(١) الواقعية الجديدة
كان غرور الإنسان منذ أقدم عصوره قد خيل له امتيازًا لنفسه عن
سائر الكائنات؛ فهو ذو عقل وبقية الكائنات لا عقول لها، فإن كان
يبدو في رأي العين واللمس أنه جسد كسائر الأجساد، فذلك جانب منه
ظاهر، وأما جانبه الآخر الخفي، جانبه الحقيقي؛ فهو عقله أو نفسه أو
روحه، أو ما شئت من هذه الألفاظ التي تتفق على الإشارة إلى ما ليس
بجسدٍ من حقيقة الإنسان، وإذن فالإنسان في حقيقته عنصران مختلفان:
جسم يشترك في طبيعته مع ما في الطبيعة من أجسام، وعقل يمتاز به من
سواه، ثم وسع الإنسان رقعة هذا التخيل الذي أوهم به نفسه عن
طبيعته، حتى شمل به الكون كله، بحيث جعل هذا الكون أيضًا ذا
عنصرين: طبيعة مادية، يكمن فيها أو وراءها أو فوقها عقل كبير
يُسيِّرها ويدبِّرها كما يسيِّر عقل الإنسان جسده ويدبِّره.
هكذا لبث الإنسان قرونًا طويلة يعتزُّ بنفسه إذا قِيسَت إلى سائر
الكائنات، وبكوكبِه الأرضيِّ إذا قيس إلى سائر الكواكب؛ إذ لبث
يتوهَّم طوال تلك القرون أنه في هذا الكون سيد مكرم، من أجله خلق
العالم، وحول أرضه تدور الكواكب.
ثم جاء العلم الحديث، فلم يزل به خطوة بعد خطوة، كاشفًا له عن
حقيقة نفسه، مُزيحًا لهذه الغشاوة عن عينه، حتى أوشك آخر الأمر أن
يُقنعَه بأن أرضه كوكب كسائر الكواكب، وبأنه هو نفسه ظاهرة طبيعية
كسائر الظواهر، وبدأت مجهودات العلم في هذا السبيل ﺑ «كوبرنيق» (في
القرن السادس عشر) الذي أثبت أن الشمس — لا الأرض — هي مركز
المجموعة الشمسية، حولها تدور أجزاء تلك المجموعة ومن بينها الأرض،
وإذن فالأرض مسكن الإنسان هي كغيرها جِرْم يدور حول الشمس، لا
يزيدها شرفًا عن غيرها أن الإنسان يسكنها.
فأخذ الإنسان بعد هذه الضربة العلمية لغروره، يعزي نفسه ويغذي
غروره بأنه وإن زالت عن الأرض مكانتها الممتازة بين سائر أخواتها
الكواكب، فلا يزال الإنسان بين سائر الكائنات التي تسكن تلك الأرض
صاحبَ امتيازٍ وسيادة، وهنا جاءت الخطوة العلمية الثانية على يدَي
«دارون»؛ إذ أوضح له بنظريته في التطور أنه كغيره من الكائنات
الحية حلقة في سلسلة التطور، وأنه كغيره من تلك الكائنات نتيجة
لعوامل الانتخاب الطبيعي الذي يمحو ما ليس يصلح للبقاء في هذه
المعركة الدائمة بين الطبيعة من ناحية، وبين صنوف الكائنات الحية
من جهةٍ أخرى.
فاستمسك الإنسان بآخر حصنٍ له في الاعتداد بنفسه، وراح يُقنع
نفسه بأنه وإن تكن العوامل الطبيعية قد أمدَّت كل ضرْبٍ من ضروب
الأحياء بالوسيلة التي تُعينه على دوام البقاء؛ فقد كانت الوسيلة
التي اختصَّت بها الإنسان هي أرقى الوسائل؛ إذ وسيلته في معركة
البقاء هي العقل، بينما وسائل الكائنات الأخرى في تلك المعركة
ذاتها هي الغرائز، وها هنا جاءت الضربة العلمية الثالثة على يدي
«فرويد» الذي أزاح آخر ما بقي لنا من قناع الوهم؛ إذ بيَّن لنا كيف
نصدر في سلوكنا عن اللاشعور لا عن العقل، وإن خيل إلينا أن سلوكنا
ذاك صادر عن عقل ومنطق.
هكذا انتهى العلم إلى «تطبيع العقل» — إن صحت هذه العبارة — أي
إلى جعل «العقل» جزءًا من الطبيعة وظاهرة من ظواهرها، فأزال بذلك
تلك الثنائية التي ظلَّت شغل الفلسفة الشاغل منذ «ديكارت» الذي شطر
الإنسان شطرين؛ فعقل طبيعته التفكير من ناحية، وجسم طبيعته
الامتداد من ناحيةٍ أخرى، ولو جاز لنا أن نلخِّص أهم مجهودات
الفلاسفة في هذه العصور الحديثة منذ «ديكارت» إلى يومنا هذا في
عبارةٍ واحدةٍ موجزة قصيرة، لقلنا إنها مجهودات منصبة حول مشكلة
«المعرفة» التي تترتَّب على هذه الثنائية التي شقَّت الإنسان
نصفين، فما وسيلة العقل إلى معرفة عالم الأجساد، أي عالم الأشياء،
أو الطبيعة، إذا كان العقل على هذا الاختلاف كله عن موضوع معرفته؟
كيف يتصل العقل بالمادة ليعرفها؟
لكن وجهة النظر الحديثة إن تكن قد انتهت إلى «تطبيع العقل» — كما
قلنا — فقد اقتضى ذلك بالبداهة إلى «تعقيل الطبيعة» في الوقت نفسه؛
إذ أين نذهب بهذه الظاهرة ذات الطابع الخاص المميز، ظاهرة السلوك
المعين الذي اصطلحنا على تسميته «عقلًا»، أين نذهب بهذه الظاهرة إن
لم ندمجها في ظواهر الطبيعة الأخرى، باعتبارها واحدة منها، وبذلك
نكون — بفعلةٍ واحدة — قد جعلنا العقل طبيعة، كما جعلنا الطبيعة
محتوية على عقل، واذكر ما أسلفناه لك في الفصل السابق من المذهب
البراجماتي الذي جعل الفكرة عملًا، واذكر كذلك نظرية «وليم جيمس»
فيما أسماه بالتجريبية المتطرفة، التي كان من أجزائها ردُّه العقل
والمادة إلى أصلٍ واحد محايد لا هو بالعقل ولا هو بالمادة، بل يرتب
على نحو فيكون عقلًا، ثم يرتب على نحوٍ آخر فيكون مادة.
