(١) «جورج سانتايانا» وعوالم الوجود
كل شيء في جوف الطبيعة، هذه هي الدعوى التي تتردد على أقلام
الفلاسفة — وعلى أقلام كثيرٍ من الأدباء — خلال النصف الأول من
القرن العشرين، فإن كان الإنسان جسمًا من ناحية، وعقلًا من ناحية
أخرى، فكلتا الناحيتين من مقومات الطبيعة على حدٍّ سواء، إنه ليس
هناك ما يبرر البتة أن تجاوز الطبيعة بحثًا عما يفارقها لنفسر به
الطبيعة وما يجري فيها، فالطبيعة تفسِّر نفسها بنفسها، الطبيعة هي
الحقيقة الشيئية برمتها، ليس وراءها شيء وليس فوقها شيء، وبهذه
النظرة تتخلص من التفكير الثنائي الذي كان يشطر الكون شطرين؛ مادة
وروح، كما يشطر الإنسان شطرين؛ جسم وعقل، فسمِّ ما شئت بما شئت من
أسماء، لكنك لن تجاوز بأسمائك ومسمياتك مجال الخبرة، والخبرة بكل
مجالها في الطبيعة لا تعدو حدودها، تكوين الأشياء وفسادها كلاهما
من ظواهر الطبيعة، الولادة والموت كلاهما طبيعي، وكذلك الثبات
والتغير، قسم الإنسان ما أردت من تقسيم، قل إنه جسم وعقل، أو قل
إنه جسم فقط وما العقل فيه إلا ظواهر سلوكه، أو قل إنه عقل خالص
وما الجسم إلا أداة، فهذه الوحدة الواحدة التي هي الإنسان، أو هذه
الأقسام كلها التي هي الإنسان، هي الطبيعة في وجهٍ من
وجوهها.
وما دام الأمر كذلك فالمنهج العلمي هو منهج التفكير كله مهما يكن
موضوع التفكير؛ إذ ليس هناك ما يستحيل على هذا المنهج، فما العلوم
إن لم تكن نظرًا إلى الطبيعة من هذه الناحية أو تلك؟ وأي موضوعٍ
تتناوله بالبحث سيكون أيضًا نظرًا إلى الطبيعة من إحدى نواحيها،
والمنهج الذي يصلح هنا يصلح هناك، فليس لما اصطلحنا على تسميته
بالموضوعات العلمية امتيازٌ خاص على سائر الموضوعات من حيث طريقة
البحث، كلها أجزاء من خبرة الإنسان، ولا فرق بين خبرة وخبرة من حيث
علاقتها بالإنسان وقابليتها للبحث والنظر، لكن ماذا نعني بالمنهج
العلمي؟ نعني به أساسًا أن يكون موضوع البحث مما قد يشترك في
ملاحظته أكثر من فردٍ واحد؛ فهو علمي وعام، وليس بالغيبيِّ الكامن
في ذات الفرد الواحد، لا يدركه إلا صاحبه دون سواه؛ ولذلك فليس من
المعرفة ما هو بحكم طبيعته مقتصر على فردٍ واحد في رؤيته وإدراكه،
ليس منها ما يراه الصوفي بحدسه أو ما يراه الإنسان في استبطان
ذاته، وليس منها ما يقوم على الإيمان — إن كان مبعث الإيمان
ذاتيًّا — وليس منها ما يستند صدقه إلى سند من سلطة دون أن يكون
قابلًا للتحقيق بعيدًا عن ذلك السند.
لك أن تنظر إلى الطبيعة على أنها مادة وحركة، ولك أن تنظر إليها
على أنها سيال من حوادث، لك أن تقول: إن الطبيعة لا تقصد إلى غرضٍ
معين، أو إنها تنحو نحو غاية مقصودة، وإن فيها من القيم ما يشعر به
الإنسان من خيرٍ أو جمال، لكنها ستظل هي الطبيعة كما كانت، وكما
ستكون إلى الأبد، إن الطبيعة في واقعها لا تتغير بنظرة الإنسان
إليها، ولا بالقيمة التي يلصقها بها؛ فقد يختار الناظر إليها نظرة
العالِم، أو قد يختار نظرة الفنان، أعني أنه قد ينشد فيها الباحث
ما هو حق، أو قد ينشد فيها ما هو خير أو جميل، لكن هذه النظرات
المختلفات كلها لن تجعل من الطبيعة شيئًا آخر غير ما هي عليه،
فالعالم والفنان معًا يتغذيان بغذاء مصدره واحد، وإن اختلف الغذاء،
وها نحن أولاء نعرض عليك من هؤلاء الطبيعيين من اختار نظرة الشاعر،
لكنه مع ذلك «طبيعي»، بل سرعان ما أصبحت كتبه مرجعَ الطبيعيين
جميعًا، وهو «جورج سانتايانا».
كان «سانتايانا» (١٨٦٣–١٩٥٣م) شاعرًا وأديبًا ناثرًا وفيلسوفًا،
وُلد في إسبانيا ونشأ وتربَّى في أمريكا، وظفر بأستاذية الفلسفة في
جامعة هارفارد، وهو في الفلسفة واقعي، غير أنه التفت بالواقعية
لفتة خاصة هي هذه التي أطلقنا عليها اسم «الفلسفة الطبيعية»؛ فهو —
كسائر الواقعيين في عصره — يدير فكره حول نقطتين رئيسيتين هما: أن
الأشياء التي هي موضوعات المعرفة الإنسانية موجودة وجودًا خارجيًّا
مستقلًّا عن تلك المعرفة؛ وأن تلك الأشياء الموجودة — موضوع
المعرفة — لا يتحتَّم أن تكون كائنات عينية، بل قد يكون وجودها مما
اصطلحْنا على تسميته بالوجود الضمني.
١
فهو يذهب — كما يذهب كذلك كثيرٌ من الواقعيين
٢ — إلى أن وعيَ الإنسان — أو شعوره أو عقله — إنما يدله
على حقائق الأشياء التي يعيها، كما هي في ذاتها خارج نفسه، وليس
وعيه إياها، أو معرفته لها، مما يغير من تلك الحقائق أو يحورها أو
يبطلها؛ فمعرفة الإنسان للشيء الذي يدركه صورة تمثل ذلك الشيء
تمثيلًا صحيحًا، على أن الإنسان إذ يتصل بالأشياء ليدركها، فإنما
يتصل بها اتصالًا مباشرًا لا تكون فيه حلقة وسطى بين الجانب العارف
والشيء المعروف اللهم إلا المعطيات الحسية، نعم يتصل الإنسان في
عملية المعرفة بالعالم المعروف اتصالًا مباشرًا، فيدرك فيه ما
يحتوي عليه من خصائص وحقائق، يدرك اللون كما هو واقع، ويدرك الشكل
كما هو واقع، ويدرك اطراد وقوع الحوادث كما يقع، فإن أدرك الإنسان
في شيءٍ ما لونه الأزرق كانت الزرقة صفة في الشيء لا إضافة أضافها
الإنسان من عنده خلال عملية الإدراك، وإن أدرك في شيءٍ ما أنه مثلث
أو مربع، كان التثليث أو التربيع صفة في الشيء المدرك، وإن أدرك أن
الأشياء تتجاذب على اطرادٍ معين يصوره قانون الجاذبية، كان هذا
الاطِّراد المدرك جزءًا من الطبيعة، وهكذا، هذه الصفات وهذه
الخصائص وهذه الطبائع كلها هي ما يسمِّيه «سانتايانا» بالجواهر
٣ — جمع جوهر — ولما كانت هذه «الجواهر» لا بد لها من
سنادة أو ركيزة تستند إليها لتظهر، تحتم افتراض وجود عنصر مادي
٤ ليكون مسرحًا — إن صحت هذه الكلمة في هذا السياق —
تظهر عليه تلك الصفات والخصائص والطبائع، فلا بد — مثلًا — من مادة
تتلون بالزرقة ليدرك الإنسان اللون الأزرق، ولا بد من مادة تتشكل
على هيئة المثلث ليدرك الإنسان هذه الصفة، وهكذا إلى آخر ما يدركه
الإنسان في عالم الطبيعة من ضروب المعرفة.
فإن سأل سائل: ومن ذا أدراك حين تعي مجموعة من الصفات مجتمعة
كاللون الأزرق وشكل المثلث إلخ أن هذه الصفات المجتمعة إنما اجتمعت
في شيءٍ خارجي له وجود مفارق لوجود أفكارك في ذهنك؟ إن الإنسان إذ
يعرف ما يعرفه إنما يكون على وعي بخبرته الخاصة التي هي في طوية
نفسه، فما الذي يبرر له أن يقرر للشيء الخارجي وجودًا مستقلًّا
بحيث يكون ذلك الشيء الخارجي مقابلًا لتلك الخبرة الخاصة الباطنية؟
إن سأل سائل سؤالًا كهذا — وهكذا يسأل المثاليون — أجاب
«سانتايانا» بما أسماه «الإيمان الحيواني»،
٥ ففي كيان الإنسان الطبيعي هذا «الإيمان» بأن معرفته
الداخلية صورة من عالم خارجي موجود، على اختلاف ما بين الجانبين،
فالجانب الداخلي وعي وعقل، والجانب الخارجي مادة.
