النشأة والزواج
نشأة الشاعرة
ولكن أظننا بلا دليل ولا علامة قد نعرفها بمجرد الاستسلام لهدى الفراسة. إن التي ترجح على أختيها بمثل ما رجحت عائشة لا بد أن تحوي ملامحها منذ الصغر شيئًا يختلف عما يُرى في وجه عادي الصغار. فنحب أن نتصورها طفلة دمثة في العاشرة من عمرها، تنضح شفتاها المتوسطتا الحجم بطلاوة العاطفة وشوق المحبة. شفتان تهمان بالافترار لتذوق المستطاب المستساغ من طعوم الحياة جاهلتين ما وراء ذلك من حنظل وغسلين. ونحب أن نتخيل في العينين القاتمتين من معاني الشجن وغزارة العواطف ما يتفق مع معاني الوجوم واللذاذة في الثغر. ونكاد نرى تينك الشفتين تُختمان بالخط اللطيف البارز بدقة كأنه حُفر حفرًا، الذي يرى في شفاه أهل الفن والذوق، وفي شفاه بعض الشعراء. كأنه يشير إلى الأوزان التي سيضبط توقيعها العواطف المستفيضة الشاردة، ويقتنص الزفرات الملتهبة المتدافعة ليسكبها فيما يظل منضدًا على القرطاس نظيمًا، ويظل على شفاه الطروب من الناس شاديًا.
•••
ليس هذا من مألوف الشكوى والثناء. بل هو كان لها على الدوام نصيرًا منذ الصغر في جهادها ضد والدتها التي كانت تحثها على تعاطي أشغال الإبرة.
ولا يفوتنا الآن — في هذه النقطة من بحثنا — ما زلنا أيام كان أبناء العظماء، حتى الملوك أنفسهم، يتزوجون من معتوقاتهم. ولطالما استهجن كُتَّاب الفرنجة هذه العادة ذاهبين إلى أن دماء العبيد تجري في عروق أكثرية الشعوب الشرقية. وما هي منهم إلا نظرة سطحية؛ إذ ليس أولئك الجوار دوامًا من أصل وضيع؛ فمنهم الكريمات أسيرات الحروب. وقد قذفت حرب المورة، مثلًا، إلى مصر بكمية وافرة من بنات اليونان، ومنهن الشريفات المخطوفات، ومنهن الشركسيات يبيعهن الأهل مدفوعين بحب الرفعة والتقدم لأولادهم الذين إذا عاشوا في جبالهم كان حظهم محدودًا، أما إذا انتقلوا إلى بلاد أخرى عن هذا الطريق فلهم أن يتعللوا بأكبر الآمال ويرتقوا أعلى المراتب.
لست مبررة عمل الأهل، إنما أنا شارحة إحساسهم، نعم إن كثيرين من أولئك الأولاد يحلون بيوتًا صغيرة يعملون فيها للخدمة فيجيء الإعتاق متأخرًا، ويكون الزواج فقيرًا والجهاز ضئيلًا. ولكن الشرع الإسلامي شديد الرفق بالرقيق، جم العناية بحاله. ثم قد يسعد الصبي فيصير «مملوكًا» ألمعيًّا، وتصير البنت «هانمًا» غنية. ولهم أن يحلموا حتى بالعروش.
هذا من جانب الأهل. أما الأزواج فلم يكونوا يومئذ ليطلبوا في المرأة سوى خصائص الصحة والجمال الجسدي وجودة البنية، فتزيد أو تنقص قيمة الجارية بقدر ما تحوز من تلك الخصائص. فيخرجونها على أعمال معروفة كتدبير المنزل، وأشغال الإبرة، وفنون الرقص والعزف والغناء أحيانًا، ويربُّونها على عادات الكبراء وعلى طريقة من الطاعة تتلاقى فيها الأنفة والإذعان.
