أشعارها في الغزل والأخلاق والدين
شعرها الغزلي
«الحب عارض في حياة الرجل، ولكنه حكاية حياة المرأة.»
كلمة شهيرة قالتها امرأة من أنبغ نساء العالم في فيض عاطفتها واتساع تفكيرها وفي مقدرتها الأدبية، هي مدام «دي ستيل» الفرنسية التي نالت شهرة غير مختلسة، ومجدًا مستحقًّا، وإعجابًا توافق وعبقريتها النادرة. وقد عاشت تلك المرأة الممتازة، عمرها وعواطفها تذوب جوعًا، والظمأ إلى الحب الهانئ يبرح بها، ولم تفهم معنى السعادة، على قولها، إلا في الحب المتبادل الذي تمَّ لها في الأعوام الأخيرة من حياتها.
المفروض أن تسير عاطفة الحب عند المرأة سيرها الطبيعي ابتداء بحب الوالدين، إلى حب الأخوة والأخوات، إلى حب الأقارب والأصدقاء، ثم يتجه الحب في حينه إلى الخطيب الذي تطلب فيه المرأة طبعًا الحبيب، ثم حب الزوج والولد والعائلة الجديدة بشتى فروعها.
وبرغم أن هذا الحب نسيج حياة المرأة، فإن الرجل الذي اعتاد إذلالها باسم القوة والحصانة، سدَّ في وجهها منفذ الانتباه لعواطفها المشروعة، وأنكر عليها الإفصاح عما ينبئ بأنها ذات يقظة مستقلة. وكل ما اقتحمته في عالم التعبير خلال العصور المظلمة يكاد يتلخص في وصف النبات والحيوان في حكايات قصيرة، ولم تنظم إلا الأناشيد الدينية والصلوات الروحانية، فإذا خرجت من ذلك فلتصوير حياة الرعاة وعاداتهم ومرحهم في عيشة الخلاء، أما النساء العربيات في الجاهلية وفي صدر الإسلام فلم ينظمن — على ما أعلم — إلا في المدح وفي الرثاء وما إليهما. وقليل ما ينسبونه من شعر الغزل والنسيب إلى بعض الشاعرات.
ولو أننا رجعنا إلى أوائل القرن الماضي — وهو عهد مدام دي ستيل نفسها — يوم أنشأت المرأة في الغرب تنزع إلى تحرير فكرها وإطلاق براعتها، وقابلناه بعهد عائشة والمرأة حبيسة خدرها وراء الحجاب، لوجدنا شاعرتنا في طليعة نساء العهد الجديد المتعرفات حقهن في حرية العواطف ومشروعيتها ضمن حدودها الطبيعية، هي في طليعتهن، ليس في الشرق فقط، بل في العالم المتمدن كله.
•••
لقد قالت الكثير من شعرها الغزلي محاكاة وتقليدًا، كما اعترفت بذلك في تصدير بعض أبياتها حيث تجد: «وقالت متغزلة في غير إنسان والقصد تمرين اللسان.» ولكن، أتكون الأبيات التالية في بساطتها «لتمرين اللسان» كذلك؟
ويبدو شعرها في أصدق لهجاته عندما تذكر هذا السعير الذي يضرمه الشوق (وكثيرًا ما يذكيه الصد في بعض الأمزجة إلى حين) وهي تستوحيه في أكثر غزلها:
هاكه في هذا المخمس الذي سمعتهم ينشدونه في سورية:
ومن مربعاتها:
بهذا الشطر الأخير هي تردد الفكرة الشائعة في الشعر العربي، وهذه الفكرة حقيقة محسوسة، فحواها أن بين جماهير الناس أشخاصًا خُلقوا للحب وكانوا مفطورين عليه أكثر من غيرهم، وقد قُدر على أولئك الأشخاص أن يعرفوا بعضهم البعض وأن يبحث الواحد منهم عن الآخر، أللسعادة أم للشقاء؟ سيان! وإنما للحب وفي سبيل الحب على كل حال. وتمضي عائشة في إتمام مربعاتها، وكلها غنائية تجمع بين بساطة اللفظ وسهولة المعنى وفتنة الغرام الضرورية لتوقيع الإنشاد:
•••
وهذا الخطاب لليل يذكرني بأبيات لابن أخيها، المأسوف عليه محمد تيمور الذي رأى في الليل عكس ما رأت فخاطبه مطمئنًّا إليه شاكيًا غدر الناس:
•••
ارتكبت قبل اليوم جريمة الصراحة إذ قلَّت إن الخيال الشعري عندنا من الفقر بحيث ترى المعاني نفسها مكررة في كل جيل بنفس الألفاظ القديمة. وقد بحث السادة الشعراء عن مزيد من القيود فاهتدوا إلى ما يسمونه «المعارضة» التي تفرض عليهم الْتزام البحر والقافية كما تعهدوا بالْتزام اللفظ والمعنى مع شيء من التبديل في الوضع! فهل بعد هذا من لوم على عائشة إذا هي وقفت عند معالم الغزل المألوفة التي قصرت في الكثير من شعرنا على التشبب بالعين والحاجب والخال وأخواتها؟ وشهدت عائشة جميع الأجيال السالفة تلوم العواذل راجية أن يُرد كيد اللاحي إلى نحره. ففعلت هي فعلتهم جميعًا فلامت العواذل، راجية أن يرد كيد اللاحي إلى نحره. وتغزَّل الشعراء بالخمرة، وزعم المتصوفة منهم أنهم يرمزون بها إلى الحب، وأحيانًا إلى الحب الإلهي، فعلام لا تتحداهم عائشة؟
كذلك تحدَّث الأندلسيون في شعورهم واصطناعهم تفهم أسرار الطبيعة وتأويل معانيها، فوصفت حركات حدثت للزهر وللماء؛ لأن المحبوب، الذي تسميه التيمورية بالاسم الطامي في الشعر العربي، أي الغصن، بدا في الروض. فاهتز لظهوره كل ما استطاعت ألفاظ الشاعرة أن تهزه من الموجودات. فإذا بها تتساءل:
كل هذا التعمل عندها وعند من قَلَّدتهم، بل عند الكثيرين من كتاب الغرب، كان مقدمة طويلة لعهد «الرومنتزم»؛ أي عهد دخول الشعراء والأدباء إلى نفوسهم يلمسون جراحهم بأيديهم ويستوحونها، ويتعرفون حالاتهم النفسية فيتمكنون من النظر إلى الطبيعة تلك النظرة النافذة الرائعة فيكتنهون فيها مغزى المعاني ويرون فيها فاتن الصور والألوان في الحزن وفي الابتهاج جميعًا. وما ذكر الإحساس بالطبيعة ونزعة الرومنتزم؛ أي النزعة الوجدانية الصميمة في الأدب، إلا ذكر جان جاك روسو موجد تلك النزعة في آداب الغربية. فسرت من بعد إلينا، وتعلم الجيل الجديد من شعرائنا تعرف ما في نفوسهم وما في الطبيعة من تغير وتنوع في الظواهر وفي الخوافي. بيد أن الرومنتزم، ككل شيء آخر في هذا الكون، أفسح المجال لمذاهب أدبية أخرى تطورت منه ومن فروعه فأصبح اليوم في حكم «القديم» في أوروبا، بينا هو وغيره من شتى المذاهب الأدبية ما زال شائعًا عند الجيل الحاضر من شعرائنا وأدبائنا.
•••
- أولًا: عادة الضغط على عواطف المرأة وإخراس صوتها. فكان أيسر لها أن تتخذ لجهة الرجل المصرح له بما حظر عليها.