إنه لا بد من الركون إلى مثل هذا «الإيمان» لكي نفرق بين حالتين
مختلفتين من حالات الإدراك؛ أما أولاهما فحالة نثق فيها بأن
«الجوهر» — أو إن شئت فقل «الفكرة» — الماثل في أذهاننا هو كذلك
متجسد في شيءٍ عيني خارجي، وأما الثانية فحالة تعلم فيها أن
«الجوهر» الماثل في الذهن ليس متجسدًا في شيءٍ عيني خارجي، كما هي
الحال في المدركات العقلية وفي التصورات الخيالية وما إلى ذلك،
فليس منا من لا يفرق في خبرته بين هذين النوعين من حالاته
الإدراكية الشعورية، فكيف نعلِّل هذا الفرق بين الحالتين إذا نحن
لم نفترض في الحالة الأولى وجود عالم خارجي يقابل أفكارنا، ثم
نفترض في الحالة الثانية أن الموقف الشعوري قاصر على أنفسنا، وليس
له امتداد في عالم الأشياء؟ وإذا كان ذلك كذلك فكيف يجوز الافتراض
في الحالة الأولى إذا لم نركن فيه إلى «إيمان» بأن العالم الخارجي
موجود إلى جانب ذواتنا المدركة الواعية؟ إذن فهذان نوعان من
الوجود؛ وجود عيني ووجود ضمني؛ الأول يكون له أصول خارج الذهن وصور
لتلك الأصول داخل الذهن، والثاني يكون مقتصرًا على التصور الذهني
وحده دون أن يكون لذلك التصور طرف فعلي مقابل له في عالم الطبيعة،
على أن الوجودَيْن معًا سيظلان موجودين حتى إذا انمحت من وجه الأرض
كل العقول الإنسانية، فستظل الشمس — مثلًا — جزءًا من الطبيعة،
أدركها الإنسان أو لم يدركها، وستظل «فكرتها» موجودة وجودًا
ضمنيًّا، حتى إذا لم تكن قد ظهرت بعد في عالم الطبيعة الظاهر، وهذا
المربع المرسوم أمامي سيظل هناك سواء وقع في إدراكي أو لم يقع،
وكذلك ستظل «فكرة» المربع موجودة وجودًا ضمنيًّا سواء بقيت على وجه
الأرض مربعات مرسومة أو انمحت، وإذن فالتفرقة بين «الوجود الفعلي»
و«الوجود الضمني» ستظل قائمة حتى ولو لم يكن هناك العقل الإنساني
الذي يدركها.
ونقول هذا الذي قلناه بعبارةٍ أخرى؛ إذ نقول: إن هنالك ما لا
نهاية له من حقائق موجودة وجودًا ضمنيًّا، أي وجودًا ممكنًا، وإن
بعض هذه الحقائق قد سلك سبيله إلى الوجود الفعلي في هذه التشكيلات
التي ندركها في عالم الطبيعة، والتي قوامها خصائص وصفات ائتلفت
معًا في مجموعاتٍ معينة هي هذه الأشياء التي نصادفها في خبراتنا،
أي إن ما هو ممكن أكثر جدًّا مما هو كائن بالفعل، فليس هنالك ما
يحتم أن تكون الكائنات الموجودة فعلًا هي وحدها الموجودة، وأن يكون
التقاؤها على النحو الذي تلتقي عليه هو الطريقة التي لا طريقة
سواها لظهور تلك الكائنات، بل كان «يمكن» أن تكون الأشياء على غير
ما هي عليه الآن، بأن تخرج مجموعة أخرى من الحقائق الضمنية أو
الحقائق الممكنة، بدل هذه المجموعة التي خرجت بالفعل، أريد أن أقول
إن العالم الموجود الآن ليس هو العالم الوحيد الذي يمكن تصوره، إذ
يمكن تصور كائنات أخرى تجيء على ترتيبٍ آخر، ويطرد فيها حدوث
الحوادث على نحوٍ آخر، وسؤالنا الآن هو هذا: على أي أساس برز إلى
الوجود الفعلي هذا العالم الراهن من مجموعة العوالم الممكنة التي
لا نهاية لعددها؟
وليس هو بالسؤال الحديث الجديد، بل هو سؤال ألقاه على نفسه
«ليبنتز» — في القرن السابع عشر — وأجاب عنه بقوله: إن الله قد
اختار هذا العالم الفعلي من بين الممكنات؛ لأنه «أفضل» الممكنات
كلها، أي إنه «لم يكن في الإمكان أبدع مما كان»؛ ولذلك وقع اختيار
الله على هذا الذي «كان»، أي إن مبدأ الاختيار هو مبدأ «خلقي» من
قبل الخالق الذي خلق واختار، ثم هو سؤال سأله كذلك الفيلسوف الحديث
«وايتهد» — وسيرد ذكره في هذا الفصل بعد قليل — وأجاب عنه بقوله:
إن مبدأ اختيار ما هو فعلي من بين الممكنات مبدأ «عقلي»؛ لأن هذا
العالم الواقع هو أقرب عالم يمكن تصوره إلى منطق العقل، وأما
«سانتايانا» فيجيب عن السؤال نفسه بجوابٍ آخر هو الذي ميَّز فلسفته
بأنها فلسفة طبيعية مادية رغم كل ما اتصف به من شاعرية وروحانية،
وذلك أنه جعل مبدأ اختيار العالم الفعلي الواقع من بين العوالم
الكثيرة الممكنة لا هو بالمبدأ الخلقي كما ظن «ليبنتز» ولا هو
بالمبدأ العقلي كما ذهب «وايتهد»، بل هو مبدأ مادي صرف.
وكيف يمكن أن يكون هذا العالم الموجود قد خرج إلى الوجود دون
سواه من الممكنات؛ لأنه يمثل مبدأ خلقيًّا؟ كيف يتفق هذا التفسير
مع خبراتنا التي منها أن العالم يفيض بما ليس من الأخلاق في شيء،
ففيه الآلام، وفيه الشقاء، وفيه الشر، وفيه التناحر والتقاتل؟ إن
العالم في مجرى حوادثه لا يعبأ بالأخلاق ولا شأن له بها، فليس
ثوران البركان وإغراق سكان الإقليم المجاور بحممه سببه أن هؤلاء
السكان قد اقترفوا الإثم، ويراد عقابهم على ما اقترفوا، وليس حلول
المجاعة بقومٍ وفتكها بهم سببه أنهم ضلوا سواء السبيل، والغيث لا
يسقي أرض من أقاموا للعدل ميزانه وحدهم، بل هو يسقي أرض الظالم
والعادل على السواء، فإذا اعتقدنا في العالم غير هذا كنا بمثابة من
تنكر لخبرته، فأدرك شيئًا، واعتقد شيئًا آخر، كلا ولا يجوز أن نفرض
لتفسير حدوث العالم الواقع دون سائر العوالم الممكنة وجود مبدأ
عاقل سابق على وجود هذا العالم، نعم إن حوادثه لتتسق مع مقتضيات
عقولنا، بحيث تستطيع هذه العقول أن تفهمه، لكن هذه العقول نفسها قد
جاءت خلال ظهور العالم نتيجة من نتائجه، وظاهرة من ظواهره، فإن كان
في مستطاعها فهم مجراه ومسيره؛ فلأنها جزء منه، فالعقل إذ يفهم وإذ
يعرف لا يقسر ظواهر الطبيعة على سلوكٍ معين يتفق مع طرائقه في
الفهم والمعرفة، بحيث يجوز لنا أن نقول: إن العالم قد جاء وفق منطق
العقل، إنه لا يخلق سير الحوادث خلقًا على نمطه وغراره، بل هكذا
وجدت الطبيعة وهكذا جاءت سننها، وبعدئذٍ يجيء العقل — الذي هو جزء
منها — فيدرك المبادئ التي تسري في ظواهرها، والتي على مقتضاها
تسير وتجري، ولو جاءت الطبيعة على واقع آخر ونظام آخر، ثم أنتجت
عقولًا فيما أنتجت، لفهمتها تلك العقول عندئذٍ على نحو ما تفهم
عقولنا عالمها الذي أنتجها.