وهناك سبب اجتماعي آخر في مصلحة الجارية، وهو كونها بكليتها لعائلتها الجديدة. يقول الظرفاء إن آدم كان أسعد الأزواج؛ لأن حواء كانت «مقطوعة» فظلَّ حياته في نجوة من صولات أهلها وجولات أنسبائها. والحق يُقال من عيوب المجتمع الشرقي ذلك التطاول المرق الذي يسمونه «وحدة حال» أو «يا سلام! الناس بالناس!» وبه يستبيح بعض الأقارب والأنسباء ما كان يجب أن يحجموا ويقفوا دونه. مسلم أن البر بالأقارب حسن ومحمود، ولكن على شريطة ألا يكون ذلك باعثًا على إضرار العائلة وتنغيصها، وألا يكون معناه انتهاك حرمة البيت من ذلك الجيش الجرار الذي تسحبه بعض النساء الشرقيات كأنه الهدية الواحدة من هدايا العرس المنقلبة ضربة لازب، جيش يصير همه ابتداع الأكاذيب وتلفيق الروايات، لا سيما إذا كثر الاختلاط وظهرت أسباب المنافسة والحسد. وإنما باعتدال المعاشرة والاحتفاظ بعادات كل عائلة، والسهر على استقلالها الداخلي وراحتها وأسرارها يتحقق التفاهم بين الأقارب وتنمو المودة، أما التطاول والتهجم فمؤديان إلى القطيعة حتمًا. وقد بدأ الشرقيون يفهمون أن البنت عند زواجها ثمرة نضجت فسقطت عن شجرتها، فأضحى أول واجباتها محصورًا في العائلة الجديدة التي تنشئها، كما تتقيد البذرة بالثمرة الجديدة التي كوَّنتها تنفيذًا لناموس الخليقة. ولقد كان هذا الاستقلال العائلي، وتقديس حدود البيت والتفرغ للاعتناء به، والقيام بما يعود عليه بالرفاهية والهناء؛ من أكبر عوامل تقدم الأمة الإنجليزية. كما أن نقيضه في كثير من الأسر الشرقية من أهم عوامل التقهقر؛ إذ كيف يتقدم وينجح من كان في حياته البيتية شقيًّا!
يدرك القارئ والحالة هذه، أن والدة عائشة لم تكن تفهم تشبث ابنتها بالكتب، ويدرك أنها كانت تجدها شاذة فتسأل الله عليها صبرًا ولها معونة!
•••
وتعنفني بالتكدير والتهديد، فلم أزد إلا نفورًا، وعن صنعة التطريز قصورًا. فبادر والدي، تغمَّد الله بالغفران ثراه وجعل غرف الفردوس مأواه، وقال لها: «دعي هذه الطفيلة للقرطاس والقلم، ودونك شقيقتها فأدِّبِيها بما شئت من الحكمة.» ثم أخذني بيدي وخرج بي إلى محفل الكتَّاب، ورتَّب لي أستاذين؛ أحدهما لتعليم اللغة الفارسية، والثاني لتلقين العلوم العربية. وصار يسمع ما أتلقاه من الدروس كل ليلة بنفسه …
«وبالرغم مما كان متأصلًا في نفسي من الميل إلى تحصيل المعارف من جهة والحصول على رضى والدتي من جهة أخرى، فإن نفسي ما برحت نافرة من المشاغل النسوية.» وكان من دأبي أن أخرج دائمًا إلى قاعة منزلنا (السلاملك) فأمرُّ بمن يُوجد هناك من الكتَّاب لأصغي إلى نغماتهم المطربة. ولكن أمي — أقرَّها الله في رياض الفراديس — كانت تتأذى من عملي هذا فتقابلني عليه بالتعنيف والتهديد والإنذار والوعيد. وتجنح أحيانًا إلى الوعود اللطيفة والترغيب بالحلي والحلل الطريفة. أما أبي، رحمه الله، فكان يخاطبها بمعنى قول الشاعر التركي:
فاحذري من أن تكسري قلب هذه الصغيرة وأن تثلمي بالعنف طهره، وما دامت ابنتنا ميالة بطبعها إلى المحابر والأوراق فلا تقفي في سبيل ميلها ورغبتها. وتعالي نتقاسم بنتينا: فخذي «عفت» وأعطيني «عصمت». وإذا كانت لي من عصمت كاتبة وشاعرة فسيكون ذلك مجلبة الرحمة لي بعد مماتي.