- ثانيًا: لأنها كانت مقلدة؛ فقد قلدت الرجل في معانيه كما قلَّدته بداهة في
لهجته. الرجال أساتذتنا ومهذبونا ومكيفونا، عليهم نتلقى دروسنا، وعن
كتبهم وكتاباتهم نقتبس المعرفة، وبذكائهم نستعين لصقل ذكائنا وإنمائه،
ومنهم نستلهم كل فكر عظيم وكل عاطفة جليلة. لقد احتكر الرجال جميع
أنواع القدرة والإبداع والتفوق، فما نكاد نفتح عيوننا وأذهاننا حتى نرى
جميع مناحي السلطان والسيطرة والنفوذ ممثلة فيهم. بيد أن الطبيعة
النسائية تُظهر عند عائشة بعض الظهور في الخجل الذي يُشعر المرأة أحيانًا
بأنها صغيرة ضئيلة أمام من تحب، كما يشعرها بأن هذا الرجل الذي اختارته
هو الذي يملأ الدنيا حياة ويفيض عليها الرونق والنور:
أنا المسربل بالأعذار من كلفيإذا الْتقينا، وأنت الرائق الوسم
وتظهر طبيعة المرأة ظهورًا أتم في هذا الخجل الصريح:
وقد يكون خير شعرها الغزلي وأصدقه في القصائد التي قيلت خلال رمد عينيها وبعد الشفاء منه، يوم عادت إلى مشهد النور ورؤية وجوه الأحباب. ومنها:
وما لبث أن عاودها الرمد فانقلبت تشكو الظلام الذي هي فيه والألم والحرمان جميعًا:
ثم ترسل الأمنية الواحدة المتضمنة أماني أخرى:
ثم تصف ما تقاسي من العذاب في الظلام والأرق:
وجاء يوم شُفِيَت نهائيًّا فمضت تنشد «أملي صفا لي!» على نحو ما تمنَّت:
هذا معنى آخر مقتبس كسائر معانيها، إلا أنه في الأصل ذا مغزى بعيد. ففيه إشارة إلى مغناطيس اليد كم هو مؤثر فعال بين المحبين والأصدقاء، حتى بين الغرباء الذين لا تنافر بينهم. وهو قاعدة علمية تقوم اليوم عليها، أي على مغناطيس لمس اليد، طائفة من تجارب التنويم المغناطيسي وكيف لا يكون لكفِّ الحبيب هذا التأثير، والحب محور الحياة؟
ولكن العواذل — لحاهم الله!— عادوا إلى الاصطياد في الماء العكر، بتعبير كتَّابنا السياسيين في هذه الأيام. فهل من انتقام أتم من رميهم بالكفر؟
أما وهناك ما يؤدي إلى خيبة الأمل وصد العاطفة، فتسخط شاعرتنا، ورغم الألم والمضض تجنح إلى الإعراض والنسيان:
•••
كان الناس في عصر عائشة يتلقفون الأدوار والمواليا، تلك الأغاني الشعبية التي يفهمها الجميع ويستلذونها بلا إجهاد؛ لأنها تخاطب ألصق العواطف وتحدث عنها باللهجة العامة. وتلك الأغاني، كمجموعة المغني العربي القديم والحديث، تكاد تنحصر في شكوى الحب، ولوم الحبيب، ووصف جماله ودلاله، وعبادة ما نُثر على وجنتيه من خال وشامة، والتحرق من جراء هجره، والابتهال إليه وإلى الأيام والقدر ليروا جميعًا ما يحسن صنعه لتسوية الأمور … وقصائد عائشة الغزلية لا تعلو هذه الأغاني إلا بكونها منظومة؛ لذلك سهل إنشادها، لا سيما الرباعيات التي يغنوها في سورية وفلسطين لبساطة معانيها وتراكيبها. كذلك سمعت أدوارًا ومواليًا تُنشد في اجتماعات الأنس وحفلات الأفراح، ولم يدر المنشدون أنهم بإنشادهم يلحنون روح التيمورية. كما أن كثيرين منا عندما ينشدون «قدك أمير الأغصان» و«الحلو لما انعطف» وغيرها، يجهلون أنهم منشدون شعرًا لإسماعيل صبري باشا. وأن كثيرًا من الأدوار الشائعة هي من صنع أدباء كبار نحسبهم تحصنوا في معاقل اللغة الفصحى مزدرين بالأدب الشعبي البليغ. وهاك دورًا من وضع عائشة:
وغيره:
وهذا من المواليا:
•••
اشتهر كاردوتشي الإيطالي بموهبته الشعرية وبموهبته النقدية معًا. وكان يُؤثَر عنه كذلك ازدراؤه بشاعرية المرأة. وله في ذلك رأي سار مسير الأمثال، وهو أن اثنين عليهما أن لا يعالجا الشعر وهما: الكاهن المسيحي والمرأة. ولكثيرين من الناس في مواهب المرأة رأي لا يختلف عن رأي كاردوتشي ولست أدري هل قُدر لهم ما قُدر لكاردوتشي فحمله على تغيير رأيه مما سجله بقلمه على نفسه في اغتباط يوم وضع المقدمة لمجموعة الشاعرة الإيطالية آني فيفانتي. ليس أظرف من اندحار هؤلاء العظماء بعد تعنتهم في بعض الآراء غير الناضجة، ولا أصرح من اعترافهم بالخطأ اعترافًا خلا من التحفظات والاستدراكات والمداورات التي تشغل جماعة من الكويتبيين وذوي المدارك المحدودة، أولئك الذين كأنهم لا يفتئون يقولون: أعترف، ولكني لا أعترف. صحيح، ولكنه غير صحيح. جميل، وهذا مع ذلك غير جميل!
عدل كاردوتشي رأيه بعد مطالعة أشعار إليزابيث براوننج الإنجليزية، ومدام ديبور فالمور الفرنسية، وآني فيفانتي الإيطالية، مصرحًا بأن لدى المرأة شيئًا تقوله غير ما تنسخه عن الرجل. ولا عجب في قوله بل العجب في قول المناقضين؛ لأنه مهما فاخر الرجل بعبقريته التي نحبها ونعجب بها ونستحثها فيه، فهو لا يستطيع أن يزعم أنه الطبيعة البشرية كلها؛ لأن الطبيعة لم ترده أن يكون أكثر من النصف الواحد من الذات الإنسانية المكتملة فإذا به هذا النصف النشيط البارع الجميل الذي أوجد لنا ما نتمتع به اليوم من محاسن الحضارة والثقافة … ومن الباقي الذي نشقى به وهو غير خيِّر وغير حسن …
أما النصف الآخر فهو المرأة، النصف الذي ظلَّ إلى اليوم مهملًا، إن لم يكن مكمومًا مسحوقًا. النصف الذي قد يذكر أحيانًا بصفته غير موجود في ذاته ولا حق له على الحياة والحرية، وكل الغرض منه هو إخراج النسل ليس غير. هذا الرأي شائع كثيرًا، بيد أنه لا يتناول الأقلية المنصفة من الرجال الذين هم في الحقيقة نبهونا إلى نفوسنا، ولهم الفضل الجزيل في تشجيعنا وإرشادنا ومساعدتنا.
بدهي المرأة في بادئ الأمر تقلد الرجل تقليد التلميذ للمعلم، تقليد الصغير للكبير. بدهي أن تفعل ذلك في مجموعها المستيقظ. ولكن تتفلت من كل تقليد واحتذاء صاحبات العبقرية منذ ظهور نزعتهن، مثيلات سافو، ومدام دي ستيل، ومدام دي نواي معاصرتنا التي فازت العام الماضي بجائزة الآداب من الأكاديمية الفرنسية، ومتليدا سيراوو التي يشبهها بول بورجيه ببلزاك الكبير في رواياتها المشبعة بحياة الشعب وبوصف عاداته وانفعالاته وآلامه.
إن عواطف المرأة وتأثراتها شيء بشري مشروع. وبالمران تتعلم الاستسلام لطبيعتها النسائية والركون إليها في الاهتداء إلى التعبير، بعد أن لجمت خوالجها قرونًا طوالًا. والصيحة التي ترسلها الآن ستفتح في إدراك البشر وفي آدابهم أفقًا جديدًا.
أثبت هذا في إيمان وهدوء، دون تحيز ولا تعنت.
