(١) الوضعية المنطقية
سمِّيت هذه الحركة الفلسفية المعاصرة بهذا الاسم؛ لأن أنصارها
«وضعيون» بمعنى أنهم — كالعلماء — يريدون للإنسان أن يقف بفكره عند
الحدود التي يستطيع عندها أن يقيم علمه على تجاربه وخبرته، وأن
يُثبت صدق أقواله إثباتًا يستند إلى الملاحظة الحسية، وإذن فلا
يجوز له أن يجاوز بشطحاته التأملية هذه الحدود، بحيث يزعم ما ليس
في وسعه أن يستند فيه إلى الخبرة الحسية، وإلى هنا لا جديد في هذه
الحركة؛ لأن «الوضعية» بهذا المعنى بدأت بصورةٍ جادة منذ «كانت»
و«أوجست كونت» اللذين كان من رأيهما كذلك ألَّا يعدو الإنسان — إذا
ما تحدث عن العالم وما فيه — ظواهر الأشياء كما تقع له في خبرته،
لكنَّ هذين الفيلسوفين كليهما قد ظن أن وراء تلك الظواهر المشاهدة
حقائق ليس في وسع الإنسان أن يدركها بأدواته الحسية، فكأنهما أرادا
أن يقولا إن قدرة الإنسان على معرفة الكون محدودة، وإنه لو كان
مركبًا على نحوٍ آخر لَجاز أن يكون في مستطاعه إدراك ذلك الجانب
الغيبي الذي يجاوز عالم الحس والشهادة، أما هؤلاء «الوضعيون
المنطقيون» فيذهبون إلى غير هذا؛ إذ يعتقدون أن الأمر هنا ليس
عجزًا من الإنسان كما هو الآن، بل إن استحالة الحديث عن تلك
الحقائق المزعومة وراء عالم الحس استحالة «منطقية» بمعنى أن كل
عبارة يقولها قائل عن تلك الحقائق الغيبية المزعومة، لو حللناها،
وجدناها فارغةً من المعنى؛ لأنها استخدمت ألفاظ اللغة في غير ما
وجدت له تلك الألفاظ، فكأنما المشكلات الفلسفية كلها، تلك المشكلات
التي قيل عنها إنها مستعصية على الحل لعجز في قدرة الإنسان
الفكرية، إن هي في حقيقة الأمر إلا
«أشباه مشكلات»، وليست
بالمشكلات الحقيقية، هي «أشباه مشكلات»؛ لأنها تضع المشكلة
المزعومة على هيئة سؤال يتطلب الجواب، فإذا لم نجد للسؤال جوابًا،
قلنا إنه سؤال عسير، فوق مقدور الإنسان أن يجيب عنه، مع أن الأمر
كله لا يزيد على خلط في استخدام العبارات اللغوية خلطًا يوهم بأن
السؤال المطروح سؤال كهذه الأسئلة التي يُلقيها العلماء على
أنفسهم، والتحليل المنطقي لأمثال هذه الأسئلة كفيل أن يفضح مواضع
هذا الخلط، وهو بالتالي كفيل أن يمحو هذه المشكلات المزعومة من
قائمة التفكير الجاد المنتج؛ ولهذا كانت الفلسفة عند الوضعيين
المنطقيين تحليلًا صرفًا، لا تقول من عندها شيئًا، بل تترك للعلماء
حق الحديث عن العالم بما لهم من أدوات الملاحظة والتجارب العلمية،
وعلى الفيلسوف واجب واحد، هو أن يحلل العبارات اللغوية التي
يستخدمها هؤلاء العلماء — أو غيرهم — تحليلًا يقوم على منطق اللغة
ذاتها، وبذلك يفرقون بين ما يجوز قوله وما لا يجوز.
