تمام السَّاعة الواحدة!
كان العشاء مبهجًا للغاية. صرَّح كل الحاضرين بأن الليدي بليكني لم تكن أروعَ من ذلك قَط، وبأنَّ السير بليكني «الأبلَه اللعين» لم يكن أكثرَ تسليةً من ذلك قَط.
ضحك صاحبُ السمو حتى انهمرَت دموعه على خدَّيه من تعليقات بليكني الطريفة المضحكة رغم حماقتها. وغُنِّيَت أبياتُه الركيكة غير الموزونة، «نبحث عنه هنا، نبحث عنه هناك»، إلخ، على لحنِ أغنية «مرحى! أيها البريطانيون المبتهجون!» (هو! ميري بريتونس!) وسط خلفيةٍ صوتية من قرعِ الكئوس على المنضدة بصوتٍ عالٍ. وفوق ذلك، كان لدى اللورد جرينفل طاهٍ ممتازٌ جدًّا؛ أكد بعضُ المازحين الطرفاء أنه سليلُ عائلةٍ فرنسيةٍ نبيلةٍ عريقة، وأنه بعدما خسر ثروته، جاء باحثًا عنها في مطبخ مقر وزارة الخارجية.
كانت مارجريت بليكني في أكثر حالاتها تألُّقًا، وبالتأكيد لم يكن لدى أحد في غرفة العشاء المزدحمة تلك أدنى فكرةٍ حول المعاناة الفظيعة التي كانت تستعرُ في قلبها.
كانت دقاتُ السَّاعة تُتَكتِك بلا رحمة. كانت قد تجاوزت منتصف الليل منذ وقتٍ طويل، وحتى أمير ويلز كان يُفكر في ترك طاولة العشاء. في غضون نصف الساعة التَّالي، كان سيتصارع مَصيرا رجلَين شجاعين: أخاها الحبيب وذاك الرجل الآخر، البطل المجهول.
لم تُحاول مارجريت حتى رؤيةَ شوفلان خلال السَّاعة الأخيرة هذه؛ كانت تعرف بأنَّ عينيه الثَّاقبتين الثعلبيتين ستُرعبانها في الحال، وسترجحان كفةَ ميزان قرارها نحو أرماند. وفي الوقت الذي لم ترَه فيه، كان ما يزال في قرارة قلبها بصيصٌ خافت من أملٍ غامضٍ في أنَّ «شيئًا ما» سيحدث، حدثٌ جَلَل، هائل، فارق، سيُزيح عن كتفَيها الشابتين الضعيفتين عبْءَ المسئولية المُريع هذا، عبء الاضطرار إلى اختيارٍ قاسٍ بين خيارَين أحلاهما مُر.
لكن الدقائق ظلَّت تتكتك بذاك الصوت الرتيب الممل، الذي يبدو دائمًا أنها تُظهره عندما تتألم أعصابنا بدقَّاتها المستمرة.
استؤنف الرقص بعد العشاء. كان صاحب السمو قد غادر، وكان يدور حديثٌ عامٌّ عن المغادرة بين الضيوف الأكبرِ سِنًّا، أمَّا الشباب، فكانوا لا يعرفون الكلل، وبدَءوا رقصةَ جيفوت جديدةً ستَشغَل ربع السَّاعة القادم.
لم تشعر مارجريت بأنها قادرةٌ على أداء رقصةٍ أخرى؛ فحتى أقصى المستويات تحمُّلًا من ضبط النفس له حدود. تمكَّنَت مجددًا من الذَّهاب إلى المخدع الصغير، الذي كان لا يزال الأكثرَ خُلوًّا من الناس بين جميع الغرف، برفقة أحد وزراء الحكومة. كانت تعرف أن شوفلان متربصٌ بها في مكانٍ ما بالتأكيد، وهو على أتمِّ استعداد لاستغلال أول فرصةٍ للِّقاءِ وجهًا لوجه. التقَت عيناهما للحظةٍ في رقصة المينويت قبل العشاء، وأدركَت أن الدبلوماسي الفطن، بعينيه الباهتتين الثاقبتين، كان قد تكهَّن بأن مهمتها قد أُنجِزَت.
