه عالم «متعدد»، وليس هو بالوحدة الواحدة كما يظن المثاليون، وأن هذا التعدد لا يكون الجزء منه دالًّا على الجزء الآخر دلالة حتمية كما يظن المثاليون أيضًا، بل الأمر موكول إلى الخبرة، فإن وجدت جزءين متلازمين قلت إنهما كذلك، وإلا فلا أستدل على وجود الواحد من وجود الآخر … وما شأن «العلاقات» وإدراكها بذلك؟ شأنها هو أن الخبرة الحسية — كما يقول التجريبيون — تأتي في الحقيقة مفككةً إلى الذهن، والذي يربطها بعضها ببعض هو الإنسان المدرك، يربطها على مقتضى قوانين يسمونها قوانين تداعي الأفكار أو ترابطها.
(٢) «جون ديوي»١٤ وتغيير القيم
ولم يكن «ديوي» براجماتيًّا منذ أول نشأته، بل تأثر في أولى مراحله بالفلسفة الهيجلية، ولم يكن له بدٌّ من ذلك؛ لأنه لم يجد حوله إلا أساتذة يذهبون في الفلسفة هذا المذهب، فأخذ عنهم، ثم أخذت ظروفه تتطور حتى اتخذ لنفسه طريقة البراجماتي بقية حياته، وقد كانت الأعوام التي شكلته من الوجهة الفلسفية تشكيلًا حاسمًا، وهي الأعوام العشرة الممتدة من ١٨٩٤م إلى ١٩٠٤م (ولد ديوي عام ١٨٥٩م ومات عام ١٩٥١م)، وذلك حين كان رئيسًا لقسم الفلسفة في جامعة شيكاغو، وحين قام بتجربة في التربية على نطاقٍ واسع، أجراها على مدرسة ملحقةٍ بالجامعة، فعندئذٍ نفض يديه من الفلسفة الهيجلية، وبدأ في وضع الأساس لوجهة نظره التي التزمها منذ ذلك الحين، وهي التي يُطلق عليها — كما قلنا — اسم «المذهب الذرائعي»، وهو مذهب شديد الشبه بما كان يدعو إليه «وليم جيمس» في ذلك الوقت نفسه باسم «الفلسفة البراجماتية».
وإنه لمما يعيننا على فهم وجهة النظر التي أخذ بها «ديوي» أن نذكر لمحة من حياته تلقي ضوءًا شديدًا على أصول تفكيره، ذلك أنه ولد ونشأ في ولاية «فيرمونت» في الشمال الشرقي، في منطقة ريفية هادئة يعيش أهلها على الزراعة، ولهم كل ما تقتضيه الزراعة من أخلاق المحافظة على القديم، وإيثار السلامة والأمن والدعة على المخاطرة، وما إلى ذلك، ثم انتقل في رجولته إلى ما يسمونه في الولايات المتحدة «بالغرب الأوسط»، وهو إقليم نزح إليه المغامرون من أهل الشرق — أعني شرقي الولايات المتحدة — الذي كان أول ما عمره الوافدون من أوروبا، حتى ازدحم، فماذا شهد «ديوي» في الغرب الأوسط خلال ستة عشر عامًا أقامها هناك؟ شهد حياةً اقتصاديةً تختلف اختلافًا بعيدًا عن حياة موطنه الزراعي الذي نشأ فيه؛ إذ رأى الثراء الطائل يجمعه صاحبه في مثل اللمح بالبصر، وقد يفقده كذلك في مثل اللمح بالبصر، رأى الناس تغلب عليهم المغامرة والمخاطرة، وأميل إلى العمل الحر الجريء منهم إلى العمل المستقر الثابت الآمن؛ لأن هذا الاستقرار وهذا الثبات وهذا الأمن يكلفهم الخضوع لقوانين الحكومة المطردة، ويكلفهم بالتالي الحد من أصالة التفكير وقدرة الابتكار، كانت الحياة هناك — كما شهدها «ديوي» — معرضة للخطر، ولكن بلوغ النجاح فيها كان كبير الاحتمال، فلم يكن الناس ينشدون اليقين في حياتهم، ومن هنا انعكس الأمر على تفكير «ديوي» حين أخرج فيما بعد كتابه «طلب اليقين» ليهزأ من طلب اليقين في حياة الفكر وحياة العمل على السواء، كان أهل الغرب الأوسط جميعًا ممن نزحوا حديثًا، فقلما تجد أسرة هناك عندئذٍ امتدت إقامتها أكثر من جيلٍ واحد أو جيلين، وقد نزحوا من كل فجٍّ من فجاج الأرض، فكأنما جاءوا جميعًا لا يحملون بين جنوبهم إلا شيئًا واحدًا، وهو أن يخاطروا ويغامروا، فمن ذا كان يعبأ عندئذٍ هناك بالتقاليد الموروثة أو بأصول الثقافات القديمة؟ نظر الجميع إلى أمام لا إلى وراء، مؤمنين بأن النجاح أكبر احتمالًا من الإخفاق.