كلا، بل الطبيعة مادة تسير إلى غير غاية، فلا هي غايتها تحقيق
مبدأ خلقي، ولا هي تجري نحو هدف يقره منطق العقل ويقتضيه، وهذه
الحقيقة المادية التي هي الطبيعة هي نفسها الأساس الذي عنه صدرت
الحياة وصدر الوعي، ولولاها لظل الوجود كله من صنفٍ واحد، هو وجود
«الجواهر» أو الأفكار الممكنة التحقيق، دون الوجود الآخر، وهو وجود
تلك الجواهر بعد أن لبست صورة حقائق فعلية، بل لم يكن الأمر ليقف
عند هذا الحد لولا وجود الطبيعة المادية، إذ لولا هذه لما وجد
العقل الذي يدرك تلك الأفكار الممكنة التحقيق، وإذن كانت تلك
الأفكار لتظل قائمة في «دنيا الممكنات» دون أن تجد سبيلها إلى
التحقيق ودون أن تجد العقل الذي يدركها في دنياها تلك.
وبينما يترك «سانتايانا» لعلماء الطبيعة أن يقرروا بأبحاثهم
التجريبية ماذا عسى أن تكون طبيعة المادة، فإنه يدلي برأيه في
خصائصها العامة، فيقول: إنها زمانية مكانية، وإنها ممتدة ومؤلفة من
أجزاء كل جزءٍ منها منفصل عن زميله، وإن تكن بين هذه الأجزاء
علاقات تربطها بعضها ببعض، غير أن تلك العلاقات ليست جزءًا من
طبيعتها، بل هي علاقات تتغير، وذلك مساوٍ لقولنا إن أجزاء المادة
تتحرك، ولا تستقر في مكانٍ بعينه، وكلما تحرَّكت تغيرت بالتالي
مجموعة العلاقات التي تصلها بعضها ببعض، بل قد تغير حركتها تلك من
خصائصها الذاتية، وإذن فالمادة سيال متدفق دائم الحركة، دائب
التغير، وتوزيع أجزائها على المكان والزمان ما ينفك يتغير، فينشأ
عن هذا التغير تكون الأجسام والحوادث، وما قد يتركب من الأجسام
والحوادث من تركيبات مختلفة التكوين منوعة البناء.
هذه التكوينات التي تحدث بسبب تحرك المادة، إنما تتخذ صورًا
معينة قد تعاود الحدوث مرةً بعد مرة، أعني أن سيال الحوادث في
الطبيعة المادية قد يجري على نسقٍ معين آنًا بعد آن، فإذا حدث مثل
هذا التكرار في وقوع النسق الواحد، كان ذلك قانونًا طبيعيًّا، ومن
هذا الاطِّراد في وقوع الحوادث، وإمكان صياغته في قوانين، أمكن
التنبؤ بما سيحدث في ظروفٍ معينة بناءً على ما اطَّرد عليه وقوع
الحوادث فيما مضى في مثل تلك الظروف، دون أن يكون هذا الاطراد
«ضروريًّا» يقتضيه منطق العقل اقتضاءً لا مفر منه؛ ذلك لأن كل نسق
من الحوادث، أو كل سلسلةٍ منها تكون وحدة، إنما تحدث — إذ تحدث —
حدوثًا تلقائيًّا بغض النظر عن أن تكون مسبوقة بأشباهٍ لها أو غير
مسبوقة، وهذا معناه «ألا ضرورة في العلاقة القائمة بين السبب
والمسبب، وألا يقين بأن القانون (الطبيعي) ثابت»،
٦ فليس لأية حادثة مبررٌ لوقوعها من حادثة غيرها، أي إن
الحادثة المعينة لا تقع لأن شبيهًا لها قد وقع، أو لأن أي شيءٍ آخر
غيرها قد حدث، وليس هناك في حكم العقل ما يمنع أن يقف هذا الاطراد
الملحوظ في وقوع الحوادث، بحيث يجيء المستقبل فيقطع الشبه بالماضي،
لا، بل إن هذا بعينه هو ما يحدث، ولولا ذلك لما كان هناك خلق جديد
ولا تطور، فما أكثر ما تجيء الواقعة أو الحادثة أو الشيء جديدًا كل
الجدة، بحيث يكون فريد نوعه، وبحيث لا يكون له في كل ما وقع في
الماضي من شبيه.
وما الكائنات الحية إلا مثل من أمثلة التكوينات المادية التي
تحدث من تجمع الأجزاء المادية على إطارٍ معين، فكأنما الخصائص
«العضوية» كائنةً في الطبيعة مستعدة لأن تظهر فعلًا بعد أن كانت
موجودة إمكانًا، إذا ما تجمعت أجزاء المادة على النحو الذي يمكنها
من الظهور، وماذا يميز الكائن الحي من خصائص لا تكون في المادة
الجامدة؟ يميزه أنه قادرٌ على الاحتفاظ بوجوده عن طريق التغذي
بموجوداتٍ أخرى، كما أنه قادرٌ على تكرار نمطه بالتناسل، وكذلك
يميز الكائن الحي أنه مستطيع أن يصلح بنفسه ما فسد من تكوينه، ولا
كذلك المادة الجامدة، فلا هي تقتات على غيرها ليدوم بقاؤها، ولا هي
تكرر نمطها بالتناسل، ولا هي قادرة على أن تصلح بنفسها ما قد يفسد
من نظام تكوينها وتركيبها وهاته القدرات في الكائن الحي هي ما نطلق
عليه اسم «النفس»؛
٧ فالنفس هي مجموعة وظائف الأعضاء والحوافز والدوافع
التي تجتمع في الكائن العضوي، والتي بفضلها ينشط ذلك الكائن،
ويمارس ما يمارسه من صلاتٍ مختلفات بمحيطه الطبيعي الذي يتحرك فيه،
وإذن فالنفس هي هذه المجموعة المادية المعينة — التي هي الجسد —
وقد عبرت عن حقيقتها في نشاطٍ وفاعليةٍ وعمل.
غير أن الأحياء على اختلاف ضروبها وإن اتفقت في «النفس» — أي في
قدرتها على الاحتفاظ بحياتها، وعلى تكرار نمطها، وعلى إصلاح نفسها
بنفسها — إلا أن منها ما يعود فيتميز عن بقيتها بالوعي الذي يعي به
أنه كائن حي ذو خصائص معينة وألوان من النشاط معلومة، فالشجرة
تتغذَّى كما يتغذَّى الإنسان، وتكرر نمطها كما يكرر الإنسان نمطه،
وتصلح عطبها كما يصلح عطبه، إلا أنها لا تكون على وعي — كما يكون
الإنسان على وعي — بأنها تقوم بهذا الذي تقوم به، هذا الوعي في
الإنسان هو ما يسميه «سانتايانا» بالروح أو بالعقل، فليس الروح أو
العقل — إذن — شيئًا قائمًا بذاته، بل هو ظاهرة من ظاهرات الجسم
الحي نفسه، يتصف بها حين يتصل بمحيطه وبظروفه على نمطٍ سلوكيٍّ
معين.
انتهى بنا التحليل حتى الآن إلى وجود عالمين؛ عالم الممكنات (وهو
الذي أطلق عليه سانتايانا عالم الجوهر أو الأفكار)،
٨ وعالم المادة
٩ التي تمكِّن بعض تلك الممكنات من الظهور الفعلي، لكن
هذا الانتقال نفسه من عالم الإمكان إلى عالم الواقع في الطبيعة
المادية، يخلق لنا عالمًا ثالثًا هو ما يسميه «سانتايانا» بعالم «الحق»،
١٠ وهو ذلك الجزء من عالم الجوهر — عالم الممكنات — الذي
خرج إلى عالم الواقع الفعلي؛ ولذلك كان «عالم الحق» هذا عالمًا
عرضيًّا كالوجود نفسه، وأعني بذلك أنه لم يكن هناك ضرورة عقلية
تقتضي أن يخرج من عالم الممكنات هذا الجزء الذي خرج فعلًا دون سائر
أجزاء الممكنات التي لم تخرج وظلَّت على حالها عالمًا ممكنًا،
فالوجود كله عرضي بمعنى أنه قد كان يجوز ألَّا يحدث؛ وبالتالي يكون
«الحق» عرضيًّا بمعنى أن ما قد تحقق في عالم الواقع قد كان يجوز
ألَّا يتحقق، وأن يتحقق سواه من بقية الممكنات التي لم تقع، وإذن
فقد أخطأ الفلاسفة المثاليون جميعًا حين ظنوا أن ثمة مبادئ عقلية
قبلية ضرورية شاملة صدقها محقق ويقينها ثابت، أخطئوا إذ ظنوا ذلك؛
لأن الوجود كله بما فيه من عقول وما يترتب عليها من مبادئ الرياضة
والمنطق — دع عنك مبادئ الأخلاق والميتافيزيقا — قد جاء عرضًا، وقد
كان يمكن ألَّا يجيء.