إنما نحن من الذات الإنسانية الواحدة الجهة الماثلة إزاء جهة الرجل، فنختبر إذن بفطرتنا ما لا يستطيع الرجل أن يعرفه، كما أن اختبارات حضرته تظل أبدًا مغلقة علينا. وإذا قُدر للمرأة المصرية أن تلج باب الشعر والأدب وتمعن في المسير في ما وراءه من فسيح المسافات كان مرجع الفضل إلى التيمورية التي نشرت أول علم في الجادة غير المطروقة، وبكرت في إرسال الزفرة الأولى أيام كانت تكتم الزفرات وكان إرسال الصوت في عالم الأدب يحسب للمرأة عارًا وجريمة. ويوم ينمو الأدب النسائي في هذه البلاد فيجيء حافلًا بحياة فنية غنية، ستظل أناشيد عائشة — هذه الأناشيد الساذجة — لذيذة محبوبة كترنيمة المهد القديمة التي همهمت لنا بها أمهات أمهاتنا، شجية مطلوبة كشدو القصب القائل في ظلِّ النخيل: إن وراء المشاغل والهموم، يلبث القلب البشري معذبًا بظمأ لا يرتوي، مثقلًا بحنين لا يعرف الاكتفاء والنفاذ …
شعرها الأخلاقي والدِّيني
كنا في الفصل السابق في أنس وبهجة وكأننا في ليلة من ليالي الأعراس؛ لأن شعر عائشة الغزلي كان مستحضرًا لنا نغمة القصب، ونقرة الدف، وشدو المغني، أما هذا الفصل، فإنه سينتقل بنا من «مجلس الأنس الهنيء» إلى ما يشبه خطبة أخلاقية. فكأننا اليوم نقول مع عائشة:
والواقع أنني لم أكن مخيرة في انتقاء هذا الموضوع، بل أنا مرغمة عليه بحكم سياق البحث وانسجامه. أما عائشة فتقول إنها «اصطفت عفاف النفس» ولماذا؟
نستطيع أن نجعل هذا البيت حدًّا فاصلًا بين ما نظمته التيمورية للمجاملة والمحاكاة والرثاء وتبيان العواطف وبين ما نظمته لتأدية رأي لها في شئون المجتمع، وتبصر في أحواله وأخلاقه بين طوارئ الزمان وتقلبات الأيام.
ورأيها وتبصرها لا تنفرد بهما، بل هما شائعان لا سيما بين الشرقيين. ولكن يهمنا هنا منهما أن شاعرتنا عمدت إليهما وأخذت بهما، ولو من وجهة سطحية. إن عائشة لم تتعمق أصلًا في فكرة أو في عاطفة. بل كانت تكتفي بالناحية المطروقة وترضى لها بالتعبير المألوف. ولكن لا ننسين أنها المرأة المصرية الوحيدة في عصرها التي أقدمت على ما لم تدرك أهميته يومئذ مئات الألوف من النساء ومن الرجال أيضًا.