ذلك هو طراز القوم الذين ذهب «ديوي» بينهم ليعلِّم أبناءهم في جامعة شيكاغو، فأي شباب تتوقع له أن يختلف إلى الجامعة؟ شباب كالآباء، يريدون العلم الذي يعين على العمل، يريدون الفكر الذي يرسم طريق النجاح، إنهم لم يكونوا كالشبان الذين ألفتهم جامعات أوروبا، بل الذين ألفتهم جامعات الجهة الشرقية من الولايات المتحدة نفسها، جاءوا وفي رءوسهم تقدير للثقافة في ذاتها، كلا؛ فقد تغيرت معهم وجهة النظر، وجاءوا ينشدون العلم الذي يكون قريب الصلة بما هم مقبلون عليه من حياةٍ عمليةٍ سريعة الخُطا، لم يكونوا يريدون — بالطبع — دراسة اللاتينية أو الإغريقية أو غيرهما من الدراسات النظرية البحتة التي هي في الحقيقة مخلفات الثقافة الأرستقراطية القديمة، التي كانت تصلح لأهل الفراغ من أبناء الطبقات الثرية، أمثال هذه الدراسات لم يعد بذي نفع في مجتمعٍ ديمقراطي كل أبنائه قد خلقوا للعمل، وللعمل الجاد، فإن كان طلاب الجامعات القديمة ينشدون النظريات التي يدرسونها وهم جالسون على مقاعدهم؛ فقد جاء هؤلاء إلى الجامعة يريدون العمل بأيديهم، فإذا ما كان الموضوع مما لا يقتضي عملًا مباشرًا، فليكن إذن شديد الصلة بما يعمل.
فكيف يجيء تيار الفكر في رأس فيلسوف حساس لما حوله من ظروف، إن كانت هذه الظروف هي التي تحيط به؟ هل يمكن أن يتجه بفكره إلى غير العمل؟ هل يمكن أن تدفعه هذه الرغبات الجامحة من حوله نحو النظر إلى المستقبل، ثم يلتفت رغم ذلك إلى الماضي؟ كلا، وهكذا كان الأمر مع «ديوي»، تشكك في قيمة التقاليد كلها، كالتقليد الذي جرى بين المفكرين الأمريكيين الأولين من أن للإنسان حقوقًا طبيعية كانت لهم قبل اجتماعهم في مجتمع، وكالعرف الذي يقضي بالرجوع إلى السابقات في أحكام المجتمع أو أحكام القضاء، وكالاعتقادات الدينية في صورها الجامدة، بل والافتراضات العلمية التي قد تكون قائمةً على غير أساس يبرر قيامها، إن كل شيء في حياة الإنسان قابل للتغير إن دعت الضرورة إلى تغييره، ولا يجوز أن يقفَ شيء — كائنًا ما كانت قيمته وقداسته — حائلًا في مجرى الإصلاح الاجتماعي وتوفير العيش الرغيد للإنسان العامل، لا بد من تغيير قواعد الأخلاق إن اقتضى الإصلاح هذا التغيير، ولا بد من تغيير أسس السياسة والاقتصاد والتربية وكل شيء مما قد يظن به الدوام والثبات، في سبيل تغيير الحياة تغييرًا يجعلها أكثر ملاءمة لظروف العصر الجديد.