تلك إذن ثلاثة عوالم في الوجود كما تصوره «سانتايانا»: عالم
الممكنات، وعالم المادة، وعالم الحق، وأما رابع تلك العوالم، وبه
يكمل البناء الفلسفي للفيلسوف؛ فهو «عالم الروح»
١١ فما هو؟ ألم نقل فيما سلف إن بعض الممكنات، أو بعض
«عالم الجوهر» يتحقق في عالم الواقع الفعلي دون بعضه الآخر؟ إذن
فافرض أن الإنسان لم يعجبه هذا العالم الواقع، وصور له خياله مثلًا
أعلى كان يتمنى لو أن العالم جاء على غراره، فمن أين له العناصر
التي ينشئ بها تلك الصورة المثلى؟ إنه لا شك يستمدها من الممكنات
التي لم تجد سبيلها إلى عالم التحقيق، يستمدها من عالم الجوهر في
جوانبه التي لم تخرج من حيز الإمكان إلى حيز الواقع، من هذه
العناصر يبني الإنسان لنفسه مثلًا أعلى لو تحقق لكان عالمًا أجمل
من هذا العالم الذي نعيش فيه، وأكثر خيرًا منه، لو تحقق هذا العالم
المثالي لحقق معه أحلام الإنسانية وغاياتها التي قد يستحيل تحقيقها
في عالم الطبيعة كما هو قائم، ذلك العالم المثالي هو «عالم الروح»،
لكن الإنسان إذ ينتقي لنفس العناصر التي تكون له في خياله عالمًا
أمثل وأكمل من عالمه الواقع، فإنه لا ينسى — أو لا ينبغي له أن
ينسى — أنه عالم قد استمد كماله من خدمته لأغراض الإنسان، وتحقيقه
لغاياته وأحلامه وأمانيه، ولو أن نوعًا آخر من أنواع الأحياء تخيل
عالمًا يتخذ منه مثلًا أعلى، لتخيل شيئًا آخر غير ما تخيل الإنسان،
فلكل نوع مصالحه ولكل نوع أغراضه.
وعلى ذلك فليس كمال العالم المتخيل كمالًا مطلقًا، بل هو كمال
نسبي، هو كمال بالنسبة للإنسان، وفضلًا عن ذلك فإن قيمة ذلك العالم
الأمثل هي في مجرد تخيله لا في تطبيقه تطبيقًا عمليًّا، ولو كان
كماله في تطبيقه وتنفيذه لانقلب واقعًا لا مثلًا أعلى، ولأصبح
نثرًا بعد أن كان شعرًا؛ ذلك لأن الأحلام لا يزيد من سحرها أن
تتحقق، فلا الخير يزيد في خيريته، والجمال يزيد في جماله بأن نخرج
ذلك العالم المتخيل بخيره وجماله من عالم العقل إلى عالم الواقع،
لا، بل لعل الفكرة تكون أنقى، وهي في عالم الجوهر الخالص منها، وهي
في عالم الواقع؛ لأنها عندئذٍ تكون صفاء لا تكدره غشاوة النقص التي
لا بد أن تغشي حوادث العالم الطبيعي، فلماذا لا نكتفي بأن تطمح
الروح إلى ذلك العالم الخيالي، فترسم لنفسها صورتها المثلى، بل
ولها أن تتصور كذلك أن ذلك المثل الأعلى قد تحول إلى عالم حقيقي
واقع؟ إنها إن فعلت كان لها بذلك عالم هو بعينه العالم الذي يحاول
الشعر كما يحاول الدين أن يرسمه، وماذا يصنع الشاعر سوى أن يصور
لنفسه جمالًا هو أصفى وأنقى من أي جمال على هذه الأرض؟ وماذا يصنع
الدين سوى أن يصور خيرًا هو أعظم وأسمى من كل خير في هذه الدنيا؟
الشاعر يصور لنفسه جمالًا كاملًا في صورةٍ يخلقها بخياله، والشعور
الديني يصور لنفسه خيرًا كاملًا في إلهٍ يعبده، لكننا لا ينبغي لنا
أبدًا أن ننسى أن صورة الجمال في الشعر، وصورة الخير في الدين إن
هي إلا صور في عالم الخيال لا عالم الحقيقة؛ لأن مادة الطبيعة لا
تسعف أمثال هذه الصورة الخيالية بوسائل الظهور العيني والتحقيق
الفعلي؛ ولذلك فستظل هذه المثل العليا الخيالية رموزًا نهتدي
بهديها لا عناصر من عناصر الواقع الذي نعامله في حياتنا اليومية،
نعم إن أمثال هذه الصور الخيالية لتغذي نفوسنا، وتزيد من خصوبة
حياتنا، لكننا إن زعمنا لأنفسنا أنها موجودات حقيقية، فعندئذٍ نحط
من شأن القيم العليا التي جاءت تلك الرموز الخيالية لترمز إليها،
ويصبح الأمر خرافة وتخريفًا بعد أن كان مثلًا أعلى واهتداء
بصيرًا.
ومع ذلك فإنا نلاحظ أن الفلسفة والدين كليهما لا ينفكان يحطَّان
من شأن هذه القيم العليا بأن يحاولا خلط المثل العليا بالواقع،
إنهما بذلك يحولان الشعر نثرًا والحلم حقيقة، إنهما لا يرضيان بأن
يجعلا من الله رمزًا صافيًا في خيال الإنسان، وصورة للخير الكامل
كما صورته الروح، ويُصران على أن يلقيا به في مضطرب الحياة اليومية
بأوشابها ونقائصها؛ وذلك بأن يجعلاه كائنًا متعينًا وشخصًا حيًّا،
إنهما بذلك ولا شك يحولانه من روحٍ إلى مادة، لكنهما يغطيان هذا
الخزي منهما بمجرد اللفظ الأجوف حين يقولان إنهما يتحدثان عن وجود
روحاني حين يتحدثان عن الله، إنهما لا يفرقان في حديثهما هذا بين
ما هو جوهري وما هو عرضي من الأمور؛ لأن جوهر ما يؤديان بصنيعهما —
رغم كل ما يزعمانه — هو أنهما قد هبطا بالإله من عالم الوجود
الضمني — الوجود العقلي — إلى عالم الوجود العيني — الوجود الفعلي
— فنزلا به من مرتبة المثل الأعلى إلى مرتبة الواقع، والعجيب أنهما
لا ينكران ذلك، بل يزهوان بما يصنعان.
١٢
وها هنا يأتي دور العقل الإنساني وما يصنعه بذكائه، فمن مهامه أن
يزيل عنا هذا الخلط بأن يهدينا إلى الصواب، والصواب هو أن نفرق بين
القيم المختلفة ولا نجعلها جميعًا من صنفٍ واحدٍ وطرازٍ واحد،
فقيمة «الحق» إنما تتجسد في عالم الطبيعة، فما هو «حقيقي» موجود
وجودًا فعليًّا، لكن ما كذلك قيمتا الخير والجمال، فهاتان قيمتان
من عالم الروح لا من عالم الطبيعة المتحقق؛ إذ الخير والجمال
كلاهما تصوُّران يتصورهما الإنسان بخياله ليرسم مثلًا أعلى يستريح
له في أحلامه ما داما لا يتحققان في دنيا الواقع، إن الإنسان لتتم
راحته النفسية من حيث الخير والجمال إذا هو جعلهما موضوع تأمل
وتفلسف، لكن راحته النفسية من حيث الحق لا تتم إلا إذا وجد الحق
متمثلًا في الواقع، وهكذا ترى أن ما يكفي في حالة الخير والجمال لا
يكفي في حالة الحق، والعكس صحيح، فلماذا إذن تتطلب من الخير
والجمال أن يغيرا من طبيعتيهما ليصبحا واقعًا من الواقع كأنما يراد
بهما أن ينقلبا «حقًّا» بعد أن كانا «خيرًا» و«جمالًا»، وكذلك كما
أن الخير ليس حقًّا، والجمال ليس حقًّا، فالخير والجمال معًا وإن
اتفقا في كونهما معًا مما تتعلق به الأوهام والأحلام دون الواقع،
إلا أنهما يختلفان اختلافًا بعيدًا بعد ذلك؛ ولهذا كان من العبث
والخلط وسوء الفهم أن تتطلب من «الجميل» أن يكون كذلك «خيرًا» أو
من «الخير» أن يكون كذلك «جميلًا»، وما أكثر ما نرى الفنان — وهو
الذي يصور الجمال — على خلافٍ شديدٍ مع الأخلاقي، فترى هذا ينقد
ذاك بأن فنه لا يؤدي إلى الفضيلة، فيرد الفنان — وهو على حق — بأنه
لا شأن له في فنه بالفضيلة، وكذلك قل فيما ينشب من خلاف بين «الحق»
الذي تنشده العلوم، وبين الفضيلة التي يريدها الأخلاقيون، فترى
هؤلاء يتهمون العلم في بعض نتائجه بأنه هادم للأخلاق، لكن العالم
قد يجيب — وهو على حق — بأنه لا شأن له في بحثه العلمي بالفضيلة،
وهكذا ترى كيف تفترق هذه القيم الثلاث، ويجب أن تفترق؛ لأنها
مختلفة الأصول، ومن الخلط توحيدها وإهمال ما بينها من فروق.
