باريس، سبتمبر ١٧٩٢
حشدٌ متلاطمٌ، هائجٌ، مهمهمٌ من كائنات تُعَد بشَريَّةً اسمًا فقط؛ لأنَّها لا تبدو للعين والأذن إلا مخلوقاتٍ متوحِّشةً، تتحرَّك بدافعِ عواطفَ دنيئة، وتَعطُّشٍ للانتقام والكراهية. كانت السَّاعة تسبق وقتَ غروب الشَّمس بقليل، والمكان هو الحاجز الغربي، في البقعة ذاتها التي سيقيم عليها طاغيةٌ فخورٌ، بعد عَقدٍ من الزَّمان، نُصبًا خالدًا لمجد الأمَّة، وغروره الشَّخصي.
ظلت المِقصَلة خلال أغلب النَّهار مشغولةً بعملها الشَّنيع؛ كلُّ ما كانت فرنسا تتفاخر به في القرون الماضية، من أسماء عريقة ونسبٍ نبيل، دُفِعَت به فاتورةُ رغبتها في الحرِّية والإخاء. ولم تتوقَّف المذبحة في هذه السَّاعة المتأخِّرة من النَّهار إلَّا لوجود مَناظر أخرى أكثرَ إثارةً ليشهدها النَّاس قبل وقتٍ قليلٍ من الإغلاق الأخير للحواجز بسبب حلول اللَّيل.
ولذا سارع الحشدُ مبتعدًا عن ساحة «لاجريف» واتجَه صوب الحواجز الكثيرة المختلفة ليشهَد هذا المنظر المثير والمدهش.
كان من شأن ذلك أن يُرى كلَّ يوم؛ فأولئك الأرستقراطيُّون كانوا حَمْقى للغاية! بالطبع كانوا جميعهم خائنين للشَّعب، الرجال والنساء وحتى الأطفال، الذين تصادَف أنَّهم من نسل الرِّجال العظماء الذين صنَعوا مجد فرنسا منذ الحملات الصَّليبيَّة؛ أي «نُبلائها» القدامى. لقد اضطهدَ أسلافهم الشَّعب، سحَقوه تحت الكعوب القرمزية لأحذيتهم الأنيقة ذات الأبازيم. والآن أصبح أفراد الشَّعب هم حُكَّام فرنسا، وسحَقوا سادتهم السابقين — ليس تحت كعوب أحذيتهم؛ لأنَّ أغلبهم يمشون حُفاةً هذه الأيَّام — ولكن تحت ثقلٍ أشدَّ فعالية: سِكِّين المِقصَلة.
وهكذا كانت أداة التعذيب البشعة تُودي يوميًّا، وفي كلِّ ساعة، بحياة ضحاياها الكُثُر؛ عجائز وشابَّات وأطفال صِغار، حتَّى مجيء اليوم الذي ستُطالب فيه أخيرًا برأس ملكٍ وملكةٍ شابَّةٍ جميلة.
لكنَّ هذا هو ما كان ينبغي أن يكون، أليس الشَّعب هو من يحكم فرنسا الآن؟ فكلُّ أرستقراطيٍّ كان خائنًا، كما كان أسلافه من قبله؛ إذ ظلَّ الشعب طَوال الأعوام المائتين الماضية يعرَق ويَكدَح ويتضوَّر جوعًا؛ ليُبقيَ القصر الحاكم الشَّهوانيَّ في إسرافٍ متْرَف، والآن صار لِزامًا على أحفاد أولئك الأرستقراطيين الذين ساعدوا في جَعْل تلك القصور متألقةً لامعة أن يختبئوا للحفاظ على حياتهم؛ أنْ يهربوا إنْ أرادوا أن يتجنَّبوا الانتقامَ المتأخِّرَ من الشَّعبِ.