وإنما نقول ذلك كله لنقرِّر به أثرًا من آثار سيادة العلم في
عصرنا الحديث على التفكير الفلسفي، لكن الأثر الأكبر للعلم الحديث
على الفلسفة الحديثة — في رأيي — ليس هو في اصطناع الفلسفة لفكرةٍ
معينة وانتهائها إلى رأيٍ بذاته، بل هو في انتهاج الطريقة العلمية
في التفكير، بعد أن كان للفلسفة طريقتُها الخاصة بها، كان الفيلسوف
فيما مضى وَحْدة فكرية قائمة بذاتها — مهما تكن علاقته بسابقيه
ومعاصريه ولاحقيه — لأنه كان دائمًا يستهدف بعمله الفلسفي إقامة
بناء كامل، ونسق شامل يسع كل شيء، ويفسر كل شيء، فكان يتخذ لنفسه
مبدأً يدركه بالحدس، ثم يستنبط من ذلك المبدأ نتائجه، ثم النتائج
التي تترتَّب على هذه النتائج، وهكذا، حتى يتكامل البناء من سقفه
الأعلى إلى أرضه السفلى، وإذا بهذا البناء فيه عن كل جوانب الوجود
ما يفسِّرها في ضوء ذلك المبدأ، حتى إذا ما جاء فيلسوف آخر، ولم
يعجبه هذا البناء، أقام لنفسه بناءً آخر من سقفه الأعلى إلى أرضه
السفلى، ليسع هو الآخر كل شيء ويفسر كل شيء على ضوء مبدأ جديد،
وهلمَّ جرًّا.
لكن ما هكذا العلماء، فإن كانت الخاصة المنهجية للفيلسوف هي أن
ينفرد ببنائه، فخاصة العالم هي أن يتعاون مع زملائه العلماء، كل
يضيف شيئًا، وإن يكن هدف الفيلسوف أن يجعل الكون كله موضوعَ بحثه
دفعةً واحدة، فهدف العالم هو أن يقتصر — مع زملائه في البحث — على
جزءٍ واحدٍ أو مشكلةٍ واحدة، ولا عجب أن كان المكان المختار
للفيلسوف، المكان الذي يختاره ويفضله أثناء قيامه بعملية التفكير،
مكانًا معزولًا، كالدير أو ما يشبهه، وأن يكون المكان المختار
للعالم معملًا يلتقي فيه مع زملائه، وكان السكون وكانت الظلمة من
موحيات التفكير عند الفلاسفة، فأصبحت الحركة وأصبح النور من لوازم
التفكير عند العلماء.
وأراد الفلاسفة المحدثون أن يتشبَّهوا — من حيث المنهج —
بالعلماء، فلم يطمع الواحد منهم في أن تخرج من رأسه الحكمة كلها
كاملة التكوين كما خرجت «منيرفا» من رأس «زيوس» في أساطير اليونان،
بل ما هو أكثر من ذلك، لم يطمع واحد منهم في أن ينفرد بنفسه في وضع
كتاب في موضوع بحثه، حتى لقد أصبح الطابع الذي يميز التأليف
الفلسفي في العصر الحاضر أقربَ جدًّا إلى أن يتعاون جماعة من
الفلاسفة على إخراج كتابٍ واحد في موضوعٍ واحد، كل منهم يتناول
الموضوع من ناحية خاصة على أن يكون بين الجميع أساسٌ مشترك، هو
وجهة النظر.
ومن الأمثلة على هذا الاتجاه العلمي في منهج البحث عند الفلاسفة،
جماعة «الواقعيين الجدد»، ففي عام ١٩١٠م اجتمع ستة من الفلاسفة الأمريكيين؛
١ ليضعوا فيما بينهم أساسًا يتَّفقون عليه جميعًا، ثم
يتعاونون معًا على بناء فلسفة واقعية على ذلك الأساس المشترك، ولما
كانت واقعيتهم التي اتفقوا على أساسها جديدة؛ فقد أسموها بهذا
الاسم، ثم عُرفوا به في الكتابات الفلسفية المعاصرة، ولم يلبثوا
بعد بضعة اجتماعات عقدوها للمناقشة والمباحثة والدرس، أن أصدروا —
في يوليو سنة ١٩١٠م — بيانًا أطلقوا عليه هذا العنوان: «برنامج
ومنصة أولى لستة من الواقعيين»،
٢ ومضى بعد ذلك عامان، فأخرج هؤلاء الستة أنفسهم كتابًا
تعاونوا عليه، جعلوا عنوانه: «الواقعية الجديدة»
٣ — دراسات تعاونية في الفلسفة — فكان هذا الكتاب
المشترك هو بداية تسميتهم في دوائر البحث الفلسفي، حتى يومنا هذا
باسم «الواقعيون الجدد».