١
ولعله من الخير أن نذكر في إيجاز كيف نشأت هذه الجماعة من
الفلاسفة المعاصرين؛ لأن نشأتها تلقي ضوءًا قويًّا على اتجاهها؛
فقد نشأت أول أمرها في فينا عاصمة النمسا؛ ولذلك أطلق على أنصارها
الأولين اسم «جماعة فينا»، ولا يزال هذا الاسم دالًّا على أنصار
الحركة؛ لأن كثيرين من هؤلاء الأنصار الأولين لا يزالون هم قادة
الحركة في الولايات المتحدة بنوعٍ خاص، كان في جامعة فينا تقليدٌ
تراعيه؛ وهو أن يكون البحث الفلسفي فيها مناصرًا للفلسفة
التجريبية، ومنصرفًا باهتمامه إلى العلوم الطبيعية، وبدأ هذا
التقليد في تلك الجامعة منذ أن شغل «إرنست ماخ»
٢ كرسي الأستاذية لفلسفة العلوم في الفترة الواقعة بين
سنة ١٨٩٥م وسنة ١٩٠١م، فحدث سنة ١٩٢٢م أن أُسنِدت الأستاذية في هذا
القسم من الجامعة إلى «مورتس شليك»
٣ الذي ولج ميدان الفلسفة من باب العلوم الطبيعية، كسائر
أسلافه، لكنه تميز من هؤلاء الأسلاف بإلمامه التام بالفلسفة، وقد
كان أسلافه لا يعرفونها معرفة الخبير، وسرعان ما تكوَّنت حول
«شليك» جماعةٌ من المشتغلين بالعلوم الطبيعية والرياضة، والمهتمين
في الوقت نفسه بالدراسات الفلسفية، نخص بالذكر منهم «وايزمان»
٤ و«نوراث»
٥ و«فايجل»
٦ و«كارناب»
٧ و«كرافت»
٨ و«كاوفمان»
٩ و«جيدل».
١٠
كونت «جامعة فينا» حلقة فلسفية على النمط الحديث الذي يجعل البحث
الفلسفي تعاونًا كما هي الحال بين جماعة العلماء الذين يتعاونون
على حل مشكلة بذاتها، ولم يكن الأمر فيها أمر فلسفة من الطراز
التقليدي الذي يتلقَّى فيه الأتباع آراء أستاذهم، تعاونت هذه
الجماعة على التحليل، بحيث لم يكن رئيسهم «شليك» أبرز الأعضاء،
فكلهم ممن نبغ في مجال العلوم الطبيعية أو الرياضة، وكلهم قادر
قدرة زميله، فلا يبقى إلا أن يدور بينهم البحث على تعاون ومساواة،
وقد كان «فتجشتاين»
١١ على اتصالٍ بهم وإن لم يشاركهم في اجتماعاتهم، فكان له
في توجيههم أعمق الأثر.
لبثت «جامعة فينا» في فينا نفسها حينًا، وجعلت تزداد نشاطًا
باشتراك أعضائها في المؤتمرات الفلسفية وبإصدارها لمجلةٍ خاصة بهم؛
حتى حدث عام ١٩٣٨م أن ضُمَّت النمسا إلى ألمانيا وتلا ذلك من أحداث
السياسة العالمية ما تلا، فانحلَّت تلك الجماعة وتفرقت، أما
«وايزمان» و«نوراث» فقد ذهبا إلى إنجلترا؛ وأما «فايجل» و«كاوفمان»
و«جيدل» و«كارناب» فقد رحلوا إلى الولايات المتحدة، أضف إليهم من
قادة الوضعية المنطقية ممن لم يكونوا في فينا نفسها، ولكنهم رحلوا
كذلك إلى الولايات المتحدة بمناسبة الحرب العالمية الثانية «رايشنباخ»
١٢ و«فون ميزس»،
١٣ وهؤلاء وأولئك جميعًا هم الآن على رأس حركة فلسفية
عميقة نشيطة في الولايات المتحدة، قوامها التحليل الفلسفي للقضايا
العلمية.