وبالفعلِ حاوَلوا الاختباء، وحاوَلوا الهرب؛ وقد كان ذلك بالتحديد هو الجزءَ المسلِّيَ في المسألة كلِّها. ففي عصرِ كلِّ يوم قبل أن تُغلَق الحواجز وتخرج عربات السُّوق في موكبٍ عبر الحواجز المتعدِّدة، سعى بعض الأرستقراطيين الحمقى جاهدين إلى التملُّص من قبضة لجنة السَّلامة العامَّة. إذ كانوا يُحاولون، متنكرين بطرق مختلفة، ومستخدمين ذرائع متنوِّعة، أن يتسلَّلوا عبر الحواجز التي كانت تحت حراسةٍ مُشددة من جنودٍ من مُواطني الجمهوريَّة. فكان الرجال يرتدون ملابسَ نسائية، وكانت النساء تتلبَّسُ ثيابًا رجاليَّة، وكان الأطفال يتنكَّرون بأسمال الشَّحَّاذين؛ هكذا كان البعض من فئاتٍ شتَّى: كونتات وماركيزات وحتَّى دوقات سابقين، يريدون الهرب من فرنسا والوصولَ إلى إنجلترا أو بلدٍ آخَر لعين مثله، وأن يُحاولوا هناك استثارةَ مشاعرَ أجنبيَّةٍ ضدَّ الثَّورة العظيمة، أو جمع جيشٍ من أجل تحرير السُّجناء البائسين في «المعبد»، الذين كانوا يومًا ما يُطلقون على أنفسهم سادةَ فرنسا.
لكنهم كانوا يقَعون في قبضة حُرَّاس الحواجز في جميع الحالات تقريبًا. وتجدر الإشارة هنا بالأخص إلى الرقيب بيبو الذي كان يحرس البوابة الغربية؛ إذ كان يمتلك أنفًا عجيبًا يُميِّز رائحة الأرستقراطيِّين حتى وإن كان تَنكُّرهم مُتقَنًا للغاية. وحينها، بالطَّبع، كان المرحُ يبدأ. فبيبو كان ينظر إلى فريسته كما ينظر قِطٌّ إلى فأر، ويتلاعب به، لمدَّة ربع ساعةٍ كاملٍ في بعض الأحيان، متظاهرًا بأنه منخدع بالتَّنكُّر وبالشَّعر المستعار وبعض مستلزمات تغيير الشكل المسرحية التي تُخفي هُويَّة النَّبيل أو الماركيز أو الكونت السَّابق.
أوه! كان لدى بيبو حسٌّ متوقِّدٌ بالفكاهة، وكانت رؤيته وهو يُمسك بأحد الأرستقراطيين متلبِّسًا بمحاولة الهروب من انتقام الشَّعب تستحقُّ التسكُّع عند البوابة الغربية.
فأحيانًا كان بيبو يترك فريسته يخرج من البوَّابات بالفعل، سامحًا له بأن يظنَّ لدقيقتين على الأقلِّ أنَّه قد هرب فعلًا من باريس، وأنه ربَّما قد يتمكَّن من الوصول إلى ساحل إنجلترا بأمان، لكنَّ بيبو كان يترك ذلك البائس التعيسَ الحظِّ يمشي نحو عشَرة أمتارٍ باتِّجاه الرِّيف المفتوح، ثمَّ يرسل رجُلَين من خلفه ويُعيده مُجرَّدًا من تنكُّره.
أوه! كان ذلك مضحكًا جدًّا؛ لأنَّ ذلك الهارب يتَّضح في كثيرٍ من الأحيان أنه امرأة، ماركيزةٌ ما متغطرسةٌ، تبدو مضحِكةً للغاية عندما تجد نفسها في قبضة بيبو في نهاية المطاف، وتعرف أنَّها ستخضع لمحاكمةٍ صورية في اليوم التَّالي، ثم ستُرمى في حضن «السيِّدة مقصلة».
لا عجب في أنَّ في عصر يومٍ جميلٍ كهذا من أيام شهر سبتمبر، كان الحشدُ حول بوَّابة بيبو متشوِّقًا ومتحمِّسًا. فالتعطش للدماء يزداد كلما رُوي، ولا يرتوي؛ فالحشد كان قد رأى مائةَ رأسِ نبيلٍ تسقط تحت المقصلة اليوم، وأراد أن يَضمن أنه سيرى سقوطَ مائةٍ أخرى في الغد.