لم يكن معنى اشتراكهم هذا اتفاقًا بينهم على كل التفصيلات، ولا
كان معنى اختلافهم في التفصيلات اختلافًا كذلك على المبادئ، بل
كانوا على اتفاق من حيث المبادئ، ثم ظهرت بينهم اختلافات تفصيلية
لم تمنع أن يكون بينهم وَحْدة مشتركة في وجهة النظر، وماذا يكون
موضوع البحث عندهم إلا هذا الموضوع الذي شغل الفلاسفة في العصور
الحديثة كلها، وأعني به «المعرفة»؛ عندما يعرف الإنسان شيئًا،
فهنالك عارف ومعروف، فما العلاقة بينهما؟ أمن الضروري في تحديد تلك
العلاقة المعرفية بين الطرفين أن ندرس الطرفين ذاتيهما أم يجوز
الاكتفاء ببحث العلاقة دون الإيغال في بحث العارف على حدة والمعروف
على حدة؟
أخذ الواقعيون الجدد بهذا الرأي الثاني، وهو أن البحث في
«المعرفة» إنما يقتصر على تحليل «العلاقة» الكائنة بين الشخص
العارف والشيء المعروف، وهم في تحليلهم لتلك العلاقة قد دمجوا
ثلاثةً من المذاهب الفلسفية في مذهبٍ واحد.
فأما المذهب الأول فهو الذي كان قد شاع في إنجلترا عندئذٍ على
يدَي «جورج مور» وعرف باسم «فلسفة الحس المشترك»
٤ التي تعتمد على خبرة الإنسان المباشرة في حياته
اليومية، فما ينبئ به «الحس المشترك» هو صحيح، ولسنا بحاجةٍ إلى
إثبات صحته بالبراهين أيًّا كان نوعها، فهذه الدواة أمامي وهذا
القلم في يدي، ولو تركت القلم إلى جانب الدواة على المنضدة، وخرجت
من الغرفة لا أراهما ولا أمسهما، فسيظل القلم والدواة موجودين على
الرغم من غيابي وعدم إدراكي لهما، هذا هو ما ينبئني به «الحس
المشترك» وهو نبأ صحيح، فإن جاء مذهب مثالي بعد ذلك يحاول أن يبرهن
لي على أنهما ليسا موجودين إلا باعتبارهما فكرتين في رأسي، كان
كاذبًا في دعواه، وكان كاذبًا في برهانه على السواء، ودليل الكذب
عندي هو نبأ «الحس المشترك» الذي لا يحتاج إلى دليل، وكذلك إن جاء
مذهب واقعي يعترف معي بوجود القلم والدواة على الرغم من عدم إدراكي
لهما أثناء غيابي عن الغرفة، كان صادقًا في دعواه كاذبًا في
برهانه؛ لأنها دعوى لا تحتاج إلى برهان، فبين التجريبيين الإنجليز
«باركلي» — في أول القرن الثامن عشر — الذي يدير مذهبه على مبدئه
المشهور «وجود الشيء هو في إدراكه» أي إن ما لا يُدرَك لا وجود له،
لكن هذه الواقعية الجديدة تأخذ بغير ذلك؛ إذ تأخذ بأن الشيء
الموجود موجودٌ بغض النظر عن إدراكنا أو عدم إدراكنا له، فإذا كنتُ
وأنا أدرك الدواة أمامي على وعي بما أدرك، أي إنه إذا كان الوعي
عنصرًا من عناصر الموقف الإدراكي، فليس معنى ذلك أنه إذا غاب هذا
العنصر زالت بقية عناصر الموقف كلها، بل قد يغيب عنصر الوعي؛
وبالتالي يمتنع الإدراك، ومع ذلك يظل الشيء المدرَك على حاله
موجودًا كما كان، ولئن كانت حالة الإدراك تُحدث تغييرًا ما فإنما
يقع هذا التغيير في الشخص المدرك؛ إذ يصبح على وعي بما لم يكن على
وعي به.
وأما المذهب الثاني من المذاهب الثلاثة التي أدمجها الواقعيون
الجدد في فلسفة واحدة؛ فهو الاعتراف بالوجود الضمني للمعاني الكلية
جريًا على المبدأ الذي أخذ به أفلاطون في «نظرية المثل»؛ فالمشكلة
كما رآها أفلاطون، صاحب هذا المبدأ، يمكن وضعها كما يلي: خذ —
مثلًا — فكرة «العدالة»، فلو سألنا أنفسنا «ما العدالة؟» كان من
الطبيعي للإجابة عن هذا السؤال أن نستعرض أمثلةً من العدالة،
فنستعرض هذا الفعل العادل وهذا وذاك، لكي نستخرج منها ما هو مشترك
بينها، فيكون هذا المشترك هو معنى «العدالة»؛ لأنه من غير المعقول
أن نطلق اسمًا واحدًا على هذه الأفعال المختلفة دون أن يكون بينها
جانبٌ مشترك هو الذي يبرِّر لنا أن نسلكها جميعًا تحت ذلك الاسم
الواحد هذا الجانب المشترك هو «العدالة» نفسها، «العدالة» الخالصة
قبل مزجها بعناصر أخرى لتكون هذا الفعل العادل أو ذاك، وقل هذا في
كل اسم كلي آخر، حيث ينطبق الاسم الواحد على مسميات كثيرة؛ لأنها
مشتركة في طبيعة واحدة أو جوهر واحد، وهذا الجوهر الواحد، أو
الفكرة الواحدة التي تلبس السياقات المختلفة، التي هي الجزئيات
المسماة باسم واحد، هي ما يسمِّيه أفلاطون «بالمثال» — فمثال
«العدالة» أو «فكرتها» موجودة وجودًا ليس هو بذاته وجود الجزئيات
التي تسمى بها، ولما كانت تلك «الفكرة» متمثلةً في الجزئيات
الكثيرة المتصفة بها، فهي ليست جزئية مثلها، بل «كلية» تنطبق على
أمثلة كثيرة؛ وبالتالي ليست هي مما يُدرك بالحس كما تدرك الجزئيات،
كلا ولا هي متغيرة كما تتغير الجزئيات — هذا هو المبدأ الأفلاطوني
في الأفكار الكلية، أو المعاني الكلية، هي موجودة، لكن وجودها من
نوع يختلف عن وجود الجزئيات، ولنسمِّ وجودها ذاك «وجودًا ضمنيًّا»
تمييزًا له عن وجود الجزئيات الذي هو وجود علني ظاهر،
٥ والواقعيون الجدد من رأيهم أن المعاني الكلية موجودة
«وجودًا ضمنيًّا» حتى في حالة عدم تفكيرنا فيها وإدراكنا لها
ووعينا بها، على غرار ما قالوه عن الأشياء المحسوسة أنها تكون
موجودة حتى في حالة غيابنا عنها وعدم إدراكنا لها، أي إن وعينا
للحقيقة ليس شرطًا لازمًا لوجودها، في ذلك يقول «مونتاجيو» أحد
الواقعيين الجدد: «إن حقيقة كون ٧ + ٥ = ١٢ يمكن تفسيرها تفسيرًا
كاملًا بتفسيرنا لطبيعة السبعة وطبيعة الخمسة وطبيعة الاثني عشر،
وليس هذا التفسير بمعتمد إطلاقًا على طبيعة الوعي (بهذه الحقيقة).»