والوضعيون المنطقيون على اختلاف نزعاتهم يُجمعون على نقط رئيسيةٍ
أهمها أربع، حتى لَيجوز لنا أن نقول عن هذه الموضوعات الأربعة
المشتركة بينهم إنها أهم ما يشغل أنصار هذه الحركة اليوم في
الولايات المتحدة، وقد ذكرنا من هذه النقط اثنتين: الأولى هي أن
مهمة الفلسفة تحليل لما يقوله العلماء، وما يقوله الناس في حياتهم
اليومية، لا تفكير تأملي ينتهي بالفيلسوف إلى نتائج معينة يصف بها
الكون وما فيه، والثانية هي نتيجة ترتبت على النقطة الأولى، وهي
حذف الميتافيزيقا من مجال الكلام المشروع؛ لأن التحليل — تحليل
عباراتها الرئيسية تحليلًا منطقيًّا — قد بيَّن أنها عباراتٌ خالية
من المعنى، أي إنها ليست بذات مدلول، حتى يصح وصفها بالصواب أو
بالخطأ، وأما النقطة الثالثة فهي اتفاقهم على نظرية «هيوم» في
تحليل السببية تحليلًا يجعل العلاقة بين السبب والمسبب علاقة
ارتباط في التجربة، لا علاقة ضرورية عقلية، أي إننا إذا شاهدنا في
تجاربنا شيئين «أ» و«ب» متصلين دائمًا، حدث بينهما ارتباط في
أذهاننا، بحيث إذا حدثت بعد ذلك «أ» توقعنا أن تحدث معها «ب» كما
حدثت معها في الخبرات السابقة، لكن لا ضرورة هناك تقتضي حتمًا أن
يتبع حدوث «أ» حدوث «ب»، فالأمر كله احتمال وترجيح، لا ضرورة
ويقين، وبهذه النظرة تغير الرأي في القوانين العلمية كلها؛ إذ
أصبحت هذه القوانين قائمة على درجةٍ كبيرة من الاحتمال، لا على
أنها يقينية حتمية، وبعبارةٍ أخرى أصبح العلم الطبيعي قائمًا على
نفس الأساس الذي يقوم عليه الإحصاء، فإن دل الإحصاء على أن ظاهرة
معينة مرجحة الوقوع في ظروفٍ معينة، كان ذلك قانونًا علميًّا، مع
أنه لا يقين هناك؛ إذ ما يدل الإحصاء على أنه يقع غالبًا قد يحدث
أحيانًا ألَّا يقع.
وهنا ننتقل إلى النقطة الرابعة والأخيرة مما يتفق عليه الوضعيون
المنطقيون جميعًا، وهي أن قضايا الرياضة — وكذلك قضايا المنطق
الصوري — تحصيلات حاصل لا تضيف عن العالم الخارجي علمًا جديدًا،
فالقضية الرياضية مثل قولنا ٢ + ٢ = ٤ إن هي إلا تَكرار لحقيقة
واحدة برمزين مختلفين، فالرياضة معادلات، والمعادلة معناها أن
جانبيها متساويان، أي إن ما عبرنا عنه برمزٍ معين في ناحية، نعبر
عنه هو نفسه برمزٍ آخر في ناحيةٍ أخرى؛ ومن ثم قيل إن قضايا
الرياضة كلها تحليلية، أو تكرارية، وإذن فهي تحصيل حاصل؛ إذ إني
أحصل في الشطر الثاني من المعادلة نفس الشيء الذي حصلته في الشطر
الأول منها، ولا يغير الموقف أن يكون ما حصلته في الشطر الأول
مرموزًا له برمزٍ معين، وأن ما حصلته في الشطر الثاني مرموزٌ له
برمزٍ آخر، لكنه يساويه، تلك نتيجة خطيرة انتهت إليها تحليلات
الوضعية المنطقية؛ لأنها تفسر يقين الرياضة، فالرياضة يقينية؛
لأنها لا تقول شيئًا، وعلى عكس ذلك العلوم الطبيعية، فقوانينها
احتمالية؛ لأنها تتعرَّض لوصف العالم الواقع؛ ومن ثم جاز أن
تتعرَّض للخطأ في وصفها.