وماذا تكون الفلسفة إن لم تكن — كما يصفها «ديوي» — تعبيرًا عقليًّا عن الصراع الداخلي الذي يسري في ثقافة العصر؟ مهمة الفلسفة هي أن تتعقَّب خيوط هذا الصراع إلى أصولها لتضع أمام النظر مصادر القوى التي تتجاذب عقول الناس، فيسهل بذلك تشخيص الداء ووصف الدواء، والحق أنك إذا أمعنت النظر في أي فلسفةٍ شئت، فمهما كانت هذه الفلسفة في ظاهرها منعزلة عن تيارات الحياة العملية، فستجدها في الحقيقة معبرةً عما تنطوي عليه تلك الحياة في عصرها من مبادئ أساسية يسير الناس في نشاطهم العملي على مقتضاها، شعروا بذلك أو لم يشعروا، فهكذا كانت فلسفة أفلاطون وفلسفة أرسطو — مثلًا — دفاعًا في صميمها عن المثُل العليا التي كانت هدف المدنية اليونانية يدافعون عنها إزاء هجمات الشكاك، فلولا تلك الهجمات الانقلابية لكان من المحتمل ألَّا ينشأ سقراط مدافعًا عن القيم الأخلاقية الثابتة، أو ألَّا ينشأ أفلاطون ليقيم الحجة على وجود عالم فكري ثابت رغم ما قد يبدو للعين من صيرورة وتغير، أو ألَّا ينشأ أرسطو ليستهدفَ الغاية نفسها في الأخلاق وغيرها، ثم انتقل إلى العصور الوسطى الدينية، وانظر ما مهمة الفيلسوف عندئذٍ، كان همه الأول والأخير أن يدافع عن العقيدة الدينية السائدة بسندٍ من الفلسفة.
وليس من شك في أن أول حجر يوضع في بناء الديمقراطية هو التربية التي تؤدي إلى ذلك؛ ومن ثم كانت التربية أحد ميادينه الأساسية التي خلق فيها وابتكر، ففي عام ١٨٩٩م أخرج كتابه «المدرسة والمجتمع» يشرح فيه طرائقه التي كان يتبعها في مدرسته التجريبية الملحقة بالجامعة، وكان مبدؤه الأساسي هو أن يجعل من تلاميذ المدرسة مجتمعًا صغيرًا يشبه المجتمع الكبير في حياته ونشاطه، فيهيئ للتلاميذ المواد الخامة المختلفة ليصنعوا منها أشياء تتناسب مع قدراتهم، وخلال هذه الصناعة يتعلَّمون ما يتعلَّق بها من علوم، ثم تلا ذلك كتاب آخر في التربية أخرجه عام ١٩١٦م، هو «الديمقراطية والتربية» يبين فيه أن التربية هي العملية التي تعين الجماعات الإنسانية على استمرار وجودها، لا بمجرد المحافظة على التقاليد القديمة مهما يكن نوعها، بل بسرعة المواءمة بين نفسها وبين بيئتها، فتغير من نفسها بما يقتضيه تغير البيئة.