٦
والمذهب الثالث من المذاهب التي اندمجت على أيدي الواقعيين
الجدد، هو أن إدراكنا للشيء الذي ندركه إنما يأتي مباشرةً ولا يأتي
عن طريق حلقة وسطى تقع بيننا وبينه؛ وذلك أن الواقعية التقليدية —
واقعية «لوك» مثلًا — كانت تفترض ارتسام صورة ذهنية للشيء الذي
ندركه بحواسنا، ثم يكون فعل التفكير على هذه الصورة الذهنية، فكأن
الصورة الذهنية حلقة وسطى تقوم بين الشيء المدرَك من ناحية، والعقل
المدرِك من ناحيةٍ أخرى، ومذهب الواقعية الجديدة التي نحن بصددها
الآن، هو أن الإدراك إنما يجيء مباشرًا، فلا وساطة بين المدرِك
والمدرَك، ومن هذا تنتج نتيجة هامة، وهي ألا فرق بين الشيء كما هو
في حقيقته الخارجية، وبينه كما هو في وعينا إذا ما أدركناه؛ لأننا
بإلغاء الوساطة بيننا وبينه؛ فقد ألغينا بالتالي احتمال أن يكون
الشيء في حقيقته الخارجية مختلفًا عنه في شعورنا به، كان «لوك» —
وكذلك كان «ديكارت» — يذهب إلى أن عملية إحساسنا بالشيء تغير منه،
كما تغير حرارة الشمس قطعة الشمع بإذابتها، فإذا ما أدركت عقولنا
تلك الصور الحسية التي رسمها الإحساس للأشياء المدركة، فإنما هي
تدرك شيئًا مختلفًا عما هو في الحقيقة كائن خارج عقولنا، فنحن —
مثلًا — ندرك اللون والطعم على نحو يختلف عما كان مبعثًا للإحساس
الذي أحدث هذا اللون أو الطعم، وباختصار كان «لوك» يعتقد أننا ندرك
«تأثير» الشيء فينا، لا الشيء نفسه، وأما الواقعية الجديدة فمذهبها
هو أن الإدراك يكون للشيء نفسه، على أن أنصارها قد اختلفوا
اختلافًا بيِّنًا في هذا الجانب من الموضوع.
تلك هي الاتجاهات العامة عند الواقعيين الجدد، وسنحصر الحديث
الآن في واحدٍ منهم، هو أشهرهم، ولعله أبرزهم وأقدرهم في آنٍ واحد،
وهو «بري»
٧ الذي بسط وجهة نظره في بحثٍ مشهور عنوانه «حرج التمركز الذاتي»
٨ يهاجم به المذهب المثالي وما ينحو نحوه، في قوله بأن
وجود الشيء معتمد على إدراكنا له، أو إدراك العقل له، أيًّا كان
ذلك العقل، وبغير هذا الإدراك العقلي للشيء لا يكون له وجود، فيرد
«بري» على ذلك قائلًا: نعم إنه محال على إنسان بشري أن يدرك شيئًا
معينًا بحواسه أو بفكره دون أن يكون إدراكه هذا قائمًا بالنسبة
لشخصه، إنه لا خلاف في ذلك مهما يكن المذهب الذي ينتمي إليه
الفيلسوف، فلا اختلاف في الرأي هنا بين واقعي ومثالي؛ لأننا نقول
بديهية إذ نقول: إن الإنسان وهو مدرك لشيءٍ ما، يكون مدركًا لذلك
الشيء في علاقته به، وكيف يكون الأمر غير ذلك، ما دام الإنسان وهو
مدرك للشيء بحواسه أو بفكره، تكون الحواس حواسَّه هو والفكر فكره
هو؟ لكن سؤالنا هو هذا: هل يقتضي ذلك أن يكون «وجود» الشيء متوقفًا
على كونه مدركًا عند فرد أو أكثر من الناس؟ ألأننا لا نستطيع أن
نتحدث بعضنا مع بعض إلا في حدود أفكارنا التي في رءوسنا عن الأشياء
التي أدركناها، أو بعبارةٍ أخرى، لا نستطيع تبادل الحديث عن
الأشياء إلا إذا حولناها إلى أفكار في رءوسنا، نستنتج بالضرورة ألا
وجود للأشياء إلا على صورة أفكار في رءوسنا؟ كلا، فكل ما في وسعنا
استنتاجه من ذلك هو أننا لا نستطيع «ذكر شيء إلا بعد أن يتحوَّل
عندنا إلى فكرة»، لكن ذلك لا يعني البتة «ألا وجود إلا لأفكارنا»،
فالتمركز في الذات إنما يتناول «الفكر» لا «الوجود الشيئي»، فعن
«الفكرة» نقول بغير شك إنها لا تكون إلا بإدراكنا لها، أي لا توجد
إلا بتفكيرنا فيها؛ لأننا عندئذٍ لا نقول في الحقيقة شيئًا أكثر من
تكرارنا للموضوع الواحد مرتين، فكأننا نقول: «لا يكون التفكير إلا
إذا حدث التفكير»، أما عن «الوجود» بالنسبة للشيء الذي هو موضوع
التفكير، فالأمر جد مختلف؛ لأنه يكون موجودًا إذا أدركناه، ويكون
موجودًا إذا لم ندركْه على حدٍّ سواء.