(٢) عودة إلى «عمود الفلسفة»١٤
لعلك قد لاحظت في معظم الاتجاهات الحديثة والمعاصرة محاولاتٍ
للخروج على الطريق التي ألفته الفلسفة طوال القرون؛ البراجماتيون،
والواقعيون، والطبيعيون، والوضعيون المنطقيون، وغير هؤلاء وأولئك
يحاولون ألا يتقيدوا بمألوف التقاليد الفلسفية في وجهة النظر، فكان
من الطبيعي أن يقوم فيلسوف أو فلاسفة ليصدوا هذا التيار الجارف نحو
التجديد، ولينادوا بالعودة إلى السبيل التي سارت عليها الفلسفة
عصورًا طوالًا، كأنما يريدون أن يقولوا: ماذا يعيب القديم حتى
نندفع بكل هذا التهور نحو الجديد؟ إن «التقاليد العظيمة» التي سادت
الفلسفة «منذ أفلاطون إلى هيجل» لجديرةٌ بالرعاية والتقدير.
ولم يكن هؤلاء الداعون إلى الأخذ بوجهة النظر التقليدية في
الفلسفة على رأي واحد في كل التفصيلات، بل هم لا يجتمعون معًا إلا
على هذه الدعوة، ثم بعد ذلك يفترقون فلكلٍّ سبيله ولكلٍّ مذهبه،
وهم إذ يجتمعون على الدعوة إلى الأخذ بالنظرة التقليدية، فإنما
يعنون على وجه التخصيص تلك النظرة التي تحاول أن ترى للكون معنًى
مفهومًا، إن الفلاسفة على مر التاريخ لم يتفقوا على مذهب بعينه حتى
يقال إن الأجدر بنا أن نعود إلى الأخذ بذلك المذهب، لكنهم كانوا —
مع اختلاف مذاهبهم — يحاولون تفسير الكون تفسيرًا يخرجه من الفوضى
والخبط العشوائي، ويجعله مكانًا معقولًا يستحق أن يكون مسكنًا
للإنسان، وأن يكون من صنعة الله الذي لم يرد بخلقه أن يسير على غير
هدى، وفي ذلك يقول «ولبر إيربن»
١٥ — الذي سنحدِّثك عنه في هذا القسم لنتخذ منه مثلًا
لهؤلاء الداعين إلى الأخذ بالتقاليد الفلسفية القديمة المجيدة —
يقول: «إنه منذ أفلاطون حتى هيجل، كان طابع الفلسفة التي ما انفكت
قائمة على مر السنين، هو فكرة معقولية العالم، وهي معقولية ترتد
إلى ما وراء عالم الحس والظاهر.»
١٦
أحس «إيربن» بأن العالم ذو معنًى ومغزى، وأنه له هدفًا معقولًا
مقصودًا، لكنه تلفَّت حوله فرأى ضروبًا من العلم، وألوانًا من
الدراسات كلها يدور حول محورٍ واحد، وهو أن العالم مجموعة من
الظواهر تأتلف أو تختلف، دون أن يكون وراءها معنًى أو أمامها هدف،
حتى الذات الإنسانية قد تفككت — على يدي علم النفس الحديث — حالات
يعقب بعضها بعضًا، وإذا كان هذا هو الشأن في الطبيعة وفي الإنسان،
فأين تكون «القيمة» في هذا الوجود؟ إن كان كل ما هنالك ظواهر تحس
بالبصر أو بالسمع أو بغيرهما من الحواس، إذن فلا وجود «للقيم»؛ لأن
«القيم» — قيم الأخلاق والجمال — ليست من نوع الظواهر التي تحس،
وبغير «القيمة» لا يكون لأي شيءٍ معنًى مفهوم، يقول «إيربن»: «إن
عالم الواقع كما نحياه وكما نعرفه، لا يصبح عالمنا إلا إذا صيغت
خبراتنا عنه في مقولات القيمة، إننا نوجه أنفسنا في العالم على
هدًى من علاقة «فوق» و«تحت»، و«يمين» و«شمال»، و«أكثر» و«أقل»،
لكننا كذلك نوجه أنفسنا — إلى جانب تلك العلاقات — بعلاقاتٍ ليست
دونها خطرًا، وهي علاقات «أعلى» و«أدنى» و«أفضل» و«أسوأ».»
