حفلة اللورد جرينفل
كانت الحفلة التَّاريخية التي أقامها وزيرُ الخارجية آنذاك — اللورد جرينفل — أعظمَ المناسبات الاحتفالية وأكثرَها تألقًا في ذلك العام. ومع أن فصل الخريف كان قد بدأ للتو، تمكَّن جميعُ المشاهيرِ وذَوي النفوذ من أن يكونوا موجودين في لندن في الوقت المناسب، ليحضروا الحفل، وليتألَّقوا فيه بأقصى استطاعتهم، سواءٌ الرجال أو النساء.
كان صاحب السمو الملكي أمير ويلز قد وعَد بالحضور. وكان الآن في طريقه من دار الأوبرا إلى الحفل. وكان اللورد جرينفل نفسُه قد استمع إلى الفصلَين الأوَّلين من «أورفيوس» قبل أن يستعدَّ لاستقبال ضيوفه. وفي تمام الساعة العاشرة — التي كانت وقتًا متأخرًا جدًّا آنذاك — كانت الغرف الفخمة الفسيحة في مقرِّ وزارة الخارجية، التي زُيِّنت تزيينًا جميلًا ببعض شُجيرات النخيل والأزهار المجلوبة من الخارج، مكتظَّةً بشدَّة. كانت إحدى الغُرف قد خُصِّصَت للرقص، وكانت أنغام موسيقى المينويت الراقصة الجميلة بمثابة خلفية عذبة مُصاحبة للثرثرة المرحة والضحكات المبتهجة الصادرة من الحاضرين الذين كانوا كثيرين ومتألِّقين.
وفي غرفةٍ أصغر، مقابِلةٍ للجزء العُلوي من الدَّرَج الرَّائع، وقف المضيف المتميز مُستعدًّا لاستقبال ضيوفه. مرَّ به صفٌّ طويل من رجالٍ بارزين ونساءٍ جميلات ووجهاء من جميع الدول الأوروبية، وتبادَلوا معه الانحناءات الرجالية والنسائية المُتقَنة، التي كان يقتضيها العُرف المُبالَغ فيه المُتَّبَع آنذاك، ثم تجاوَزوه وانتشروا في الحفل وصالةِ الاستقبال وغرفِ ألعاب الورق، منخرطين في الضحك والحديث.
وعلى مقربة من اللورد جرينفل، كان شوفلان متَّكِئًا على إحدى الطاولات المثبَّتة بالجدران في ثوبه الأسودِ الخالي من أي عيب، يُراقب الحشد المتألِّق بهدوء. لاحظَ أن السير بيرسي والليدي بليكني لم يصلا بعد، وكانت عيناه الثَّاقبتان الباهتتان تَطْرفان نحو الباب كلما ظَهَر وافدٌ جديد.
كان يقف منعزلًا نوعًا ما؛ إذ كان من المستبعَد أن يكون مبعوثُ حكومة فرنسا الثورية محبوبًا في إنجلترا في الوقت الذي كانت فيه أخبارُ مذبحةِ سبتمبر الفظيعة، وعهد الإرهاب والأناركية، قد بدأتْ تتسرَّب للتوِّ عبر القنال.
كان نُظراؤه الإنجليز قد استقبَلوه استقبالًا محترمًا دمثًا بصفته الرسمية؛ إذ صافَحه السيد بيت، وسلَّاه اللورد جرينفل أكثرَ من مرة، لكن الأوساط الأكثر خصوصيةً في مجتمع لندن كانت قد تجاهَلَته تمامًا؛ فالنساء كُنَّ يُدِرْن ظهورهنَّ له صراحةً، فيما رفض الرجال الذين لا يَشغَلون مناصبَ رسمية أن يُصافحوه.
غير أنَّ شوفلان لم يكن من النوع الذي يَشغل بالَه بهذه المجاملات المجتمعية، التي كان يصفُها بأنها مجردُ حوادثَ عارضةٍ في وظيفته الدِّبلوماسية. كان متحمسًا حماسةً عمياءَ للقضية الثورية، وكان يحتقرُ جميع أشكال اللامساواة المجتمعية، وكان مفعمًا بحُبٍّ ملتهب لبلاده، وهذه المشاعر الثلاثة جعلَتْه غيرَ مُبالٍ تمامًا بالازدراءات التي تعرَّض لها في إنجلترا الرجعية المليئة بالضباب والموالية للحكومة الفرنسية البائدة.