في مناقشة هذين الأبوين وتغلُّب الأب في النهاية، أمثولة لكثير من الوالدين في هذا العصر. فالأهل يقر رأيهم منذ حداثة أبنائهم في الغالب، على السبيل التي سيسلكون. فيقولون: نجعل هذا طبيبًا، وذاك محاميًا، والآخر مهندسًا، وأخاه تاجرًا … إلخ. ولو هم تفحصوا الميول والممكنات لربما وجدوا أن المحامي المزعوم لن يفلح في غير الطب، وأن المهندس خُلق للتجارة أو للصحافة وأن الطبيب هيَّأته الطبيعة لبيع الأثاث القديم في المزاد العلني. وهلمَّ جرًّا. هذا عدا تعويد الولد لباسًا وأساليب لا تتفق مع مقدرته المالية، وبث الأطماع الجنونية فيه حيث لا كفاءة ولا حذق يؤهلانه لتحقيق الغايات الكبيرة. كثير من شقاء العالم اليوم راجع لسوء تدبير الأهل. فيصرف الأولاد الأعوام في تلمس السبيل مجهدين نفوسهم في نيل ما ليس لهم، معذبين الآخرين وكل قلق حائر ففي صراع الأنانيات لتركيز الحظوظ وتنظيم المعيشة.
أما شاعرتنا فقد نعمت بأب يجمع بين الإدراك والمقدرة. فسيَّرها في هذا الاتجاه الذي تطلب نازعة عن الإبرة التي تكره، والمنسج الذي تلقى، حتى إنها لا تذكر تلك الأشغال النسائية إلا بالاستنكاف والاشمئزاز.
هنا ملاحظة صغيرة؛ لأن هذا القول عن عائشة سيزيد في تعميم الخطأ الشائع؛ وهو أن الفتاة إذا هي أحبت الدرس والعلم، وإذا هي برعت في معرفة أو فن، رغبت عن أشغال المرأة وترجلت. وأنا أقول — وإني لأعلم ماذا أقول — إن هذا إلا مذهب طائش غبين. إني أعرف فتيات ونساء ينهضن من المسرات الأدبية والفنية، بل ومن أعمق وأعوص النظريات الفلسفية، إلى أشغال الإبرة والتفصيل، بل إلى ما دونها من رفو ورتق، وتدبير المنزل ومزاولة الطبخ. فيجدن في كل ذلك راحة وسلوى. ويدخلن في تلك الأعمال الوضيعة شيئًا من التفنن محولات ما فيها من خشونة إلى ضرب من الكياسة.
كذلك رأي طائش وغبين ذاك القائل إن الاطلاع والعلم «يرجلها …» إنها لتتضاعف بالعلم أنثويتها. ومن السخافة أن ينعى على المرأة المتعلمة التأنق والزينة واللطف. حتى أن صورة المرأة «المتعلمة» لتكاد تستحضر لمخيلة الناس عجوزًا دميمة متصلبة شرسة. ولماذا؟ أترى الرغبة في تنوير الأذهان والتوق إلى حياة داخلية سامية، يعني الزهد في الدنيا، والانقطاع عن العالم، والانفراد للدرس والتحبير شأن الرهبان في الأديار؟!
لا أنكر وجود المترجلات بين المتعلمات؛ والسبب أنهن بطبيعتهن كذلك. وقد تجد المترجلات بين الجاهلات الغبيات، كما تجد بينهن من لا يعنيها أمر بيتها ولا إلمام لها بتطريز أو بتفصيل أو بتنظيم. شغلها الشاغل الزينة والثرثرة والانتقال من زيارة إلى زيارة. وقد تكون كذلك دون ترجل، وبالعكس. فإن لم تهتم عائشة بأشغال الإبرة فإنها على غير استعداد طبيعي لها. ولو لم تحب الكتب والكتابة لما زاولت تلك الأشغال، ولو زاولتها ما أتقنتها. وذلك لم يقلل من عذوبة أنثويتها الخالصة.
هذا الأب الذي يعرف أن يكون أستاذًا وصديقًا معًا جدير بكل شكر وثناء.