كان بيبو يجلس على برميلٍ فارغٍ مقلوبٍ بالقرب من بوابة الحاجز، وسَرِيَّةٌ صغيرة من المواطنين المجنَّدين تحت إمْرته. كان العملُ محتدمًا ومثيرًا مؤخَّرًا. فقد أصبح أولئك الأرستقراطيُّون الملاعينُ مذعورين، وكانوا يُحاولون بأقصى ما بوسعهم التَّسلُّل خارجَ باريس: اعتُبِر الرجال والنساء والأطفال، الذين عَكَف أسلافُهم حتى في العصور السَّحيقة على خدمة أولئك البوربونيِّين الخوَنة، هُم أنفسُهم خوَنةً جميعًا وغِذاءً شرعيًّا للمقصلة. كان بيبو يتلذَّذ كلَّ يومٍ بكشفِ تنكُّر الهاربين المناصرين للنظام الملكي، وإعادتهم لِيَمثُلوا للمحاكمة أمام لجنة السَّلامة العامَّة، التي يترأَّسُها ذاك الوطنيُّ المخلص، المواطن فوكييه-تِنفيل.
وقد أشاد كلٌّ من روبسبيير ودانتون بهمَّةِ بيبو، وكان بيبو فخورًا بأنَّه قد أرسلَ بمبادرة شخصية منه خَمسين أرستقراطيًّا على الأقلِّ إلى المقصلة.
لكن اليوم، حصل جميع الرُّقباء المعيَّنين على الحواجز المتعدِّدة على أوامرَ خاصَّة. فمؤخَّرًا نجح عددٌ كبيرٌ جدًّا من الأرستقراطيين في الهروب من فرنسا والوصولِ إلى إنجلترا بأمان. انتشرَت شائعاتٌ غريبة حول عمليَّات الهروب هذه؛ فقد أصبحَت تتكرَّر كثيرًا وبجُرأةٍ استثنائية، وكانت عقول النَّاس مهتاجة هياجًا غريبًا بشأن هذا الوضع برُمَّته. وكان الرَّقيب جروسبيير قد أُعدِمَ بالمقصلة؛ لأنَّه سمَح لعائلةٍ كاملةٍ من الأرستقراطيين بالانسلال عبر البوَّابة الشَّماليَّة أمام عينَيه.
وقيل إنَّ المسئول عن عمليَّات الهرب هذه عصبةٌ من الإنجليز، بدا أنَّ جُرأتهم بلا نظير، وأقدموا، لمجرد رغبةٍ في التدخُّل فيما لا يَعنيهم، على قضاءِ أوقات فراغهم في انتشال الضَّحايا الشَّرعيِّين المقدر لهم أن يلقوا حتفهم تحت «السيِّدة مقصلة». سرعان ما تزايدَت هذه الشَّائعات إلى حدٍّ هائل؛ فلم يكن يوجد شكٌّ في وجود هذه العصبة المتطفِّلة من الإنجليز، وعلاوة على ذلك، بدا أنَّ قائدهم رجلٌ يمتلك جَسارة وجُرأة تُضاهيان ما يُحكى في الروايات الخرافية. وذاعت قصصٌ غريبة عن الكيفية التي يختفي بها فجأةً هو وأولئك الأرستقراطيُّون الذين يُنقذهم عند وصولهم إلى الحواجز، وهروبهم من البوَّابات بقوَّةٍ خارقةٍ للطبيعة تمامًا.
لم يرَ أحدٌ أولئكَ الإنجليزَ الغامضين، أمَّا قائدهم، فلم يكن يُذكَر، إلا بقُشَعْريرة تطيُّر تَنُم عن إيمان بالخرافات. كان من شأن المواطن فوكييه-تنفيل أن يتلقَّى قُصاصة ورقية من مصدرٍ مجهولٍ خلال اليوم؛ تارةً يجدها في جيب معطفه، وتارةً أخرى يُسلِّمُها إليه شخصٌ ما في الحشد وهو في طريقه لحضور جلسةٍ للجنة السَّلامة العامَّة. ودائمًا ما كانت الورقة تحوي رسالةً مختصرةً عن أنَّ عُصبة الإنجليز المتطفِّلين يُمارسون نشاطهم، ودائمًا ما كانت موقَّعةً بشعارٍ مرسومٍ بالأحمر؛ زهرة قِرْمِزيَّة صغيرة نَجمِية الشكل، نُسمِّيها في إنجلترا سكارليت بيمبرنيل. وفي غضون بضع ساعاتٍ من استلام هذا الإشعار الوقح، كان من شأن مُواطني لجنة السَّلامة العامَّة أن يسمعوا أنَّ أعدادًا كثيرة جدًّا من الملَكيِّين والأرستقراطيِّين قد نجحوا في الوصول إلى الشَّاطئ، وأنَّهم في طريقهم إلى إنجلترا والأمان.