١٧
لقد كان «كانت» قد فرق بين العقل والأخلاق من حيث أصل الإدراك
وطبيعته؛ إذ قال إننا إذ ندرك ظواهر الطبيعة إدراكًا معقولًا
مفهومًا، فإنما نصوغ مدركاتنا الحسية في قوالب — أو مقولات — فطرية
في عقولنا، وبهذا وحده تكتسب معناها، فلولا هذه المقولات التي هي
جزء من طبائعنا، لَجاءتنا الإحساسات من العالم الخارجي أشتاتًا
مهوشة، لكننا بتلك المقولات نصوغ الأشتات في تماسك ووحدة، ونخلق من
الهائش اتساقًا ومعنى، لكنه لم يمد هذا الأساس ليشمل عالم القيم
أيضًا، فليس لدينا — بناء على وجهة نظره — مقولات فطرية ندرك بها
ما في الأشياء من قيم، بعبارةٍ أخرى ليس «العقل الخالص» أو العقل
النظري هو المنوط بإدراك القيم، إنما نضطر إلى هذا الإدراك
اضطرارًا بحكم أوضاع الحياة العملية، أي إنه إذا كان إدراك الطبيعة
من شأن «العقل النظري»، فإدراك القيم من شأن «العقل العملي»، ويحلل
«إيربن» وجهة النظر الكانتية هذه، لينتهي إلى إزالة التفرقة التي
أقامها «كانت» بين العالمين؛ عالم الطبيعة وعالم القيم، ويجعلهما
معًا معتمدين في إدراكهما على مقولاتٍ فطريةٍ في طبيعة الإنسان؛ إذ
يجعلهما معًا داخلين في نطاق العقل النظري، أو العقل الخالص؛ فهو
الذي يدرك «الشيء» كما يدرك «القيمة» على حدٍّ سواء، هو الذي يدرك
الزهرة ويدرك جمالها في آنٍ معًا، وهو الذي يدرك الإحسان ويدرك ما
فيه من فضيلةٍ في وقتٍ واحد، فالشيء وما له من قيمة جانبان متصلان
لا ينفصلان في عملية الإدراك، والأداة التي بها ندرك أحد الجانبين،
هي نفسها الأداة التي ندرك بها الجانب الآخر.
و«القيمة» التي يدافع عن وجودها «إيربن» قيمة مطلقة، أعني أن
وجودها لا يتوقف على صالح الإنسان، إنها ليست هناك بالنسبة إلى
الإنسان وحده، أو بالنسبة لفريقٍ من الناس هنا أو هناك، في هذا
العصر أو ذاك، بل قيمة العالم موجودة فيه، لذلك لم يوافق، بل لم
يفهم دعوى البراجماتيين والتطوريين حين زعموا أن قيم الأشياء إنما
تكون بالنسبة لنفع تلك الأشياء وأهميتها في حياة الإنسان، وعلى هذه
الدعوة يرد «إيربن» ردًّا مفحمًا إذ يقول: إن في هذا الكلام مغالطة
الدور؛ لأنه كلام يجعل النتيجة سببًا، ثم يجعل السبب نتيجة، إذ
لماذا يكون لما ينفع الحياة قيمة؟ هكذا نسأل البراجماتيين وأنصار
التطور البيولوجي، ولا أحسبهم إلا مجيبين الجواب الأوحد الذي لا
جواب سواه؛ وهو لأن للحياة قيمة، إذن فقد افترضنا منذ البداية وجود
«القيمة» أي إنها كانت هي «المبدأ» الذي على أساسه يحكم بعد ذلك
على مختلف الأشياء بالصواب أو بالخطأ، فما يخدم تلك «القيمة»
الأولية — قيمة الحياة لذاتها — هو الصواب، وما لا يخدمها هو
الباطل، وهكذا إذ يجعل البراجماتيون وأصحاب التطور القيمة نسبية،
يكونون في الوقت نفسه قد افترضوا افتراضًا سابقًا بوجودها وجودًا
مطلقًا.