•••
أنت الشاعر، أنت الأديب، أنت الفنان، أليس أنك تذكر من أعوامك الأولى ظرفًا خاصًّا، أو مشهدًا جميلًا، أو كلمة محمسة، أو وجهًا محبوبًا أهاج بلابلك، ولفتك إلى نفسك، وكأنه وسع فيك أفق نور وفتح في جنانك بركان نار؟ أليس أن لك ساعة تفتق فيها من نبوغك البرعم الأول؟
ألا يحلو لك تيقظ العاطفة على هذا النمط؟ أتبصر معي تلك الطاقة النضرة في نور القمر، والبنية تستعطف البدر لأجل ما تحب؟ ثم تعود فترى البدر غافلًا، وطاقة الورد مبددة، وتوسلها وأملها هباء …
رمز يا عائشة، رمز إلى ما في الحياة الممتدة أمامك! فلا ما هو موضوع الإعجاب والرجاء ليستجيب، ولا ما هي نضرة الأزهار لتبقى. وإنما الإنسان هو الذي يثق ويبتهل ويخيب ويحزن. فيؤدي به ذلك إلى تجربة مرة، أو عاطفة جريحة، أو اختبار قاسٍ!
وعندئذ دخل عليَّ أبي فرأى ما بي من الحزن وسألني عن حالي، فأنشدته الشعر وأنا في خجل وحذر. وإنما كنت كذلك لأن أبي كان كلما رأى في يدي ديوان شعر يقول لي: «إنك إذا أكثرت من مطالعة الشعر الغزلي فسيكون ذلك سبب زوال كل دروسك من ذاكرتك …»
بهذه الكلمات القليلة ذات الروح الجديدة في قدمها، تخبرنا عن نفسها إلى حادث الزواج الذي لا تذكره إلا بكلمة واحدة. ومن ثم تنتقل في تلك المقدمة إلى الكلام عن ذاتها بعد مرور عشر سنوات على زواجها. أما أنا، فعند هذه الكلمة الوحيدة التي تغيِّر حياة الفتاة بكليتها، أقف طويلًا وأتأمل. وكم كنت أود استطلاع ما شعرت به عندما أبلغت أنه تم اختيار ذاك الذي سيكون زوجها. أي عواطف جاشت في نفس تلك الشاعرة الصغيرة؟ أي حنان وخوف؟ أي صبابة وإجفال تناوبت على قلب ناظمة القصيدة التي روت لنا الآن حكايتها مع أبيها، فجعلت هذه الأبيات العربية بين الأبيات الأخرى من تركية وفارسية:
•••
•••
هذا ما قالته وهي في الثالثة عشرة قبل أن تطلق لعواطفها العنان وقبل أن «يُرخَّص لها رسميًّا» أن تتخذ لنشيدها موضوعًا حيًّا. فأي الأناشيد تغرد الآن في القلب الصغير إذ ترقب «وجهه» من وراء النافذة وهو داخل؟ وإذ ينقلون إليها أخباره؟ وأن تتصوره فيه اليوم وهو بعيد؟ وإذ تفكر في الغد حين تكون معه؟ ليتها دوَّنت لنا يومياتها في ذلك العهد؛ إذن لتمتعنا بتأثرات بريئة شهية!
… ولكن لقد أغفلت الكتب وأسلمت الكراريس للغبار والسكون، ولهت التلميذة المجتهدة بتهيئة الأثواب الجميلة الزاهية والحلى المتألقة الغالية. والأيام تحدو الأيام سراعًا في إتمام معدات العرس. ولقد أقبل أخيرًا اليوم العظيم يوم تنفتح السماء فوق المرأة مرسلة إليها قضاء السعادة أو قضاء الشقاء.
وها هي ذي بطلتنا الآن ليست شاعرة بل هي عروس شعر في بهجة أعوامها الأربعة عشر، تنجلي على عرش الصبا والرواء والحب. الأمل يزهو على شفتيها، والتأثر يلهب خديها، والرغد يبسم في نظراتها، ويخافون عليها عين السوء في مهرجان الفرح فيذرون فوقها وحواليها حفنات الملح، كما تذر في القاعة حفنات النقود للبائسين.