كان قد ضُوعِف عدد الحُرَّاس على البوَّابات، وهُدِّد الرُّقباءُ المسئولون عن القيادة بالموت، بينما عُرِضَت مكافآتٌ سخيَّةٌ لمن يقبض على هؤلاء الإنجليز الجريئين الوقحين. وسرى تعهد بأن الرجل الذي سيقبض على صاحب شعار سكارليت بيمبرنيل الغامضِ المراوغ سيحصل على خمسة آلاف فرنك.
شعر الجميع بأنَّ بيبو سيكون ذاك الرَّجل، وترك بيبو هذا الاعتقادَ يتعمَّقُ في عقول الجميع؛ ولذا كان الناس يأتون يومًا بعد يوم لرؤيتِه على البوَّابة الغربيَّة، ليكونوا حاضرينَ عندما يضعُ يدَيه على أيِّ أرستقراطي هارب؛ لعلَّه يكونُ برفقة ذاك الإنجليزي الغامض.
قال لعَرِيفِه المَوثوق: «أف! كان المواطن جروسبيير أحمق! ليتني كنتُ أنا مَن يحرس تلك البوَّابة الشَّمالية الأسبوعَ الماضيَ …»
بصق المواطن بيبو على الأرض تعبيرًا عن ازدرائه لغباءِ رفيقه.
سأله العَريف: «كيف حدث ذلك أيُّها المواطن؟»
بدأ بيبو يقول بتفاخرٍ بينما اقترب الحشدُ من حولِه مستمعًا بصبرٍ نافدٍ لرِوايته: «كان جروسبيير عند البوَّابة يحرسها بعناية. جميعنا سمعَ عن هذا الإنجليزي المتطفِّل، هذا اللعين الذي يُسمَّى سكارليت بيمبرنيل. أقسم أنه لن يخرج من بوَّابتي! لن يخرج إلا لو كان الشَّيطان نفسه. لكنَّ جروسبيير كان أحمق. كانت عربات السُّوق تخرج من البوَّابة، وإحداها كانت مُحمَّلةً بالبراميل، وكان يقودها رجلٌ عجوزٌ بجانبه صبي. كان جروسبيير ثملًا قليلًا، لكنَّه ظنَّ نفسه ذكيًّا جدًّا؛ إذ نظر داخل البراميل — على الأقل أغلبها — ورأى أنَّها فارغة وترك العربة تمرُّ.»
انتشرَت همهمةٌ حانقةٌ مزدريةٌ بين الصعاليك البؤساء ذَوي الأسمال الذين كانوا محتشدين حول المواطن بيبو.
أكمل الرَّقيب: «بعدها بنصف الساعة، جاء أحد قادة الحرس ومعه فرقةٌ من نحوِ اثنَي عشَر جنديًّا. وسأل جروسبيير لاهثًا: «هل مرَّت عربةٌ من هنا؟» فأجاب جروسبيير: «نعم، منذ أقلَّ من نصف الساعة.» فصاح الكابتن بغضب: «وتركتَهم يهربون. ستُعدَم بالمقصلة عقابًا على هذا أيُّها المواطن الرَّقيب! فتلك العربة كان يختبئ فيها الدُّوق السَّابق تشاليس وكل عائلته!»
دوى صوت الرَّقيب جروسبيير في رعب: «ماذا!» فقال قائد الحرس: «نعم! ولم يكن السَّائق سوى ذاك الإنجليزيِّ الملعون، سكارليت بيمبرنيل».»
قُوبِلَت الحكايةُ بسيلٍ من اللعنات. لقد دفع المواطن جروسبيير ثمنَ خطئه الفادح تحت سكِّين المقصلة، ولكن يا له من أحمق! أوه يا له من أحمق!
كان بيبو مستغرقًا في الضَّحِك على حكايته، لدرجة أنَّه لم يستطع مُواصَلةَ السَّرد إلا بعد مُضيِّ بعض الوقت.
ثمَّ قال بعد وهلة: «صاح القائد: «لِنلحَقْ بهم يا رجالي، تذكَّروا الجائزة، لنلحقْ بهم، لا يمكن أن يكونوا قد ابتعدوا!» ثم اندفع عبر البوَّابة متبُوعًا بدُزَينتِه من الجنود.»