ويسوقه هذا إلى البحث في نظرية المعرفة من أساسها؛ ليرى هل يمكن
أن ينفصل الحق والباطل في معارفنا عن معيار قيمي، وما هو إلا أن
ينتهي إلى نظرية ميتافيزيقية عرف بها بين الفلاسفة المعاصرين،
ومؤداها أن تحليل المعرفة مؤدٍّ حتمًا إلى التوفيق بين المثالية
والواقعية؛ لأن أصولها تمتد إلى ما وراء نقطة الاختلاف بين هذين
المذهبين؛ ذلك أن تحليل المعرفة لا بد أن يؤدي في النهاية إلى أن
ثمة ذواتًا شاعرة على صلة بعضها ببعض لتنقل الذات الواحدة إلى
الذات الأخرى ما تعرفه، لكن هذا التبادل في المعرفة هو في ذاته
تبادل في القيم أيضًا؛ لأن المعرفة لا تكون صوابًا إلا إذا كان في
صوابها قيمة، ولكي يتفق اثنان يتبادلان المعرفة على صوابٍ ما، فلا
بد بالتالي أن يكونا متفقين على القيمة التي هي أساس ذلك الصواب،
هذا الأساس لتبادل المعرفة بين الناس قائم سواء كان المتبادلان
للمعرفة من أنصار الواقعية، أو أنصار المثالية، أو خليطًا من هؤلاء
وأولئك، وإذن فالبحث في نظرية المعرفة وردها إلى أصولها الأولى،
سرعان ما يجاوز بنا حدود الاختلاف الناشب بين المثاليين
والواقعيين؛ ومن ثم إطلاقه على فلسفته اسم «ما وراء المثالية
والواقعية».
ورأيه في المعرفة يتلخَّص في هذه المبادئ الثلاثة الآتية: أولًا:
لا يمكن دراسة الفاعلية التي تحدث أثناء عملية المعرفة دراسةً
علمية؛ لأن العلم ذاته إن هو إلا ضرب من المعرفة التي تقتضي تلك
الفاعلية، فإن كانت الفاعلية العقلية مفروضة كأساس أوليٍّ للمعرفة
العلمية، فكيف يمكن أن نخضع تلك الفاعلية نفسها للمعرفة العلمية؟
ثانيًا: لا بد أن يكون موضوع المعرفة شيئًا آخر غير التفكير نفسه،
أعني أن التفكير نفسه يستحيل أن يكون موضوعًا لمعرفة حقيقية، لكننا
إذا ما عرفنا شيئًا وجب أن يكون هنالك سبيل لانتقال تلك المعرفة من
عقلٍ إلى عقل، وهذا الانتقال محال بغير افتراضٍ سابق، وهو أن من
يتبادلون المعرفة قد تم اتفاقهم على قيمٍ معينة. وثالثًا: إن نظرية
المعرفة تضرب بجذورها الأولى إلى ما وراء نقط الاختلاف بين
الواقعية والمثالية؛ لأن كلا المذهبين قائم على أساس التبادل
والتفاهم والاتفاق على القيم التي بغيرها لا يكون تفاهم ولا تبادل لفكر.