ها هي ذي تسير في موكب العرس إلى بيت عريسها يتقدمها ثلة من البوليس، وأخرى من الفرسان، وحملة الشموع والأزهار، والموسيقى الوطنية الشجية بألحان الناي ونقر الطبول. تتبعها مركبتها المجللة بنفيس الأقمشة ووراءها خط طويل من مركبات المدعوات. ها هو ذا بيت الفرح تخفق حوله الأعلام المصرية الحمراء، وتلمع بينها عديد المصابيح الملونة … ها هم وصلوا، ووقفت مركبتها … وقد جاء الخاطب يستقبل عروسه ويقودها بيده إلى مخدعها وسط جلبة المدعوات، وتراكض الخدم والآغاوات، والأصوات والزغاريد الممزقة الهواء.
وبينما هي تبدل أثوابها وتخرج إلى قاعة الفرح لتحضر دورًا آخر من الرقص والغناء يذهب الزوج الفتى «بزفة» إلى الجامع بين أصحابه، لتأدية فريضة الصلاة. ولكن ها هو قد عاد، وجاء يقابل عائشة التي تنزل عن درجات عرشها (كوشا) وتقف مرتعشة مسدولة الخمار، في انتظار إتمام الطقس المألوف … الفتى يجثو للصلاة. ثم ينهض ويدنو من الفتاة فيرفع الحجاب وينظر في وجهها للمرة الأولى، ويشبك على صدرها حلية ثمينة فتقبل يده شاكرة ويرد هو على هذه القبلة، بقبلة على جبهتها. ويلقي بحفنة من النقود إلى من بقي حولها من النسوة فيختفين. ويصعد العروسان إلى (الكوشا) فيجلسان في بهجة الفرح وسرور الأهل والأصدقاء. وبعد هذه الليلة تستهل حياة جديدة.
وهنا نترك الشاعرة وشأنها تحيا قصيدة ليست هي نظمًا ولا نثرًا.
بعد الزواج
تزوجت عائشة فانتقلت بالزواج إلى عالم جديد له ما يرافقه من حرية ومسئولية، وما يخالطه من مسرات وغموم، ولقد كان يشوقنا أن نقف على وقع هذا الظرف الخطير في نفسها، وأن نستشف اللون الذي بدت لها الحياة به بعد أن اختلفت في بعض جوهرها عن حياتها في بيت أبيها.
تُرى أكان لها من هذا الانتقال مستطاب الأثر أم مستنكف الخبر؟ أكانت به محظوظة أم مغبونة؟
إذا نظرنا إلى توحيدة بعيني أمها وجب أن نسلم بأنها فتاة غير عادية. وسيكون لها من محبة والدتها نصيب فوق نصيب كل من إخوتها وأخواتها، وبسبب توحيدة هذه ستبكي عائشة كثيرًا، كثيرًا.
•••
توحيدة مرة أخرى! ترى لماذا تشغف الشاعرة بذكرها، والإشادة باسمها، وإظهار محاسنها، ألما تنطوي عليه من توقد وذكاء؟ ألأنها جاءت العالم وعائشة حديثة السن فكانت الأم لابنتها — فيما كانته — أختًا كبيرة، وكانت البنت لوالدتها أختًا صغيرة؟ ألأنها رفعت عنها عبء التدبير المنزلي وكانت، في الوقت نفسه، أقرب أولادها إلى تفهم ذوقها وميولها؟ أم لاجتماع هذه الميزات في توحيدة بعد كونها البكر وهي تلك الميزة الأولى التي ذاقت الشاعرة بها لذة الأمومة للمرة الأولى؟
يتعلق بعض الأهل — لا سيما الأمهات — كل التعلق بأبكارهم. ولئن أردف قوم من المدعوين بعلماء النفس الذين لا تطمئن منهم الخواطر إلا إذا أوجدوا لكل سيل جبلًا يصدمه — أن هذا التعلق يخف بعد أعوام محدودة يوم يفتح الولد على الشئون عينًا ترقب وتبرز من شخصيته الخصائص المستقلة. وأن جماعة من الأمهات يداخل حبهن عندئذ بعض الكره والنكد؛ لأنهن يرين في بناتهن المنافسات والمسابقات. هذا إذا كانت الأم من دعيات التأنق وعاشقات اللألاء الاجتماعي في الأندية والحفلات.