لكنَّ الأهم من ذلك كلِّه أنَّ شوفلان كان يحمل في قلبه غايةً محددة. كان يؤمن إيمانًا راسخًا بأن الأرستقراطيِّين الفرنسيين هم ألدُّ أعداء فرنسا، وكان يتمنَّى رؤيةَ هلاكهم جميعًا؛ إذ كان أحد أوائل أولئك الذين أفصَحوا، في عهد الإرهاب الفظيع هذا، عن الرغبة التاريخية الوحشية التي قيل فيها: «يا ليت الأرستقراطيين كان لهم رأسٌ واحد مشترك فيما بينهم، ليُقطَع بضربةٍ واحدةٍ من المقصلة.» ولذا كان ينظر إلى كل أرستقراطي فرنسيٍّ استطاع الهربَ من فرنسا على أنه فريسةٌ حُرِمَت منها المقصلة بلا مبرِّر. وكان من المؤكد أن أولئك الملَكيِّين المهاجرين، حالما تَمكَّنوا من عبور الحدود، فعلوا كلَّ ما يقدرون عليه لإثارة النقمة الأجنبية ضد فرنسا. إذ دُبِّرت مؤامراتٌ لا حصر لها في إنجلترا وفي بلجيكا وفي هولندا سعيًا إلى حثِّ إحدى القُوى العُظمى على إرسال جيوشٍ إلى باريس الثورية، لتحرير الملك لويس، وشنقِ قادة تلك الجمهورية المتوحشة المتعطشين للدماء فورًا.
ومن ثَمَّ، لا عَجَب في أنَّ شوفلان كان يحمل كراهيةً شديدة لذلك الشخص الغامض الرومانسي المُلقَّب بسكارليت بيمبرنيل. فقد نجح مع حَفْنةٍ من الشبَّان الوقحين تحت قيادته، مزوَّدين بمالٍ وفير ومسلَّحين بجُرأةٍ لا حدود لها ودهاءٍ شديد، في إنقاذ مئاتِ الأرستقراطيين من فرنسا. فتسعةُ أعشار هؤلاء المهاجرين، المُحتفى بهم في القصر المَلَكي الإنجليزي، كانوا يَدينون بسلامتهم لذلك الرجل وعصبته.
كان شوفلان قد أقسَم لزملائه في باريس أنه سيكتشف هُوية ذاك المتطفل الإنجليزي، وسيستدرجُه إلى فرنسا وعندها … . التقط شوفلان نفسًا عميقًا مفعمًا بالرِّضا لمجرد تخيُّل رؤية ذاك الرأس الغامض يسقط تحت سكِّين المقصلة بالسهولة ذاتِها التي يسقط بها رأسُ أي رجل.
فجأةً، سُمع ضجيجٌ عالٍ على الدَّرَج الفخم الباهر، توقفَت كلُّ المحادثات للحظة بينما جاء صوتُ كبير الخَدم والمُشرِف على الحفل من الخارج قائلًا:
«صاحب السمو الملكي أمير ويلز ورفقته، السير بيرسي بليكني والليدي بليكني.»
أسرع اللورد جرينفل نحوَ الباب لاستقبال ضيفه السامي.
كان أمير ويلز يرتدي حُلَّة ملَكية رسميةً رائعةً من المخمل باللون السلموني، مطرزةً بالذهب بإتقان، ودخل متأبِّطًا ذراع مارجريت بليكني، وعلى يساره السير بيرسي بحُلَّة من الساتان الأبيض المصْفَرِّ المتلألئ الرائع، مصمَّمة على طراز المتأنقين الفرنسيِّين الذي يتَّسم بالبذَخ والمبالغة، وبشعره الأشقر الذي كان خاليًا من المساحيق، وشرائط حريرية لا تُقدَّر بثمنٍ عند رقبته ومعصمَيه، والقبعة المطويَّة المسطحة أسفل ذراعه.
بعدما حيَّا اللورد جرينفل ضيفَه الملكيَّ تحيةً تبجيلية ببضع كلمات تقليدية، قال له:
«هل تسمح لي سُموَّك بتقديم السيد شوفلان، الوكيل المعتمد للحكومة الفرنسية؟»
كان شوفلان، فور دخول الأمير، قد تقدم خطوةً إلى الأمام متوقعًا هذا التقديم. وأدَّى انحناءةً منخفضة جدًّا، بينما رد الأمير تحيته بإيماءةٍ مقتضَبة من رأسه.
قال صاحب السمو الملكي ببرود: «أيها السيد، سنحاول أن نتناسى الحكومةَ التي أرسلَتْك، وسنعتبرك مجردَ ضيف عندنا … مجرد رجل مهذب من فرنسا. وهكذا فأنت مُرحَّبٌ بك يا سيد.»
ردَّ شوفلان وهو ينحني مجددًا: «مولاي.» وأضاف وهو ينحني برسميةٍ أمام مارجريت: «سيدتي.»