٩
إن «بري» لَيرفض أن يسلم بأية وجهة من وجهات النظر، يكون من
شأنها أن تعلق وجود الشيء على علاقة الإنسان به، ومن هنا وجَّه
النقد كذلك إلى المذهب الپراجماتي، إلى الحدود التي يكون فيها هذا
المذهب صنو المثالية في تعليق الوجود على الإنسان المدرك؛ فهو لا
يقبل — مثلًا — من البراجماتية أن تقول — والقول هنا لوليم جيمس —
إن معرفتنا تخلق الواقع،
١٠ على اعتبار أن الواقعة المعينة لا تعني إلا ما
استخدمها به استخدامًا يحقق صالحي، لكن «بري» لا يرضى عن مثل هذا
الاتجاه الذي إذا سار فيه صاحبه إلى آخر الشوط، انتهى به الأمر إلى
نسبية مطلقة لا تترك حقيقة واحدة ثابتة في ذاتها، فستتغير الحقائق
العقلية بالنسبة لتغير الناس واختلاف مواقفهم وظروفهم — ولا يمانع
«بري» في هذه النسبية
١١ — وستتغير كذلك طبائع الوقائع الخارجية نفسها، أي
سيتغير الوجود الخارجي، بتغير الأشخاص واختلاف أنظارهم وأفكارهم
ومصالحهم، وذلك ما لم يقبله «بري» بحالٍ من الأحوال.
إلى هنا لم نقل شيئًا عن «بري» سوى ما وجَّهه من نقد إلى
المثالية والبراجماتية على السواء، وكان مدار نقده لكلتيهما هو
إصراره على أن يظل للشيء الخارجي وجودُه المستقل عن معرفة الإنسان
إياه، لكن ﻟ «بري» رأيًا إيجابيًّا إلى جانب نقده السلبي، ويبدأ
«بري» عرض مذهبه الإيجابي هذا — كما هي العادة عند الكثرة الغالبة
من فلاسفة العصور الحديثة — بالبحث في نظرية المعرفة،
١٢ ومنها يستطرد إلى عرض مذهبه الواقعي الجديد، وما مشكلة
المعرفة — في رأيه — إلا تحديد «العلاقة بين عقل ما وبين ذلك الذي
يتصل بذلك العقل على أنه موضوع معرفته»؛
١٣ فأول ما نلاحظه بين طرفي العلاقة — أي بين العقل
العارف من ناحية والشيء المعروف من ناحيةٍ أخرى، بين العقل والشيء
المتصل بالعقل — هو أن «العقل» عاملٌ في كلٍّ منهما، وإذن فخير
سبيل نسلكه في تحليل الموقف الذي نحن بصدد تحليله، هو أن نبدأ
بمعرفة ماذا عسى أن يكون المقصود بهذا العامل — الذي هو العقل —
المشترك بين الطرفين المرتبطين أحدهما بالآخر في حالة المعرفة؛
لأننا لو حددنا المعنى المقصود «بالعقل»، ثم طرحنا هذا المعنى من
الطرفين، تبقى لدينا الطرف الخارجي — طرف الشيء المعروف — مطروحًا
منه عامل العقل، فيكون لدينا بذلك حقيقة الشيء الخارجي مستقلًّا عن
علاقة العقل به أثناء عملية الإدراك.