لكن الإنسان بعقله لا بد له — من جهةٍ أخرى — أن يتبين كذلك أنه
على ما بين عالم الجوهر وعالم الخبرة الفعلية من فوارق، فهما قد
ينطبقان في بعض النواحي، بحيث يتحقق أحدهما في الآخر، وعندئذٍ
يتبين أنه لا استحالة — كما أنه لا ضرورة — في أن تكون دنيانا دنيا
حق ودنيا خير ودنيا جمال في آنٍ معًا، ليس مستحيلًا، كما أنه ليس
ضروريًّا، على هذا العالم الذي نعيش فيه أن يحقق جزءًا من أمانينا
في الخير والجمال، وإن كنا لا نقصر خيالنا على الحدود التي يحققها
لنا عالم الواقع من هاتين القيمتين، بل نمده إلى حيث عالم الجوهر،
وهو عالم الممكنات، لنجد فيه بقية ما يشبع فينا المثل
الأعلى.
أسمى ما يسمو إليه العقل في أدائه لمهمته هو أن يحقق الاتساق
والانسجام بين الأجزاء المختلفة في خبرته من حيث إيجاد التعادل
والتوازن بين القيم المختلفة، وذلك بأن يستحضر أمام الفكر أكبر عدد
ممكن من ممكنات عالم الجوهر، دون أن يقع بينها تعارض وتناقض، فها
هو ذا عالم الطبيعة قد حقَّق بعض تلك الممكنات دون بعضها الآخر،
لكن حتى في هذا الجانب الذي حققه قد لا يخلو فيه الأمر من متناقضات
ومفارقات، وسمو العقل هو في أن يسمو بخياله ويعلو، بحيث يضيف إلى
فكره — فوق ذلك الذي حققته دنيا الطبيعة المادية — أفكارًا أخرى،
وأن يذيب من المجموعة كلها التي اجتمعت له كل ما بينها من دواعي
التعارض، وبمقدار ما يوفق في تجميع عدد كبير من الأفكار — الممكن
منها والمتحقق — وفي تنسيق ما تجمع لديه تنسيقًا يجعله وحدة
متناغمة، تكون منزلته من السمو، فتراه — مثلًا — يوفق بين الدين
والفلسفة والعلم، بأن يجعل الدين والفلسفة ضربين من ضروب الشعر، لا
وسيلتين من وسائل الوصف العلمي لما هو واقع؛ ولذلك فهما لا يصلحان
لتفسير العالم تفسيرًا صحيحًا، لكن ذلك بالطبع لا يعني الحط من
شأنهما، إنما يعني تحديد مجاليهما، وما مجالاهما إلا رسم المثل
العليا التي يحلم بها الإنسان ولا يجدها متحققة في العالم الواقع،
فإن يكونا غير قائمين على أساس يجعلهما من العلوم، فهما قائمان على
أساسٍ آخر يدخلهما في مجال الشعر الرفيع، والعاقل هو من لا يتخذ من
إخفاقهما في مجال سببًا لانتقاص ما لهما من قدرٍ كبيرٍ في مجالٍ
آخر، وكذلك قل في التفسير العلمي الذي يفسر العالم تفسيرًا صحيحًا،
لكنه لا يتمشى مع مثل الإنسان الأعلى في الأخلاق، فلا يجوز أن يتخذ
هذا النقص الخلقي فيه سببًا للحط من شأنه في مجال التفسير العلمي الصحيح.
١٣
تلك خلاصة لفلسفة «سانتايانا» — وهو فيلسوف أمريكي بالإقامة
والإنتاج، وإن لم يكن أمريكيًّا بالمولد والجنسية — هي خلاصة
كتابيه العظيمين «حياة العقل»
١٤ (١٩٠٥-١٩٠٦م) و«عوالم الوجود»
١٥ (١٩٢٧–١٩٤٠م) مضافًا إلى هذا الأخير مقدمته التي خرجت
في كتاب مستقل هو «التشكك والإيمان الحيواني»
١٦ (١٩٢٣م) وهو كما ترى فيلسوف طبيعي بمعنى أنه يُدخل كل
شيء في جوف الطبيعة، على الرغم من هذه الروحانية الشاعرة التي تشع
من أفكاره، فكأنما هو من هؤلاء الناس الذين يرون بالعقل شيئًا،
ويحسون بالقلب شيئًا آخر، فيبالغون في تلبية نداء العقل ليخفوا
بهذه المبالغة خفقات القلوب.
(٢) «ألفرد نورث وايتهد»١٧ والبناء العضوي
وهذا فيلسوف آخر — مثل سانتايانا — أمريكي بالإقامة والإنتاج،
وإن لم يكن أمريكيًّا بالمولد والجنسية، ولكن «وايتهد» — على خلاف
سانتايانا — لم يكن أمريكيًّا بالنشأة والسيرة أيضًا؛ لأنه لم
يرتحل إلى أمريكا ليتولى منصب الأستاذية في هارفارد إلا بعد أن بلغ
الثالثة بعد الستين من عمره في وطنه إنجلترا، حيث أتم مدة عمله
أستاذًا بجامعة لندن، وبعدئذٍ وجهت إليه هارفارد دعوة ليكون
أستاذًا بها، وهنالك لبث حتى وافته منيته عام ١٩٤٧م، وكان قد بلغ
من عمره السابعة بعد الثمانين، وإذن فهي أربعة وعشرون عامًا قضاها
«وايتهد» في الولايات المتحدة، لكنها كانت هي الفترة الأخيرة من
عمره، فكانت بالتالي فترة الإنتاج الفلسفي الناضج؛ لأنه وإن يكن قد
أخرج وهو في أرض الوطن مؤلفات هامة في التحليلات الرياضية المنطقية
— مثل كتاب «أسس الرياضة» الذي اشترك فيه مع برتراند رسل، وأخرجاه
معًا في أربعة أجزاء — إلا أن مذهبه الفلسفي لم يكتمل بناؤه ولم
يلتمس سبيله إلى التعبير إلا وهو في أمريكا، حيث أخرج كتابه الذي
عرض فيه لباب فلسفته، وهو كتاب «التطور وعالم الواقع»،
١٨ فنحن إذ نذكر «وايتهد» في كتابٍ يستعرض حياة الفكر في
أمريكا، فإنما نعتمد في ذلك على تاريخ إنتاجه الفكري وعلى تأثيره
في الاتجاهات الفلسفية أيام إقامته هناك، وإلا فهو كذلك حلقة من
تاريخ الفلسفة الإنجليزية المعاصرة، ومرحلة هامة من مراحل الفلسفة
الأوروبية الحديثة بوجهٍ عام.
وكما يساورني التردد في نسبة «وايتهد» إلى تيار الفكر الأمريكي،
١٩ فكذلك يساورني تردُّد آخر في إضافته إلى «سانتايانا»
في فصلٍ واحدٍ يتحدث عن الاتجاه نحو إدخال كل شيء في عالم الطبيعة؛
لأنه وإن يكن شديد الشبه بسانتايانا في اعتباره لعالم الواقع
تحقيقًا لجزءٍ يسيرٍ من الممكنات، وفي نظرته إلى الممكنات على أنها
كائنات عقلية أبدية، إلا أنهما يختلفان في نواحٍ رئيسيةٍ أهمها هي
أن «سانتايانا» قد اعترف — مع الفلسفة التقليدية — بوجود عنصر مادي
وبأن الحوادث إن هي إلا أعراض تطرأ على ذلك العنصر، على حين أن
«وايتهد» — كسائر التطوريين في العصر الحديث — قد استبدل بالعنصر
الثابت تيارًا من صيرورة وتغير، لكن حسبنا بين الفيلسوفين شبهًا
يبرر ضمهما معًا في اتجاهٍ واحد، أن كليهما قد تخلص من الثنائية
التقليدية بين العقل من ناحية، والطبيعة من ناحيةٍ أخرى، فمزجاهما
معًا في كونٍ واحد، وجعلا العقل جزءًا من الطبيعة غير مفارق لها،
وهكذا انتهيا إلى «تطبيع العقل» أو إن شئت فقل «تعقيل
الطبيعة».