قالت ببهجةٍ غير مبالية وهي تمدُّ يدها الصغيرة جدًّا نحوه: «آه! صغيري شوفلان!» وأضافت قائلةً للأمير: «أنا والسيد صديقان قديمان يا صاحبَ السمو.»
قال الأميرُ بلطفٍ هذه المرة: «آه، إذن فأنت مُرحَّبٌ بك مرتين يا سيد.»
وهنا تدخَّل اللورد جرينفل قائلًا: «يوجد شخصٌ آخَر أودُّ أن تسمح لي بأن أقدمه لجلالتك.»
سأل الأمير: «آه! من هو؟»
«السيدة كونتيسة تورناي دو باسيريف وعائلتها، التي وصلَت مؤخرًا من فرنسا.»
«بالتأكيد! … إنهم مِن سُعداء الحظ إذن!»
استدار اللورد جرينفل باحثًا عن الكونتيسة، التي كانت تجلس في الطرَف الأقصى من الغرفة.
همس صاحبُ السمو الملكيِّ لمارجريت حالما وقعَت عيناه على الهيئة المتجهمة للسيدة العجوز: «ليحفَظْني الرب! ليحفظني الرب! إنها تبدو عفيفةً جدًّا وكئيبةً جدًّا.»
ردَّت بابتسامة: «ربَّاه جلالتك، العفة مثل روائح ثمينة، تُصبح رائحتها نفَّاذة جدًّا عندما تُسحَق.»
تنهَّد الأمير قائلًا: «مع الأسف! العفة لا تليق إطلاقًا بجِنسك الفاتن يا سيدتي.»
قال اللورد جرينفل وهو يُقدِّم السيدة: «السيدة كونتيسة تورناي دو باسيريف.»
«سُرِرتُ بلقائك يا سيدتي؛ فسموُّ أبي، كما تعرفين، يسعد دائمًا بالترحيب بأبناء بلادك الذين أبعدتهم فرنسا عن شواطئها.»
ردَّت الكونتيسة بوقارٍ لائق: «جلالتك بالغ الكرم.» ثم أضافت وهي تشير نحو ابنتها التي كانت واقفةً جانبها على استحياء: «ابنتي، سوزان يا مولاي.»
قال الأمير: «آه! فاتنة! فاتنة! والآن اسمحي لي أيتها الكونتيسة بأن أقدِّم لكِ، الليدي بليكني، التي تَشرَّفْنا بصداقتها. أؤكِّد أنَّ كلًّا منكما لديها الكثيرُ لتقوله للأخرى. كل أبناء بلد الليدي بليكني مرحَّبٌ بهم مرتين من أجلها … أصدقاؤها أصدقاؤنا … وأعداؤها أعداءُ إنجلترا.»
لمعَت عينا مارجريت الزرقاوان ابتهاجًا بتلك الكلمات اللطيفة من صديقها الجليل. فكونتيسة تورناي، التي قد أهانتها إهانةً صارخة مؤخرًا، كانت هنا تتلقَّى درسًا على مَرْأًى من الجميع، ولم تستطع مارجريت أن تَكْبح فرحتها بذلك. لكن الكونتيسة التي كان احترامها للملكيين يكاد يُضاهي احترامها للدين، كانت على درايةٍ تامة بآداب السلوك في حضرة الأمراء والملوك؛ لذا لم تُبدِ أيَّ علامةٍ على الحرج بينما تبادلت السيدتان الانحناءاتِ الرسمية.
قالت مارجريت بينما كانت عيناها الزرقاوان اللامعتان ممتلئتَين بمرحٍ ساخر: «جلالته لطيفٌ دائمًا سيدتي، لكن لا داعيَ هنا إلى وساطته اللطيفة … فاستقبالُكِ الوَدود لي في آخر لقاءٍ لنا ما زال مستقرًّا بذاكرتي بكل سرور.»
ردَّت الكونتيسة ببرود: «نحن، المنفيِّين المساكينَ، نُظهر امتنانَنا لإنجلترا بإخلاصنا لرغبات مولاي.»
قالت مارجريت وهي تُقدِّم انحناءةً نسائية رسميةً أخرى: «سيدتي!»
ردَّت الكونتيسة بوقارٍ مُماثل: «سيدتي!»
كان الأمير في ذلك الحين يُحادث الفيكونت الشابَّ ببِضع كلمات لبقة لطيفة.
قال الأمير: «سعيدٌ بمعرفتك أيها السيد الفيكونت. كنتُ أعرف والدك جيدًا عندما كان سفيرًا في لندن.»
أجاب الفيكونت: «آه، يا مولاي! كنتُ ولدًا صغيرًا آنذاك … والآن أَدينُ بشرفِ هذا اللقاء لحامينا، سكارليت بيمبرنيل.»