كانت تلك مشيئة القدر. وكانت مارجريت، الممزَّقة بأفظع صراعٍ يمكن لقلب امرأةٍ أن يعرفه على الإطلاق، قد استسلمَت لأمره. لكن لا بد من إنقاذ أرماند بأي ثمن؛ فهو قبل كل شيءٍ أخوها، وكان لها أمًّا وأبًا وصديقًا منذ أن كانت طفلةً صغيرةً فقَدَت كِلا والديها. كان مجردُ تخيُّل أن أرماند سيموت ميتة الخائن على المقصلة أفظعَ من أن تستطيع مواصلة التفكير فيه؛ بل في الحقيقة كان مستحيلًا. لم يكن ممكنًا أبدًا أن تدعَ هذا يحدث، أبدًا. أمَّا الغريب، البطل … حسنًا! فلْتدَع القدَر يُقرِّر مصيره. ستخلص مارجريت حياةَ أخيها من يد ذلك العدو الوحشي، ثم تدع ذلك الداهية المُلقَّبَ بسكارليت بيمبرنيل يُنقذ نفسه بعدئذٍ.
ربما كانت مارجريت تأمُل — ببصيص أمل مبهم — في أنَّ ذاك المُخطِّط الجريء، الذي حيَّر جيشًا من الجواسيس شهورًا عديدة، سيظل قادرًا على التهرُّب من شوفلان والبقاء حصينًا حتى النهاية.
خطر كلُّ هذا ببالها وهي جالسةٌ تستمع إلى الكلام المفعم بالدعابات الذكية الطريفة من الوزير، الذي شعر قطعًا بأنه وجد في الليدي بليكني مستمِعةً مثاليةً جدًّا. فجأةً رأت وجه شوفلان الفطن الشبيهَ بالثعلب يختلس النظر عبر المدخل المغطَّى بستار.
قالت للوزير: «لورد فانكورت، هلا أسديت لي خدمة؟»
قال بملاطفة: «أنا كُلي في خدمة سيادتكِ.»
«هلَّا نظرتَ ما إن كان زوجي ما زال في غرفة طاولات الورق؟ وإن كان هناك، فهلَّا أخبرته بأنني متعبةٌ جدًّا وسأكون سعيدةً بالذَّهاب إلى البيت سريعًا.»
من المعروف أنَّ أوامر المرأة الجميلة ملزِمةٌ لجميع البشر، حتى لوزراء الحكومة. استعدَّ اللورد فانكورت لإطاعتها فورًا.
قال: «لا أودُّ ترك سيادتكِ وحدك.»
«لا تقلق إطلاقًا. سأكون آمنةً هنا، وأظن أن لا أحد سيزعجني … لكنني متعبةٌ حقًّا. أنت تعرف أنَّ السير بيرسي سيعود بنا إلى ريتشموند قائدًا العربة. إنه طريقٌ طويل، وإذا لم نُسرع، فلن نصلَ إلى البيت قبل بزوغ الفجر.»
اضطُرَّ اللورد فانكورت إلى أن يذهب مرغمًا.
وحالما اختفى، تسلَّل شوفلان إلى داخل الغرفة، وفي اللحظة التَّالية كان يقف هادئًا جامدًا بجوارها.
قال: «ألديك أخبارٌ لي؟»
بدا أن عباءةً جَليديةً قد استقرَّت فجأةً حول كتفَي مارجريت؛ ومع أن خدَّيها كانا يتوهجان بالنَّار، كانت تشعر بالبرد والخدَر. آه يا أرماند! هل ستعرف يومًا التضحيةَ الرهيبة بالكبرياء والكرامة والأنوثة التي تُقدِّمها أختٌ مخلصةٌ من أجلك؟
قالت وهي تنظر أمامها بطريقةٍ شبه آلية: «لا شيء مهم، لكنه قد يكون مفتاحًا لحل اللغز. تمكَّنتُ — بغض النظر عن الكيفية — من رؤية السير أندرو فولكس يهمُّ بحرق ورقة بإحدى تلك الشموع في هذه الغرفة بالتحديد. ونجحتُ في الإمساك بتلك الورقة بين أصابعي دقيقتين، وفي إلقاء نظرةٍ خاطفة عليها لعشر ثوانٍ.»