ولمعرفة «العقل» طريقتان تقليديتان، كان يلجأ الباحث إلى إحداهما
أو إلى كلتيهما حسب وجهة نظره، فإما أن تستبطن نفسك وتلاحظها من
داخل لترى ماذا هناك مما نسميه عقلًا — وعندئذٍ تكون الملاحظة
ذاتية خاصة مقصورة على صاحبها وحده — وإما أن تنظر إلى الطبيعة أو
إلى الناس من خارج كيف يسلكون فرادى أو مجتمعين، فإذا ما شاهدنا
الطبيعة كيف يطرد سيرها، والناس كيف يتصرفون على نمط معين هو الذي
نسميه تصرفًا عاقلًا، كان لنا بذلك معنى «للعقل» كما يشاهد من
الخارج الظاهر، وعندئذٍ تكون المشاهدة موضوعية عامة يشترك فيها كل
من أراد، وواضح أن هاتين الطريقتين في البحث عن «العقل» لا
تؤدِّيان إلى نتيجة واحدة في كلتا الحالتين؛ لأن ما يمكن مشاهدته
في الداخل بالتأمُّل الباطني شيء يختلف كل الاختلاف عما يمكن
مشاهدته في الخارج بالملاحظة الخارجية، حتى لَترى من المفكرين من
يُنكر على هذه المشاهدات الخارجية الظاهرة في حركات الطبيعة وسلوك
الإنسان، أن تكون هي نفسها «العقل»، بل هي «ظواهر» تدل على عقل
كامنٍ في الباطن، وهو الذي يعبر عن نفسه بهذه «الظواهر» والرأي
الذي يتقدَّم به «بري» في هذا هو اعتبار الجانبين معًا، وفي وقتٍ
واحد، «عقلًا» وعندئذٍ يكون العقل ذا جانبين، تنظر إليه من جانبه
الباطن، فإذا هو هذا الذي تدركه في نفسك وأنت تتأملها، وتنظر إليه
من جانبه الظاهر فإذا هو هذا السلوك الذي نراه، شأنه في ذلك شأن
الدرع المحدب من جانب والمقعر من جانبٍ آخر، دون أن يكون معنى
اختلاف الجانبين أن الدرع درعان، إنما هو درع واحد ذو مظهرين، وإذن
فلا الذي نلاحظه في بواطن أنفسنا إذ نحن نفكر هو العقل كله، ولا
الذي نلاحظه خارج أنفسنا من نتيجة التفكير هو العقل كله، بل العقل
هو هذا وذاك معًا، وتستطيع بادئًا من أحد الطرفين أن تستدل الآخر،
فمن مكنون العقل تعرف ما السلوك الذي ينتج، ومن الناتج السلوكي
تعرف ماذا كان في مكنون العقل من مضمون، وليس الطرفان بمختلف
أحدهما عن الآخر من حيث العنصرية كما كان الظن قديمًا، بل ما في
الداخل وما في الخارج يتألَّفان من عناصر بعينها، اختلف ترتيبها في
كلتا الحالتين، كانت مرتبة على نحو فكانت عقلًا من الداخل، ثم كانت
مرتبة على نحوٍ آخر، فكانت عقلًا من الخارج، وأما عناصر التكوين
نفسها فمحايدة، لا هي عقلية خالصة ولا طبيعية خالصة.
١٤
ولما كان الناس على اختلافٍ فيما بينهم من حيث اهتمامهم كان كل
منهم مسوقًا بميله الخاص إلى ناحية معينة من بيئته، فترى أحدهم
مشغوفًا بما لا يطرأ على زميله ببال، وفي مقدور الباحث دائمًا أن
يلاحظ إلى أي ناحيةٍ من البيئة يتجه فرد معين باهتماماته ورغباته،
ومنها يسير مستدلًّا ماذا يكون في باطن نفسه من تفكير، على أنه
مهما اختلف الناس في ألوان نشاطهم الفكري، فهم على كل حال أفراد من
نوعٍ واحد هو النوع البشري، والنوع البشري — كسائر أنواع الأحياء
الأخرى — تريد له الحياة أن يبقى؛ ولذلك زودته بما يعينه على
البقاء، فهذه الاهتمامات المختلفة والرغبات المتباينة عند الأفراد،
إنما تلتقي جميعًا في أرومة واحدة، هي حفظ بقاء النوع، ثم تتفرع
فروعًا يقابل كل منها طبيعة في الفرد الواحد أن يحفظ ذاته وبقاءه،
أريد أن أقول إن كل فرد من الناس — بما يبديه من أوجه النشاط —
يستهدف غرضين في آنٍ واحد؛ حفظ بقائه هو، وحفظ بقاء النوع الذي هو
أحد أفراده، فلو جمعت هذه الرغبات إلى الوسائل التي تتخذ لتحقيقها
كان لك بذلك ما نسميه «عقلًا»، فعقل الفرد الواحد هو ميوله ورغباته
واهتماماته — وكلها في النهاية يرمي إلى حفظ بقائه وبقاء نوعه —
مضافًا إليها الوسائل التي تحققها، ولما كان محالًا أن تفصل بين
النشاط العقلي وبين الشيء الذي هو موضوع ذلك النشاط، كان ذلك الشيء
جزءًا من العقل حين يكون موضوعًا لنشاط العقل — وعندئذٍ يكون
«فكرة» — لكن هذا الشيء نفسه لا تستنفد وجوده هذه العلاقة وحدها؛
إذ قد يكون بينه وبين شيءٍ آخر علاقة أخرى، وإذن فلا بد من
الاعتراف له بوجود مستقل عن كونه موضوعًا لمعرفة عقلية في لحظةٍ
معينة، وبعبارةٍ أخرى فإن الشيء الواحد المعين قد يكون «فكرة»
آنًا، وشيئًا ماديًّا آنًا آخر، بل هو في اللحظة الواحدة المعينة
قد يكون «فكرة» بالنسبة إلى العقل الذي يدركه، و«شيئًا» بالنسبة
إلى أشياء أخرى بينه وبينها ضروب أخرى من العلاقات.