صاح الحشد متحمِّسًا: «ولكن كان الأوان قد فات!»
«لم يُمسكوا بهم قط!»
«اللَّعنة على حماقة جروسبيير!»
«استحقَّ مصيره!»
«أظن أنه لم يُفتش تلك البراميلَ كما ينبغي!»
ولكن بدا أنَّ المواطن بيبو كان مستمتعًا للغاية بهذه التعليقات المنفعلة الطريفة؛ فقد ضحك حتى آلمه جانباه وسالت الدُّموع على خدَّيه.
قال أخيرًا: «لا، لا! أولئك الأرستقراطيُّون لم يكونوا في العربة، والسَّائق لم يكن سكارليت بيمبرنيل!»
«ماذا؟»
«لا! كان قائد الحرس هو ذاك الإنجليزيَّ اللَّعين متنكرًا، وكان جميع جنوده من الأرستقراطيين!»
لم يقُل الحشد شيئًا هذه المرَّة؛ فمن المؤكد أن القصة صار لها طابَع قوةٍ خارقة للطبيعة، ومع أنَّ الجمهوريَّة كانت قد ألغت فكرة الإيمان بوجود إله، لم تنجح في نزعِ الخوفِ من القُوى الخارقة للطبيعة من قلوب النَّاس. بدا من المؤكَّد حقًّا أنَّ ذاك الإنجليزيَّ هو الشَّيطان ذاتُه.
كانت الشَّمس تهبط جهة الغرب، وجهَّز بيبو نفسَه لإغلاق البوَّابات.
قال: «فلتتقدَّم العربات.»
واصطفَّ ما يُقارب الدُّزينة من العربات المغطَّاة في طابورٍ استعدادًا لمغادرة البلدة؛ بغرض إحضار المنتجات من الرِّيف القريب من أجلِ بيعها في السُّوق في الصَّباح التَّالي. كان أغلب العربات مألوفًا جدًّا لبيبو؛ لأنها كانت تمرُّ عبر بوَّابته مرَّتَين كلَّ يومٍ ذَهابًا من البلدة وإيابًا إليها. تحدَّثَ مع واحدٍ أو اثنين من سائقي تلك العربات — الذين كان أغلبُهم من النِّساء — وكان يبذل قصارى جهده في تفتيش العربات من الدَّاخل.
كان يقول: «لا يُمكن أن يكون المرء متيقنًا أبدًا، ولن أنخدعَ مثل ذاك الأحمق جروسبيير.»
كانت النِّساء اللاتي يَقُدن العربات يُمْضين النَّهار عادةً في ساحة «لاجريف» أسفلَ منصَّة المقصلة، يُمارسن الحِياكة ويُثرثرن بالشائعات، بينما يُشاهدن وصول صفوف عربات الإعدام بالضَّحايا الذين كان «عهد الإرهاب» يحصدهم كلَّ يوم. كان من الممتع جدًّا رؤيةُ وصولِ الأرستقراطيين إلى حضرة السيِّدة مقصلة، وكان الناس يتزاحَمون بشدة على الأماكن القريبة من المنصة لإيجاد مكانٍ لهم هناك. كان بيبو منهمكًا في أداء عمله في السَّاحة خلال النَّهار. وتعرَّف على أغلب العجائز الشَّمْطاوات، أو «الحائكات»، كما كان يُطلق عليهن؛ لأنهن كُنَّ يقعدن هناك ويُمارسن الحياكة، بينما كانت الرُّءوس تتساقط واحدًا تلو الآخر أسفل السِّكين، وكُنَّ هن أنفسُهن ملطَّخاتٍ تمامًا بدماء أولئك الأرستقراطيِّين الملاعين.
قال بيبو لأحد أولئك الشَّمطاوات الفظيعات: «هاي! يا أمي! ماذا لديكِ هناك؟»
كان قد رآها في وقتٍ سابق من هذا النَّهار، بينما كانت تُمارس الحياكة واضعةً سَوط عربتها بالقرب منها. وكانت في تلك اللحظة قد ربَطَت بمقبض السوط صفًّا من خصلات شعرٍ مجعَّدة من كلِّ الألوان، من الذَّهبي إلى الفِضِّي، ومن الفاتح إلى الدَّاكن، وكانت تُداعبها بأصابعها الهزيلة الطويلة وهي تضحك لبيبو.