سأل شوفلان بهدوء: «أكان وقتًا كافيًا لمعرفة محتواها؟»
أومأت بالإيجاب، ثم تابعَت بالنبرة الهادئة الآلية ذاتِها: «في زاوية الورقة، كان يوجد الشعار التقريبي المعتاد للزهرة الصغيرة النجمية الشكل. قرأتُ سطرين فوق الورقة، فيما كان كل شيءٍ آخر محروقًا ومسودًّا بفعل النَّار.»
«وما كان ذانِك السطران؟»
بدا أن حنجرتها قد انقبضَت فجأة. شعرَت للحظة أنها لا تستطيع نطق الكلمات التي قد ترسل رجلًا شجاعًا إلى حتفه.
أضاف شوفلان بسخريةٍ جامدة: «من حُسن الحظ أن الورقة لم تحترق كلها؛ لأنها بذلك كانت ستُسفِرُ عن عواقبَ سيئة على أرماند سان جوست. ماذا كان السطران أيتها المواطنة؟»
قالت بهدوء: «أحدهما كان «سأنطلق بنفسي غدًا» والثَّاني «إن أردتُم التحدُّث إليَّ، فسأكون في غرفة العشاء في تمام السَّاعة الواحدة».»
رفع شوفلان ناظريه تجاه السَّاعة الموضوعة فوق الرفِّ مباشرة.
قال بهدوء: «إذن ما زال لديَّ الكثير من الوقت.»
سألته: «ماذا ستفعل؟»
كانت شاحبةً كتمثال، وكانت يداها باردتين كالثلج، وكان رأسها وقلبها يرتجَّان بالضغط الرهيب على أعصابها. أوه، كم كان ذلك قاسيًا! قاسيًا! ما الذي فعلتْه لتستحقَّ كلَّ هذا؟ لقد اتخذَت قرارها، فهل فعلَت فعلة دنيئة أم سامية؟ لا يعلم هذا إلا الملاكُ الذي يُدوِّن في الكتاب الذهبي.
كرَّرَت بنبرةٍ آلية جامدة: «ما الذي ستفعله؟»
«أوه، لا شيء في الوقت الحاضر. أمَّا بعد ذلك، فهذا يعتمد ….»
«على ماذا؟»
«على مَن سأراه في غرفة العشاء في تمام السَّاعة الواحدة.»
«سترى سكارليت بيمبرنيل بالتأكيد. لكنك لن تعرفه.»
«لا. لكني سأعرف قريبًا.»
«سيكون السير أندرو قد حذَّره.»
«لا أظن هذا. عندما افترقتِ عنه بعد المينويت، وقف وراقبَكِ، لحظةً أو اثنتين، بنظرةٍ جعلتْني أفهم أن شيئًا ما قد حدث بينكما. وكان من الطبيعي تمامًا — أليس كذلك؟ — أن أخمن بتفطُّن طبيعة ذاك «الشيء». لذا انهمكتُ في محادثةٍ طويلةٍ وحيوية مع الشَّاب — ناقشنا فيها النجاحَ الفريد الذي حقَّقه السيد جلوك في لندن — حتى جاءت سيدةٌ وطلبَت منه مرافقتها إلى العشاء.»
«وبعد ذلك؟»
«لم أبعد عينَيَّ عنه أثناء العشاء. وعندما صعدنا كلنا الدرَج مجددًا، تشَبَّثَت به الليدي بورتارلس وبدأتْ حديثًا عن موضوع الآنسة الجميلة سوزان تورناي. عرَفتُ أنه لن يتحرك إلى أن تُنهيَ الليدي بورتارلس الموضوع، وهذا لن يحدث حتى ربع ساعةٍ أخرى على الأقل، وقد بقيَت الآن خمس دقائق على حلول السَّاعة الواحدة.»