على هذا الاعتبار تكون «المعرفة» علاقة قائمة بين العقل والشيء،
وذلك هو نفسه الأساس الذي يقيم عليه «بري» نظريته في القيم
١٥ — القيم الخلقية والجمالية — فقيمة الشيء هي في علاقته
بفردٍ معين، وقوامها قدرة الشيء على حفز الإنسان على نحوٍ ما، وقد
تكون القيمة موجبة أو سالبة؛ فهي موجبة لو كان للشيء قدرة جاذبة،
وهي سالبة إذا كان فيه ما ينفر، ولا تكون الجاذبية أو النفور
دائمًا على صورةٍ بعينها، فللجاذبية صور مختلفات وكذلك للنفور، على
أن المجموعة الأولى تتفق في عنصر مشترك، وكذلك المجموعة الثانية،
وإذن فلا يكمل وجود «القيمة» إلا بوجود الطرفين معًا: الشيء
والشخص، أي إن القيمة لا تكون في الشيء وحده دون وجود الشخص الذي
ينجذب إليه أو ينفر منه، وكذلك لا تكون القيمة في الذات وحدها دون
وجود الشيء الذي يجذب أو ينفر، على أن موضوعية القيمة وواقعيتها
تزداد حين نعلم أنه ليس حتمًا على الشخص المعين أن يكون هو نفسه
المنجذب إلى الشيء أو النافر منه؛ لكي يحكم لذلك الشيء بقيمته، بل
حسبه أن يعلم أن للشيء ذلك الأثر في غيره من الناس، وذلك كما تحكم
على الرصاصة بأنها قاتلة دون أن تكون أنت قتيلها، وهكذا يجعل «بري»
من القيمة وإدراكها في الأشياء، ضربًا من «المعرفة» كسائر ضروبها،
فيجعل لها جانبها الذاتي وجانبها الموضوعي بنفس المقدار الذي يجعله
لهذين الجانبين في حالات «المعرفة»، فأنا «أعرف» أن للشيء الفلاني
قيمة جمالية — مثلًا — سواء جاءت هذه المعرفة عن طريق اتصال الشيء
بذاتي، أو اتصاله بشخصٍ آخر، وهكذا يصبح في مقدورنا أن نعلم أن
لشيءٍ ما قيمة معينة بمجرد ملاحظة سلوك الآخرين إزاءه، أي قبل أن
نمارس نحن أنفسنا قيمته بالنسبة إلى ذواتنا، فمقياس «القيم» — إذن
— عام وواقعي، وليس هو بالذاتي الخاص.
(٢) الواقعية النقدية١٦
بنفس الروح العلمية التي اجتمع بها الواقعيون الجدد، والتي تتلخص
في تعاونهم على موضوع البحث كما يتعاون العلماء في المعمل إزاء
مشكلة واحدة، بدل أن ينفرد كلٌّ منهم ببنائه الفلسفي الخاص، وفي أن
يتناولوا المشكلات الجزئية واحدة بعد واحدة، دون أن يشطح بهم
الطموح الواهم — كما شطح بالفلاسفة الأقدمين — إلى تناول الكون كله
دفعة واحدة موضوعًا لبحثهم، كأنما ذلك في حدود المستطاع، أقول: إنه
بنفس هذه الروح العلمية التي اجتمع بها أنصار الواقعية الجديدة،
اجتمعت جماعة أخرى من الواقعيين الذين رأَوْا في عمل زملائهم شيئًا
من السذاجة في التحليل، حتى لقد نعتوهم بهذه الصفة — صفة السذاجة —
فذهبت في الكتابات الفلسفية مميزًا لهذا النوع من الواقعية التي لا
تمعن في النقد والتمحيص إذا ما تعرضت لتحليل «المعرفة»، وأما هذه
الجماعة الجديدة فقد وصفت نفسها بأنها «نقدية» أي إنها أكثر دقة في
عملية التحليل.
تألفت هذه الجماعة من سبعة فلاسفة في الولايات المتحدة،
١٧ تعاونوا على البحث المشترك، وخصوصًا في الفترة الواقعة
بين عامي ١٩١٦–١٩٢٠م، وكزملائهم أعضاء «الواقعية الجديدة» في
تعاونهم على مؤلف مشترك، أخرج هؤلاء أيضًا مؤلفًا اشتركوا فيه
جميعًا، عنوانه «مقالات في الواقعية النقدية»،
١٨ ثم أضافوا إلى هذا العنوان الرئيسي عنوانًا فرعيًّا
يعبِّر عن روح التعاون، وهو «دراسة تعاونية لمشكلة المعرفة»، وقد
كان الاتفاق بين هؤلاء — كما كان بين أولئك — منصبًّا على موضوع
البحث ووجهة النظر الأساسية، لا على التفصيلات التي ذهب كل منهم
فيها مذهبه الذي قد يختلف فيه مع بقية الزملاء، فكان مما اتفقوا
عليه جميعًا أنه في بعض حالات المعرفة يمكن التمييز بين الشيء
المعروف وبين الحالة الشعورية التي تكون عندئذٍ وسيلة للشخص العارف
في معرفة ما يعرفه عن ذلك الشيء، فلئن كانت «الواقعية الجديدة» قد
تنكرت تنكرًا تامًّا لكل انقسام بين العارف والمعروف في حالة
المعرفة، وأصرَّت على أن تجعل الموقف كلًّا واحدًا لا تمييز بين
طرفيه؛ فقد عادت «الواقعية النقدية» إلى الاعتراف بهذه الثنائية
التي يمكن التمييز فيها بين الشخص العارف من ناحية والشيء المعروف
من ناحيةٍ أخرى، لكنها إذ اعترفت بإمكان هذا التمييز، حرصت ألَّا
تجعل الشخص العارف منحصرًا في معرفته وفي حالته الشعورية بحيث يقال
— كما تقول المثالية — إن كل ما يعرفه ذلك الشخص هو نفسه، وألا
سبيل أمامه إلى معرفة ما في العالم الخارجي من أشياء، وذهبت إلى
أنه على الرغم من أن الإنسان يتصل بالشيء الذي هو موضوع معرفته في
حالةٍ معينة، عن طريق حالته الشعورية — سواء كانت هذه الحالة
الشعورية إدراكًا حسيًّا أو إدراكًا عقليًّا أو تذكرًا لإدراك ماضٍ
— إلا أن هذه الحالة الشعورية المتوسطة بين الطرفين لا تحجب العقل
العارف وراء ستار، بل إنه ليتصل بالشيء الخارجي ذاته، ومعنى ذلك هو
القول بأن الشيء المعروف موجود في الخارج، وتجيء معرفتي إياه
فتبصرني بهذا الوجود، دون أن تكون معرفتي هذه هي الخالقة له
المنشئة لوجوده، بل هو موجود وجودًا مستقلًّا سواء صادفه الشخص
المدرك أو لم يصادفه، أضف إلى هذا أن ما أعرفه عن الشيء حين أعرفه
إنما هو كل حقيقة الشيء، وليس الأمر هنا — كما ذهب «كانت» —
مقصورًا على إدراك الظواهر وحدها، دون الجوهر، أو ما أسماه «كانت»
«الشيء في ذاته»، المعرفة الإنسانية إذا ما ألمَّت بشيءٍ ألمت به
كله ظاهره وخافيه، ولا تفرقة بين ما هو عَرَض وما هو جوهر.