وأولى النتائج التي تترتب على هذه العبارة، هي أن «العقل» سلوك ذو طابع معين، وليس هو بالكائن الروحاني الغيبي الذي يختلف عن الجسم الحي الفعال، كما هو الرأي عند الفلسفة المثالية، وعند «ديوي» نفسه في مرحلته الأولى؛ لأنه كان إبان تلك المرحلة — كما أسلفنا — هيجلي الاتجاه في فلسفته، وثانية النتائج التي تنتج من العبارة نفسها هي أن القيم والغايات التي بمقتضاها يعمل الإنسان ويسعى، إما أن تكون جزءًا لا يتجزَّأ من طبيعة العالم الخارجي نفسه، بحيث يجيء الإنسان فيدركها، ثم يعمل على تحقيقها، أو أن تكون من خلق الإنسان، يخلقها لتكون له وسائل يوائم بها بين نفسه وبين العالم الطبيعي أو المجتمع الذي يعيش فيه، وهي على كلا الفرضين ليست شيئًا سابقًا بوجوده على وجود العالم الطبيعي أو المجتمع، بل تنشأ نتيجة لازمة لاتصال الإنسان بمحيطه اتصالًا يظهر فيه كفاحه واختياره وأسلوبه في معالجة المواقف الجزئية التي تعترضه أثناء الحياة الجارية، وثالثة النتائج التي تستخلص من العبارة المذكورة، وربما كانت أهم النتائج أن الإنسان إذا ما نشط حيال بيئته من طبيعة ومجتمع، فإنما يكون المستقبل هو رائد نشاطه، أي إن معنى نشاطه هذا لا يكون إلا بالنظر إلى ما يتولَّد عنه من نتائج من شأنها أن تغيِّر أوضاع الأشياء تغييرًا كبيرًا أو صغيرًا، يكون سببًا في إزالة مشكلاته التي اعترضَت سبيله، وما دام الأمر كذلك، فالنتيجة الرابعة هي أن ليس هنالك قيمٌ ثابتة على الزمن، لا تتغير مهما تغيرت الظروف والمواقف، إنما القيم ملازمة للحياة في تغيرها، فكلما تغيرت هذه، تغيرت تبعًا لها تلك؛ إذ ماذا عسى أن تكون هذه القيم — في الأخلاق أو في السياسة أو غيرهما — إن لم تكن أدوات يستخدمها الإنسان في سلوكه؟
وهنا نصل إلى صميم فلسفته، فلسفة «الذرائع»؛ وهو اسم أطلقه «ديوي» على اتجاهه البراجماتي الخاص، الذي اختلف به عن زميليه «بيرس» و«جيمس»، وإن يكن في اتجاهه ذاك أقرب إلى «بيرس» منه إلى «جيمس»؛ فقد كان من رأي «بيرس» أن الأفكار الكلية إن هي إلا عادات سلوكية اعتادها الإنسان ليتصرَّف بها في المواقف العملية التي تشير إليها تلك الكلمات، فكأنما الفكرة الواحدة من هذه الأفكار الكلية هي بمثابة خطة تضبط السلوك وتوجهه، وهكذا ارتأى «ديوي» حين جعل الأفكار «ذرائع» تتذرع بها في توجيه السلوك وضبطه توجيهًا وضبطًا يحقِّق للإنسان غاياته المنشودة، فمهما تكن الفكرة، فهي تتضمَّن خطة للعمل، وإذا لم تكن كذلك فهي ليست من الفكر في شيء، وكما أن هذا العمل المتضمن في الفكرة هو معناها، فهو نفسه كذلك طريقة تحقيقها التي نميز بها الفكرة الصائبة من الفكرة الخاطئة، فأما الصائبة فهي التي إذا ما سلكنا وفق الخطة العملية التي ترسمها، انتهى بنا ذلك السلوك إلى ما نبتغي، وأما الخاطئة فهي التي لا تؤدي خطتها العملية إلى الغاية المقصودة، وإذن فتحقيق صواب الفكرة لا يكون في الخلاء، إنما يكون في نسيج الواقع، هذا الواقع الذي لا نراه دائمًا متفقًا مع أهدافنا، فنلجأ إلى تغييره بما يتفق مع صوالحنا، تغييره بماذا؟ تغييره بأفكارنا، فإذا لم تكن هذه «الأفكار» أدوات أو ذرائع تعين على ذلك فهي لغو باطل، وخطأ فاحش أن نفرِّق بين ما هو نظري وما هو عملي من جوانب حياتنا؛ إذ يستحيل فصل «الأفكار النظرية» عن «تطبيقها العملي»، ثم تظل مع ذلك أفكارًا توصف بالصواب والحق، فالفكر والعمل طرفان لخيطٍ واحد، أو جانبان من شيء واحد، أحدهما مكمِّل للآخر، ومتصل به اتصالًا وثيقًا، ليست علاقة الفكر بمقصورة على زميلاتها من أفكار؛ بحيث يبدأ الأمر وينتهي داخل الرأس بغض النظر عن الواقع الخارجي، بل الفكرة خيط من نسيج خيوطه مزيج محتوم من أفكار في الداخل وحوادث طبيعية في الخارج.