كان يستعد للذهاب، وذهب إلى المدخل حيث سحب الستارَ جانبًا، ثم وقف لحظةً يشير لمارجريت نحو جسد السير أندرو فولكس البعيد الذي كان منخرطًا في محادثةٍ وُدِّية مع الليدي بورتارلس.
قال بابتسامةٍ ظافرة: «أظن أنني أستطيع بكل ثقة أن أتوقع العثورَ على الشخص الذي أبحث عنه في غرفة العشاء يا سيدتي الجميلة.»
«قد يكون هناك أكثرُ من شخص.»
«أيًّا كان من سيكون هناك، فعند دقات السَّاعة الواحدة، سيتعقَّبه أحدُ رجالي كظلِّه؛ فمِن بين هؤلاء، سيُغادر واحدٌ أو ربما اثنان أو حتى ثلاثة، إلى فرنسا غدًا. وأحدهم سيكون سكارليت بيمبرنيل.»
«حقًّا؟ … وبعد ذلك؟»
«أنا أيضًا يا سيدتي الجميلة سأغادر إلى فرنسا غدًا. فالأوراق التي عثَرنا عليها في دوفر بحوزة السير أندرو فولكس تتحدث عن حيِّ كاليه، وعن نُزلٍ أعرفه جيدًا يُدعى «القط الرمادي»، وعن موقع مهجور في مكانٍ ما من الشَّاطئ — اسمه «كوخ الأب بلانشار» — يجب أن أحاولَ العثورَ عليه. كل هذه الأماكن ورَدَت على أنها المُلتقيات التي يعرض هذا الإنجليزيُّ المتطفل على الخائن تورناي وآخرين لقاءَ مبعوثيه عندها. لكن يبدو أنه قرَّر عدمَ إرسال مبعوثيه؛ نظرًا إلى أنه قال إنه «سينطلق بنفسه غدًا». الآن، أحد هؤلاء الأشخاص الذين سأراهم قريبًا في غرفة العشاء، سيرحل إلى كاليه، وسأتبع أنا ذلك الشخصَ إلى المكان الذي ينتظره فيه أولئك الأرستقراطيون الهاربون؛ لأن ذلك الشخص يا سيدتي الجميلة سيكون الشخص الذي أبحث عنه، طيلة ما يقرب من عامٍ، الرجل الذي فاقتني مقدرتُه، والذي خدَعني دهاؤه، والذي جعلتْني جُرأته — نعم! أنا! — أنا الذي كنتُ خبيرًا في الحِيَل والخداع في أيام شبابي؛ مذهولًا من سكارليت بيمبرنيل الغامضِ المراوغ.»
توسَّلَت: «وأرماند؟»
«هل أخلَفتُ وعدي من قبل قَط؟ أعِدُك بأنني، في اليوم الذي ننطلق فيه أنا وسكارليت بيمبرنيل إلى فرنسا، سأرسل إليكِ رسالتَه الطَّائشة عبر مرسالٍ خاص. بل وأتعهَّد لكِ بشرفِ فرنسا بأن سان جوست سيكون هنا في إنجلترا سالمًا بين أحضانِ أخته الفاتنة، في اليوم الذي أضعُ فيه يدي على ذلك المتطفل الإنجليزي.»
وبانحناءةٍ عميقة متقَنة، ونظرةٍ أخرى إلى السَّاعة، تسلَّل شوفلان من الغرفة مسرعًا.
بدا لمارجريت أنها كانت تستطيع، وسط كلِّ الضوضاء وكل صخب الموسيقى والرقص والضحكات، أن تسمع خطواته الشبيهة بخطوات القط وهو يتسلَّل مسرعًا عبر غرف الاستقبال الواسعة، أن تسمَعه ينزل الدَّرَج الضخم، ويصلُ إلى غرفة العشاء ويفتح الباب. لقد شاء القدر، جعَلها تتكلَّم وجعلها تفعل فعلةً خسيسة وشائنة من أجل أخيها الحبيب. استندَت إلى الوراء في كرسيِّها، مذعنةً ساكنة، وهي ترى هيئة عدوها الذي لا يرحم حاضرةً دومًا أمام عينيها المتألمتَين.