ولقد ألمحت غير مرة في شعرها وفي نثرها إلى ما بينها وبين وسطها من عدم التفاهم. وهاكن أبياتًا تدل على ما حاولته في سبيل التآلف والتفاهم، في حين وسطها لم يبذل من ناحيته جهدًا ولم يبدِ لملاقاتها اهتمامًا:
هي تعني أن السعادة لو شاءت أن تساعدها ما كانت أوجدتها مقيدة بقيود هذه البيئة، خاضعة لظلم الوسط الذي يرهقها. وهنا نتأكد مرة أخرى أنها لم تكن سعيدة. وسنفهم شيئًا فشيئًا أنها كانت تتألم من انفرادها الأدبي، وسط المجهود الذي تبذله في رجاء ونشاط فيئوب عليها مقاومة وفشلًا. فإذا بها تلقي إلينا بهذه النصيحة غير الجديدة:
وعلام هذا التحذير؟ لأن من صفت له الدنيا من ناحية تجهمت له من ناحية أخرى؛ لأن الصفاء نفسه لا يدوم، وقد لا يطول حتى ينقلب كدرًا. فخير شيء وسط هذا التحول في العسر واليسر، انتهاج طريق العفة والاستقامة والصلاح:
وهي تعطينا نصائح أخرى لتشرح لنا قليلًا ماذا تعني بالأخلاق الحسنة: فمنها عدم الركون إلى المملقين، ومنها الإقلاع عن البخل وعدم التعلق بالمال والقناعة:
ومنها حفظ اللسان؛ لأننا جميعًا بشر تشوهنا العورات:
ومنها صيانة النفس:
ولو كنا في مجال المناقشة كنا أثبتنا أن الصون لا يقوم بإسدال الخمار، كما أن التبذل ليس قائمًا بالسفور. إنما الصيانة والعفة ملكتان نبيلتان من ملكات النفس، تأخذ بهما المرأة بصرف النظر عن زي الثوب وهندام الرأس. وسنرى عندما ننظر في آراء أخرى لعائشة أنها إن هي فاخرت بالحجاب في شعرها فهي تشكوه في نثرها؛ لأنه حرمها مجالسة أهل الفضل والأدب وحال دون الاستزادة مما ترغب فيه من علم ومعرفة.
أما الآن فحسبنا الإصغاء إلى بقية ما تقول مفاخرة بالحجاب. هي تفاخر، ونحن نوافق على هذه المفاخرة التي نود أن تكون نشيدًا للصيانة النسائية الأخلاقية، ونتمنى وجود هذه الصيانة الأبية، وبأرقى مظاهرها، عند كل امرأة وكل فتاة. وهذه هي أبيات المفاخرة الوحيدة في شعر عائشة:
ومنها:
•••
نيات صالحة وآراء طيبة. بيد أني إذ أراها مؤكدة المرة بعد المرة أن السعادة في حسن الأخلاق يخطر لي أحيانًا أن أقول: كلامك يا سيدتي على الرأس والعين، لكني لا أراه متطابقًا والواقع. الشعر الأخلاقي غير الشعر الغزلي؛ هذا يلقي إلينا بما شاء من العواطف والخيالات والأماني فيروقنا ونطرب له. أما الشعر الأخلاقي فشيء آخر؛ إنه يلقي عليَّ درسًا ويختط لي طريقًا. فلي الحق أن أناقشه إذا هو لم يفلح في إقناعي بقوله إن السعادة في حسن الأخلاق وفي صيانة النفس وفي حفظ اللسان، إلى آخر ما يسديه إليَّ من النصائح. فهاك إنسانًا صالحًا لم يجنِ إثمًا، ولا يؤذي أحدًا. ويعبد الله ويسالم الناس، ويتكل على ذاته في العمل ليل نهار متبادلًا وإخوانه البشر منافع العمل وحسناته. ورغم كل ذلك فهو ليس بسعيد، في حين فلان، وهو سيء الخلق لا يراعي في معاملته ذمامًا، ولا كرامة، ولا عدلًا، ولا حقًّا، فهو مع ذلك سعيد تبسم له الدنيا ويساعده الحظ في جميع شئونه. ثرثار، طويل اللسان، طويل اليد، الاغتياب دأبه، والنفاق ديدنه، وبرغم ذلك فالناس له مصادقون وأوفياء يعزونه ويكرمونه ويهابون جانبه. فكيف أهتدي إلى الصواب وسط هذا التناقض المبين؟ علام يرغد المنافقون والدساسون حولي، وأنا من الرغد والطمأنينة محروم؟ وأولئك الذين يمزقونني بافترائهم وتطاولهم، ترين بماذا أجيبهم وكيف أعاملهم؟