قالت بضحكةٍ حادَّة: «لقد صادقتُ حبيب «السيِّدة مقصلة»، وقطع هذه لأجلي من الرُّءوس وهي تتدحرج للأسفل. وعَدني بالمزيد في الغد، لكنَّني لا أعلم إن كنت سأحضر في مكاني المعتاد.»
«آه! ولماذا يا أمِّي؟» هكذا سألها بيبو، الذي، مع أنَّه كان جنديًّا صُلبًا جامدَ القلب، لم يستطع منْعَ نفسِه من الارتجاف بسبب مظهر هذه المرأة المُقرف البغيض وغنيمتها التذكارية البشعة على مقبض السَّوط.
قالت وهي تُشير إشارةً مفاجئة حادَّة بإبهامها إلى داخل العربة: «أُصيب حفيدي بالجدري، البعض يقول إنَّه الوباء! إن كان كذلك، فلن يُسمح لي بدخول باريس غدًا.» حالما ذكرَت المرأة كلمةَ الجدري، تراجع بيبو خطوةً بسرعة، وعندما تحدَّثَت الشمطاء عن الوباء، تراجع بعيدًا عنها بأسرعِ ما أمكنه.
تمتم قائلًا: «اللعنة عليكِ!»، بينما تجنَّب الحشدُ كلُّه العربة، مبتعدًا بسرعة، تاركًا إياها تقف وحيدةً وسط الساحة.
ضحكَت الشَّمطاء العجوز.
وقالت: «اللَّعنة عليك أيُّها المواطن الجبان. أف! يا لك من رجلٍ تخاف المرض.»
«سحقًا! الوباء!»
كان الجميع مذهولين وصامتين، وامتلأت نُفوسهم بالرُّعب من الوباء البغيض، الشَّيء الوحيد الذي كان لا يزال قادرًا على بثِّ الرُّعب والقرف في هذه الكائنات المتوحِّشة القاسية.
صاح بيبو بصوتٍ أجش: «اخْرُجي من هُنا أنتِ وفرخكِ الموبوء بالطَّاعون!»
وبضحكةٍ حادَّة أخرى ودعابةٍ بذيئة، جلَدَت العجوز الشَّمطاء فرَسَها العجفاء، وقادت عربتَها خارجةً بها من البوَّابة.
أفسدَت الحادثةُ فترة ما بعد الظهر. كان النَّاس خائفين من هاتَين اللَّعنتَين الفظيعتَين، المرضَين اللذين لا يُداويهما شيء، واللذَين يُنبئان المرءَ بأنه سيلقى ميتةً فظيعة وحيدًا. تجوَّلوا حول البوَّابات صامتين متجهِّمين بعضَ الوقت، يُحدِّق بعضُهم إلى بعضٍ بريبة، مُتجنِّبًا بعضُهم بعضًا كما لو كانوا يفعلون ذلك بالغريزة؛ خشيةَ أن يكون الطَّاعون قد تسرَّب بينهم بالفعل. وسرعان ما ظهر أحدُ قادة الحرس فجأةً، كما حدَث في حالة جروسبيير. لكنَّه كان معروفًا لبيبو ولم يكن ثمة خوف من أن يتَّضح لاحقًا أنَّه رجلٌ إنجليزيٌّ ماكرٌ متنكِّر.
صاح لاهثًا، حتى قبل أن يصل إلى البوَّابات: «عربة …»
سأل بيبو بحدَّة: «أيُّ عرَبة؟»
«تقودها عجوزٌ شمطاء … عربة مغطَّاة …»
«كان يوجد دُزَينة منها …»
«عجوزٌ شمطاء قالت إنَّ حفيدها مصابٌ بالطاعون؟»
«أجل …»
«تركتَهم يذهبون؟»
قال بيبو وقد شحبَت وجنتاه الأرجوانيتان فجأةً من الخوف: «اللعنة!»
«كانت العربة تحوي كونتيسة تورناي السَّابقة وابنها وابنتها، جميعهم خوَنة ومحكوم عليهم بالإعدام.»
تمتم بيبو بينما سرَتْ في عموده الفقريِّ قُشَعريرةٌ متطيرة: «والسائقة؟»
قال الكابتن: «يا للسَّماء، يُخشى من أنَّها كانت ذاك الإنجليزيَّ الملعون ذاته؛ سكارليت بيمبرنيل.»