بدأ «وايتهد» حياته العلمية رياضيًّا من الطراز الأول، وعالمًا
من علماء الطبيعة؛ ولذلك جاءت أولى أعماله الفلسفية الكبرى متأثرة
بتلك الدراسة الأولى، وذلك بأن تعاون مع «رسل» — كما أشرنا — في
إخراج مؤلف ضخم في منطق الرياضة، يعد بداية عهد جديد في الدراسة
المنطقية، ولسنا نبالغ إذا قلنا إن لهذا المؤلَّف، وأعني به «أسس الرياضة»
٢٠ أبعد الأثر وأعمقه في توجيه تيار الفكر الفلسفي كله في
هذه العشرات الأربع الأخيرة من أعوام القرن العشرين؛ إذ وجه ذلك
الفكر الفلسفي نحو التحليل على نموذج ما ورد في «أسس الرياضة» من
تحليلات، ولو جعلنا للفلسفة المعاصرة صفة واحدة غالبة لقلنا إنها
الانتقال من «التأمل» الميتافيزيقي إلى «تحليل» القضايا العلمية،
ثم استطرد «وايتهد» بعد هذه البداية فتناول علم الطبيعة بنظرة
الفيلسوف، فأخرج في ذلك «أصول المعرفة الطبيعية»
٢١ و«فكرة الطبيعة»
٢٢ و«العلم والعالم الحديث»،
٢٣ ثم كتابه الرئيسي في مذهبه الفلسفي وهو «التطور وعالم الواقع»،
٢٤ وأخيرًا «مغامرات أفكار»،
٢٥ فكان بهذا المحصول الفلسفي من قادة الحركات المعاصرة
في الفلسفة، التي يغلب عليها الاتجاه الواقعي بصفة عامة، على
اختلاف التفريعات التي ذهب إليها مختلف الفلاسفة، لكن هنالك مميزًا
فريدًا يطبع «وايتهد» دون سائر الواقعيين على اختلافهم، وذلك أن
الكثرة الغالبة من هؤلاء قد اتخذت الواقعية مذهبًا بعد أن غاصت إلى
آذانها في دراسة الفلسفة المثالية التي كان لها السيادة في أواخر
القرن التاسع عشر، في إنجلترا وفي أمريكا على السواء، فجاء اتخاذهم
للواقعية مشوبًا بروح التعصب ضد المثالية، شأن المرتد من عقيدةٍ
قديمةٍ إلى أخرى جديدة، فتراه يسرف في مناصرة هذه العقيدة الجديدة
إسرافًا يميل به إلى غض النظر عن كل ما في العقيدة القديمة من
حسنات، كأنما يخشى أن يعود إلى خطيئة الماضي، فيدرأ عن نفسه هذا
الخطر بمضاعفة جهاده في سبيل الرأي الجديد، ومن أجل هذا تلمس في
مؤلفات الواقعيين المعاصرين كثيرًا من التزمت في واقعيتهم، فهم أشد
اهتمامًا بعدائهم للمثالية منهم بالتماس الحق لذاته فيما يكتبون،
أما «وايتهد» فقد دخل ميدان الفلسفة عن طريق الرياضة والعلم
الطبيعي، فلم يكن به حاجة إلى تزمت أو تعصب، ولذلك تراه يسترسل
وراء فكرته التي يحللها، لا يعبأ إلى أي نهاية يسوقه البحث، فلتكن
نهايته واقعية خالصة أو ممزوجة ببعض العناصر المثالية أو كائنة ما
تكون؛ لأنه لا يقصد إلى نتيجة بعينها، بل ينشد الحق كما يراه.
٢٦
وأول ما نذكره عن رأيه في الطبيعة هو أنه يجعل حقيقة الشيء في
طريقة تركيبه لا في المضمون الذي يملأ ذلك التركيب، فمثلًا حقيقة
الهرم — والمثل من عندي — ليست في صخوره التي بني منها، بل في
إطاره أو في صورته أو في هيكله؛ لأنه يظل هرمًا إذا أقمناه من خشب
أو حديد أو أية مادة أخرى ما دامت طريقة التركيب أو هيكل البناء لم
يتغير، غير أن «التركيبات» التي هي الأشياء التي تتألف منها
الطبيعة ليست دائمة على حالٍ واحدة، بل هي في تغيرٍ دائم وحركةٍ
دائبة، بحيث يصبح ذلك التغير أو هذه الحركة جزءًا من طبيعتها، ولو
حللنا هذه «التركيبات» إلى عناصرها الأولية، وجدناها مؤلفة مما
يسميه «وايتهد» «بالحوادث» أو «العوابر»،
٢٧ و«الحوادث» — كما هي مستعملة في الفلسفة المعاصرة —
معناها سلسلة الحالات التي تكون تاريخ الشيء، فهذه المنضدة — مثلًا
— لا تنفك باعثةً إلى مشاهديها لمعات مختلفات من الضوء وأشكالًا
مختلفة لسطحها وهكذا، ومن مجموع هذه الحالات التي يراها عليها
مشاهدوها في لحظات الزمن المتتابعات، أو بعبارةٍ أخرى، من مجموع
هذه «الحوادث» تتألف حقيقة المنضدة في الواقع، وفي هذا التحليل
يتفق «وايتهد» مع كثيرٍ من زملائه الواقعيين، لكنه يتفرَّد دونهم
بقوله إنه وإن يكن تحليل الشيء ينتهي بنا إلى مجموعة من «حوادث»
إلا أن هذه المجموعة نفسها لا تكون هي الشيء الذي نحلِّله إلا إذا
ظلَّت محتفظة بهيئةٍ معينة أو بتركيبةٍ معينة، أي إن تحليل الكل
إلى أجزائه ووحداته وإن كشف لنا عن مقومات ذلك الكل، إلا أنه يبطله
ويفسده ويغير من حقيقته؛ لأن الكل ليس مجرد كومة من وحدات، بل هو
هذه الوحدات حين تكون على تركيبٍ خاص، وهذا التركيب الذي يكون عليه
الشيء هو حقيقته وجوهره.
من ذلك نفهم لماذا سميت فلسفة «وايتهد» بفلسفة البناء العضوي؛
لأن كل شيء وكل موقف وكل واقعة هي في حقيقتها بناء ذو هيكل معين،
ولو تغير هيكلها ذاك لتغيرت شيئًا آخر، حتى وإن بقي لها كل
مقوماتها كما كانت؛ فالأمر في كل شيء كالأمر في الكائن العضوي، ليس
هو مجرد كومة من خلايا أو مجموعة من أعضاء، بل هو فوق هذا «تركيبة»
خاصة تنتظم هذه الأجزاء وتجعل بينها علاقات معينة، فالوجود كله
كائن عضوي، وكل شيء فيه كذلك كائن عضوي بهذا المعنى الذي أسلفناه،
ذلك أن الوجود مؤلف من «كائنات فعلية»،
٢٨ كل منها له وضعه الخاص في مجموعة الكائنات، بحيث
يتكوَّن من ترتيب هذه الكائنات في أوضاعها المعينة لها بناء عضوي،
ويعبر «وايتهد» عن المعنى نفسه بلغته الاصطلاحية، فيقول: إن كل شيء
في الكون هو «مجتمع»، وإذن فالكون مجموعة «مجتمعات»، «وليس المجتمع
مجرد مجموعة من كائنات نطلق عليها اسمًا يدل على فئتها»،
٢٩ وهنا نقطة الاختلاف بين «وايتهد» وزملائه الواقعيين:
فهل هذه المنضدة — مثلًا — مجرد مجموعة من معطيات حسية — أو حوادث
— يتلقاها مشاهدوها؟ يجيب معظم الواقعيين المعاصرين أن نعم، ويجيب
«وايتهد» بأنها — كأي مجتمع آخر — لا تقتصر حقيقتها على عدد
أفرادها، بل هي كذلك طريقة بناء هذه الأفراد في كائن عضوي.
ونريد أن ننبه قارئنا في هذا الموضع من سياق الحديث، إلى أن
«وايتهد» عسير القراءة، فيصعب جدًّا حتى على من مارسوا القراءة
الفلسفية زمنًا طويلًا أن يدركوا معنى عباراته في سهولةٍ ويسر؛
وذلك لأنه يستخدم لغة اصطلاحية، فلو علمنا معاني مصطلحاته لزال
كثير جدًّا من صعوبة فهمه، وإنما أقول ذلك هنا لكي يأخذ القارئ هذه
المصطلحات التي أوردناها في الفقرة السالفة بمعانيها عند «وايتهد»
لا بمعانيها في اللغة الجارية أو في لغة العلوم الأخرى، فعبارة
«كائن عضوي» ليس المقصود بها هو معناها في علم الحياة، بل المقصود
بها هو أن تكون بين أجزاء الشيء المعين أو الموقف المعين علاقات
ذات هيكل خاص، ولفظة «مجتمع» ليس المقصود بها مجتمعًا من أفراد
الناس كمألوف استعمالها، بل المقصود بها هو مجموعة الوحدات التي
منها يتألف شيء معين أو موقف معين، بحيث يكون بين تلك الوحدات من
العلاقات ما يجعلها بناء عضويًّا.