عبثًا نلقي على شاعرتنا هذه الأسئلة، إنها لا تعطي عنها جوابًا. بل تحدثنا عما تفعل هي عندما تتألم من مثل ما يؤلمنا وكيف أنها اتخذت من النوائب وسيلة للتشدد والتقوي والتغلب على النفس المتوجعة وعلى العالم الظالم:
وأما كلام الناس، أغبياء كانوا لا يدركون فضلها أم كانوا حسادًا يتحرقون من تفردها، فإنها تحتمله بتجلد وأدب، ولا تشكوهم لأحد؛ لأنها لا تجهل ما يصطنعونه من اهتمام في الظاهر وهم في سرائرهم غافلون أو مبتهجون. وإن هم من تلقاء أنفسهم تعلموا عندها الاهتمام والعطف أو جاهروا باللوم والنقد تظاهرت هي بالرضى وحدثتهم عن «ابتهاجاتها»:
ومنها:
وعلام هذا الاحتمال؟ ولماذا يكون بين الناس المحظوظ والمغبون؟ الجواب عندها امتثال كئيب:
فيحدثها الصبر بحكاية تقلب الأيام، فتتذوق الحديث كأن فيه بعض التعزية:
بيد أن هذه التعزية لا تطيب خاطرها ولا تقنعها، فتعود في آخر القصيدة إلى الشكوى والتضرع:
ومنها:
وهكذا نحن من شعر عائشة الأخلاقي في دائرة صغيرة لا تنفحنا بمتين الحجة أو بمكتمل الرأي القائم بنفسه. بل نعثر فيها على الكلمات المسكنة من صبر وتجلد وإنذار بأن الأيام متقلبة لا تدوم على حال. ودفعًا للألم تتمنى عائشة أن تتجرد من كل شعور وكل رجاء، وكل اغتباط، وألا تنتظر السعادة كيلا تفاجأ بالفشل والخيبة:
على أن الراحة الكبرى عندها في الصلاة وفي الالتجاء إلى الله الذي هو وحده يُسعد ويشقي. وهذه العاطفة تصل بين شعرها الأخلاقي وشعرها الديني فتجعل منهما مزيجًا واحدًا.
•••
لقد تغذت الإنسانية منذ فجر تاريخها، بعواطف أولية قليلة استدرت منها كل نشاطها وما فتئت تسوقها في جهادها. وتلك العواطف منها الحسن ومنها السيئ. ومن مظاهرها ما هو صالح ومنها ما هو طالح. ومن تمازج هذه العواطف في نفوس الأفراد وفي نفوس الجماهير تتكون الرغبات والشهوات والانفعالات التي تتلاطم وتتعارض فيما بينها. فينجم عن تباينها ومضيها في الاسترسال ما نسميه التطور الإنساني الذي نشهد منه هذه الصور الرائعة دهرًا بعد دهر في ازدهار الحضارات، وفي كل ما يهتدي إليه الإنسان من اكتشاف علمي واختراع آلي، ونظام اجتماعي ودولي، وابتكار فني وأدبي.
ومن تلك العواطف الإنسانية الإعجاب بمكارم الأخلاق الذي نجده حتى عند أحط الجناة غريزة، ومنها العاطفة الدينية المتلونة بشتى الألوان على تنوع النفوس، حتى لتبدو أحيانًا في مظهر يزعمه البعض «كفرًا». على أنها متأصلة عريقة في قلب الإنسان الذي يروعه هذا الكون العظيم فيتساءل «من ذا الذي أنشأه؟» ويذهله النظام الدقيق في الفلك الدائر، في نمو النبات، في سنن الحياة فيبحث عن الغاية التي من أجلها ينفذ هذا النظام. ويجزع مما يهدده من حاجة وألم ومرض وعجز ونكبة وموت فيلجأ إلى بداهة القوة العليا المهيمنة على عوز البشر وبؤسهم، ويبتهل إليها مستسلمًا لعوامل رحمتها وأحكام حكمتها. هذه هي البواعث الأساسية للشعور الديني الذي يسبك فيما بعد كل نفس في قالبها الخاص. ولقد كانت العاطفة الدينية حية كل الحياة عند شاعرتنا، وقد سمعت