عندما وصل شوفلان إلى غرفة العشاء كانت خاليةً تمامًا. كان لها ذاك المظهرُ البائس المهجور المبهرَج الذي يُذكِّر المرء كثيرًا بمنظر ثوب حفلٍ في صبيحة اليوم التَّالي.
كئوسٌ نصفُ فارغةٍ متناثرةٌ على الطَّاولة، ومناديلُ مبسوطةٌ مُبعثَرة في الأرجاء، وبَدَت الكراسيُّ — التي كان بعضها مواجهًا لبعضٍ في مجموعاتٍ ثنائية وثلاثية — كأنها مقاعدُ أشباح منخرطين في محادَثات سرية. كانت توجد مجموعات من كرسيَّين — متقاربين جدًّا — في الأركان البعيدة من الغرفة؛ مما ينُم على مُغازلاتٍ هامسة حدثَت مؤخرًا حول شطيرة لحمٍ باردة وشمبانيا؛ وكانت توجد مجموعاتٌ من ثلاثةِ كراسي وأخرى من أربعة كراسيَّ توحي بحدوث مناقشاتٍ مسلية وحيوية عن آخِر الفضائح؛ فيما كانت توجد كراسيُّ منتصبة في وضعيتها الأصلية ومرصوصة في صفٍّ وهي ما تزال تبدو متزمتةً وناقدة ولاذعة كالأرامل الثريَّات العَجائز؛ وكانت توجد بضعةُ كراسيَّ منفردة منعزلة بالقرب من الطَّاولة تنُم عن أشخاصٍ أَكُولين منكبِّين على الأطباق الغالية النادرة جدًّا، وأخرى مقلوبة على الأرض تفصح بالكثير عن جودة النبيذ الموجود في سراديب اللورد جرينفل.
كان المكان في الحقيقة نسخةً شَبَحية من ذلك التجمُّع الأنيق في الطَّابق العُلوي؛ شبحٌ يسكن كلَّ منزلٍ يشهد إقامة حفلات راقصة وتقديمَ عشاء شهي؛ صورةٌ مرسومةٌ بطبشور أبيضَ على لوحٍ رمادي، تبدو باهتةً وعديمة اللون الآن بعدما صارت الواجهة خاليةً من الفساتين الحريرية الزَّاهية والمعاطف ذات التطريز الرَّائع، وبعدما صارت الشموع تومض بارتعاشٍ ناعس في تجاويفها.
ابتسم شوفلان بعذوبةٍ وهو يفرك يدَيه ذواتَي الأصابع النحيلة معًا، نظر في أرجاء غرفة العشاء الخالية، التي غادرها كلُّ الخدَّام، حتى آخِر واحدٍ منهم لينضمَّ إلى أصدقائه في القاعة بالأسفل. كان الصمتُ يعم الغرفة الخافتة الإضاءة، بينما بدا أن صوت موسيقى رقصة الجيفوت وهمهمةَ الأحاديث والضحكات البعيدة وقعقعة عربات تأتي بين حينٍ وآخَر، تصل إلى قصر «الأميرة النَّائمة» هذا كهمهمةِ أشباحٍ تُرفرف من بعيد.
كانت غرفة العشاء كلُّها تبدو ساكنةً وفاخرة وهادئة جدًّا لدرجة أنَّ حتى أقوى الناس بصيرةً — ولو كان نبيًّا حقيقيًّا — لم يكن ليُخمِّن أبدًا أنَّ تلك الغرفة الخالية، في هذه اللحظة، ليست سوى فخٍّ منصوب للإمساك بأدهى المخططين الذين شهدتهم تلك المرحلةُ المثيرة وأجرَئهم على الإطلاق.