وننتقل الآن إلى نقطةٍ ثانيةٍ رئيسية في فلسفته، وهي أن الطبيعة
ليست فقط مقامة على أساس عضوي، بل هي كذلك في تغير دائم وتطور دائب
وسير لا يقف، فالكائن العضوي إذ ينشط بحركاتٍ متتالياتٍ وفاعلية
مستمرة، لا يكون مصدر ذلك النشاط وهذه الفاعلية فحسب، أعني أنه لا
يكون هو في جانب ونشاطه في جانبٍ آخر، بل إن مناشطه كلها وفاعلياته
كلها هي هي نفسها الكائن العضوي؛ إذ سيكون بينها من العلاقات ما
يجعلها كذلك، بعبارةٍ أخرى نقول: إن الشيء — كائنًا ما كان — أو
الطبيعة بأسرها باعتبارها كلًّا واحدًا هي عبارة عن مجموعة نشاطها،
ولو جاز لي أن أسوق مثلًا يوضح الفكرة من نغمة الموسيقى، لقلت إن
كل شيء، بل والطبيعة بأسرها ككل واحد هي كنغمة اللحن الموسيقي
مؤلفة من حركاتٍ صوتيةٍ، بحيث تكون هذه الحركات هي نفسها النغمة،
فليست النغمة شيئًا وحركات الصوت شيئًا آخر، بل إن هذه هي تلك،
كذلك قل في كل شيء، وفي الطبيعة بأسرها، إنه فاعلية متصلة، أو نشاط
مستمر، على ألا نفهم من ذلك أن النشاط منبعث من مصدرٍ ثابت قائم
وحده قد ينشط، وقد يفتر عن نشاطه، بل هو هو نفسه ذلك النشاط أو تلك
الفاعلية.
ذلك هو المبدأ الأساسي في فلسفة «وايتهد»؛ العالم تغيُّر وتطورٌ
وحركة وعمل وسير، وهل يمكن لفيلسوف مثله نشأ في جو من علم الطبيعة
الحديث أن يقول غير هذا؟ فهذا العلم الحديث — كما تعلم — قد حلل
المادة إلى ذرات، والذرة إلى كهارب سالبة وكهارب موجبة، أو قل إلى
إشعاعات ضوئية متحركة أبدًا، ليست هذه المنضدة التي أمامي جسمًا
صلبًا بالمعنى الذي كنا نعرفه للأجسام الصلبة، بل هي خلية كبيرة من
أشعة تتحرك بسرعة كسرعة الضوء، وإذن فالطبيعة كلها قوامها هذه
الحركة الدائبة؛ وبالتالي فقوامها تغير وتطور لا وقوف وسكون، وأخص
خصائص هذا التغير في الطبيعة هو أنه يخلق الجديد، أعني أن الأجزاء
لا تتحرك مجرد حركة تنتقل بها من مكانٍ إلى مكان، بل إنها لتتحرك
وتنشط ليتكون منها دائمًا «تركيبات» جديدة كل الجدة لم يسبقها شبيه
في ماضي الطبيعة؛ ومن ثم يكون التطور، بل يكون الترقي
والتقدم.
ولهذا التطور في الطبيعة خصيصتان، هما «الامتداد» و«الهدف»؛ فهو
«ممتد» في المكان وفي الزمان معًا، بمعنى أن حركة التغير تسري في
نطاقٍ مكانيٍّ معلوم، وعلى فترةٍ زمنيةٍ معينة، وحركة التغير هذه
لا تسير إلى غير غاية، بل تقصد إلى «هدف» يراد تحقيقه، فالطفل —
مثلًا — في تغيره الدائم من حالةٍ إلى حالة إنما يسير بتغيره هذا
نحو أن يكون رجلًا، وهكذا قل في كل شيء.
الحق أنه ليتعذر علينا أن نتبين في فلسفة «وايتهد» واقعية صريحة،
أو مثالية صريحة، بل لعله تعمد أن يمزج هذه بتلك حتى تجيء نظرته
أعلى وأشمل من كلٍّ من المذهبين مأخوذًا على حدة؛ فمثلًا لو كان
واقعيًّا خالصًا لذهب مع الواقعيين إلى القول بتعدُّد الكون
وتكثُّره، فهكذا يذهب الواقعيون إذ يرون أن العالم ليس وحدة واحدة،
بل هو مجموعة مشتملة على كثرة من أشياء، كما تدل على ذلك خبراتنا،
ولو كان مثاليًّا خالصًا لذهب مع المثاليين إلى أن الكون وحدة على
الرغم مما قد يبدو من تعدُّد أشيائه وتكثرها، لكن «وايتهد» يجمع
الرأيَيْن معًا في رأي، فيقول: إن الكثرة التي تأتينا مع تجاربنا
بالواقع كثرة حقيقية، لكنه مع ذلك يصر على استحالة أن يستقل شيء
بذاته، بحيث يستغني بكيانه عن بقية الأشياء، وكثيرًا ما وجه النقد
إلى الواحديين من قبله؛ لأنهم لم يدفعوا بواحدية العالم إلى
نهايتها القصوى؛ إذ كانوا يكتفون بأن يجعلوا الأشياء كلها معتمدة
في وجودها على وجود الله، لكنهم لم يجعلوا وجود الله كذلك معتمدًا
على وجودها، أما هو فيرى الوجود المستقل الذي يكفي نفسه بنفسه
محالًا على أي كائنٍ مهما يكن؛ فهو مستحيل على الله استحالته على
أصغر ذرة من ذرات الوجود، وهو مستحيل على الأفراد استحالته على
الأمم، وهو مستحيل على الأشياء استحالته على معاني الألفاظ
والعبارات، فيستحيل أن تفهم شيئًا من هذه جميعًا وهو قائم وحده، بل
لا بد — لكي تفهمه — أن ترى نسبته إلى بقية الأشياء، بحيث تراها
جميعًا في صحبةٍ واحدة «كل منها في حاجةٍ إلى بقيتها».
كل شيء في الوجود، أو كل «كائن فعلي» — كما يحب «وايتهد» أن يسمي
الأشياء — هو بحاجةٍ في وجوده إلى سوابق وأسلاف، كلها تتجمَّع فيه،
ومع ذلك تراه يبرز في الوجود فردًا فريدًا ليس له شبيهٌ مما سبقه
أو عاصره، حتى إذا ما تكامل بناؤه وكيانه واكتمل نموه ونضوجه،
استقر في الوجود مقومًا من مقوماته، وعضوًا من أعضائه، ليجيء مَنْ
بعده فيتشربه كما كان هو قد تشرب أسلافه، ليكون بدوره فردًا في
الوجود فريدًا، وهكذا دواليك، وانظر إلى الطبيعة كلها هذه النظرة
التي تراها وهي في سيرها تنمو، تجدها في كل مرحلةٍ من مراحلها تهضم
في كيانها كل ما قد سلف، ثم تتفرَّد بعد ذلك في مرحلتها الراهنة
تفردًا يميز هذه الحالة من كل سالفاتها، فكأنما الطبيعة في تشابك
أجزائها تجعل من الكثرة وحدة، ثم تضيف عند كل مرحلة في سيرها إلى
تلك الوحدة واحدًا، أي إنها تُضيف — عند كل مرحلةٍ في سيرها — إلى
سالف تاريخها فصلًا جديدًا أو حالة جديدة، وهذا هو ما نعنيه إذ
نقول: إن من خصائص الطبيعة الهامة عند «وايتهد» أنها في سيرها تقصد
إلى «هدف»؛ فهدفها دائمًا هو خلق الجديد، الجديد الذي يهضم القديم
كله، ثم يزيد بما يجعله جديدًا، فقوة الخلق هذه — خلق الجديد — هي
عند «وايتهد» المبدأ الذي تنطوي عليه حركة التطور، فما قوام الكون
إلا مخلوقاته، كل مخلوق منها فريد، تمثلت في فرديته تلك القوة
الخالقة التي ما تنفك ساعيةً نحو خلق الجديد، على ألَّا نفهم من
ذلك أن هذه القوة الخالقة شيء غير مخلوقاتها التي تمثلت فيها، أي
إنها ليست شيئًا خارجيًّا بالنسبة إلى مخلوقاتها، بل هذه هي نفسها
تلك، فلو تصورنا انعدام هذه الكائنات المجسدة للقوة الخالقة لتبع
ذلك انعدام هذه القوة أيضًا، وقوة الخلق هذه إنما تتمثل في
مخلوقاتها، أو مجسداتها، أو «الكائنات الفعلية» أو «العوابر الفعلية»
٣٠ على حدٍّ سواء، فهذه الكائنات أو هذه «العوابر» هي
قوام العالم بكل ما فيه، ليس وراءها شيء وليس فوقها شيء، هي
الحقيقة التي لا حقيقة بعدها، وهي وإن تكن متفاوتة القيمة والأهمية
ومتباينة النشاط والفاعلية، إلا أنها جميعًا سواءٌ من حيث تجسيدها
للمبادئ التي تجسِّدها.