من شقيقها المفضال أحمد تيمور باشا، أنها كانت تقية تصوم وتصلي وتقوم بجميع الفرائض الدينية. على أن شعرها الديني لا تعمق فيه ولا روعة. هو كسائر شعرها، يتناول النواحي المألوفة المتداولة. ويمتزج بالعاطفة الأخلاقية من حيث الاعتراف بالذنوب والرغبة في التوبة، ومن ثم يبدو فيه الاستعداد لساعة الرحيل، وذكر هذه الساعة يحملها على وصف ما يجول في القلوب من طمع حيال سرير المحتضر أمام حشرجة النزع، حتى عند هيل الثرى على نعوش الأقربين. وفي هذه الأبيات سخرية طفيفة في مسِّ من الكآبة على ما يبذله الحي من مجهودات لحشد المال:
وليست عائشة بغريبة عن الشعور بحيرة النفس وترددها بين ما يخالجها من عوامل الإغراء بملذات العالم وبين نزعتها إلى البر والتقوى:
والجواب في الابتهال الذي ألفناه عند عائشة، وهو الذي يدعو إلى نعت هذا الشعر بالابتهالي:
وهذا الشعر المبتهل من شاعرة مصرية شرقية مسلمة يعيد إلي ذكرى القديسة تريزا الإسبانية الأوروبية المسيحية، التي عاشت في القرن السادس عشر وأسست رهبنة الراهبات الكرمليات، وقد لُقبت «بالعذراء الساروفيمية» نسبة إلى الملائكة الساروفيم لفرط تقواها، ونقاء نفسها، وروحانيتها الحارة، وشغفها بالسيد المسيح الذي كانت تتخيل أنه يتجلى لها ويخاطبها في ساعات الانعطاف والرؤيا. وقد نظمت شعرًا ابتهاليًّا جميلًا في لغتها الإسبانية، أشهره نشيد وجيز ترجو فيه من الله أن يمن عليها بالموت لتتجرد من ثوب التراب فتراه عندئذ وجهًا لوجه. فهي في ذلك النشيد الملتهب تقول:
نشيد القديسة تريزا
ولكن الفرق بين الشاعرتين أن القديسة المسيحية واثقة من رضى الله عنها، عالمة بحبه لها، وإنما تعذبها قيود الجسد التي تشد وثاقها بالأرض وتحول دون فناء روحها في روح الله. ففي صيحتها شيء من التدلل على المحبوب، وفيها كذلك صدحة الشوق والنشوة والظفر، أما التيمورية فمبتهلة في لهجتها.
ولكأنما كانت تيأس لولا رحمة الله الواسعة ولولا شفاعة النبي الكريم الذي تلوذ بحماه وتترنم بمدحه وتمجيد أمته:
ومنها:
•••
رأينا في هذه المقابلة الصغيرة، أنه كما يتلاقى البشر في أبحاث العلم وضروب الفن والأدب والفلسفة والحكمة، وكما يتفاهمون بالحب وابتغاء الخير العام وبالمعاني الإنسانية الرفيعة، فكذلك تتوحد عواطف البر والتقوى وحب الله في قلوب الصالحين.
امرأتان مختلفتان دينًا وجنسًا وقارة، تعيشان على تباعد ثلاثة قرون وتزيد، في بيئتين، كل منهما غريبة عن الأخرى، وهما مع ذلك تناجيان إلهًا واحدًا لا إله إلَّاه، وتصليان صلاة واحدة حافة بالأمل وبالاتكال وبالثقة في لغة الغرب وفي لغة الشرق على السواء.
وبين ما يبدو الآن في الشرق من جديد العوامل والنزعات، نجد الدعوة إلى وحدة قومية ووحدة إنسانية مع احترام العقائد الدينية، وترك الحرية لكل فرد يتمتع بها دون التعدي على حرية أخيه ودون أن تعمل هذه العقائد المتباينة على تفريق الكلمة وتمزيق الشمل. وأسجلها مفخرة لعائشة أن تجيء بقول له، فوق قيمته التاريخية والأدبية، ما يمكننا من هذه المقابلة الجميلة فيتيح لنا الإلماع إلى هذه الوحدة النبيلة التي يتفشى الآن حبها في ربوعنا، والتي يتصافح عندها ويتصافى بنو الإنسان.