وما «المنهج العلمي» إلا الطريقة التي يستخدمها الإنسان في خروجه من دائرة الفكر المحض إلى دنيا العمل، فكيف يتم هذا؟ يتم بالاستنباط وبالاستقراء في آنٍ معًا، فأنت إزاء المشكلة تفرض فرضًا معينًا تظن أنه ممكن التنفيذ، وأنه بتنفيذه سيزيل المشكلة التي اعترضت سبيلك، وتنفيذه يقتضي بالطبع أن تستخلص منه النتائج التفصيلية التي تترتب عليه، وذلك هو الاستنباط، وعندئذٍ تخرج إلى الدنيا الخارجية بغية التنفيذ وفق تلك التفصيلات التي تحددت بفضل الفرض الذي فرضته معينًا لك في موقفك، وها هنا ستصطدم بالوقائع ذاتها والحوادث ذاتها، فتراها بالعين وتلمسها باليدين، وعندئذٍ تدرك إدراكًا عمليًّا قائمًا على المشاهدة وعلى التجربة إن كان فرضك الأول صوابًا، بمعنى أنه مؤدٍّ إلى الغاية المنشودة، أو لم يكن، وهذه هي مرحلة الاستقراء في حل المشكلة، ولا تتمُّ عملية التفكير إزاء مشكلة من المشكلات إلا إذا أجرينا التجربة العملية على الفرض الذي فرضناه حلًّا لها، وتمت التجربة بالنجاح المطلوب.
المثل الأعلى للمجتمع الديمقراطي هو أن يتعاون الناس معًا كما يتعاون العلماء في المعمل، فالقاعدة الأولى هي — إذن — «الإخاء» بمعنى التعاون، ومن هذه القاعدة تتفرع «الحرية» و«المساواة» فليست هاتان حقين طبيعيين من حقوق الإنسان كما زعم قادة الثورة وحركة التنوير في آخر القرن الثامن عشر، أي إنهما لم ينشآ إلا بعد تكوين المجتمع، وبعد قيام التعاون بين أفراده، فالإنسان «حر» في مجتمع ديمقراطي يتعاون أفراده على قدم «المساواة»؛ ولذلك وجب أن يكون الاعتماد الأول في مثل هذا المجتمع الديمقراطي، على الجمعيات التطوعية لا على الحكومة، فلا ينبغي أن تجاوز الحكومة بنشاطها حدود تنظيم تلك الجمعيات بحيث لا تتضارب وسائلها وغاياتها، أما فيما عدا ذلك فالجماعة تحدد أهدافها ووسائلها، ثم يتعاون أفرادها في سبيل تحقيق تلك الأهداف تعاونًا يتبعه الحرية والمساواة بين هؤلاء الأفراد، يتبادلون الخبرة بما يعين بعضهم بعضًا، كما يفعل العلماء في المعمل إزاء مشكلةٍ معينة.
- (أ) إرادة الاعتقاد The Will to Believe.
- (ب) صنوف من الخبرة الدينية Varieties of Religious Experience.
- (a) Experience and Nature.
- (b) The Quest for Certainty.