٣١
وقد حان الحين لنا أن نسأل: ما هذه «الكائنات الفعلية» أو
«العوابر الفعلية» التي يرى «وايتهد» أنها قوام العالم، وأنه لا
فرق بين واحدةٍ منها وواحدة من حيث تمثيلها للمبادئ العامة التي
على سننها تجري الطبيعة، حتى لقد أسرف في ذلك وقال: «ألا فرق بين
الله — وهو أيضًا «كائن فعلي» — وبين أتفه نفثة من نفثات الوجود في
أرجاء المكان الخالي القصي البعيد»؟
٣٢ وجواب «وايتهد» عن هذا السؤال هو: الكائنات الفعلية
التي هي قوام الوجود هي حالات من خبرة، انظر إلى نفسك وأنت على وعي
بما يحيط بك تجد في نفسك سيالًا من «الخبرة» — أعني وعيك بما تدرك
— بما يقع تحت إدراكك، فهذه «الخبرة» التي تتتابع في نفسك «قطرات»،
٣٣ قطرة في إثر قطرة، هي قوام العالم، ليس قوام العالم
ذرات من مادة، ولا وحدات من روح، ولا مجموعة من عناصر، بل قوامه
«قطرات من خبرة»، كل «كائن فعلي» هو نبضة خِبْرية يدرك بها النابض
بخبرته وجود ذلك الكائن الفعلي إدراكًا مباشرًا.
وإذ تتتابع «نبضات» الخبرة أو «قطراتها»، يشعر الكائن صاحب تلك
الخبرة بشعورين في وقتٍ واحد: يشعر بفرديته التي يتفرَّد بها في
تلك الخبرة الخاصة، ثم يشعر بأنه رغم فرديته إن هو إلا جزء تجاوره
أجزاء أخرى، بحيث يدخل معها في نسيجٍ واحد هو الوجود، وهنا يستعمل
«وايتهد» اصطلاحًا آخر من اصطلاحاته الكثيرة، وهو لفظة «التشرُّب»
٣٤ أو «الهضم» أو «الامتصاص» أو ما يكون له معنى شبيه
بهذا، ليعبِّر به عن احتواء الفرد للكل الذي حوله وإدخاله معه في
عملية تطورية واحدة، في هذه الوحدة التي تدمج الفرد بغيره من
الكائنات، يكون الفرد «ذاتًا» شاعرة بما حولها، وتكون تلك الكائنات
بمثابة الموضوعات التي تتناولها تلك الذات بخبرتها، وإذن فالموقف
الذي نسميه «خبرة» يتألف من مركز ذاتي فردي خاص من جهة، وأشياء
خارجية موضوعية عينية علنية من جهةٍ أخرى، الأول يكون هو الذات
الخابرة، والثاني يكون هو الجانب المخبور، والجانبان معًا يكونان
وحدة لا تقبل الانقسام، هي التي تمثل قطعة من الحياة وهي في حالة
التجاوب مع سواها من حقائق الوجود، وفي هذا التجاوب بين الذات
ومحيطها تكون العلاقة أشبه شيء بانسياب تيار من الخارج إلى الداخل،
من الموضوع إلى الذات، وكذلك من الماضي إلى الحاضر؛ لأن كل ما هو
«هناك» مما ينساب تياره إلى «هنا» إنما هو سابق في الزمن — مهما
كانت فترة الأسبقية بالغة القصر — أي إنه ماضٍ بالنسبة إلى حالة
الخبرة به، وبهذه النقلة من الماضي إلى الحاضر من حيث الزمن، ومن
الخارج إلى الداخل من حيث المكان، تتم عملية الخبرة التي تدمج
الفرد بمحيطه، وهكذا ترى «وايتهد» في تحليله للوقف الشعوري أو
الموقف الخِبْري، بدل أن يذهب إلى ما ذهب إليه «كانت» من حيث خلع
الإنسان لذاته على ظواهر الأشياء التي يدركها فيصوغها على قوالب
تلك الذات ووسائلها، يجعل خبرة الذات وليدة العالم الخارجي
وصنيعته، إن الذات في حالة خبرتها بمحيطها الخارجي لَتخلق نفسها
بنفسها أثناء عملية الخبرة نفسها، فلا هي كانت هناك قائمة قبل
ممارستها لخبرتها، ولا هي من خلق عامل خارجي عنها، وما يحدث هو
هذا: هنالك كثرة من أشياء تحيط بمن سيتناولها بخبرته، فإذا ما
تناولها خابر بخبرته جعل من كثرتها تلك وحدة؛ لأنه سينظر إليها من
وجهة نظر واحدة، ويلاحظ أن توحيدها على هذا النحو في خبرته هو
تكوين فريد، لا تَكرار له أبدًا في أي خبرةٍ أخرى، ويلاحظ كذلك أن
صاحب هذه الخبرة هو الذي يقرر ما الأجزاء التي سيضم بعضها إلى بعض
في خبرة واحدة متماسكة، بحيث تصبح وإياه جزءًا من كلٍّ عضوي، وبحيث
تحقق له غاية منشودة.
إننا في العادة نتصور الثبات في أنفسنا حتى إن تصورنا التغير
الدائب في الأشياء التي ندركها، لكن «وايتهد» — كما رأيت — يجعل
الداخل والخارج معًا في تغير لا ينقطع فلا ينفك ما حولنا يتغير،
وكذلك ما تنفك الذات المدركة تتغير، فإذا كانت الأشياء الخارجية لا
تظل لحظتين متتابعتين على حالةٍ واحدة، فكذلك الذات المدركة لا
تثبت على حالةٍ إدراكيةٍ واحدة لحظتين متتابعتين، كان هرقليطس —
وهو من فلاسفة اليونان السابقين على سقراط — يذهب مذهب التغير في
الأشياء، وقد صور ذلك في عبارته المشهورة: «إنك لا تعبر النهر
الواحد مرتين.» ومعناها أنك حين تعبر النهر للمرة الثانية يكون
نهرًا آخر، فليس الماء هو نفسه الماء الذي كان، وجاء «وايتهد» فوسع
من المبدأ نفسه، بحيث شمل الذات أيضًا، حتى ليصح أن يقال عنها
عبارة شبيهة بتلك، فنقول: «إنك لا تفكر الفكرة الواحدة مرتين.» أو
«إنك لا تمارس الخبرة الواحدة مرتين.»
٣٥ لأنك في كل لحظةٍ تتغير ذاتًا بتغير موضوع إدراكك،
وهكذا يكون العالم — ذاتًا وموضوعًا — خلَّاقًا أبدًا جديدًا
أبدًا، لا يدوم على حالٍ واحدة لحظتين متتابعتين.
لكن الشيء إذ يتغير — كما نقول — تغيرًا لا يقف تياره فهو إنما
يفعل ذلك باطِّراحه لصفاتٍ واكتسابه لصفاتٍ أخرى هذا بديهي؛ إذ لو
دامت للشيء صفاته لما طرأ عليه تغير، فلنا إذن أن نسأل: ومن أين
للشيء المتغير صفاته الجديدة التي بها يتغير؟ إن تفسير ذلك محال،
إلا إذا افترضنا وجود تلك الصفات وجودًا كامنًا، لا بد أن تكون
هنالك كل الصفات الممكنة، وأن يكون وجودها «أبديًّا»؛ لأنها هناك
منذ الأزل وستظل هناك إلى الأبد، حتى يتسنى للعالم أن يلبس منها
ثوبًا ويخلع ثوبًا في تطوره الذي لا يقف لحظة، وفي تغيره الدائب
الذي لا يفتر ولا يني، وإذن فهذا أفلاطون يتحدث من جديد! إذ لا فرق
بين القول بوجود أشياء وجودًا أزليًّا أبديًّا، وبين «المُثُل»
التي جعلها أفلاطون قائمة كذلك في وجود أزلي أبدي، لتظل الأشياء
الجزئية تخلق على غرارها،
٣٦ أو قل كذلك إنه أرسطو يتحدث من جديد حديثه عن الوجود
بالقوة والوجود بالفعل، فما هو موجود الآن بالفعل كان موجودًا —
قبل ظهوره — بالقوة، وهكذا يتحدث «وايتهد» إذ يقول: إن عملية
التطور إن هي إلا عملية اختار متصل التركيبات وصفات كانت موجودة
بالقوة، فأصبحت باختيارها موجودة بالفعل، ولعلك أيضًا تدرك الشبه
الشديد هنا بين «وايتهد» وبين «سانتايانا» حين قال إن هناك عالمًا
للممكنات — أسماه بعالم الجوهر — يتحقق بعضه فيكون هو العالم
الفعلي الواقع.