وعملية المعرفة في كل حالاتها تبدأ عند بداية معينة، دون أن تكون
هذه البداية نفسها جزءًا من العملية المعرفية، كما يبدأ حل المشكلة
بوجود مشكلة دون أن تكون المشكلة نفسها جزءًا من الحل، وهذه
البداية هي ما اصطلح الواقعيون النقديون على تسميته «بالمعطَى»،
١٩ وها هنا نصل إلى صميم المذهب الواقعي النقدي، وهو
التمييز بين الشيء المعروف وبين «المعطَى» الذي يبعثه ذلك الشيء
إلى الإنسان، فتبدأ به عملية المعرفة، هذا «المعطَى» هو بطبيعة
الحال حلقة شعورية وسطى تقع بين الشيء من ناحية ومعرفة الشخص له من
ناحيةٍ أخرى، خذ مثلًا إدراكي لهذا المصباح القائم أمامي، كيف
أدركه؟ يأتيني منه انطباع على عيني، وهذا هو «المعطى»، وعندئذٍ
أبدأ في «تفسير» ذلك الانطباع بأنه مصباح، فالمعطى نفسه ليس جزءًا
من عملية التفسير، كلا ولا هو المصباح القائم في الخارج، إنما هو
حلقة الاتصال بيني وبين الخارج، وهنا أجد مواضع النقص في تحليل
«الواقعيين الجدد» أو «الواقعيين السذج» — كما أطلق عليهم زملاؤهم
النقديون — لأنهم قالوا إن الإنسان حين يدرك شيئًا إنما يتصل به
مباشرةً بلا وساطة كائنة ما كانت، كأنما المصباح الذي أدركه الآن
يدخل في رأسي بأكمله، مع أن الأمر يصبح — بعد التحليل — واضحًا وهو
أن ما أدركه عن المصباح صورة تصوره وتمثله، أو هو «المعطى» أو
«المعطيات» التي يعطيها إياي المصباح، فتكون عندي نقطة ابتداء
لعملية معرفتي له.
فمن رأي الواقعيين النقديين أنه لا بد من التمييز في عملية
المعرفة بين «المعطيات» التي هي «حاضرات» في العقل، وبين «الأشياء»
التي ليسَت بحاضرةٍ في العقل إلا عن طريق الإنابة أو التمثيل؛ إذ
ينوب عنها «معطياتها»، لكن هذا معناه اعتراف ببعض جوانب المذهب
المثالي؛ لأنه اعتراف بأننا في حالة المعرفة نجاوز حدود الخبرة
المباشرة؛ لأن الخبرة المباشرة هي معطيات، ثم نجاوزها إلى ما ليس
فيها، لنقول: إن وراءها حقائق هي الأشياء الخارجية، لا، بل إنا
لنذهب إلى ما هو أبعد من ذلك في التجاوز لحدود خبراتنا المباشرة
إذا ما تعرضنا لأي تفكير علمي من شأنه أن يصوغ القوانين العامة،
فليس ما نخبره من الأشياء «قوانين عامة»، إن كل ما نخبره هو خبرة
جزئية في لحظةٍ جزئية هي اللحظة الحاضرة، فإذا توقعت ما سيحدث في
المستقبل في ظروفٍ معينة، وكذلك إذا تذكرت ما قد حدث في الماضي،
فأنا في كلتا الحالتين لا ألتزم حدود خبرتي الجزئية المرتهنة
باللحظة الجزئية الحاضرة، بل أجاوزها إلى ما ليس منها.
ومع ذلك فهم لا يودون أن يخلطوا بين أنفسهم وبين المثاليين؛
لأنهم واقعيون يعترفون بوجود العالم الخارجي مستقلًّا عن عقل
الإنسان وأفكاره، ولا يوافقون على تفرقة المثاليين — وبصفةٍ خاصة
عمانوئيل كانت — بين الشيء من حيث ظواهره المدركة، والشيء في ذاته
الذي هو مستحيل على الإدراك، لا يوافقون على هذه التفرقة، ويجعلون
كل شيء جزءًا من هذه الطبيعة؛ العقول المدرِكة والأشياء المدرَكة
على السواء؛ وبالتالي ليس هنالك ما يصح أن يقال عنه إنه وراء
الطبيعة أو فوقها أو مفارق لها بأي وجهٍ من الوجوه.
وعلى هذا الأساس يمكن اعتبار الواقعيين النقديين — أو بعضهم على
الأقل — من «الطبيعيين» الذين جعلوا محور تفكيرهم هو المبدأ القائل
بأن قاموس الطبيعة محيط بكل شيء، وعلى رأس هؤلاء «جورج سانتايانا»،
لكني أوثر أن أفرد للحديث عن هذا الجانب فصلًا خاصًّا، هو الفصل
التالي، لأهمية الفكرة في الفلسفة الأمريكية المعاصرة.