قال الأمير بجِدِّية وسرعة: «صه!» وهو يشير نحو شوفلان، الذي كان قد وقف جانبًا بعضَ الشيء طَوال هذا المشهد الصغير، يُراقب مارجريت والكونتيسة بابتسامةٍ بسيطة مستمتعة وساخرة تحوم حول شفتَيه النحيلتين.
وعندئذٍ قال، كما لو كان يردُّ مباشرة على تحدِّي الأمير: «لا يا مولاي، أرجو ألَّا تكبحَ تعبير هذا الشَّابِّ المحترم عن امتنانه، فاسم تلك الزهرة الحمراء المثيرة للاهتمام معروفٌ جيدًا لي، ولفرنسا.»
رمَقه الأميرُ بنظرةٍ ثاقبةٍ بضعَ ثوانٍ.
وقال: «يا إلهي، إذن يا سيد، ربما تعرف عن بطلنا القومي أكثرَ مما نعرفه نحن أنفسنا … بل يُحتمل أنك تعرف هُويَّته.» وأضاف وهو يستدير نحو المجموعات المنتشِرة في أنحاء الغرفة: «انظر! السيدات يُراقبن شفتَيك باهتمامٍ بالغ … ستُصبح ذا شعبية وسط الجنس الجميل إن أشبعتَ فضولهن.»
قال شوفلان بنبرة ذاتِ مغزًى: «آهٍ يا مولاي، الشائعات في فرنسا تقول إنَّ جلالتك تستطيع — إن شئتَ — أن تُعطي أدقَّ معلومةٍ عن تلك الزهرة الغامضة التي تنمو على أجناب الطرُق.»
ألقى نظرةً ثاقبةً خاطفةً نحو مارجريت وهو يتكلم، لكنها لم تُظهِر أيَّ انفعال، والتقَت عيناها بعينيه بلا خوف.
ردَّ الأمير قائلًا: «لا يا رجل، سأكتم السر! وأعضاء العُصبة يحمون سرَّ قائدهم بكل حرص … لذا فإنَّ محبيه الكثيرين عليهم أن يكتفوا بتقديسِ شبحٍ.» وأضاف بجاذبيةٍ رائعةٍ ووقار باهر: «هنا في إنجلترا أيها السيد، يكفي أنْ ننطقَ اسم سكارليت بيمبرنيل، ليُخضب كل خدٍّ أبيضَ بحُمرة الحماس. لم يرَه أحدٌ سوى مساعديه المخلصين. لا نعلم ما إذا كان طويلًا أم قصيرًا، فاتح البشرة أم داكن البشرة، وسيمًا أم قبيحًا، لكننا نعرف أنه أشجعُ الرجال المحترمين في العالم كله، وجميعنا نشعر ببعض الفخر يا سيد عندما نتذكر أنه إنجليزي.»
أضافَت مارجريت وهي تكاد تنظر بتَحدٍّ إلى وجه الفرنسيِّ البارد الشبيه بوجه أبي الهَول: «آه يا سيد شوفلان، جلالته ينبغي أن يُضيف أننا نحن السيداتِ نعتبره بطلًا من أبطال الأساطير القُدامى … نحبُّه لدرجة العبادة … نرتَدي شارته … نخاف عليه عندما يكون في خطر، ونُهلل معه في ساعة نصره.»
اكتفى شوفلان بالانحناء للأمير ولمارجريت بهدوءٍ بارد؛ شعر بأن الغرض من كلامِ كلٍّ منهما كان إيصالَ الازدراء أو التحدِّي، كلٌّ بطريقته. كان يحتقر الأميرَ العاطل المُحِبَّ للملذَّات، أمَّا المرأة الجميلة التي كانت ترتدي في شعرها الذهبي حِلْيةً من زهورٍ حمراءَ صغيرة، مصنوعةً من الياقوت والألماس، فكان يُمسك بها في قبضة يده؛ لذا ظلَّ صامتًا وفضَّل انتظارَ ما سيحدث.
كسَرَت ضحكةٌ طويلة مرحة بلهاء الصمتَ المفاجئ الذي قد خيَّم على الجميع.
قال السير بيرسي الأنيقُ بنبرةٍ بطيئة مصطنَعة: «ونحن الأزواج المساكين … علينا أن نقف كالمشاهِدين … بينما يَعبُدن شبحًا لعينًا.»
ضحك الجميع؛ وكان صوتُ ضحكة الأمير أعلى من أيِّ أحد. زال توتُّر الانفعال المكبوت، وفي اللحظة التَّالية كان الجميع يضحك ويُثرثر بابتهاجٍ بينما تَفرَّق الحشد المرح وانتشر في الغرف المجاورة.