١٨
على أن هذه النقطة الأخيرة بحاجةٍ إلى تفصيل؛ لأنها — كما قلنا —
قد أصبحت صفة مميزة ﻟ «إيربن» بين الفلاسفة المعاصرين، وبخاصة بعد
أن أخرج سنة ١٩٤٩م كتابه الذي جعل عنوانه «ما وراء الواقعية
والمثالية» فماذا يعني على وجه الدقة؟ يريد أن يقول: إن الصراع بين
الواقعية والمثالية هو صراع بغير موجِب، وأن الفلسفة التقليدية
الخالدة قد استطاعت أن تعلوَ على وجهتي النظر هاتين بنظرةٍ تشملهما
معًا، فليست الواقعية في ذاتها أو المثالية في ذاتها «معرفة» حتى
يجوز أن يصطرع أنصار هذه مع أنصار تلك، أعني أنهما لا يختلفان على
حقيقةٍ بعينها أو واقعةٍ بذاتها حتى يمكن فض ما بينهما من خلاف
بأيٍّ من مناهج البحث، فلا المنهج التجريبي ولا المنهج العقلي
بقادرٍ على أن يحسم موضع النزاع؛ لأن موضع النزاع ليس هو مما يقع
في مجال الخبرة حتى ينحسم بالمنهج التجريبي، ولا هو مما يقع في
مجال التفكير العقلي — كالرياضة مثلًا — حتى ينحسم بمنهج ذلك
التفكير.
وإذن ففيمَ يختلف هذان المذهبان؟ الحق أن كلًّا منهما هو طريقة
للنظر إلى «المعرفة» وقد ينظر إلى الأمر الواحد بعدة طرقٍ مختلفة،
على ألَّا تكون تلك الطرق متناقضةً بعضها مع بعض، وإن صحَّ أن يكون
هناك اختلافٌ حقيقيٌّ فهو ذلك الذي يقع بين الواقعية والمثالية
كليهما من جهة وبين المذاهب الطبيعية من جهةٍ أخرى؛ لأن هذه
الأخيرة — على خلاف ذينك المذهبين — لا تعترف بشيءٍ اسمه «المعرفة»
بصفةٍ عامةٍ شاملة، إنما الأمر عندها ينحل إلى «معارف» جزئية أو
معلومات، ومن مجموعة هاته المعارف أو المعلومات تتكون «المعرفة» —
أما ذانك المذهبان — الواقعية والمثالية على السواء، فهما على
العرف التقليدي في الفلسفة يعتقدان بأن «المعرفة» بصفةٍ عامة موضوع
للتفكير، وهو مختلف عن المعارف المتفرقة، ثم هما بعد ذلك يبحثان
في: كيف أمكن تحصيلها، وما مصدرها، وما حدودها، إلى آخر هذه
المباحث التي شغلت الفلاسفة في العصر الحديث بصفةٍ خاصة. بعبارةٍ
أخرى، الواقعية والمثالية كلاهما يعلو على المعارف الجزئية التي
تراها متمثلة في قضايا العلوم المختلفة وقوانينها، هما يعلوان على
هذه المعارف الجزئية لينظرا إلى «المعرفة» باعتبارها حقيقة مجردة
غير هذه الحقائق المفردة المتعينة التي تقول كل منها شيئًا بعينه
عن عالم الطبيعة أو عالم العقل، وإذن فلا اختلاف بينهما من حيث
الأساس، وإن اختلفا في التقدير، كلاهما يذهب إلى أن الإنسان «يجب»
أن يعرف،
١٩ وهما بتقرير هذا «الوجوب» إنما يجعلان للمعرفة «قيمة
خلقية» تكون قائمة قبل أن يبدأ الإنسان في تحصيل معارفه الجزئية
المتفرقة، إنه يبدأ في هذا التحصيل صادرًا عن «وجوب»، أي صادرًا عن
«قيمة» فها هنا يتفق المذهبان، هما متفقان على المبدأ القيمي
الأولي قبل أن يفترقا مذهبين: واقعية في ناحية، ومثالية في ناحيةٍ
أخرى؛ ومن ثم كانت تسمية «إيربن» لكتابه «ما وراء الواقعية
والمثالية».