لئن قال بعض السادة العلماء ذلك فإن قولهم ينطبق على فئة وتتملص منه أخرى. تتملص منه وتحلق فوقه في جو المحبة والرحمة والدراية تلك الفئة الصالحة من الرجال والنساء المولودين، ليكونوا آباء وأمهات؛ لأننا هنا أيضًا نجد المختارين الصميمين، وعلى مقربة منهم يدب الدخلاء ويتحرش المتطفلون. والحالة الوالدية — كأية حالة طبيعية أو اجتماعية سواها — إن هي كيَّفت الأفراد فهي لا تكيِّف منهم سوى فطرتهم بجبلتها ورغباتها وميولها. لذلك لا تبدو بأسنى مظاهرها وأبقاها إلا في الشخصيات المهيأة لها.
•••
وعائشة مهيأة لذلك على ما نرى من ولعها بتوحيدة — توحيدة الآلة القادرة التي تتحول بواسطتها رواكد العاطفة الوالدية عند الشاعرة تيارًا دافقًا. فهي تحب منها المواهب والحسنات وتخلف للعيوب الهزيلة تفسيرًا لا يهتدي إليه ويترجمه بهذا اللطف، إلا من استنار بنور الجنان.
الفتاة التي كانت تقوم بإدارة المنزل ورقابة وضيع أعماله الداخلية كانت، على ما يلوح، لا تقصر دون إتقان أعمال أخرى تقتضي بعض اللباقة، كاستقبال الزائرات والاحتفاء بهن.
فجاءت يومًا بعض السيدات (ويظهر أن الغرض من زيارتهن أن يخطبنها، وهي تجهل ذلك) فخفت توحيدة ترحب بهن ريثما تأتي والدتها، وقالت ملاطفة بموجب الطقس المألوف «أوحشتونا». إلا أنها كان بلسانها لثغة خفيفة قضت بأن تجيء أوحشتونا «أوحستونا!» وهنا دخلت السيدة عائشة فسمعت الكلمة التي حرفها العيب اللفظي، فمضت تشرح ذلك العيب على هذه الصورة:
يجوز الاعتراض هنا بأن عائشة نظمت كثيرًا قبل تعلم النحو والعروض على هاتين السيدتين. فقد طالعنا في ديوانها مثلًا قصائد الترحيب بميلاد أخيها، وتأبين والدها، وغير ذلك، وجميعه وقع قبل أن «تبرع في الشعر وتتقن بحوره»، ومن هنا نستنتج أن استفادتها من قليل الدروس السابقة كانت غير هزيلة.
ولكن، أليس أن ضوابط النظم تتعلق بالموسيقى السمعية أكثر منها بالقواعد المدونة؟ والواقع أن هذه القواعد لم تكن إلا تقريرًا محسوسًا لتلك المطالب الدقيقة التي تجهر بها حاسة السمع، فتلبيها أفراد الطائفة الواحدة كل من جانبه على غير تعاهد من الآخرين. حتى إذا أجمع كثيرون على أمر واحد عرفوا أنه حاجة أولية فعرفوه بيانًا، ودوَّنوه قاعدة، ترجع إلى حكمها الأجيال من هذه الطائفة. لا لأنها «حكم»، بل لأن هذا الحكم يترجم عن الحاجة النفسية التي نشدتها حواس الشعراء في الماضي وستنشدها على الدوام. لذلك نرى أن شعراء جميع البلدان في جميع العصور أوجدوا في مختلف اللغات — غير متحالفين فيما بينهم وجاهلين بعضهم بعضًا — بحورًا للشعر وأوزانًا وضوابط موسيقية ذات وقع لفظي في النفس (حتى لمن لا يفهم اللغة)، بينما المعنى الشعري يحبو النفس بوقعه الخاص. وعوارض المغالاة والإغراق والتمسك بصيغة النظم دون المبالاة بالجوهر، طوارئ تداهم اللغات تبعًا لحالات الأقوام ووفقًا لنواميس الاجتماع، إلا أنها لا تنقص من الشعر دعامته الموسيقية المؤثرة.