استغرق شوفلان في التفكير وحاول استشراف المستقبل القريب. كيف سيكون شكلُ هذا الرجل الذي أقسم هو وقادة الثورة كلُّهم على أن يقتلوه؟ كان كلُّ شيءٍ حوله غريبًا وغامضًا؛ شخصيته التي أخفاها بدهاءٍ شديد، والمقدرة التي سيطر بها على أكثرَ من تسعة عشر رجلًا من النبلاء الإنجليز الذين يبدو أنهم يُطيعون كلَّ أمرٍ منه طاعةً عمياء ومتحمِّسةً، والحبُّ الشديد والامتثالُ اللذان أثارَهما في عُصبته الصغيرة المدرَّبة، وفوق كل ذلك، جُرأته الخارقة وجسارته اللامحدودة التي جعلَته يتحدَّى ألدَّ أعدائه داخل أسوار باريس نفسِها.
لا عجب أنَّ اسم شُهرة الإنجليزيِّ الغامض كان يُثير في سكَّان فرنسا قُشَعريرةً متطيِّرة. فشوفلان نفسه، وبينما كان يتفحص الغرفة المهجورة الخاليةَ التي سيظهر فيها البطلُ الغريب حالًا، أحسَّ بشعورٍ غريبٍ يزحف نزولًا بطول عموده الفقري.
لكنَّ خُططه كانت مُحكَمة. كان متيقنًا من أن سكارليت بيمبرنيل لم يتلقَّ تحذيرًا، ومتيقنًا بالقدر نفسِه من أن مارجريت بليكني لم تخدعه. فلو أنها فعَلَت … كانت عينا شوفلان الباهتتان الثاقبتان سترمقانها بنظرةٍ قاسيةٍ تجعلها ترتعش. ولو أنها خدعَته، كان أرماند سان جوست سينال أشدَّ العقاب.
لكن لا، لا! بالطبع لم تخدعه!
من حُسن الحظ، كانت غرفة العشاء خالية؛ فمن شأن هذا أن يجعل مُهمة شوفلان أسهل، عندما يدخل ذاك الشخص الغامض، المطمئنُّ إلى عدم وجودِ خطرٍ غادر، بعد قليل وحده. فلا أحد كان موجودًا في الغرفة الآن سوى شوفلان فقط.
مهلًا! بينما كان يتفحَّص الغرفة الخالية بابتسامةٍ راضية، انتبه موفَدُ الحكومة الفرنسية الماكرُ إلى صوت تنفُّسٍ هادئ رَتيب من أحد ضيوف اللورد جرينفل، الذي، دون شكٍّ، كان قد تعشى عشاءً وفيرًا ولكن بحِكمةٍ وتدبُّر، وكان يتمتَّع بقسطٍ هادئ من النوم بعيدًا عن صخب الرقص في الأعلى.
نظر شوفلان حوله مرةً أخرى، وهناك في زاويةِ إحدى الأرائك في الركن المظلِم من الغرفة، كان يضطجع، بفمٍ مفتوحٍ وعينَين مغلقتين وأنغامِ قيلولة هادئةٍ مسالمةٍ تنبعث من منخريه، صاحب الملابس الرَّائعة والأطراف الطويلة؛ زوج أذكى امرأةٍ في أوروبا.
نظر شوفلان إليه بينما كان ممدَّدًا هناك، ساكنًا غيرَ واعٍ، في سلامٍ مع العالم ومع نفسه بعد أفضلِ عشاء، وابتسم ابتسامةً، تكاد تكون مُشفقة، خفَّفت لحظةً من حدَّة التجاعيد الجامدة على وجه الفرنسي واللمعة السَّاخرة في عينيه الباهتتين.
كان من الواضح أن النَّائم الغارق في نومٍ بلا أحلام، لن يتدخَّل في فخِّ شوفلان للإمساك بسكارليت بيمبرنيل الماكر ذاك. فرَك يدَيه معًا وحذا حذْوَ السير بيرسي بليكني؛ إذ تمدَّد هو أيضًا في ركن أريكةٍ أخرى وأغلق عينَيه وفتح فمَه، وبدأ يُصدِر صوتَ تنفُّسٍ مُسالمٍ و… انتظر متربصًا!