كذلك قد يعترض بعض أهل الذوق اعتراضًا خافتًا على أن معلمة العروض تُدعى … الطبلاوية، قائلين إنه على التي تعلم الأوزان الشعرية أن تنتحل لها اسمًا يتفق مع عملها ويوحيه للسامع. ولكن، أليس للطبل من موسيقى؟ وإن لم يكن للطبل شدو اللحن والنغم، أليس أن له موسيقى الفصل والوقع والتعريف؟ والسيدة الطبلاوية لم تكن تلقن الشعر، وهو ليس بما يُتَلَقَّن، بل تعلم كيفية التمييز بين اتزانه وانكساره. فاسمها بهذا متضمن لعلمها وعملها.
قبل أن تنطرح على فراش المرض فاجأتها في أحد الأوقات وهي في رداء نومها وبين أناملها قلم تكتب به القطعة العربية الآتية:
إن نحن وجدنا هنا دليلًا جديدًا على لطافة توحيدة وحرصها على راحة والدتها، فلا يسعنا إلا التعجب كيف أن الأم الشديدة الحب لم تلمح على وجه ابنتها أمارات المرض. نتعجب — لولا الاستدراك بأن التي ترى أن ثغر توحيدة الزاهي لا يسع ثلاث نقط فيقلب الشين سينًا قد تعثر بسرعة على عذر شعري يكتفي به قلبها لكل تغير وكل شحوب.
عبثًا تدفعك الشفقة يا أماه إلى معالجة أمراضي؛ فإنه قد آن الأوان. ولا مناص من تلبية نداء المنادي «كل من عليها فان»، وإني أضرع إلى الله أن يلهمك صبر أيوب وأن يمنحني نعمة رضاك فيكون ذلك سبب الرحمة والتجاوز عن سيئاتي وأن يصون شقيقتي وإخوتي.
في استطاعتي أن أنظم الآن شيئًا من الشعر شكرًا لله، تعالى، على ما وهبني من النعم، أما أشعاري الماضية فكنت قد أحرقتها كلها، ولا أظن أن في مكتبتي إلا الشيء اليسير منها بالعربية والتركية. وأما أشعاري الفارسية فإنها لما كانت في محفظة فقيدتي فقد أحرقتها بمحفظتها كما احترق كبدي.
وكان ميل محمود شديدًا — وكل ابن لأم ذكية يدرك ذلك — إلى إظهار فضل والدته بصورة عامة. فنشر الكتب وكان له بذلك علينا حق الامتنان.
•••
في عنوان هذا الفصل، «بعد الزواج» شبه وعد بشرح أحوال غير معروفة وتبيين دقائق غامضة. وها أنا لم آتِ إلا ببعض الخطوط الكبرى التي استطعت تناولها. بيد أن الشرح لا ينتهي بانتهاء هذه الصحيفة. وعندما ننظر في شعر عائشة ونثرها وآرائها نظل مماشين تسلسل الأيام والأعوام في حياتها؛ لأن كل ما لدينا منه دونته إلا القليل بعد الزواج.
يُخيل أن آجال الأفراد عمومًا تخضع لمقدرين أكبرين اثنين؛ أحدهما مداومة السير واستمرار التتابع ضمن حدود طبيعية وفي دائرة قوانين محتومة. والمقدر الآخر هو أن يعمل المرء طول حياته، مع بعض التغير في أنواع العمل بمقتضى الأطوار المختلفة، باختيار مسير — إن صحَّ الجمع بين هذين النقيضين. وكأن العمل ينجز هو الآخر ضمن حدود ضُربت له وفي دائرة قوانين لا يحرقها إلا مستهترًا مفسدًا على نفسه إمكان المعيشة.
جداول جداول تجري أعمار الأفراد نحو ما وراء الموت مما لا يُحد ولا يُدرك. جداول يسيطر عليها ذانك المقدران الشاملان في المرض والعافية، في الفرح والترح، في الأمل والقنوط، في الرغبة والاشتياق، في المحبة والكراهة. والأصوات المختلفة المتصاعدة بتأثير هذه العوامل تكون شدو الجداول البشرية — ذلك الشدو المطرب المشجي. وهذا الجدول من عمر عائشة هو الذي سنسمعه شاديًا فيما يلي بإبهام كل خرير، ولذة كل قديم، وتبشير كل رائد …